أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عماد عبد اللطيف سالم - توصيف النظام الاقتصادي في دساتير الدولة العراقية 1925-2005















المزيد.....



توصيف النظام الاقتصادي في دساتير الدولة العراقية 1925-2005


عماد عبد اللطيف سالم
كاتب وباحث

(Imad A.salim)


الحوار المتمدن-العدد: 3421 - 2011 / 7 / 9 - 02:21
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


توصيف النظام الاقتصادي في دساتير الدولة العراقية
1925- 2005


المقدمة :

تكمن أهمية النصوص الدستورية ذات الصلة بطبيعة وخصائص واهداف النظام الاقتصادي , في تحديدها لوظيفة وسلوك وفلسفة النظام السياسي في تعاطيه مع الشأن الاقتصادي , ومن ثم امكانية رصد أية مخالفات دستورية تقوم بها الحكومة ,عند وضعها وتطبيقها للخطط والسياسات والاجراءات الاقتصادية .
تهدف هذه الدراسة الى البحث في مدى تطابق النصوص الدستورية ذات الصلة بالشأن الاقتصادي , مع السلوك الاقتصادي للحكومات العراقية في مراحل تاريخية معينة , وعما اذا كان هذا السلوك على أرض الواقع هو الذي سيسمح بتوصيف النظام الاقتصادي توصيفاً محدداً بغض النظر عن النص الدستوري الذي يفترض انه المحدد الرئيسي لهذا السلوك .
ولأن الدستور هو الضامن لالتزام الدولة (بسلطاتها كافة) بكفالة العمل من أجل التأسيس لِبنى وأطر وممارسات ومنظومات قيم وأنماط ادارة , تتيح امكانية الانتقال الى وضع اقتصادي افضل , والى نظام اقتصادي اكثر تطورا ً وفاعلية , والى الشروع بعملية تنمية اقتصادية و اجتماعية عادلة ومستدامة , فأن عدم وضوح المواد الدستورية ذات الصلة بهذا الموضوع , لن يفضي الى اي شيء , باستثناء الانزلاق الى الفوضى .
تأسيسا ًعلى ما تقدم , فأن هذه الدراسة ستقوم على فرضية مفادها : عدم إفصاح دساتير الدولة العراقية , ( خلال المدة 1925 – 2005) عن توجهان إقتصادية محددة وواضحة , تسمح بتوصيف دقيق للنظام الأقتصادي في المراحل التاريخية المختلفة .
ولم يتمكن الباحث من الاطلاع على دراسات وبحوث ذات صلة بالشأن الأقتصادي في الدساتير العراقية , باستثناء بعض الاشارات التي وردت في العرض القيم الموسوم "الأرث الدستوري للعراق" لعبد الحق العاني (22 - 5 - 2005) , والبحث القيم الآخر (والاكثر تخصصا ً) لحسن كريم عاتي حول "الملكية الخاصة في الدساتير العراقية" .
واذا اقدم اعتذاري سلفا ً لجهلي بأية اسهامات اخرى ربما كـُتبت حول هذا الموضوع فأنني احاول جاهدا ً هنا , تقديم اطار اوسع لتناول الشأن الاقتصادي في الدساتير العراقية , مستخدما ً معايير ومقاربات أخرى (غير الموقف من الملكية الخاصة) بهدف استنباط توصيف معين للنظام الاقتصادي من خلال ما يأتي :
1- التوصيف الدستوري لشكل النظام السياسي (او التوصيف الدستوري لطبيعة الدولة) .
2- الموقف من القطاع الخاص ,
3- نمط الادارة والتعرف بالموارد الاقتصادية ,
4- الادارة المركزية واللامركزية للاقتصاد ,
5- اضافة الى تعقب المدى الذي يحدده الدستور للدولة العراقية (بمؤسساتها كافة) بهدف ممارسة دورها (الآني والمستقبلي) في ادارة الشأن الاقتصادي , وعما اذا كانت قائدة او شريكة في هذا المجال .
ولأننا جميعا ً عشنا , ونعيش , ضمن اطار زمني (تاريخي) يسمح بالتقييم , فأننا سنسمح لأنفسنا بالادلاء بشهادتنا حول مدى تطابق النصوص الدستورية , مع سلوك مؤسسات الدولة العراقية كافة , عند ممارستها او تعاطيها مع الشأن الاقتصادي على ارض الواقع . وتشمل هذه المقاربة الدساتير المختلفة , لحقب زمنية , ومراحل تاريخية , وأنظمة سياسية مختلفة . امتدت من عام 1925 الى العام 2005 .
ان أول تشريع دستوري (بالمعنى الحديث) , خضع له العراق , كان القانون الاساسي العثماني لعام 1876 , غير ان الباحث يجد ان التفاصيل المتعلقة بالدساتير الصادرة قبل تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 (كالقانون الاساسي العثماني ودستور العام 1908 ) ومجموعة النظم القانونية المطبقة في الهند (المجموعة القانونية للأقاليم العراقية 1915) التي اعتمدتها سلطة الاحتلال البريطانية إبان الحرب العالمية الاولى , ليست ذات صلة بموضوع الورقة الرئيسي .
ولهذا السبب فأننا سنعمل على التعاطي مع النصوص الدستورية وفق معاييرنا اومقارباتنا (الواردة في هذه المقدمة) في محاولة لتوصيف النظام الاقتصادي من خلالها. وسيكون اول دستور نتناوله بالبحث (على وفق هذه المنهجية) هو دستور العام 1925 (او ما يسمى بالقانون الاساسي العراقي لعام 1925) , بينما سيكون دستور جمهورية العراق للعام 2005 هو الدستور الاخير .
وسيحظى دستور جمهورية العراق لعام 2005 بالقسط الأوفر من الأهتمام . فهو الدستور " الدائم " الذي يفترض ان ينظم نمط ادارة الدولة في كل المجالات , وهو الضامن للمصالح العليا للعراق , وهو المعني بكفالة حقوق المواطنين الأساسية في جميع الأقاليم , والمحافظات غير المنتظمة في إقليم .
ولأنني باحث اقتصادي مبتدئ , فأنني لا اعرف مواطن الزلل (القانونية والدستورية) في تناولي لهذا الموضوع .. وسأكون قد حققت , ما لم أكن احلم بتحقيقه , فيما لو تمكنت (من خلال هذه الدراسة ) في اثارة اهتمام خبراء القانون الدستوري بهذا الموضوع الشائك والحساس , وستكون تصويباتهم واضافاتهم مصدر اعتزاز وفخر لي.فالعراق في نهاية المطاف هو وطننا جميعا ً, وستبقى مصالحه العليا , هي الأسمى والأجدر بحمايتها والدفاع عنها , مقارنة بأية دوافع او مصالح أخرى , مهما كانت نبيلة ومشروعة .



أولا ً : القانون الأساسي العراقي لعام 1925
يعد هذا القانون بمثابة الدستور الدائم للدولة العراقية والمنظم للشؤون السياسية والاقتصادية فيها خلال المدة 1958 – 1925 .
وباستخدام المعايير الواردة في مقدمة هذه الدراسة , سنحاول تحديد خصائص ووظائف النظام الأقتصادي في تلك المدة,(من خلال عرض وتحليل مواد هذا القانون) طيلة مدة العمل به من قبل الدولة العراقية والبالغة ثلاثة وثلاثون عاما ً .
1- التوصيف الدستوري لطبيعة الدولة وشكل النظام السياسي .
استنادا ً الى المادة الثانية من مقدمة هذا الدستور فأن : "العراق دولة ذات سيادة مستقلة حرة , ملكها لا يتجزأ , ولا يتنازل عن شيء منه , وحكومته ملكية وراثية , وشكلها نيابي" .
وعلى وفق المعطيات السياسية والتاريخية لتلك المرحلة , والارتباط الوثيق لمؤسسات الدولة العراقية بسلطات الاحتلال البريطاني , وحداثة النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي , وانعدام تأثيره الخارجي , وانغلاقه على ذاته لمواجهة مشاكله العديدة في الداخل والخارج , فانه لا يتوقع من دولة حكومتها "ملكية - وراثية" أن لا تكون دولة بنظام اقتصادي شبه رأسمالي في تعاطيها مع الخارج (على وفق امتدادات هذا النظام , وعلاقاته الدولية , وطبيعة تجارته الخارجية آنذاك) , وفي ذات الوقت هي دولة بنظام اقتصادي آخر, أقل تطورا , ومتنوع الانماط الانتاجية (دون سيادة نمط محدد على نمط آخر) في الداخل .
ولأن نمط الانتاج الاقطاعي كان فاعلا ً مهما ً آنذاك (سياسيا ًواقتصاديا ًواجتماعيا) فان بعض مواد هذا الدستور , قد سعت للاسهام في صياغة الاطر القانونية اللازمة لتفكيكه , تمهيدا ً لوضع العراق على أعتاب نظام اقتصادي آخر (وأكثر تطورا ً) كما سيتضح لنا فيما بعد .

2- الحقوق والحريات الاساسية : الموقف من حقوق التملك والملكية الخاصة .
استنادا ً الى الباب الاول "حقوق الشعب" - المادة العاشرة - فأن : "حقوق التملك مصونة , فلا يجوز فرض القيود الاجبارية , ولا حجز الاموال والاملاك ولا مصادرة المواد الممنوعة الا بمقتضى القانون . اما السخرة المجانية والمصادرة العامة للأموال المنقولة وغير المنقولة , فممنوعة بتاتا ً .
ولا ينزع ملك أحد إلا لأجل النفع العام في الاحوال وبالطريقة التي يعينها القانون وبشرط التعويض عنه تعويضا ً عادلا ً" .
ان النص هنا على المنع البات "للسخرة المجانية" والى عدم امكانية "نزع ملك أحد إلا لأجل النفع العام" يمكن ان ينصرف الى سعي الدولة العراقية تقويض الأسس التي يقوم عليها النظام الاقطاعي في العراق آنذاك , والتي جعلت من الفلاحين "اقنانا ً مرتبطين بالأرض" , ومن السخرة نظاما ً للتشغيل في القطاع الزراعي , ومن نزع الارض من الفلاحين وتحويلهم الى اقنان , آلية لتعزيز قبضة الاقطاعيين على القوى العاملة في الزراعة , وعائقا ً امام تحولها الى قوة فاعلة لدعم النشاط الصناعي الناشيء في مراكز المدن .
ونعتقد انه تم النظر الى الملكية الخاصة في هذا الدستور بعدّها "ملكية مطلقة" وليست "مفردة اقتصادية" يتم استخدامها ضمن منظومة المفاهيم السياسية التي تستخدمها الدولة , او "المشرّع" احيانا ً بهدف تحديد "وظيفة اجتماعية" للملكية الخاصة , تذهب بها بعيدا ً عن وظيفتها الاصلية بصفتها "قيمة اقتصادية" .
وسيتضح لنا لاحقا ً , ان حق الملكية الخاصة (في الدساتير المختلفة) انما يتحدد , ويتشكل من حيث طبيعة الدور والوظيفة , بالمنطلقات النظرية (السياسية والاقتصادية) التي تعتمدها السلطات الحاكمة (وهي المشرّع الدائم والوحيد للدساتير الدائمة والمؤقتة) .
وسيتضح لنا أيضا ً ان جميع الدساتير تكفل صيانة هذا الحق , وان عدم نزع الملكية الخاصة هو الأصل , وان نزع هذه الملكية لايتم الا بشرطين , نزعها لأجل "النفع العام" , والتعويض عنها . ومع ذلك فأن لا أحد باستطاعته ان يقرر ما هو هذا " النفع العام" او "الصالح العام" , ومن هي الجهة التي تقوم بتحديده . كما انه ليس بوسع أحد تحديد الاشتراطات والضوابط التي تقرر عما اذا كان هذا التعويض "عادلا ً" ام لا .

