|
أجهزة أمن اكثر = أمن اقل؛ والعكس بالعكس
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1018 - 2004 / 11 / 15 - 08:24
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
نسب موقع "اخبار الشرق" الإلكتروني (11/10/2004) إلى ما سماها "مصادر سورية وثيقة الإطلاع" أن اللواء غازي كنعان، وزير الداخلي السوري الجديد، "حصل على وعد من الرئيس بشار الأسد بأن يتم توحيد مرجعية الأجهزة الأمنية، وتُلحق بوزير الداخلية". ويبدو أن الرجل الذي كان رئيسا للمخابرات السورية في لبنان طوال عشرين عاما قبل ان يرأس جهاز الأمن السياسي السوري لمدة عامين، يرى "أن التداخل في صلاحيات الفروع الأمنية يمكن أن يؤثر على الحفاظ على أمن البلد، ولا بد من العودة إلى مرجعية موحدة هي وزارة الداخلية"، وفقا لما أورده الموقع الرصين ذاته. من وجهة نظر نظام الدولة الحديثة، لا يمكن لتوحيد اجهزة الأمن إلا أن يكون خطوة ضرورية نحو عقلنة وتنظيم وتوحيد إدارة وعمل أجهزة الدولة، وإخضاعها لمركز سلطة موحد ومعايير واحدة. ويبقى هذا صحيحا حتى لو افضى توحيد الأجهزة الأمنية السورية على المدى القصير إلى تشديد القبضة الأمنية على الداخل السوري، وحتى لو كانت المرجعية الأمنية العليا المفترضة غطاء لطموحات شخصية. فليس ثمة علاقة مباشرة بين الحوافز الشخصية المحتملة للواء كنعان وبين الثمرة المرجحة لفكرته التوحيدية، وهي ثمرة مفيدة وضرورية كما قلنا. كان من أهم عناصر فشل عملية بناء الدولة الحديثة في سوريا، وهي كما نعلم دولة قانونية وعقلانية وبيروقراطية (بالمعنى الفيبري للكلمة) وتوحيدية وغير عرفية، تناثر السلطة في المجتمع بين جهات أمنية وحزبية وعسكرية و، في وقت من الأوقات، ميلشياوية متنافسة، لا يوحدها غير كونها جميعا فوق القانون وتتمتع بالفعل بحصانة مطلقة. وفي عهد الرئيس حافظ الأسد الذي تبلور هذا النظام ظله كانت تلك الأجهزة تتبع، كل منها على انفراد، رئيس الجمهورية. وينبغي القول أنها ضمنت "الاستقرار" السوري الشهير، لكنها لم تهتد إلى حل للتنازع داخل المجتمع السوري غير حل المجتمع السوري ذاته. إن الاستقرار السوري ثمرة حصرية لغياب المجتمع السوري. كان الاجتماع السياسي السوري قلقا على الدوام بحكم حداثة الكيان السوري من جهة، ووعورة البيئة الإقليمية التي نشأ فيها من جهة ثانية. وكانت الانقلابات العسكرية السورية، الشهيرة يوما، تعبيرا عن هذا القلق ومحاولات لتهدئته في الوقت نفسه. وإذ انتهى عهد الانقلابات بتولي الرئيس الراحل حافظ الأسد السلطة عام 1970، فقد كان ثمن انتهائه انقلاب الاجتماع السياسي السوري بالذات على نفسه. فالآن صرنا نجد مزيجا من تعددية امنية وقانونية وقضائية وعسكرية حقيقية وملموسة، مع واحدية حزبية وسياسية متشددة. وخلافا للسواء المفترض في المجتمعات الحديثة، نجد التعدد في سورية حيث ننتظر الوحدة (في الدولة) ونجد الوحدة حيث ننتظر التعدد (في المجتمع). فقد كان السوريون ولا يزالوان يخضعون لعدالات متعددة تفرغ مفهوم العدل من مضمونه. فهناك محاكم ميدانية ومحكمة أمن الدولة العليا ومحاكم اقتصادية ومحكمة عسكرية، فضلا عن القضاء العادي. والإحالة إلى هذه أو تلك مزاجية لا تخضع لقاعدة مطردة يمكن التنبؤ بها. وفوق ذلك مارست الأجهزة الأمنية دورا قضائيا لا يخضع لقانون. فقد كانت تستدعي وتعتقل وتعذب وتسجن شهورا وسنوات، وربما يموت المعتقلون تحت التعذيب او من طول مدة