أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - نضال درويش - المجتمع المدني بين التهميش و التجييش - الساحة السورية نموذجا















المزيد.....


المجتمع المدني بين التهميش و التجييش - الساحة السورية نموذجا


نضال درويش

الحوار المتمدن-العدد: 1018 - 2004 / 11 / 15 - 03:08
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


المجتمع المدني بين التهميش و التجييش
( الساحة السورية نموذجا )

أعاد مصطلح المجتمع المدني الاعتبار لنفسه ، بعد أن تعرض لعقود طويلة من الإهمال ، حيث كان يعتبر مفهوما قديما و محافظا من ناحية ، وغير مألوف و مهملا إلى حد كبير من ناحية ثانية ، وارتبط بتجربة تاريخية محددة و حاضنة ثقافية بعينها من ناحية ثالثة .
بعد هذا الإهمال الطويل، تم إحيائه مع تظاهرات المجتمع المدني في بداية السبعينات من القرن الماضي في أوروبة الشرقية أولا و من ثم أوروبا و باقي دول العالم.
وإذا كانت تظاهرات إحياء المجتمع المدني أخذت أشكال متنوعة تاريخيا، أي أن هذه التظاهرات كانت تحمل خصائص الأمة التي أنتجتها ( الخصائص تقيم الفروق )، إلا أنها تؤكد ما هو عام و مشترك و كوني في آن، أي أن هذا الإحياء ارتبط بتحديات متباينة ومختلفة، و أولويات اختلفت من بلد إلى آخر، حتى أنه يمكن القول: أن مصطلح المجتمع المدني أصبح اليوم أكثر استخداما بكثير مما مضى في تاريخ العصور الحديثة، بما في ذلك القرن الذي ولد و نضج و تبلور فيه
( 1750-1850 )، هذا الاستخدام الكثيف للمصطلح و سيل الكتابات حوله، المرتبط بتحديات و حاضنات ثقافية متباينة ومتنوعة وأنظمة سياسية مختلفة، زاد في انتشار كثير من المفاهيم الفضفاضة لهذا المصطلح، لدرجة ميله لأن يعني كل الأشياء لكل الأشخاص، حتى أدى إلى التشعب والخلط في معاني مصطلح المجتمع المدني إلى درجة التناقض, فكثير من العلماء بدأ يشك في جدوى التعاطي مع هذا المصطلح كأداة تحليل و فهم .

من هنا أرى ضرورة الانتقال من الاستغراق في التعريفات القاموسية للمصطلح، إلى البحث في تفاصيل السياق التاريخي في القرنين ( 18-19 ) الذي هو تاريخ المصطلح نفسه الذي نشأ نتيجة لمناقشات القرن الثامن عشر حول ميلاد المجتمع الليبرالي أو " التجاري "، مما يضعنا أمام تساؤل مركب، ما هي العناصر الأساسية فيه التي دفعت العلماء و الباحثين و السياسيين إلى إحيائه من جديد؟ و هل سياقات إحيائه هي سياقات واحدة و متشابه؟ مما يعني ضرورة الانتقال المنهجي من الاعتماد على علم و منهج محدد إلى منهجية مركبة من العديد من المناهج العلمية، مثلما ما يقوم به المؤرخ المختص و الصارم، وذلك لكي نتمكن بادئ ذي بدأ بوضع الحد على المصطلح نفسه، وعدم إدغامه في خانة إله من آلهة الصراع السياسي / الأيديولوجي القائم ، ولكي لا يتحول إلى شعار أيديولوجي وغاية بحد ذاته تدار من أجله صراعات تقليدية.