3- التعامل مع التنظيمات والتشكيلات والانتماءات الفرعية .
حين يشير الدستور صراحة , او يمنح امتيازا ً او أفضلية ما (في اي من مواده) للتكوينات والتنظيمات والاطر الاجتماعية والدينية القائمة قبل تشكيل الدولة (بمفهومها الحديث) , فأنه يفصح بذلك عن تبنيه , أو رفضه , لقيم وسلوكيات معينة , وبطريقة قد تساعد على تحديد طبيعة توجهات الدولة , ومدى قوة أو ضعف تلك التنظيمات , في مرحلة تاريخية معينة .
والاشارة الوحيدة (والمباشرة) لتلك التنظيمات المجتمعية وردت في الباب الخامس - السلطة القضائية - , حيث تنص المادة الثامنة والثمانون من القانون الاساس على ما يأتي :
"تؤسس محاكم أو لجان خصوصية عند الاقتضاء للامور الآتية :
2- لفصل قضايا العشائر الجزائية والمدنية بحسب عاداتهم المألوفة بينهم بموجب قانون خاص" .
ويعد هذا النص تكريسا ً للاعتراف الرسمي بالعرف العشائري . فقد سبق لسلطة الاحتلال البريطانية وأن اصدرت في 1918/7/27 انظمة خاصة للبت في المنازعات العشائرية بصفة بلاغات لها قوة القانون . ومن اهم هذه الانظمة (نظام دعاوي العشائر لعام 1918 وتعديلاته) . وتحولت هذه البلاغات لاحقا ً الى نصوص قانونية صريحة بموجب المادتين (113) و (114) من هذا الدستور. وبموجب هذه النصوص تم استثناء الريف من سريان القانون الوطني عليه. وهكذا بقي العراق حتى تموز 1958 يخضع لنظامين قانونيين , احدهما خاص بالمدن , والآخر خاص بالريف العشائري .
وتكمن خطورة هذا الوضع , في التفريق بين سكان العراق في موقفهم تجاه القانون , وفي تبعاته الخطيرة المتمثلة في القضاء على فكرة شمول القاعدة القانونية , وانتهاك وحدة القوانين المدنية والجزائية , وفي عبثه بالمثل القانونية العليا (سواء أكانت غربية أم اسلامية) .
واستنادا ً لهذه المواد ينساق الدستور الى منع مؤسسات الدولة العراقية من معارضة أية سياسات او اجراءات تستهدف اضعاف سيطرة المشايخ على الارض , او تتعمد الاضرار بمواقعهم الاقتصادية . والهدف الرئيسي لذلك هو سعي الادارة البريطانية الى السيطرة على توازن دقيق للقوة بين الاطراف الفاعلة في المعادلة العراقية آنذاك . ومثل هذا التوازن لم يكن موجها ً ضد السلطة المركزية وحدها , بل و ايضا ً ضد المدن التي كانت تشكل (تقليديا ً) المراكز الحقيقية لمعارضة الحكم البريطاني . وهكذا كفل القانون الاساسي لعام 1925 استمرار العمل بنظام دعاوي العشائر لعام 1918 وتعديلاته , بهدف دعم القوى المحافظة اجتماعيا ً والمتخلفة اقتصاديا ً , من خلال استثناءها من سلطة المحاكم الوطنية ومنح تقاليدها واعرافها قوة الالزام , وتحويل الانقسام القديم بين ابناء المدن وابناء العشائر الى حزمة من المزايا الجديدة التي تستحق التشبث بها , والدفاع عنها ضد تعسف ابناء المدن , وضد سلطتهم المركزية على حد سواء . وعلى وفق هذا المنطق تتضح لنا خطورة النصوص الدستورية , خاصة من حيث كفالتها تطبيق النصوص القانونية السابقة عليها , وذات الصلة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية لبلد متعدد الاثنيات , والقيم , وأنماط الانتاج (كالعراق في تلك المرحلة) .
وعلى وفق هذا المنطق أيضا ً تتطلب صياغة النصوص الدستورية قدرا ً معقولا ً من الوضوح , لكي يتمكن المعنيون بها من التحسب لنتائجها المباشرة وغير المباشرة على مصائرهم في الحاضر والمستقبل .
فمن يقرأ المادتين (113) و (114) من دستور العام 1925 سيجد اشارات مبهمة مفادها (كما هي في النص) ان : "القوانين العثمانية التي كانت قد نشرت قبل تاريخ 5 تشرين الثاني 1914 , والقوانين التي نشرت في ذلك التاريخ , او بعده , وبقيت مرعية في العراق حين نشر هذا القانون تبقى نافذة فيه بقدر ما تسمح به الظروف... وذلك الى ان تبدلها او تلغيها السلطة التشريعية..." (نص المادة 113).
او ان : "جميع البيانات , والنظامات , والقوانين التي اصدرها القائد العام للقوات البريطانية في العراق , والحاكم الملكي العام , والمندوب السامي , التي أصدرتها حكومة جلالة الملك فيصل في المدة التي مضت بين اليوم الخامس من تشرين الثاني 1914 وتاريخ تنفيذ هذا القانون الاساسي , تعتبر صحيحة من تاريخ تنفيذها, وما لم يلغ منها الى هذا التاريخ , يبقى مرعيا ً الى ان تبدله او تلغيه السلطة التشريعية , او الى ان يصدر من المحكمة العليا قرار يجعلها ملغاة بموجب احكام المادة 86" (نص المادة 114) .
ان هذه النصوص الدستورية المبهمة لن تفصح بسهولة (حتى للمختصين) عن خطورة مضامين القوانين التي سنقوم بكفالتها (ومنها على سبيل المثال لا الحصر نظام دعاوي العشائر لعام 1918 وتعديلاته) .
ان النص الدستوري لا يشير (وليس مطلوبا ً منه ان يشير) الى ان الفصل (40) من نظام دعاوي العشائر يتيح امكانية نقل اي شخص غير مرغوب فيه من الاراضي العشائرية (او حتى من اراضي غير عشائرية) واجباره على العيش في اي مكان آخر داخل العراق بموجب امر اداري .
والنص الدستوري لا يفصح ايضا ً عن خطط الادارة البريطانية لانشاء مدرسة داخلية لابناء شيوخ العشائر , لكي لا تفسدهم رذائل المدينة العراقية , وحتى لا يرافقوا اولئك الذي ينظر آباؤهم اليهم على انهم أدنى منزلة .
ومن المثير للسخرية ان الشيخ "الجاهل , والضيق الافق وغير التقدمي في العادة" (كما تصفه الوثائق البريطانية آنذاك) كان مسؤولا ً عن تطبيق نصوص هذا النظام (القانون) على افراد عشيرته . ومما هو اكثر مدعاة للسخرية دعوة مثل هذا الشيخ الى التصرف تجاه رجال عشيرته بطريقة تتوافق مع الافكار البريطانية عن العدالة.
من جانب آخر فأن هذه النصوص الدستورية (في جوهرها غير المعلن) انما كانت تكرس لخدمة "ضرورات سياسية" معينة , في مرحلة تاريخية معينة . فشيخ العشيرة في نظر الادارة البريطانية هو الوسيط الاكثر قدرة على ممارسة الادارة في الريف , لأن البدائل الاخرى المتاحة (كموظفي الحكومة التركية السابقة , وأشباه المتعلمين في المدن) لم تكن تحظى بثقة البريطانيين . وهكذا تحول الشيخ من "وسيلة " في البداية الى "ضرورة سياسية" فيما بعد , وكان على النص الدستوري ان يكفل متطلبات هذا التحول.
وهذه الضرورة السياسية كانت نتاجا ً للضرورة الاقتصادية . فقد كان البريطانيون حريصين على تجنب الكلفة الكبيرة المترتبة على الاحتفاظ بقوات كبيرة في العراق. ولم يكن تخفيض حجم هذه القوات ممكنا ً دون خلق نوع من توازن القوى بين "أهل العشائر" و"أهل المدن" , كضمان اكيد لاستمرار السيطرة على الطرفين معا ً, باستخدام احدهما ضد الاخر, كلما دعت الضرورة الى ذلك .
وفي هذه المرحلة الحرجة بالذات من تاريخ العراق الحديث أنيطت بدستور العام 1925 مهمة الحفاظ على توازن القوى الهش هذا .. وبما يضمن "إنجاز المهمة" البريطانية في العراق .. بأقل كلفة ممكنة .
ومن يمعن التفكير مليا ً في جميع النصوص الدستورية المعتمدة في العراق منذ العام 1925 وصولا ً الى العام 2005 فانه سيجد ان لهذه النصوص وظائف محددة , وان هذه النصوص لن تلغى , او تعدّل , الا عندما تنتفي "الضرورات" الداخلية والخارجية , التي استدعت سنـّها أصلا ً .

ثانيا ً : الدستور المؤقت لعام 1958

يعد هذا الدستور اكثر الدساتير العراقية ايجازا ً في ابوابه ومواده . وتم اعداده في بضعة ايام فقط من قبل المحامي (حسين جميل) بناءا ً مع طلب من قادة انقلاب 14 تموز 1958 . وحين تم عرضه على مجلس الوزراء أضاف له المادة (4) ومفادها ان "الاسلام دين الدولة" ثم صادق عليه .
ويتضمن هذا الدستور اربعة ابواب وثلاثون مادة سيتم تناول اهمها (بقدر تعلق الامر بموضوع البحث الرئيسي) :

1- التوصيف الدستوري لشكل الدولة وطبيعة النظام السياسي .
على وفق ماورد في الباب الاول : الجمهورية العراقية : المادة (1) فأن : "الدولة العراقية جمهورية مستقلة ذات سيادة كاملة" .
وتنص المادة (3)على: قيام " الكيان العراقي على اساس من التعاون بين المواطنين كافة , باحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم".
وفي الباب الثاني : مصدر السلطات والحقوق والواجبات العامة : المادة (7) : فأن "الشعب مصدر السلطة".
ويتضح من هذه المواد ان الدستور لم يحدد شكلا ً للدولة , أو لطبيعة النظام السياسي يمكن من خلاله التكهن بتوصيف معين للنظام الاقتصادي .
وكما اشار القانون الاساس لعام 1925 الى كون العراق "دولة ذات سيادة مستقلة حرة , وحكومته ملكية وراثية.. " , فأن هذا الدستور يكتفي بالاشارة الى ان "الدولة العراقية جمهوية مستقلة ذات سيادة ..."
كما لم يحدد هذا الدستور طبيعة المؤسسات التي تكفل وتحدد الآليات الكفيلة بجعل "الشعب مصدر السلطة" .

2- الموقف من الملكية الخاصة.
تشيرالمادة (13) الى ان : "الملكية الخاصة مصونة , وينظم القانون اداء وظيفتها الاجتماعية , ولا تنزع إلا للمنفعة العامة , مقابل تعويض عادل وفقا ً للقانون".
أما المادة (14) فتشير الى أن : " الملكية الزراعية مصونة بموجب القوانين المرعية الى حين استصدار التشريعات واتخاذ التدابير الضرورية لتنفيذها" .
وهاتان المادتان تشيران بوضوح الى السلوك السياسي للسلطة الجديدة في تعاملها مع مفهوم الملكية في هذه المرحلة . ونلاحظ هنا استخدام مفهوم "الوظيفة الاجتماعية للملكية" وليس مفهوم "الوظيفة الاقتصادية" , بحيث تتحول الملكية من "ملكية مطلقة" الى مفردة اقتصادية في منظومة المفاهيم السياسية التي تستخدمها السلطة (كما اوضحنا ذلك من قبل) .
ونلاحظ ايضا ً ان الملكية الخاصة هنا قد تم تقسيمها الى نوعين : ملكية خاصة (كما في المادة 13) , وملكية زراعية (كما في المادة 14) , وكلتاهما مصونتان , ومع ذلك يمكن نزع الأولى بداعي " المنفعة العامة" مقابل تعويض عادل , في حين تعد الثانية مصونة الى اجل معين , أي لحين " استصدار التشريعات , واتخاذ التدابير الضرورية لتنفيذها" . وبهذا وضعت المادة (14) الاساس الدستوري لاستصدار قانون الاصلاح الزراعي , الذي فتت الملكيات الزراعية الكبيرة , ووفر المقدمات المنطقية الضرورية , والعوامل الكفيلة بتفسخ النظام الاقطاعي في العراق .
ولم يحدد هذا الدستور وجهة محددة للمرحلة الانتقالية على الصعيد الاقتصادي. لقد تم الانتقال من نظام ملكي وراثي الى نظام جمهوري , غير ان هذا الدستور المؤقت لم يفصح عن طبيعة النظام الاقتصادي الذي سيتبناه , كما لم تتح الفرصة لقادة السلطة الجديدة لأن يكتبوا دستورهم الدائم ويحددوا من خلاله رؤيتهم لشكل النظام الاقتصادي الجديد . وهكذا تم تقويض النظام الاقطاعي داخليا ً , بينما استمرت انماط الانتاج الاخرى بالتعايش في التشكيل الاقتصادي الاجتماعي , وتحت ضغط عاملين خارجيين : تجسد الاول في مشاريع "مجلس الاعمار" التي وضعت العراق على أعتاب الانطلاق نحو الرأسمالية , وتجسد الثاني في زيادة نفوذ الاتحاد السوفيتي داخل هياكل ومؤسسات السلطة الجديدة, والذي وضع العراق على اعتاب الانطلاق نحو الاشتراكية .