التوقيف، دون ان يكون في وسعهم اللجوء إلى عدالة عليا تنصفهم. وهنا ايضا تتداخل الاختصاصات وتختلط الإجراءات بطريقة اعتباطية لا يمكن تبين منطقها. والاعتباط واستحالة التوقع المرتبطة به، وليس الخوف وحده، مصدر الزلزلة الجذرية للأمن المرتبطة بهذه الأجهزة. وعلى الصعيد القانوني يخضع الدستور السوري الدائم المقر عام 1973 لدستور أعلى منه هو حالة الطوارئ المعلنة منذ عام 1963، ويخضع الاثنان للإرادة النزوية لأجهزة السلطة وأقويائها. وبينما كانت حملات الاعتقال السياسي تناط بهذا الجهاز أو ذاك فإن القاعدة المستقرة ان الاعتقال مباح للجميع. وأن من يعتقله جهاز الأمن السياسي مثلا لا يضمن كف الملاحقة عنه من قبل جهاز أمن الدولة أو الأمن العسكري. وأنه يمكن لأي جهاز أن يعتقله بعد الإفراج عنه أو يستدعيه كي تصير له إضبارة عنده. فالإنتاجية النوعية لجهاز الأمن هي حجم ما لديه من معلومات، وبالخصوص "المعلومات الصعبة" التي ينفرد بها عن غيره. وفي أوقات الطلب عدد ما لديه من معتقلين وكمية ما كشف من "أسرار". فالمجتمع وكل ما فيه ينبغي أن يبقى على الدوام كتابا مفتوحا أمام الأجهزة وكيانا مباحا امام الاختراق. ومن الطبيعي ان يكون التنافس بين الأجهزة ثمرة الربط بين أهلية الجهاز وكمية ما لديه من "معلومات صعبة" ومعتقلين. ولم يكن ذلك كله يمنع ان تمارس جهات حزبية دورا قمعيا دون ان تشعر بأنها تخرب الدولة والأمن ذاته. وكما أنه كلما تعددت أجهزة الأمن قل الأمن الوطني والأهلي الحقيقي وحل محلهما شعور عام بالخوف والاعتباط، فإنه كلما ازدادت أجهزة العدالة قل العدل وشاعت اللامبالاة وتفككت الرابطة الاجتماعية. ومثل ذلك يمكن قوله على القانون: فكلما كثرت القوانين تشوشت الممارسات الاجتماعية وضاعت حقوق الناس. وللتاثير المتضافر لهذه التعدديات مفعول مضاد للعقلانية ونازع لها، اشبه بمفعول التجزؤ الإقطاعي قبل الثورات البرجوازية في أوربا. والمحنة الوطنية التي بددت حياة أكثر من جيلين من السوريين تعود بالتمام والكمال إلى نظام للسلطة، عرفي، غير عادل وغير عقلاني؛ نظام غطى على التناثر الإقطاعي الجديد بمزيج من عقيدة وطنية مطلقة ومن شخصنة لا تقل إطلاقا للسلطة أيام المرحوم حافظ الأسد. وليست عدالة النظام قضية عدالة وحقوق إنسان وديمقراطية...، إنها قبل ذلك قضية الدولة الوطنية الحديثة. وليس من الضروري ان يكون المرء ديمقراطيا متحمسا أو نصيرا لعقيدة حقوق الإنسان حتى يدعو إلى ويعمل من أجل طي صفحة التعددية الأمنية والقضائية والقانونية والعسكرية: ينبغي ويكفي أن يكون رجل دولة. وقد تضايفت التعددية الأمنية والقضائية والقانونية على الدوام مع واحدية حزبية ونقابية وجمعياتية متطرفة. فقد جرد المجتمع السوري من إمكانية وحق الانتظام الذاتي المستقل عن السلطة. وتساوت أكثرية السوريين الساحقة، بما فيهم أكثرية البعثيين وأعضاء الأحزاب الملحقة في الجبهة الوطنية التقدمية، في معاناتها من فقر سياسي مدقع. وهكذا اخضع المجتمع، وهو فسحة التعدد والاختلاف المنتج، لواحدية ضيقة، فيما كانت السلطة، صعيد المركزة والتوحيد والتجريد، تتناثر وتتعدد. وعند التدقيق في المشهد نتبين خلف الواحدية المفروضة على المجتمع التكوينات المذهبية والدينية والإثنية، وقد اتخذت شكلا أصنافيا، غير تفاعلي وغير منتج، ومضاد للانفتاح على هوية عليا موحدة. وخلف الشخصنة التي تمسك بنهايات خيوط الأجهزة المتعددة والمنفصلة عن