بما أن مفهوم المجتمع المدني ينتمي أساسا إلى العلوم الاجتماعية و الإنسانية ، أي أنه لا يكتسب الدقة العلمية التي تكتسبها مفاهيم الرياضيات و الفيزياء ...إلخ ، فهو بذلك مفهوم قابل جوهريا للجدل حسب تعبير دبليو . بي . غيني ، أي له استخدامات و معان مختلفة و غير مستقرة ضمنيا ، و حتى متناقضة بعضها مع بعض, و هذا من باب التحصيل الحاصل بسبب اندراجه و تطوره ضمن تقاليد فكرية و ممارسات اجتماعية و سياقات تاريخية مختلفة، و هذا ما يشكل عنصرا حاسما في تعريف المفاهيم التي هي في جوهرها موضع جدل .
أي علينا الاعتراف المبدئي و الأساسي، أن هناك استخدامات متباينة و متنافسة لهذا المصطلح ، مرتبطة بالشرط البشري / التاريخي, فيتغير مفهوم المجتمع المدني مع تغير الموقف الأيديولوجي للمتكلم وشبكة علاقات هذا المصطلح مع المفردات الأخرى في سياق خطاب ما, ويشكل هذا شرطا معرفيا / منهجيا لكيفية التعاطي المفاهيم من أجل تسويتها ، ووضع الحد عليها و بلورتها و إدراجها في سياقات نضجها ، وهو ، أيضا ، شرط توسع ساحة الحوار و الحرية الذي يؤَمِن للاختلاف و التنوع و التعدد و التعارض و التوافق المقومات المطلوبة, و هذا ما يمكن أن يضعنا في خانة الموقع النقدي من السياقات الأيديولوجية في التعامل مع المصطلحات ، وذلك من أين كان مصدرها.

سأحاول في هذه العجالة أن لا أخوض في الإشكاليات المعرفية / التاريخية التي تتناول موضوع المجتمع المدني الذي يرتبط بعرى لا انفكاك فيها تاريخيا و معرفيا بجملة من المفاهيم مثل
( الدولة ، المواطنة ، المجتمع ، الفرد ، حقوق الإنسان ، الملكية ، السياسة ، العلمانية ،الديمقراطية ، الأحزاب ، الجمعيات ، الدستور ، القانون ، النقابات ........) إذ يمكن ترك هذا المقال لمقام آخر .
بل سأبدي و جهة نظر في كيفية تعاطي المنظومات الأيديولوجية / السياسية السائدة ( الساحة السورية نموذجا ) مع هذا المفهوم و مع الداعين إليه، و مع الذين يتبنون مشروع إحياء المجتمع المدني من مثقفين و سياسيين وحركة حقوق الإنسان .


بعد خطاب القسم الذي ألقاه السيد الرئيس بشار الأسد أمام مجلس الشعب ، إبان تسلمه مهامه الرسمية. عاد مصطلح المجتمع المدني ليأخذ حيزا كبيرا من الحوارات الدائرة في الساحة الثقافية و السياسية، وذلك عبر صفحات الجرائد و المجلات، أو في المنتديات التي عمت محافظات الوطن ( و التي تم إغلاقها بعد ذلك )، إضافة لمشاركة الأحزاب السياسية في هذا الموضوع من خلال صفحاتها الرسمية أو من خلال توجيهاتها الداخلية في هذا المضمار، وهنا أخص بالذكر أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية( وهي مجموعة أحزاب شكلت تحالفا بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي الحزب القائد للدولة و المجتمع بموجب المادة الثامنة من الدستور ) .
والتساؤل يفرض نفسه هنا، لماذا أخذ مصطلح المجتمع المدني هذا الحيز الكبير من الحوارات في الساحة السياسية و الثقافية في سورية ؟
المتتبع للجدل الدائر حول هذا الموضوع، تستوقفه ظاهرة " العنف الرمزي " بتعبير بيير بورديو، في الخطاب الإيديولوجي السياسي، المندرج في هذا الجدال. حيث لاحظنا كيف استفز هذا الموضوع ( المجتمع المدني ) المنظومات الإيديولوجية التي بدأت بحملة تطهير إيديولوجي ضد وافد جديد لا يتلاءم مع نسقها الإيديولوجي / السياسي، و الذي يعبر عن إمكانية إنتاج زحزحة ثقافية – سياسية، يتعرى من خلال " شقوقها " ما أنتجته الشمولية الإيديولوجية و السياسية من زحف للتفقر طال كل حقول المجتمع، لذلك تحول مصطلح المجتمع المدني إلى مفهوم استقطابي، الموقف منه يشكل معيار للاصطفاف في إحدى خانتي الثنائيات المانوية.
وقد لاحظنا تعبيرات هذه المنظومات على وسائل الإعلام المختلفة ( دون ذكر الأسماء ) فتكشف نسق خطابها عن تشبعه بمفردات عملاقة مفرطة الكثافة، تركز في ذاتها الحد الأعلى من الدلالة المندغمة بالحقيقة ، إضافة إلى كلمات إطلاقية تحمل في دلالتها كثافة إيديولوجية / أخلاقية ، مما يدلل، بزعمها، على انتماء نسق الخطابات المنافسة إلى آلهة الباطل و الضلال و الزيف, فعملت على تخوين الداعين إلى إحياء المجتمع المدني ، واستنفرت لذلك كل ترسانتها الإيديولوجية و السياسية، المتشبعة بمفردات إرهاب المنافس لها ( العمالة ، الخيانة ، المؤامرة ، الانحراف ،...).