ثالثا ً : الدستور المؤقت لعام 1964

قام قائد انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 (عبد السلام محمد عارف) بتكليف وزير العدل (كامل الخطيب) باعداد مسودة هذا الدستور . وعند اكتمال المسودة رفض رئيس الجمهورية الجديد مشروع الدستور لانه لم يمنحه السلطات الكافية للهيمنةعلى مؤسسات الدولة . عندها شكـّل عبد السلام عارف لجنة اخرى برئاسته أعدت دستورا ً يتطابق الى حد كبير مع دستور الجمهورية العربية المتحدة , باستثناء اغفاله لمادة تعديله , التي لم يغفلها دستور الجمهورية العربية المتحدة .
1- التوصيف الدستوري لطبيعة الدولة وشكل النظام السياسي .
توجد في ديباجة "هذا الدستور اشارات مبهمة وعامة حول : "ضرورة الانصراف الى العمل المثمر , وتصحيح الاوضاع الاجتماعية , وبناء المجتمع الفاضل" .
ولم يتبين من خلال مواد الدستور كافة ما هو المقصود بـ "العمل المثمر" الذي تقتضي الضرورة الانصراف إليه , ولا طبيعة وخصائص "المجتمع الفاضل" الذي ينبغي بناؤه , ولا ماهية المؤسسات التي ستتولى هذه المهمة.
وتشير الديباجة أيضا ً الى ان العمل بهذا الدستور سيكون "طيلة مدة الانتقال , التي نرجو الاّ يطول امدها" . ومع ذلك فقد طال أمد مدة الانتقال في العراق اكثر مما يجب , ليس خلال المدة التي تم تطبيق هذا الدستور فيها فحسب , بل وخلال حقب طويلة سابقة ولاحقة عليه . واصبحت "المراحل الانتقالية الطويلة الأمد" سمة ملازمة , ومعيقة , للتطور الاقتصادي والاجتماعي في العراق الحديث .
وتشير المادة (1) من الباب الاول (الدولة) من هذا الدستور الى ان : "الجمهورية العراقية دولة ديموقراطية اشتراكية , تستمد اصول ديموقراطيتها واشتراكيتها من التراث العربي وروح الاسلام" .
وبهذا تم تعريف الجمهورية العراقية لاول مرة بوصفها "دولة ديموقراطية اشتراكية" , وبما يسمح بتوصيف النظام الاقتصادي على انه نظام اشتراكي . كما يسمح هذا النص ايضا ً بتوصيف طبيعة هذه "الاشتراكية" التي هي امتداد , أو نسخة طبق الاصل من "الاشتراكية العربية" "الناصرية الطابع" , كونها تستمد اصولها "من التراث العربي , وروح الاسلام".

2- نمط ادارة الموارد وادارة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية
لم يكتف هذا الدستور بتوصيف النظام الاقتصادي للدولة العراقية , بل قام بتحديد اهداف هذا النظام ايضا ً . وتشير المادة (7) من الباب الثاني (المقومات الاساسية للمجتمع) من هذا الدستور الى ما يأتي :
"يهدف النظام الاقتصادي في العراق الى تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية , التي تحظر اي شكل من اشكال الاستغلال" .
وتشير المادة (8) الى دور الدولة في الاقتصاد , والى انتهاجها التخطيط المركزي في ادارة الاقتصاد القومي , والى شراكة القطاع العام والخاص في تحقيق التنمية الأقتصادية , وكما يأتي :
" توجه الدولة الأقتصاد القومي وفقا ً لخطة شاملة تضعها بقانون , يتعاون في اطارها القطاع العام والقطاع الخاص لمواصلة التنمية الاقتصادية , من أجل زيادة الانتاج ورفع مستوى المعيشة" .
والدولة ايضا ً هي التي تكفل حسن استغلال الموارد الوطنية , وهي المالك الحصري لهذه الموارد , كما ورد في نص المادة (9) : "الثروات الطبيعية , مواردها و قواها جميعا ً ملك للدولة , وهي التي تكفل حسن استغلالها" .
اما المادة (10) فتشير الى اشتراطات استخدام رأس المال , ووظيفته الأساسية : "يستخدم رأس المال في خدمة الاقتصاد القومي , ولا يجوز ان يتعارض في طرق استخدامه مع الخير العام للشعب" .
ومع اقرارنا بسلامة ودقة استخدام المفاهيم الاقتصادية في هذا الدستور , الا ان "الخيرالعام للشعب" سيبقى شيئا ً عائما ً , ولا مضمون له , ولا يستند الى معايير محددة عند التطبيق .
ويدخل ضمن مهام الدولة العراقية بهذا الصدد ما ورد في نص المادة (35) التي تكفل الدولة بموجبها المعاملة العادلة للعراقيين ورعايتهم في مختلف المجالات. والمادتين (68) و (69) التي تنص على ممارسة الحكومة لاختصاصاتها في مجال تنظيم وتنفيذ المهام كافة , بما ذلك اعداد الخطة العامة للدولة لتطوير الاقتصاد القومي .

3- الموقف من حق التملك , والملكية الخاصة .
تشير المادة (12) الى ان "الملكية الخاصة مصونة , وينظم القانون اداء وظيفتها الاجتماعية , ولا تنزع الملكية الا للمنفعة العامة , ومقابل تعويض عادل وفقا ً للقانون" .
اما نص المادة (13) فهو : "يعين القانون الحد الاقصى للملكية الزراعية بما لا يسمح بقيام الاقطاع" .
ويتضح من خلال هذه المواد اعادة تأكيد هذا الدستور على "الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة" وعلى وفق ايضاحنا السابق للمدلولات السياسية لهذه الوظيفة .
كما يتضح ايضا ً تكرار التأكيد على الفصل بين الملكية الخاصة (المطلقة) وبين الملكية الزراعية (كما هو الحال في بنود دستور 1958) . غير ان الفارق هو في تحديد هدف تعيين الحد الاقصى للملكية الزراعية , وهو : عدم السماح بقيام الاقطاع.
وعلى غرار الجمهورية العربية المتحدة , فقد تم نزع أهم أشكال الملكية الخاصة بعد ما يقرب من ثلاثة اشهر فقط على سريان العمل بهذا الدستور (29 نيسان 1964) . وبحلول تموز 1964 كانت قوانين التأميم قد تكفلت بنزع الملكية الخاصة عن اهم الانشطة الصناعية للقطاع الخاص , وبشكل يتعارض تعارضا ً صارخا ً مع "الخير العام للشعب" ومع "المنفعة العامة" , ومقابل تعويض غير عادل (على وفق جميع معايير الجدوى الاقتصادية والمجتمعية , والحساب الأقتصادي السليم) .
وبفعل هذا النمط من انماط "السلوك السياسي" المتهور , قامت الدولة العراقية بخرق المواد (8) و (10) و (12) من هذا الدستور , كما تم خرق المادة (6) ايضا ً , والتي تكفلت هذه الدولة بموجبها بضمان "تكافؤ الفرص لجميع العراقيين".

رابعا ً : الدستور المؤقت لعام 1968

يتشابه هذا الدستور الى حد كبير مع دستور العام 1964 . وبقدر تعلق الامر بموضوع البحث الرئيس , فأنه يتضمن ما يأتي :
1- التوصيف الدستوري لطبيعة الدولة وشكل النظام السياسي .
تشير المادة الاولى /الباب الاول/ من هذا الدستور الى ان "الجمهورية العراقية دولة ديموقراطية شعبية تستمد اصول ديموقراطيتها وشعبيتها من التراث العربي وروح الاسلام" .
وبمقارنة نص هذه المادة مع نص المادة (1) في دستور العام 1964 سنجد ان توصيف الدولة قد تحول من"دولة ديموقراطية اشتراكية" الى "دولة ديموقراطية شعبية" . وفي حين ان توصيف الدولة بأنها "اشتراكية" سيمنح هذه الدولة ادوارا ً اقتصادية وسياسية محددة ,فان وصفها بأنها "شعبية" لا يعني الشيء ذاته .
وينبغي الأشارة بهذا الصدد الى مفارقة جديرة بالانتباه . ذلك "ان من الغريب ان يعلن عبد السلام عارف ايمانه بالاشتراكية (في دستور1964) , في حين يتخلى حزب البعث العربي الاشتراكي عن هذا المبدأ في دستور دولته (دستور 1968) .
وتكرر المادة السابعة من هذا الدستور عموميات النص الدستوري السابق لها بتأكيدها على ان "التضامن الاجتماعي اساس المجتمع العراقي" , دون ان تتضح طبيعة الدلالات او المؤسسات او الآليات الكفيلة بتحديد ماهية هذا "التضامن" , او الشروط اللازمة لتحقيقه .

2- دور الدولة والقطاع الخاص في تحقيق اهداف النظام الاقتصادي
تشير المادتين التاسعة والعاشرة من هذا الدستور الى قيام الدولة بكفالة تأمين خدمات الضمان الاجتماعي , والحق في المعونة , وتكافؤ الفرص لجميع العراقيين.
وتضع المادة الثانية عشرة هدفا ً محددا ً للنظام الاقتصادي , وبما يسمح بتوصيف محدد لهذا النظام , حيث "يهدف النظام الاقتصادي الى تحقيق الاشتراكية وذلك بتطبيق العدالة الاجتماعية التي تحظر اي شكل من اشكال الاستغلال" .
اما التعاون بين القطاعين العام والخاص في تحقيق التنمية الاقتصادية , فتشير اليه المادة الثالثة عشرة حيث "يكون الاقتصاد القومي موجها ً, يتعاون فيه القطاعان العام والخاص تحقيقا ً للتنمية الاقتصادية , بزيادة الانتاج وعدالة التوزيع" .
ومن هذا النص تتضح جملة معطيات اهمها ان الادارة مركزية , وان الاقتصاد موجّه , وان القطاع الخاص "يتعاون" مع الدولة , وليس "شريكا ً" معها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية . وهذه المعطيات لاتختلف في شيء عن معطيات المواد الدستورية المناظرة لها في دستور العام 1964 .

3- نمط الادارة والتصرف برأس المال والموارد الاقتصادية .
يستخدم هذا الدستور النص الحرفي لمواد الدستور السابق , في تحديده لنمط تصرف الدولة بالموارد الاقتصادية ورأس المال الوطني .
وتشير المادة الرابعة عشرة الى ان "الثروات الطبيعية ملك الدولة , وهي التي تكفل حسن استغلالها" . في حين تشير المادة الخامسة عشرة الى : "يستخدم رأسا المال في خدمة الاقتصاد القومي على ان لا يتعارض استخدامه مع الخير العام للشعب" .