بعضها ثمة تعددية جهازية مضادة للمأسسة وتهدد بانفراط المؤسسة العليا: الدولة. نريد مما سبق أن وضع حد لتناثر السلطة كما يتمثل في تعدد وانفصال وتنافس الأجهزة الأمنية امر حيوي من وجهة نظر مقومات الدولة الحديثة. إذ لا شك أن "أهم معيق للإصلاحات في سورية تشتت مرجعيات الأجهزة الأمنية وتنافسها فيما بينها، وهو ما ينعكس على اتخاذ القرار أو تعطيله أو العبث به"، وفقا لما نسبه موقع "أخبار الشرق، المحجوب في سوريا، إلى "مراقبين". ومن شأن عملية التوحيد والمركزة الأمنية ان تكون أكثر انسجاما بقدر ما يواكبها إلغاء القضاء الاستثنائي، وحصر القضاء العسكري بالعسكريين فقط، وحصر ولاية المحاكم الميدانية باوقات المعركة الفعلية فقط. وهو ما يتطلب كذلك إعادة الاعتبار لمفهوم الدستور (ما يقتضي في تقديرنا تعديلا واسعا للدستور الحالي) وإلغاء حالة الطوارئ التي عنت على الدوام تشريع الاعتباط وتعليق الحياة الطبيعية للسوريين، دون أن يكون لها في اي يوم اثر إيجابي على مواجهة العدوانية الإسرائيلية. تقوية الدولة، كفكرة وكمؤسسة، عامة في سوريا تمر بالضرورة عبر مركزة الوظيفة الأمنية وإخضاعها للقانون. فرغم كل المظاهر الدولة في سوريا ضعيفة، وهي اشد ما تكون ضعفا حيال مصالح خاصة تكونت في كنف نظام التعددية الأمنية والقانونية والقضائية والتقييد الاجتماعي والسياسي، وتحولت اليوم إلى غيلان لا تنضبط بأي قانون أو قيمة وطنية أو اخلاقية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موت آخر المحاربين
-
مشاركة في انتخاب الرئيس الأميركي!
-
اي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 2 من 2
-
أي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 1 من 2
-
إصلاح حزب البعث والإصلاح السياسي في سوريا
-
حول الطريق الثالث ... مرة ثالثة
-
اسحقوهم بتناسب، وحطموهم برفق، واقتلوهم بلطف!
-
الاستقطاب والاختيار: حول مفهوم السياسة 2 من 2
-
الاستقطاب والضعف : حول الخط الثالث مجددا 1 من 2
-
ماضي الخط الثالث ومستقبله في سوريا
-
مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي
-
فليستقل مدير عام مؤسسة الاتصالات!
-
الجامعات الأسيرة صورة عامة للحال الجامعية السورية
-
على أثر العاديين ...في شاتيلا
-
في ذكرى اعتقال رياض سيف: احتجاج على شركتي الخليوي
-
ما العمل إن لم يكن لمفاوضة الطالبان ومقاتلي الشيشان بديل؟
-
نظام الهيمنة وإصلاح العلاقة السورية اللبنانية
-
السوريون والمسالة اللبنانية: أسرار الصمت
-
الرغبة في تقديس حكامنا؟!
-
أدونيس يهدر فرصة أن يبقى ساكتا
المزيد.....
-
روسيا أخطرت أمريكا -قبل 30 دقيقة- بإطلاق صاروخ MIRV على أوكر
...
-
تسبح فيه التماسيح.. شاهد مغامرًا سعوديًا يُجدّف في رابع أطول
...
-
ما هو الصاروخ الباليستي العابر للقارات وما هو أقصى مدى يمكن
...
-
ظل يصرخ طلبًا للمساعدة.. لحظة رصد وإنقاذ مروحية لرجل متشبث ب
...
-
-الغارديان-: استخدام روسيا صاروخ -أوريشنيك- تهديد مباشر من ب
...
-
أغلى موزة في العالم.. بيعت بأكثر من ستة ملايين دولار في مزاد
...
-
البنتاغون: صاروخ -أوريشنيك- صنف جديد من القدرات القاتلة التي
...
-
موسكو.. -رحلات في المترو- يطلق مسارات جديدة
-
-شجيرة البندق-.. ما مواصفات أحدث صاروخ باليستي روسي؟ (فيديو)
...
-
ماذا قال العرب في صاروخ بوتين الجديد؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|