ولا يخفى على الجميع ، أن الخطاب المجبول بهذه المفردات، يشكل تعبيرا ذا دلالة واضحة على ظاهرة الشمولية ذات النزعة الإقصائية و الاستبدادية في الساحة السياسية السورية، و على مناخ هوس الصراع الإيديولوجي التعبوي، وهذا ما يفسر لنا " نجاح " دور هذا الخطاب التجييشي و التعبوي العازف على المخيال السياسي / الديني ضد ظاهرة المنتديات و الداعين إلى إحياء المجتمع المدني و احترام حقوق الإنسان في سورية، وذلك بفرضه رؤية صراعية تتواجه فيها الحقيقة و الباطل، الخير و الشر، الوطني ولا وطني. من هنا كان مناضلو النقاء و التطهير في حالة تعبئة دائمة يخوضون خلالها " حربا " ضد " المهرطقين الجدد " الذين يمتلكون إمكانية أن يتلاعبوا بالعقول و الضمائر على قدر ما يتلاعبون بالمصالح، و ذلك بعد أن استعار هؤلاء المناضلون صوت المجتمع أو الشعب المحكوم " بثقافة الخوف القطيعية " من أجل قمع الفاعلين الاجتماعيين، الحالمين بتغيير نمطية العلاقة القائمة بين السلطة و المجتمع وتفعيل مشاركة المجتمع في الشأن العام، و السعي إلى إلغاء و جودهم المادي و الرمزي ( إلغاء المنتديات ، الاعتقالات، تهمة الارتباط بجهات أجنبية، تهديد الوحدة الوطنية، تهديم قيم وعادات المجتمع .....)، لذلك حُوِّلَ " الحوار" في موضوع المجتمع المدني، الذي استفز استراتيجيات الرفض الإيديولوجية و السياسية و النفسية، إلى مدخل يؤكَّد من خلاله على تخوين الآخر و ارتباطه بالخارج و عدم حرصه على الوحدة الوطنية و ثقافتها النقية . لتعود الساحة الثقافية و السياسية من جديد إلى حالة الانكماش و التوجس و الشك ، و بالتالي إلى نمطية الثقافة التمامية و الواحدية التي ترى في الاستبداد شكلها الأمثل .

من نافل القول " إن كل قارئ أو مستمع لخطاب ما هو ذات غير بريئة و غير حيادية ، لأنها مشكّلة بواسطة عقائد و مبادئ ، تحولت مع الزمن إلى يقينيات لا يطالها الشك و المس ، وإلى مقدمات إيديولوجية و مقاييس موروثة راسخة في العقل و المخيال و مكونة للوجدان، و موجهة للإدراك و مكيفة له.
هذه العوامل المركبة ، تكون نسق الذات ، وعندما يطرأ على هذا النسق المجهز و الصلب ، مفهوم غير مألوف ، أو نظرة للعقل غير متلائمة مع الموروث المعتاد ، وقراءة سياسية منافسة / معارضة ، تستفز استراتيجيات الرفض لحماية نسق الذات من التفتت و الانحلال . فيستفز الخوف من " التلوث " الرفض المناعي للأيديولوجيات ضد كل و اقعة و كل فكرة تحمل ممكنات الشك بهذه المنظومات ، وهذا ما يدفع تلك الأيديولوجيات إلى تأمين آليات مركبة من أجل الرفض و التجييش و التعبئة من جهة ، و من أجل التهميش من جهة ثانية ، وهي مستندة على مصادر القوة التي احتكرتها السلطة .