4- الموقف من الملكية الخاصة والملكية الزراعية.
تشير المادة السابعة عشرة -أ- الى : ان "الملكية الخاصة مصونة , وينظم القانون اداء وظيفتها الاجتماعية , ولا تنزع الا للمنفعة العامة , لقاء تعويض عادل وفقا ً للقانون".
ولا جديد في هذا النص , ولا في تحفظاتنا على النصوص المناظرة له في الدساتير السابقة , غير ان الجديد في الأمر هو ان السلطة الجديدة الحاكمة الآن قد أضافت نصا ً دستوريا ً يتيح لها مصادرة الملكية الخاصة (دون تعويض) وقيدها ايرادا ً للدولة في حال ضلوع اصحابها "بالتجسس لحساب الاجنبي" او "بالتآمر على نظام الحكم التقدمي الاشتراكي" .
وهنا ما شيشر اليه نص المادة السابعة عشرة -ج- ومفاده : "على ان الاشخاص الذين تثبت ادانتهم من محكمة مختصة بجريمة التجسس لحساب الاجنبي , او التآمر على نظام الحكم القومي الاشتراكي , وأساسه الاقتصادي والاجتماعي , فيجوز مصادرة اموالهم المنقولة , وقيدها ايرادا ً للدولة , بموجب قانون" .
وبموجب هذا النص فأن الملكية الخاصة لا يتم نزعها (دون تعويض) فقط , بل ويتم قتل المالك أيضا ً!! .
ويتكرر الموقف من الملكية الزراعية في دستور العام 1964 , في هذا الدستور أيضا ً, حيث يشير نص المادة الثامنة عشرة الى ما يأتي : "يعين القانون الحد الاعلى للملكية الزراعية , ويؤول للدولة ما زاد على الحد الأعلى للملكية الزراعية بدون تعويض , ولا يجوز لغير العراقيين تملك الاراضي الزراعية , الا في الاحوال التي بينـّها القانون" .
وربما كان خوف الانظمة الحاكمة (بعد العام 1958) من الاقطاع مبرّراً ً , بحيث انها تحاول تحجيم القاعدة الاساسية لقوته من خلال تحديد الملكية الزراعية بنصوص دستورية . غير ان ما تجهله هذه الانظمة (ودساتيرها معا ً) هو ان هذا الاقطاع لا يرتبط في بقاءه واستدامته بمساحة الارض فقط , بل بمنظومات القيم والممارسات والسلوك التي يستمد الاقطاع منها حدود قوته , ومديات نفوذه .
وهكذا نجحت دساتير الدولة الوطنية في العراق الجمهوري (مرارا ً وتكرارا ً) في نزع الملكيات الخاصة , عموما ً, وفي تحديد حجم الملكيات الزراعية بشكل خاص , غير انها لم تنجح ابدا ً في تحجيم بنية "العقل" المرتبطة بالاقطاع (كمنظومة قيمية) . وكانت النتيجة هي ان هذا الاقطاع كان يعيد انتاج ذاته في التشكيل الاجتماعي العراقي , بفعل ديناميكية منظوماته ذاتها , بغض النظر عن طبيعة الانظمة السياسية التي كان يترعرع في ظلها .

خامسا ً : الدستور المؤقت لعام 1970

يعكس هذا الدستور (بصفة أساسية) فكر قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في تلك المرحلة , وتصورها لشكل وطبيعة توجهات الدولة التي تسعى لتأسيسها .
واستمر العمل بهذا الدستور من (16 تموز 1970) لغاية احتلال العراق في العام 2003 , أي لمدة تقارب الثلاثين عاما ً , مما يجعل مدة العمل به المدة الأطول من بين الدساتير العراقية الأخرى , باستثناء دستور العام 1925 الذي استمر العمل به لما يقرب من ثلاثة وثلاثين عاما ً.

1- التوصيف الدستوري لطبيعة الدولة وشكل النظام السياسي

تشير المادة الاولى من الباب الاول من هذا الدستور الى : ان " العراق جمهورية ديموقراطية شعبية ذات سيادة , هدفه الاساسي تحقيق الدولة العربية الواحدة واقامة النظام الاشتراكي" .
وبموجب هذه المادة تم التأكيد على ما أغفله دستور العام 1968 , وهو ان هدف الدولة العراقية الاساس هو اقامة النظام الاشتراكي .
وتشير المادة الثانية الى ان "الشعب مصدر السلطة وشرعيتها" . ولم يؤكد واقع تجربة الحزب في الحكم (على مدى الثلاثين عاما ً القادمة) صحة هذا المنهج , فقد كانت التجربة مريرة , حتى على صعيد الحزب ذاته . وهكذا استمرت عمومية هذا النص في جميع دساتير الدولة العراقية . فأنظمة الحكم المتعاقبة على السلطة منذ العام 1958 لم تتمكن ابدا ً من بناء مؤسسات شعبية تضفي المشروعية على السلطة , حتى اذا كانت السلطة معبرّة حقا ًعن تلك الارادة .
ويستمر غموض الصياغة وغموض المضامين في المواد الاخرى , اذ تشير المادة العاشرة الى ان : "التضامن الاجتماعي هو الاساس الاول للمجتمع , ومضمونه ان يؤدي كل مواطن واجبه كاملا ً تجاه المجتمع , وان يكفل المجتمع للمواطن كامل حقوقه وحرياته" .
وليس من اليسير معرفة معنى هذا النص من الناحية الاقتصادية , بل وحتى من الناحية الايديولوجية . فلا أحد يمكن ان يعرف كيف يمكن ان يؤدي كل مواطن واجبه كاملا ً تجاه المجتمع , ولا كيفية كفالة هذا المجتمع للمواطن كامل حقوقه وحرياته , وذلك برغم ان هذه المادة تقع ضمن الباب الثاني من الدستور والذي يحدد "الأسس الاجتماعية والاقتصادية للجمهورية العراقية" .

2- طبيعة دور الدولة ونمط تصرفها بالموارد الاقتصادية

بموجب المادة الثانية عشرة "تتولى الدولة تخطيط وتوجيه وقيادة الاقتصاد الوطني بهدف : أ- اقامة النظام الاشتراكي على أسس علمية وثورية" .
اما المادة الثالثة عشرة فتشير الى ان "الثروات الطبيعية ووسائل الانتاج الاساسية ملك للشعب , تستثمرها السلطة المركزية في الجمهورية العراقية استثمارا ً مباشرا ً وفقا ً لمقتضيات التخطيط العام للاقتصاد الوطني" .
وبموجب المادة الرابعة عشرة "تكفل الدولة وتشجع وتدعم جميع اشكال التعاون في الانتاج والتوزيع والاستهلاك" .
ويعد هذا التوصيف نموذجيا ً لدولة مركزية , واقتصاد موجه , ونظام اشتراكي , وملكية عامة لوسائل الانتاج وللموارد الوطنية , وبوضوح لم نجد ما يناظره في اي دستور آخر .

3- الموقف من حقوق التملك و الملكية الخاصة

تشير المادة السادسة عشرة الى كون " أ- الملكية وظيفة اجتماعية , تمارس في حدود اهداف المجتمع ومفاهيم الدولة وفقا ً لاحكام القانون . ب- الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية الفردية مكفولتان في حدود القانون , وعلى اساس عدم استثمارها فيما يتعارض او يضر بالتخطيط الاقتصادي العام . ج- لا تنزع الملكية الخاصة الا لمقتضيات المصلحة العامة , ووفق تعويض عادل حسب الاصول التي يحددها القانون .
والحد الاعلى للملكية الزراعية يعينه القانون , وما فاض عن ذلك يعتبر ملكا ً للشعب" .
وتنتفي هنا (ولأول مرة في دساتير ما بعد العام 1958) "الوظيفة الاجتماعية" للملكية الخاصة , وبما يفيد باعادتها الى وظيفتها الاقتصادية . واصبحت "الوظيفة الاجتماعية" مقرونة فقط بالملكية بشكلها العام والملكية الزراعية تحديدا ً. وبهذا يعكس الموقف من الملكية الزراعية استمرار التوجس من امكانية استعادة القوى المحسوبة على النظام الاقطاعي لقوتها ونفوذها من جديد .

سادسا ً : مشروع دستور جمهورية العراق لعام 1991

تم اعداد مشروع هذا الدستور , ليصبح الدستور الدائم لجمهورية العراق بعد ما يقرب من عشرين عاما ً على العمل بالدستور المؤقت لعام 1970 . ومع ذلك فقد بقي هذا الدستور "الدائم" مجرد مشروع , ولم يعمل به ابدا ً . ويعد هذا الدستور من أطول وأوسع الوثائق الدستورية في تاريخ العراق الحديث , ويتضمن ثمانية ابواب , ومائة وسبعون مادة . كما يفترض ان مواده كانت حصيلة تجربة نظام حكم واحد, متواصل , وطويل نسبيا ً , وعلى نحو لم يشهده العراق من قبل .


1- التوصيف الدستوري لطبيعة الدولة وشكل النظام السياسي .

تشير المادة الاولى /الباب الاول/ من هذا الدستور الى : ان "العراق دولة مستقلة ذات سيادة , نظام الحكم فيها جمهوري رئاسي" .
وبموجب المادة العاشرة "يقوم النظام السياسي في العراق على الديموقراطية والاشتراكية , بموجب رأي الشعب ومصلحته , وبما يضمن العدالة الاجتماعية والحرية الاقتصادية المحددة بمنع الاستغلال" .
اما الأسس الاجتماعية لجمهورية العراق فتحددها المادة الثانية والعشرون -أولا- من حيث تأكيدها على "التضامن الاجتماعي" , وبنص مماثل لما ورد في دستور العام 1970 بهذا الصدد .
ولا تختلف الأسس الاقتصادية لجمهورية العراق عن تلك الأسس الواردة في دستور العام 1970 , حيث تؤكد المادة الثامنة والعشرون من هذا الدستور على ضرورة ان "تتولى الدولة توجيه الاقتصاد الوطني , بقصد رعاية مصلحة المجتمع وحمايته من الاستغلال , وتحقيق الازدهار الاقتصادي وزيادة الدخل القومي ورفع مستوى المعيشة , وتحقيق الوحدة الاقتصادية العربية" .

2- نمط الادارة والتصرف بالموارد الاقتصادية .
تشير المادة التاسعة والعشرون الى ان "الثروات الطبيعية ملك الشعب , تستثمرها الدولة بموجب مقتضيات المصلحة العامة , وتتولى السلطة المركزية حصرا ً استثمار الثروات الطبيعية الاساسية كالنفط والغاز والمعادن استثمارا ً مباشرا ً ".

3- الموقف من الملكية الخاصة "والحرية الاقتصادية الفردية" .
بموجب المادة الثانية والثلاثون فان : "الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية الفردية مكفولتان في حدود القانون , بما لا يضر او يعارض مصلحة المجتمع , والاسس الاقتصادية والاجتماعية المحددة في الدستور" .
وبموجب المادة الرابعة والثلاثون -أولاً وثانياً- "لا تنزع الملكية الخاصة الا لمقتضيات المصلحة العامة , وبتعويض عادل يقرره القانون" كما "لاتحجز الملكية الخاصة او تصادر الا بناءا ً على قانون او قرار قضائي" .
وبموجب المادة الخامسة والستون - ثانياً- فأن الدولة "تحمي الملكية الفردية , وينظم القانون أحكامها" .
وهنا نلاحظ ان مشروع دستور العام 1990 (كما هو حال القانون الاساسي العراقي لعام 1925 , ودستور العام 1970) قد تعامل مع حق الملكية الخاصة بصفته الاقتصادية البحتة , وليس على أساس "وظيفته الاجتماعية" (كما في دستور 1958 ودستور 1964 , ودستور 1968) .
وتغليب الوظيفة الاجتماعية لهذا الحق كان قد ارتبط بمرحلة تاريخية معينة (امتدت من تموز 1958 الى تموز 1970) وهي مرحلة كانت الانظمة السياسية فيها تعمل على توفير الأطر الدستورية والمؤسسية لتصفية النظام الاقطاعي . وحين تداعى هذا النظام في الريف العراقي , ولم تعد له وظيفة اجتماعية محددة (امام زخم النظم الثورية الجديدة) , لم يعد من الضروري ان تفرد دساتير ما بعد العام 1970 بنودا ً تعمل على ربط حق الملكية باشتراطات اداء هذا الملكية لوظيفتها الاجتماعية الجديدة , على (وفق تصورات الانظمة السياسية لها) , مما أعاد للملكية الخاصة طابعها الاقتصادي بوصفها "وظيفة اقتصادية" صرفة وليس بوصفها مجرد "مفهوم اقتصادي" من جملة مفاهيم القاموس السياسي للسلطات الحاكمة الجديدة .
ورغم جميع المتغيرات المحلية والاقليمية والدولية غير المؤاتية , فقد أصرت الدولة العراقية في هذه المرحلة على تطبيق نموذجها في الادارة الاشتراكية للاقتصاد .
ولعل من المواد الدستورية ذات الدلالة في هذا الصدد , ما أشارت اليه المادة الثالثة والثمانون رابعا ً -ج- من هذا الدستور , والتي اشترطت فيمن ينتخب رئيسا ً للجمهورية "أن يكون مؤمنا ً بالاشتراكية وذا سلوك اشتراكي وديموقراطي" .
وتؤكد المادة الثانية والخمسون بعد المائة على ضرورة انطباق هذا الشرط على نائب رئيس الجمهورية , وعضو مجلس الشورى , وعضو المجلس الوطني , وفي من يعين رئيسا ً لمجلس الوزراء او نائبا ً له , او وزيرا ً .
ولم يسأل احد أولئك الذين قاموا بأعداد مشروع هذا الدستور عن المعايير التي ينبغي استخدامها للتحقق من ان سلوك هؤلاء الافراد "الشخصي" هو "سلوك اشتراكي وديموقراطي" .. ومتى يتم خرق هذه القاعدة الدستورية عندما لايكون هذا السلوك "اشتراكياً وديموقراطيا ً" ؟؟ . وأعتقد ان الاجابة لن تكون سهلة ومقنعة مهما كانت مبررات ايراد هذا النص .

سابعا ً : قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لعام 2004

بعد احتلال العراق في العام 2003 , تم اصدار سلسلة من التشريعات والقرارات التي كانت تهدف الى تغيير طبيعة النظام السياسي والاقتصادي في العراق .
ومن أهم هذه التشريعات "قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004" , والذي تم سنـّه بهدف وضع قواعد مؤسسّة للدستور العراقي الدائم , وبافتراض حقائق دستورية ثبت لاحقا ً انه لا يوجد اجماع عراقي حولها .
وبموجب "ديباجة" هذا القانون , فقد تم تشريعه وإقراره "لإدارة شؤون العراق خلال المرحلة الانتقالية , الى حين قيام حكومة منتخبة , تعمل في ظل دستور شرعي دائم , سعيا ً لتحقيق ديموقراطية كاملة" .
وليس من الواضح هنا ما هو المقصود بـ "الديموقراطية الكاملة" .. هل هي الديموقراطية السياسية أم الديموقراطية الاقتصادية .أم الاثنين معا ً؟ .
ولأن عيوب الصياغة شائعة في هذا القانون (كون نصه الاصلي قد كتب بالانجليزية , ثم ترجم الى العربية) فان لا أحد بوسعه الاجابة بدقة على مثل هذا السؤال , وغيره من الاسئلة الطافحة بالمرارة والارتياب , وتضارب القصد .
ولأن هذا القانون هو بمثابة دستور مؤقت ينظم شؤون ادارة الدولة العراقية لمدة قصيرة , ولأن الكثير من مواده شكلت الاساس لمواد دستور جمهورية العراق الدائم لعام 2005 , فأن تركيزنا سينصب على المواد ذات الصلة بتوصيف المرحلة الانتقالية , وتحديد أمدها , اضافة الى المواد الهامة الاخرى ذات الصلة بموضوع البحث الرئيس .

1- خصائص وطبيعة "المرحلة الانتقالية" .
تشير المادة الثانية -أ- من هذا القانون الى توصيف "زمني" للمرحلة الانتقالية , وليس الى توصيف اقتصادي لهذه المرحلة . "فعبارة (المرحلة الانتقالية) تعني المرحلة التي تبدأ من 30 يونيو/حزيران 2004 حتى تشكيل حكومة عراقية منتخبة بموجب دستور دائم , كما ينص عليه هذا القانون , وذلك في موعد اقصاه 31 ديسمبر/كانون الأول 2005 ".
وهذه أقصر "مرحلة انتقالية" في تاريخ العراق الحديث . كما انها المرة الاولى التي يحدد فيها دستور مؤقت امدا ً زمنيا ً معينا ً لبداية ونهاية هذه المرحلة .
وعلى وفق فهمي المتواضع لأحكام هذا القانون , فأنه أكثر أهمية وخطورة من كونه دستورا ً مؤقتا ً, لأنه يحدد (في ظل سيطرة شبه مطلقة لسلطة الاحتلال على الشأن العراقي) الاطار العام والتفاصيل ذات الصلة بالدستور الدائم الذي تقوم باعداده حكومة عراقية منتخبة , وبما يجعل هذه الحكومة ملزمة بالتقيد بأحكامه . واعتقد أيضا ً ان هذا "التقييد الدستوري" يتخذ هنا طابعا ً قسريا ً لم يسبق له مثيل في تجارب دول اخرى مرت بمراحل انتقالية اطول امدا ً , وقامت بصياغة دساتيرها المؤقتة في ظروف لم تكن أبدا ً اقل صعوبة من ظروف الحالة العراقية , المليئة بالأعاجيب .
وتقدم المادة الثالثة من هذا القانون دليلا ً لا يدحض على صحة هذا الافتراض اذ تشير الى عدم جواز "أن يمدد امد المرحلة الانتقالية الى ما بعد المدة المذكورة في هذا القانون , أو سيؤخر اجراء الانتخابات لجمعية جديدة , او يقلل من سلطات الاقاليم والمحافظات , او من شأنه ان يؤثر على الاسلام , او غيره من الاديان والطوائف وشعائرها" .

2- التوصيف الدستوري لطبيعة الدولة وشكل النظام السياسي .
تشير المادة الرابعة من هذا القانون الى ان : "نظام الحكم في العراق جمهوري إتحادي (فيدرالي) ديموقراطي تعددي . ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الاقليمية والمحافظات والبلديات والادارات المحلية" .
وبموجب هذه المادة تم التاسيس لنظام حكم لم يكن قائما ً في العراق من قبل . فجميع الدساتير السابقة أكدت على نظام "الدولة الواحدة" وليس "الدولة الاتحادية" .
ولان هذا القانون لم يتم الاستفتاء عليه , فان تغيير طبيعة الدولة العراقية هنا قد تم دون اجماع وطني عليه . ولكون هذا القانون يؤسس (بشكل ملزم) لتحديد طبيعة الدولة في الدستور الدائم , فقد تم تحويل "الدولة الاتحادية (الفيدرالية)" الى حقيقة معطاة , لم يكن بوسع لجنة صياغة الدستور الدائم رفضها , او الاعتراض عليها .
هذا اضافة الى الشرعية التي أسبغها هذا القانون على التأويلات المختلفة لمعنى الدولة الاتحادية , وما اكتنفها من صراع شرس على السلطة والثروة بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم (كما افرزه الدستور الدائم , بعد مدة قصيرة من وضع احكامه موضع التطبيق) .
وتحدد المادة الرابعة ايضا ً الاسس التي يقوم عليها النظام الاتحادي , حيث "يقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل او العرق او الاثنية او القومية او المذهب" .
وينطوي هذا النص على اشكالات عديدة . فما هي يا ترى الحقائق الجغرافية والتاريخية التي ينبغي ان يقوم على أساسها النظام الاتحادي , دون ان تكون هذه الحقائق عرقية او اثنية او قومية او مذهبية في العراق الحديث , والعراق المعاصر؟.

3- الحريات العامة والخاصة وحقوق الملكية والحقوق الأساسية.
تكفل المادة الثالثة عشرة -أ- صيانة الحريات العامة والخاصة بينما تحرّم الفقرة - ز-منها "العبودية وتجارة العبيد والعمل القسري والخدمة الاجبارية (اعمال السخرة) ".
وليس من اليسير معرفة المعنى المقصود بهذا النص . فالاقطاع (كمنظومة اقتصادية) لم يعد قائما ً , وهو لا يمارس دوره (كمنظومة قيمية) على هذا النحو . اما اذا كان المقصود مجاراة الصكوك الدولية بهذا الصدد , فليس من الضروري ايراد هذا النص بتفاصيله هذه , وكان بالامكان الاشارة الى احترام التعهدات الدولية ضمن بنود أخرى.
وتنص المادة الرابعة عشرة على ان "للفرد الحق بالأمن والتعليم والعناية الصحية والضمان الاجتماعي . وعلى الدولة العراقية ووحداتها الحكومية , بضمنها الاقاليم والمحافظات والبلديات والادارات المحلية , بحدود مواردها , ومع الأخذ بنظر الاعتبار "الحاجات الحيوية الأخرى , أن تسعى لتوفير الرفاه وفرص العمل للشعب".
ويلاحظ هنا الى ان كفالة الدولة الاتحادية وتشكيلاتها لهذه الحقوق , ليست مطلقة , وانما هي مشروطة "بحدود مواردها" آخذة بنظر الاعتبار "الاحتياجات الاخرى". وهذا يعني ان رعاية الدولة لمواطنيها باتت مشروطة بقيد الموارد المتاحة لهذه الدولة , وهو أمر لم يسبق وأن تم تاطيره دستوريا ً من قبل .
وتشير المادة السادسة عشرة -ب- الى ان "الملكية الخاصة مصونة , فلا يمنع احد من التصرف في ملكه الا في حدود القانون , ولا ينزع عن أحد ملكه الا لأغراض المنفعة العامة في الأحوال المبينة في القانون .. وبشرط تعويضه عنه تعويضا ً عادلاً وسريعا" .
ولا جديد في هذا النص , الذي لا يشترط للملكية الخاصة وظيفة اجتماعية , ويتعهد بصيانتها , ومنح مالكها حرية التصرف بها , ولا يجيز نزعها الا لأغراض المنفعة العامة . أما شرط التعويض فيقترن هنا ليس بالعدالة فقط وانما بالسرعة ايضا ً. وهي صفة للتعويض لم تكن موجودة في الدساتير السابقة.

4- الدور الاقتصادي للحكومة الانتقالية .
بموجب المادة الخامسة والعشرون "تختص الحكومة العراقية الانتقالية بالشؤون التالية حصرا ً :
ج- رسم السياسة المالية وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الاقاليم والمحافظات .
د- رسم السياسة العامة للاجور .
هـ- ادارة الثروات الطبيعية للعراق , والتي تعود لجميع ابناء الاقاليم والمحافظات في العراق بالتشاور مع حكومات وادارات هذه الاقاليم والمحافظات , وتوزع الواردات الناتجة عن هذه الثروات عن طريق الميزانية العامة , وبشكل منصف , يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع انحاء البلاد , مع الأخذ بنظر الاعتبار المناطق التي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق...".
ولن نتوسع في تحليل هذه النصوص الآن , فالدستور الدائم لعام 2005 , سيعيد التأكيد عليها ويقوم بتكريسها . غير ان بعض الملاحظات ستكون ضرورية لمعرفة الدور الاقتصادي المستقبلي للحكومة العراقية . فالاختصاصات الحصرية لهذه الحكومة محدودة جدا ً. فهي ترسم السياسة المالية (أي تضع الاطار العام لهذه السياسة فقط) . وهي تقوم بتنظيم (وليس رسم) السياسة التجارية . ومع ذلك فأن هذا "التنظيم" سيكون "عبر حدود الاقاليم والمحافظات" وكأن هذه "الحدود" هي حدود "دولية" وليست "وطنية" .
وبموجب المادة 25 – أ- تختص الحكومة العراقية الأنتقالية " برسم السياسة الأقتصادية , والتجارية , الخارجية وسياسات الأقتراض السيادي " .
وبهذا النص أصبحت الحكومة العراقية تمارس دورين إقتصاديين , يراد لهما ان يكونا مختلفين : الأول هو "تنظيم" التجارة الداخلية , والثاني هو : "رسم" السياسة التجارية الخارجية .أما موضوع تحديد أي دور سيكون "سياديا ً" من بين هذين الدورين , ولماذا هذا الفصل بينهما , فهو ما سيتضح من خلال دستور العراق الدائم لعام 2005 , الذي الزم , هو الآخر , الحكومة المنتخبة بأداء هذين الدورين , وليس الحكومة الأنتقالية فقط .
كما تكرس الفقرة (هـ) من المادة الخامسة والعشرون دور الدولة العراقية الريعية , التي تقتصر وظيفتها على توزيع هذا الريع "توزيعا ً منصفا ً" من خلال بنود وتخصيصات الموازنة العامة الاتحادية , (وهو ما سيتم التطرق اليه بتفصيل اوسع فيما بعد) .

5- طبيعة وخصائص النظام الاتحادي في العراق الجديد .
تحدد المادة الثانية والخمسون من هذا القانون الشرط الاساس الذي يحكم "تصميم النظام الاتحادي في العراق" . فهذا النظام يجب ان يصمم "بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية , ذلك التركيز الذي جعل من الممكن استمرار عقود الاستبداد والاضطهاد في ظل النظام السابق .ان هذا النظام سيشجع على ممارسة السلطة المحلية من قبل المسؤولين المحليين في كل اقليم ومحافظة , ما يخلق عراقا ً موحدا ً يشارك فيه المواطن مشاركة فاعلة في شؤون الحكم ويضمن له حقوقه ويجعله متحررا ً من التسلط" .
ورغم عيوب الصياغة في هذا النص , فأن الهدف الرئيس المتضمن في طياته هو هدف سياسي له موجبات "ماضوية" , وذو صلة بممارسات الحكومات المركزية "في الماضي" , أكثر من صلته بتحديد طبيعة الممارسات الاقتصادية للحكومات العراقية في المستقبل . كما انطوت فرضيات هذا النص على "مقدمات" غير منطقية , أفضت لاحقا ً(ومن خلال دستور العام 2005 , الذي جاء نسخة ً طبق الأصل لهذا القانون) الى "نتائج" غير منطقية عند التطبيق .
فتصميم النظام الاتحادي بهذا الشكل لم يمنع لاحقا ( ومن واقع تجربة ممارسة الحكومة المركزية لأختصاصاتها المختلفة ) ما يشار اليه في هذا القانون على انه "تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية" . واستمرت الاقاليم والمحافظات في شكواها المرّة من "تركيز السلطات بيد الحكومة المركزية - الاتحادية - في بغداد" . كما لم يتضح ابدا ً كيف ان هذا "النظام الاتحادي الجديد" سيخلق عراقا ً موحدا ً" وليس عراقا ً متشرذما ً , منقسما ً على نفسه , تتكالب اداراته المتعددة على السلطة والثروة , بشراسة لم يسبق لها مثيل .
كما لم تتضح طبيعة المعايير والأحكام والآليات التي سيعتمدها هذا "النظام الاتحادي" وبما يسمح "للمواطن العراقي" وليس "للمواطن الاقليمي - المناطقي" بأن "يشارك مشاركة فاعلة في شؤون الحكم , ويضمن له حقوقه , ويجعله متحررا ً من التسلط" .
كانت هذه هي الألغام التي زرعها قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية في الارض العراقية القلقة , وثبّتها بإحكام دستور جمهورية العراق لعام 2005 (كما سيتضح لنا فيما بعد) .

ثامنا ً : دستور جمهورية العراق لعام 2005

لم نتطرق الى جميع مواد قانون الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ذات الصلة بموضوع الادارة اللامركزية للاقتصاد ( رغم خطورتها وصلتها بموضوع البحث الرئيس) , لأننا سنتطرق اليها هنا .. في دستور العام 2005 ,المتخم بالاشكاليات والتضادات والاحكام المختلطة القصد , والملتبسة في معناها وصياغتها .
انه اول نص دستوري في العالم , تتحول احكامه الملزمة الى وجهات نظر بين المعنيين بأحكامه وليس الى قاعدة قانونية ضابطة ومنظمة لشؤون الحكم والسلطة ونمط الادارة وواجبات الدولة وحقوق المواطنين . ولن نتوسع كثيرا ً في تفسير مواد واحكام دستورية لا قدرة لنا على تفسيرها , ولسنا مؤهلين أصلا ً لأيضاح تداعياتها القانونية والاجرائية عند التطبيق (بحكم الاختصاص) . ولكن اهتمامنا الاساس سيبقى منصّبا ً على تحليل مواد هذا الدستور والكشف عن مضامينها ومقارباتها الاقتصادية والتحقق من امكانية استخدامها بهدف التأسيس لنظام اقتصادي محدد وقابل للتوصيف أم لا .

1- التوصيف الدستوري لطبيعة الدولة وشكل النظام السياسي .
تشير المادة (1) من هذا الدستور الى ان "جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة , ذات سيادة كاملة , نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديموقراطي , وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق" .
ان هذا النص يحدد شكل الدولة , وطبيعة نظامها السياسي , ولا يساعد على تحديد وظيفتها الاقتصادية , ولا الخروج بتوصيف معين لنظامها الاقتصادي .
أما المادة (2) فتنص على ما يأتي :
"اولا ً : الاسلام دين الدولة الرسمي , وهو مصدر اساسي للتشريع" وهذا يعني وجود المحددات القانونية الآتية :
" أ- لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الاسلام .
ب - لا يجوز سن قانون يتعارض مع مباديء الديموقراطية .
ج - لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور " .
وقد أدلى الكثير من المختصين (وغير المختصين) بدلوهم في تفسير هذه المادة , وعما اذا كانت ثوابت احكام الاسلام تتعارض (أو لا تتعارض) مع مباديء الديموقراطية , او تتعارض (او لا تتعارض) مع الحقوق والحريات الاساسية للمواطنين . ومع ذلك فان اهتمامنا ينبغي ان ينصّب هنا على امكانية تقويض هذا النص (او تحديده) للسلوك الاقتصادي "الحر" , وعن مدى تاثيره سلبا ً على طبيعة ونوع القوانين "الوضعية" المنظـّمة للشأن الاقتصادي , والاساس التشريعي الذي يمكن الركون اليه عند اعدادها.

2- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
تنص المادة (22) - ثانيا- على ان القانون "ينظـّم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل على أسس اقتصادية , مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية"
ولا تتضح من خلال هذا النص ماهية الأسس الاقتصادية التي تنظم العلاقة بين العمال واصحاب العمل . ان هذه الأسس مهمة لتوصيف النظام الاقتصادي , خاصة مع مراعاة القانون المنظـّم لها "لقواعد العدالة الاجتماعية" . فلو كان قصد المشرّع واضحا ً في تحديده للأساس الاقتصادي لهذه العلاقة (بافتراض انها جزء من منظومة السوق الحرة) , لَما أشار الى "قواعد العدالة الاجتماعية" التي تتعارض تعارضا ً بيّنا ً مع قيم تلك المنظومة .
تنص المادة (23) -أولا- على ان "الملكية الخاصة مصونة , ويحق للمالك الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها في حدود القانون" .
غير ان "هذا القانون" لا يجوز ان "يتعارض مع احكام الاسلام" مما يجعل "حق المالك في الانتفاع والاستغلال (اي في استثمار ملكه) محددة بأطر تشريعية لا تمت بصلة الى قيم الاقتصاد الحر , والسوق الحرة" .
"ثانيا ً: لايجوز نزع الملكية الا لأغراض المنفعة العامة , مقابل تعويض عادل , وينظـّم ذلك بقانون" . ونلاحظ هنا ان التعويض عن الملكية المنزوعة لأغراض النفع العام كان "عادلا ً وسريعا ً" في قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية , وأصبح هنا "عادلا ً" فقط . وربما كان تبرير ذلك هو قدرة المشرّع على ضمان عدالة التعويض بنص قانوني من جانب , وعدم قدرته على تحديد الآليات والشروط والمديات الزمنية الكفيلة بأن يتم الايفاء بهذا التعويض بسرعة , من جانب آخر .
وتكفل الدولة بموجب المادة (24) "حرية الانتقال للأيدي العاملة والبضائع ورؤوس الاموال العراقية بين الاقاليم والمحافظات , وينظـّم ذلك بقانون" .
غير ان نظام السوق الحر , يقتضي ايضا ً ضمان الدولة لحرية انتقال الايدي العاملة والبضائع ورؤوس الاموال عبر الحدود الدولية وليس بين الاقاليم والمحافظات فقط . ولم نجد في الدستور أية اشارة لكفالة الدولة لمثل هذا الانتقال , ولسنا على يقين من امكانية أن يكون ذلك مدرجا ً (نصا ً أو ضمنا ً) في مواد اخرى .
وثمة من يعتقد بأن مضمون المادة (25) يفيد أو يفصح عن تحديد واضح لطبيعة النظام الاقتصادي الجديدة في العراق .
ونص هذه المادة هو : "تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة , وبما يضمن استثماركامل موارده , وتنويع مصادره , وتشجيع القطاع الخاص وتنميته" .
ويستند هؤلاء الى ان الاشارة الى "إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة" ستعني توفير الاسس الكفيلة للانتقال به من اقتصاد مركزي الى اقتصاد السوق الحر. كما ان الاشارة الى "تشجيع القطاع الخاص وتنميته" ستضمن تحقيق هذا الانتقال. غير اننا جميعا ً ندرك ان سعي الدولة لاصلاح اقتصادها لن يكتب له النجاح , الاّ اذا قامت عملية الاصلاح على "أٍٍسس اقتصادية حديثة" , وذلك بغض النظر عما اذا كانت هذه الدولة رأسمالية أم لا . اما تشجيع القطاع الخاص وتنميته" فهو نص نمطي في كافة دساتير الحكومات المركزية - الاستبدادية , ولا يوجد دستور من دساتير الدولة العراقية لم ينص على هذا التوجه . رغم اختلاف الصياغات .
ولا تتضمن المواد (26) و (27) و (28) نصوصا ً ذات مضمون مختلف عن مضامين الدساتير السابقة (بقدر تعلق الامر بكفالة الحقوق الاقتصادية الاساسية) , لذا فأنها لا تفصح عن توجهات اقتصادية محددة .
غير ان المادة (29) تفصح عن كفالة الدولة لخليط من الحقوق والقيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية , بعيد جدا ً عن قيم السوق . فهي تؤكد على ان "الاسرة اساس المجتمع" وان الاستغلال الاقتصادي للأطفال محظور , وان كل اشكال العنف والتعسف في الاسرة والمدرسة والمجتمع ممنوعة . وان "للاولاد حق على والديهم في التربية والرعاية والتعليم , وللوالدين حق على اولادهم في الاحترام والرعاية."..!!!!!
ولم يسبق لدستور عراقي آخر وان أفاض في سرد التفاصيل الخاصة بالسلوك الأسري كهذا الدستور. ومع ذلك فان للنص دلالاته التي لا تخفى على أحد , وأهمها ان هذه القيم لا علاقة لها أبدا ً بقيم وممارسات ستفرضها اخلاقيات السوق الحرة.. ولو بعد حين .
وينطبق هذا التحليل على المواد (30)-(36) التي تكفل الدولة بموجبها للمواطنين كل شيء يمكن أن يخطر على البال (ضمان اجتماعي وتعليم ورعاية معوقين وبيئة سليمة وتعليم أهلي ومؤسسات ثقافية) , وأشياء أخرى لا تخطر على البال (كحماية التنوع البيئي) .
واذا ما تغاضينا عن عدم ايفاء حكومات ما بعد العام 2005 بالحد الأدنى من هذه الحقوق ( وبما يشكل خرقا ً دستوريا ً فاضحا ً تتحمل جميع سلطات الدولة مسؤوليته المباشرة وغير المباشرة وليس الحكومات المتعاقبة وحدها ) فأننا مضطرون للتذكير بان "الدولة الراعية" لا تتطابق بالضرورة مع "دولة الرفاه الاجتماعي" , وانها (على وفق المنطق ذاته) أبعد ما تكون عن دولة ضابطة ومنظـّمة لقوى السوق . ان هذا "الضبط" و "التنظيم" هو واحد من مهام الدولة التي تدرك ان وظيفتها الاساسية هي الانتقال بالاقتصاد من اقتصاد موجه مركزيا ً تمارس فيه الدولة كل تفاصيل الشأن الاقتصادي تقريبا ً , الى اقتصاد السوق الحرة , حيث لا تمارس الدولة سوى التنظيم والرقابة وضبط ايقاعات السلوك الاقتصادي .
وتشير المادة (35) الى رعاية الدولة للنشاطات والمؤسسات الثقافية , مؤكدة حرصها "على اعتماد توجهات ثقافية عراقية أصيلة" .!!
اما المادة (36) فتشير الى حق لم يرد في اي دستور عراقي آخر , وهو "الحق في ممارسة الرياضة". ونص هذه المادة هو : "ممارسة الرياضة حق لكل عراقي وعلى الدولة تشجيع انشطتها ورعايتها , وتوفير مستلزماتها" .

3- الموقف من تنظيمات وتكوينات وقيم ما قبل الدولة الحديثة .
بموجب المادة (45) ثانيا ً "تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية , وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون , وتعزز قيمها الانسانية النبيلة بما يساهم في تطوير المجتمع , وتمنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان" .
وهذه المادة بالغة الدلالة (على الصعيدين السياسي والمجتمعي) . فتوظيف العشائر لخدمة مصالح داخلية وخارجية معينة ليست عملية طارئة ,أو دخيلة , في تاريخ العراق الحديث . فلقد سبق لجميع الانظمة المتعاقبة على حكم العراق منذ العام 1921 وان استخدمت القبائل والعشائر والشيوخ والاغوات لخدمة مصالحها الخاصة.
ولأن هذه هي ثاني اشارة للعشائر والقبائل في الدساتير العراقية (بعد القانون الاساسي العراقي لعام 1925) فان مما يقتضي التنبه له , هو ذلك السياق التاريخي (العام) , ومعطيات المرحلة التاريخية التي كتب فيها كلا الدستورين , واحداهما بدأت مع بداية العقد الثاني من القرن العشرين والاخرى بدأت مع بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين . ولن يتوسع الباحث في شرح ما يعنيه ذلك ( أي ما تعنيه الاشارة إلى "النهوض بالقبائل والعشائر " وتعزيز قيمها" في دستور يتعامل مع متغيرات ما بعد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين). ويمكن الرجوع الى ملاحظاتنا عن موقف دستور العام 1925 من نظام دعاوى العشائر لعام 1918 , لعل ذلك يؤسس (الآن أو مستقبلاً) لموقف واضح من هذا الموضوع الحساس والخطير .

4- الأختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية :
تنص المادة(110) من هذا الدستور على ممارسة السلطات الاتحادية الاختصاصات الحصرية الآتية :
أولاً : رسم السياسة الاقتصادية والتجارة الخارجية السيادية ".
ثالثا ً : رسم السياسة المالية و الكمركية وإصدار العملة وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الاقاليم والمحافظات في العراق , ووضع الميزانية العامة للدولة , ورسم السياسة النقدية , وإنشاء البنك المركزي وإدارته .
رابعا ً : تنظيم أمور المقاييس والمكاييل والأوزان .
سابعا ً : وضع مشروع الموازنة العامة والاستثمارية .
تاسعا ً : الإحصاء والتعداد العام للسكان ."
وهذه المادة هي نسخة طبق الأصل عن مادة مماثلة وردت في قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية . وقد سبق وللباحث أن أشار الى مضمونها الاقتصادي (بإختصار) في سياق هذا البحث. ألا أننا مضطرون لإعادة التأكيد ثانيةً على بعض المدلولات الهامة وذات الصلة بموضوع البحث الرئيس , وكما يأتي :
- أن حصر الوظيفة الاقتصادية للسلطة الاتحادية العامة برسم السياسة الاقتصادية العامة وباستخدام أدوات السياستين المالية والنقدية يعد شرطاً غير كاف ٍ لتحقيق اصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة , خاصة وأن هذا الاقتصاد يعاني من أختلالات هيكلية مزمنة استمرت عقوداً طويلة , وأصبح يعاني الآن من تبعات الخراب الشامل الذي عم مفاصله كافة بعد العام 2003 .
- وهكذا فأن الواقع الاقتصادي والاجتماعي القائم في العراق حاليا ً هو الذي يتطلب دوراً أكبر للدولة في الشأن الاقتصادي لسنوات طويلة قادمة . وبالتالي فمن غير المنطقي أن يحدد الدستور صلاحيات الدولة بهذه الاختصاصات الحصرية (المحددة والمقيدة بدورها بالصلاحيات المشتركة مع صلاحيات الاقاليم والمحافظات , كما سيتضح لنا فيما بعد) .

- أن اقتصار دور الدولة على إعداد موازنة عامة , موزعة للتخصيصات , سيكرس الطابع الريعي لدولة تعتمد اعتماداً شبه مطلق على عائدات تصدير النفط الخام بهدف تمويل الإنفاق الجاري .

وفي ظل غياب شبه تام لدور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي , لن يتاح لسلطات اتحادية , بصلاحيات حصرية ( مقيدة بحكم الدستور) أن تحقق أي اصلاح جاد يسمح بأنتقال ناجح الى اقتصاد سوق متنوع , وحديث .
إضافة لكل ذلك , لا يبدو أن أحداً من أعضاء لجنة كتابة هذا الدستور كان اقتصادياً , وذلك بدلالة اللغة والمفاهيم المستخدمة في صياغة نصوص المواد الدستورية ذات الصلة بالشأن الاقتصادي . وألا فما معنى الاشارة الى " التجارة الخارجية السيادية " ( المادة 110- اولاً ) و" تنظيم السياسة التجارية عبر حدود الاقاليم والمحافظات في العراق " ( المادة 110- ثالثاً). وما معنى " وضع الميزانية العامة للدولة " ( المادة ذاتها - ثالثاً -) و " وضع مشروع الموازنة العامة والاستثمارية " ( المادة ذاتها – سابعاً- ). وما معنى "رسم السياسة النقدية وأنشاء البنك المركزي وادارته " (المادة ذاتها – تاسعا-) والبنك المركزي موجود منذ عقود وهو الذي يتولى رسم السياسة النقدية بحكم الاختصاص . وما معنى تكرار الأشارة الى صلاحية رسم السياسة النقدية والمالية والتجارية في فقرات لاحقة للفقرة أولاً من المادة 110 التي تنص على اختصاص السلطات الاتحادية برسم السياسة الاقتصادية (العامة) للدولة ( والتي تعد السياسات الاخرى جزءاً منها) وغير ذلك كثير مما ستتم الاشارة اليه في سياق هذا البحث .

5 - نمط التصرف بالموارد الاقتصادية الرئيسة ,والعلاقات بين السلطة الأتحادية وسلطات الأقاليم .

تشير المادة (111) الى أن النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم والمحافظات " . أما نمط أدارة هذا الملك فتحدده المادة (112) حيث " تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة ,على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد , مع تحديد حصة لمدة محددة للأقاليم المتضررة , والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق , والتي تضررت بعد ذلك , بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من االبلاد , وينظم ذلك بقانون" .
وقد مر من الوقت ما يكفي لتقييم نمط تصرف الحكومة الاتحادية , وحكومات الاقاليم والمحافظات بعائدات النفط والغاز ( على وفق أحكام هذه المادة ). ذلك أن عائدات "الحقول الحالية " لم توزع "بشكل منصف " في جميع أنحاء البلاد . ولم تعد للحكومة الأتحادية (حتى ساعة اعداد هذا البحث ) أية سيطرة على عائدات " الحقول "غير الحالية " ( أو المستقبلية ), وليست لها أية سلطة على آليات الاستكشاف والإنتاج والبيع . . وبقيت المحافظات الجنوبية المترعة بنفط " الحقول الحالية" تعاني من الفقر والحرمان , ومن تردي الخدمات الاساسية . وبعائدات نفط الجنوب ازدهرت أقاليم أخرى , وبما حال دون تحقيق " التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد " , وبما يشكل خرقاً فاضحاً آخر لهذا الدستور , الذي يبدو أن الكثير من مواده قد كتبت لتخرق, أو لتكون موضع صراع لا ينتهي بين الأطراف المعنية بأحكامه .
وبموجب المادة 110 - ثامنا – يكرّس الدستور منهجا انتقائيا في التصرف بالموارد الوطنية الأخرى ( عدا النفط والغاز ) , عندما يجعل " التوزيع العادل للمياه داخل العراق " إختصاصا حصريا بالسلطات الأتحادية , بينما لايتعامل مع عائدات النفط والغاز بالمنطق ذاته .
وأذ تنص المادة (112) –ثانياً – على أن " تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم , والمحافظات المنتجة معاً , برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز , بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق , وتشجيع الاستثمار " ... فان لا احد من المعنيين بهذا الملف ( لا في المركز ولا في الاقاليم والمحافظات ) قد أتفق مع الآخر على القيام برسم سياسات استراتيجية (وطنية ) . وبما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي بأسره . ولا زالت مسودات قانون النفط والغاز نائمة في أدراج الساسة , بإنتظار الاتفاق على صفقة ما ( من بين صفقات كثيرة لا مصلحة للشعب العراقي فيها) . وفي هذه المادة بالذات وردت (ولأول وآخر مرة ) عبارة " أحدث تقنيات مبادئ السوق " ... وليس من الواضح ما هو المقصود بهذه العبارة من الناحيتين المهنية و الأكاديمية , وهل أن الحكومة الاتحادية ستعتمد مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار ( الاجنبي) لتطوير ثروة النفط والغاز فقط , أم أنها ستتبنى هذه المبادئ في جميع المجالات ذات الصلة بالنشاط الاقتصادي .
أن الوقت لم يحن بعد للإجابة على هذه الأسئلة ..
6- الاختصاصات المشتركة بين السلطات الاتحادية وسلطات الأقاليم
تحدد المادة (114) الاختصاصات المشتركة بين السلطات الاتحادية وسلطات الأقاليم كما يأتي:
أولاً : أدارة الكمارك بالتنسيق مع حكومات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في أقليم وينظم ذلك بقانون .
رابعاً : رسم سياسات التنمية والتخطيط العام " .
وهذا يعني أن السلطات الاتحادية التي من صلاحياتها الحصرية رسم السياسة الكمركية , وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات ( المادة 110- ثالثاً ) لن تستطيع أدارة الكمارك ألا بالتنسيق مع حكومات الأقاليم والمحافظات . كما أن السلطات الاتحادية التي من صلاحياتها الحصرية أجراء الاحصاء والتعداد العام للسكان " لن تستطيع رسم سياسات التمنية والتخطيط العام بمفردها , لأن هذه الصلاحية مشتركة بينها وبين سلطات الأقاليم . وعلى أرض الواقع فأن التعداد العام للسكان هو أحد ركائز خطة التنمية الوطنية . ومع ذلك فقد تم تعطيل هذه الصلاحية الحصرية أكثر من مرة , ولم ينجز التعداد العام للسكان حتى الآن ( تموز 2011) رغم أعلان الحكومة المركزية عن نيتها في إنجازه , وإنفاقها لمبالغ طائلة ,وبذلها لجهود جبارة في إعداد متطلباته , وذلك لأن بعض المحافظات والأقاليم قد تحفظت على أجراءه ولمدة سنتين متتاليتين . وربما لن يتم أجراء هذا التعداد ابداً , حتى مع أعلان وزارة التخطيط نيتها أجراءه لأغراض تنموية صرفة . ولا أحد يدري أي عقل دستوري هذا الذي جعل التعداد العام للسكان صلاحية حصرية (قابلة للنقض على أرض الواقع ) , بينما يكون رسم سياسات التنمية الوطنية صلاحية ( أو اختصاص ) مشتركة مع الأقاليم والمحافظات . فالتنمية كلية وذات طابع وطني ( وليس أقليمي أو مناطقي) , والشراكة في إعداد هذه الخطط , لا يجب أن تعني تعطيلاً لدور الدولة التنموي , وذلك بسبب التعارض في المصالح بين الكل والجزء , أي بين سلطة المركز وسلطة الأقاليم .
وقد سبق للمادة (110) وأن قسمت السياسات الاقتصادية العامة بطريقة لم يسبق لها مثيل في أي دستور عراقي سابق ( وقد لا يكون لها مثيل في أي دستور آخر في العالم ) , فهناك" السياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية " (110-أولاً ) وهناك " السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات " (110-ثالثاً ) وهناك " وضع الميزانية العامة للدولة " ( 110-ثالثاً ) وهناك ايضاً " وضع مشروع الموازنة العامة الاستثمارية ( 110- سابعاً ) وجميع هذه الاختصاصات (المتداخلة والمختلطة ) هي من الصلاحيات الحصرية للسلطات الاتحادية . ورغم كل ما تقدم فأن المادة (115) من الدستور ستأتي لتضع قيداً على ممارسة السلطات الاتحادية لصلاحياتها كافة (أي الحصرية والمشتركة معاً ) بنصّها على ما يأتي :
- " كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم .
- والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم , تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم , في حالة الخلاف بينها " .
- وهذا يعني أنه أذا كان هناك ثمة خلاف بين سلطات المركز وسلطات الأقاليم ( وهذا الخلاف حاصل فعلاً ) فأن قانون الأقاليم والمحافظات سيكون هو النافذ , بينما تتعطل جميع أحكام الدستور ذات الصلة باختصاصات السلطة الاتحادية , وتصبح هذه السلطات بدون اختصاصات حصرية أو بدون صلاحيات تسمح لها بممارسة هذه الاختصاصات فعلاً . !!!
- وتكرس المادة (121- ثانياً ) هشاشة السلطات الاتحادية بالنص على حق سلطة الأقليم في " تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الإقليم في حالة وجود تناقض أو تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الإقليم , بخصوص مسألة لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية !! . ولما كانت سياسات التنمية والتخطيط العام , اختصاصاً مشتركاً وليس حصرياً , فأن بإمكان قوانين الأقاليم أن تقوّض أي سياسة تنموية ( وطنية ) بحجة تعارضها مع قانون الإقليم !!! .
- ولا يقف الأمر عند هذا الحد , فأضافة الى "الحصة الدستورية " للأقاليم في الموازنة العامة الاتحادية , تمنح المادة (121- ثالثاً ) هذه الأقاليم حصة أخرى حيث "تخصص للأقاليم والمحافظات حصة عادلة من الإيرادات المحصّلة أتحادياً , تكفي للقيام بأعباءها و مسؤولياتها , مع الأخذ بنظر الاعتبار مواردها وحاجاتها , ونسبة السكان فيها " .
وبعد هذا كله لا أعرف لماذا يستهجن البعض مطالبة المحافظات بحقها في تشكيل أقاليم (فدرالية ) أسوة بأقاليم أخرى . أن هذا هو حقها الدستوري في بلد "الكونفدراليات الفعلية" و "الفيدراليات الدستورية" . وليس من العدل ولا من مقتضيات الإنصاف ( التي يؤكد عليها الدستور مراراً وتكراراً ) أن تبقى المحافظات الغنية بالموارد فقيرة ومتخلفة , لا لشيء .. ألا لكونها محافظات غير منتظمة في إقليم.
ومع ذلك .. وعلى وفق مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي السائد في المحافظات فأن النظام الفيدرالي ربما يحمل في طياته تداعيات سلبية على مستوى التطور الاقتصادي في العراق ككل . ذلك أن غياب التنسيق وتعدد مراكز صنع القرار , وتضارب الصلاحيات وتطبيق منظومات كمركية مختلفة ستؤدي في نهاية المطاف الى نشوء " إقطاعيات أثنية " متناحرة ومتدنية الإنتاجية . وقد يفضي هذا الواقع الى تجزأة السوق الوطنية . وهي سوق أحوج ما تكون الى التوحيد والسعة , خاصة مع ضعف تنافسية الاقتصاد العراقي إزاء الاقتصادات الأخرى ( والإقليمية منها بالذات) والتي تهيمن منتجاتها هيمنة مطلقة على السوق العراقية .
7- الأحكام الختامية.
من أكثر الوقائع سوداوية ومرارة في دستور العام 2005 أنه لن يعدّل ... ولن يعدّل أبداًًُ . أن العراق ( كوطن واحد لجميع العراقيين) قد يبقى , وقد يتم تعديله ( كلاً أو جزءاً ) , بل أن العراق قد يلغى .. لكن هذا الدستور لن يعدّل أبداً .
وللمتفائلين بأية أمكانية لأن يتقدم العراق خطوة واحدة الى الامام في ظل هذا الدستور لا يسعنا ألا أن نعرض عليهم المادة (126) – رابعاً – ونصهّا ما يأتي :
" لا يجوز أجراء أي تعديل على مواد الدستور , من شأنه أن ينتقص من صلاحيات الأقاليم التي لا تكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية , ألا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني , وموافقة أغلبية سكانه بأستفتاء عام".
أخيرا ً .. فأن واحدةً من أخطر الإشكاليات التي يثيرها دستور جمهورية العراق الدائم لعام 2005 هي أن الجميع يجدون فيه ضالتهّم : الرأسماليون والاشتراكيون وأنصار التخطيط المركزي والإدارة الشمولية للاقتصاد ودعاة السوق الحرة , ورجال الدين وشيوخ العشائر و الإقطاعيون الجدد , ورجال الأعمال والفقراء , والقبائل ومنظمات المجتمع المدني , والوطنيون وملوك الطوائف (عرقية كانت أم مناطقية أم مذهبية ) . وجميع هؤلاء يعتقدون أن الدستور يوّفر الشرعية لتصرفاتهم , وطريقة تعاطيهم مع الشأن الاقتصادي والسياسي والمجتمعي .. وأن معارضيهم يخرقون هذه "الشرعية" بإنكارهم ,أو بوقوفهم , على الضد من حقوق (لا لبس فيها) يكفلها هذا الدستور .
وبالنتيجة فأن محصلة هذا الفهم ستكون كارثية بجميع المقاييس , لا بالنسبة للاقتصاد والمجتمع العراقي والنظام السياسي فحسب , بل بالنسبة لمصير العراق كدولة ووطن وأمة .
لقد كرّس هذا الدستور خلافات العراقيين بين كل شيء , وحول كل شيء ... خلاف بين السلطات الاتحادية وسلطات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم ... وخلاف حول أسباب التأسيس ( أي هل تؤسس الأقاليم بدواع ٍ أثنية أم جغرافية ) وخلاف بين الأقاليم والمحافظات .. وخلاف بين المحافظات المتجاورة .. وخلاف بين مجالس المحافظات وبين الإدارات المحلية التابعة لها .. خلاف على كل شيء , وحول كل شيء .. السلطة والثروة , والحقوق الشخصية والموازنة الاتحادية , والسياسة الخارجية , والدفاع والأمن الوطني , والجيش والشرطة , والاستخبارات والوزارات والمناصب العليا .. والبطاقة التموينية وخطط التنمية الوطنية , والتعداد السكاني ...

ومع كل ذلك ...
فأن بالإمكان تعديل " العراق" أو حتى إلغاءه .. بينما سيبقى هذا الدستور المبجل غير قابل للتعديل ... ولو الى حين . ونتمنى لو أن أحداً ممن كتب هذا الدستور , أو أسهم في صنعه , سيقول لنا يوماً ما : لماذا حدث هذا كله ؟ ولماذا حدث بهذه الطريقة ؟ ولماذا لم يحدث بطريقة أخرى تجنب العراق المزيد من الدم والخراب والفوضى .

خاتمة :

لم تفصح بعض الدساتير ( الدائمة أو المؤقتة ) التي اعتمدتها الدولة العراقية خلال المدة 1925-2005 عن توجهات اقتصادية معينة تسمح بتوصيف دقيق لطبيعة وخصائص النظام الاقتصادي . بينما أفصحت دساتير أخرى ( وبشكل واضح ومحدد بدقة ) عن ذلك . وفي كل الأحوال كان السلوك السياسي والاقتصادي على أرض الواقع يتم بمعزل عن النصوص الدستورية , هذا أذا لم يتعارض أو يتناقض معها على نحو سافر .
ولم تنجح هذه الدساتير جميعها في إرساء منظومات قيم وممارسات وأطر مؤسسية تدفع بالعراق نحو غد أفضل . وكرّس البعض منها كل مخاوف الماضي, وكل أمكانات الحاضر المكبّلة بالإستبداد والتمييز والقهر , للتأسيس لنمط جديد من انماط السلطة والإدارة التي لا تقوم على أية مرتكزات سياسية واقتصادية راسخة , ولن تنتج في محصلتها النهائية , للمواطنين المقهورين منذ عقود , غير الكراهية والفوضى .
ويعد دستور جمهورية العراق لعام 2005 , الدستور الأكثر أهمية وخطورة في تاريخ العراق المعاصر .
ولن يكون بوسع أحد أن يتجاهل طبيعة الظروف الصعبة التي كتب هذا الدستور في ظلها , ولا الضغوط الهائلة التي مارستها أطراف عديدة لتمرير مصالحها المتناقضة , وسعيها المحموم لتأطيرهذه المصالح دستوريا ً, ومن ثم التمهيد لمنحها الشرعية القانونية على ارض الواقع. لكن أذا كانت مصالح العراق الفيدرالي ( أي الاتحادي الموحد ) هي الأكثر سمواً من " المصالح العرقية و المناطقية " (الأقليمية) المؤسسة تجاوزاً على وفق ما يسمى " بالأسس الجغرافية " ( بموجب أحكام هذا الدستور ) فأن على جميع المعنيين بمصالح مواطني هذا البلد ( والمتضررين منهم خاصةً في جميع محافظات العراق وأقضيته ونواحيه ) أن يطرحوا على طاولة البحث من جديد , وقبل فوات الآوان , مواد هذا الدستور كافة ( ومن ديباجته الى أحكامه الختامية ) .
ولحصر هذا الطرح باختصاص محدد , نعيد التأكيد على أن هذا الدستور لن يسمح ببناء اقتصاد وطني , أو التأسيس لنسق تطوري متدرج قادر على التعاطي مع متغيرات الاقتصاد العالمي . بل وغير قادر أيضاً على الإيفاء بمتطلبات الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتعاطي مع الإختلالات والتحديات التي يفرضها الاقتصاد العراقي ذاته .
وليس من المعقول , ولا من المقبول , أن يتمكن من بيدهم الأمر في هذا الوطن المنكسر – الجريح من تقسيم العراق أو تعديل حدوده الجغرافية , أوالتحكم بنمط تخصيص واستغلال الموارد فيه ( من خلال صراعهم الشرس على السلطة والثروة ), بينما لا يستطيعون ( وهم من يفترض بهم أن يكونوا بناة العراق الجديد) بلورة إرادة سياسية حازمة تأخذ على عاتقها تعديل معظم بنود هذا الدستور ( أو حتى ألغاءه ) ,لأنه من صنعهم , وتمت كتابته بإرادتهم ( المتناقضة والمتنافرة ) , وليس كتاباً مقدساً هابطاً علينا من السماء .
لقد فعل القادة الإستثنائيون , في الظروف الاستثنائية التي مرت بها بلدانهم ما هو أكثر شجاعة وإقداماً وعزيمة من هذا بكثير .
وليس العراق ولا ظروف العراق ولا أبناء العراق استثناءا من هذه القاعدة .


المصادر :
1- د. رعد ناجي الجدة : " التطورات الدستورية في العراق " – بيت الحكمة – بغداد – 2004
2- قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية . جريدة الوقائع العراقية – العدد 3981 /مايس 2004
3- دستور جمهورية العراق . جريدة الوقائع العراقية . العدد 4012/ 28 كانون الأول 2005
4- فراس عبد الرزاق السوداني . العراق : مستقبل بدستور غامض . نقد قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية . المكتبة القانونية للنشر والتوزيع /ط/ بغداد/ 2005 .
5- عبد الحق العاني : الإرث الدستوري في العراق . http://www.dostoor.jeran.com .
6- حسن كريم عاتي . الملكية الخاصة في الدساتير العراقية . http://www.pcc.iq .
7- عماد عبد اللطيف سالم . الدولة والقطاع الخاص في العراق : الأدوار – الوظائف-السياسات (1921-1990) / بيت الحكمة / بغداد / 2001 .



#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)       Imad_A.salim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البيان الأخير لحوت العنبر
- الأداء الأقتصادي للقطاع الخاص في العراق :(الخصائص والمحددات ...
- العراق والكويت والولايات المتحدة الأمريكية : مأزق الملفات ال ...
- القراءة الخلدونية ( حكايات جديدة لأطفال ٍ في الستين من العمر ...
- قلب ٌ وحيد ُ الخليّة
- مملكة العراق السعيدة
- الأمل ْ .. أوّل ُ من يموت
- تفاحة ُ الأسى
- القطاع الخاص وأنماط التشغيل في العراق ( أبعاد المشكلة وإشكال ...
- الحزن هنا .. فوق قلبي
- - فوضى هوبس - : الفرد الخائف .. والدولة التنين .
- أحزان مستلة .. من الفرح القديم
- همرات .. ورعاة .. ومسالخ
- الفساد والمناصب : ريع الفساد .. وريع الراتب
- الشرق الأوسط الجديد : من مملكة المغرب .. الى سلطنة عمان
- مختارات من الكتاب الأخضر , للرجل الأخضر , القادم من - جهنم -
- ذل ٌ بارد ٌ .. ذل ٌ حار ْ
- حمّى الوديان المتصدّعة
- عندما لاتنخفض السماوات .. في الوقت المناسب
- لماذا راحتْ .. ولم تلتفتْ ؟


المزيد.....




- توقف بطاقات مصرف -غازبروم بنك- عن العمل في الإمارات وتركيا و ...
- السعر كام النهاردة؟؟؟ تعرف على سعر الذهب فى العراق اليوم
- الاحتياطي الفدرالي: عبء الديون يتصدر مخاطر الاستقرار المالي ...
- الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد
- صندوق النقد يرحب بالإصلاحات المصرية
- مدفيديف: الغالبية العظمى من أسلحة العملية العسكرية الخاصة يت ...
- -كلاشينكوف- تنفذ خطة إنتاج رشاشات -آكا – 12- المطورة لعام 20 ...
- إيلون ماسك يحطم الرقم القياسي السابق لصافي ثروته.. كم بلغت ا ...
- اتهامات أميركية لمجموعة أداني الهندية بالرشوة تفقدها 27 مليا ...
- تونس.. توقف بطاقات -UnionPay- الصادرة عن بنك -غازبروم- الروس ...


المزيد.....

- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عماد عبد اللطيف سالم - توصيف النظام الاقتصادي في دساتير الدولة العراقية 1925-2005