إن المتتبع لحملة " استراتيجيات الرفض " الإيديولوجية و السياسية التي شاركت في الرد على الداعين إلى تفعيل المجتمع المدني في سورية بمنطوياته المعرفية و السياسية و الاجتماعية . سيلاحظ " نجاح " هذا الرد من خلال " تحقيقه " للهدف المركب لجدلية التهميش و التجييش ، التي تشكل محصلته الواقعية ، إعادة إنتاج لنمط العلاقة القائمة بين السلطة و المجتمع ، بعد إرغام الآخر المختلف على الصمت ( اعتقالات طالت شخصيات مهمة في الساحة السورية ، اعتقال و فصل بعض الطلاب ، تفعيل دور الأجهزة الأمنية ، تفعيل حالة الطوارئ و محاكماتها الاستثنائية ) ، وتجييش المجتمع المستعار صوته من أجل أن يدافع عن تهميشه من جهة ثانية ، و اتبع في ذلك آليات مركبة و معقدة ، سنحاول الإمساك بمفاصلها الأساسية و ذلك بشيء من الاختصار ، و المتتبع لما كتب في هذا المجال سيتمكن معنا من الإمساك بهذه المفاصل .

بادئ ذي بدء، أقدمت استراتيجيات الرفض بمحاولة أيديولوجية ، محكومة بمصالحها ، على تجريد الأطروحات المنافسة لمصطلح المجتمع المدني و حججها و ركائزها المنهجية و السياسية و الأيديولوجية من أهليتها المعرفية و العقلانية ، رغبة منها ، استنادا على هذه المحاولة ، تجريد المثقفين و السياسيين و حركة حقوق الإنسان و المهتمين من الأهلية الوطنية ، ليتم تحويلهم إلى خصوم يشك بهم و بتوجهاتهم الفكرية / السياسية . وهذا يعني بكلام آخر ، إن هذه الأطروحات لا تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار ، و الناطقين بها ضالون و مخطئون ( ووضعوا أحيانا في خانة الكاذبين ) وبالتالي فاقدين للمصداقية المعرفية / الوطنية ، وكل ما يصدر عنهم يستثير آليا الرفض العقلي و الأخلاقي بآن . من هنا كانت محاولات استراتيجيات الرفض " البرهان " على استناد الأفكار المنافسة / المعارضة لمصطلح المجتمع المدني إلى استدلالات زائفة ، و الناطقين بها جهلة و أصحاب " النية السيئة " . و هنا يمكننا ملاحظة اختلاط الازدراء العقلي اختلاطا حميميا بالازدراء الأخلاقي ، وهذا ما لاحظناه في كثير من المحاضرات في المراكز الثقافية الرسمية التي شارك فيها شخصيات رسمية و رجال دين ( مسلمين و مسيحيين ) ، و هو ما يسمح لهذه " الاستراتيجيات " بأن تحاصر مواقع الانطلاق لكل ما يمكن أن يمسها أو يعارضها أو ينقدها .

بخرج بعض المثقفين و المهتمين بالشأن العام عن الدور المفروض من قبل المنظومات الأيديولوجية الرسمية ، و أخذوا يتناولون في أبحاثهم و حواراتهم التحديات الداخلية ، و يبدون وجهات نظر في السيناريوهات الممكنة التي يمكن أن تتجاوز فيها سورية أزماتها المركبة ( دون إضفاء حكم قيمة على هذه الآراء ) ، حاولوا من خلالها إيصال رسالة مزدوجة وهي ذات دلالة واضحة " لمؤسسات الدولة " ،وهي أن المجتمع السوري و صل إلى سن الرشد الذي يؤهله للاندراج في حوار يتمحور حول مستقبله و مستقبل هذا البلد ، كما عبرت عن مدى التململ من تاريخ الوصاية الأبوية القاهرة التي مارستها السلطة على المجتمع التي كانت ترى فيه " طفل " لا يعي مصالحه و قضاياه . وإزاء هذه " الرسالة " ، أيضا ، كان رد السلطة عبر أجهزتها المختلفة ، ذا دلالة واضحة على نهج الإصلاح الذي تبنته السلطة ، الذي بدأ بإغلاق المنتديات والاعتقالات التي طالت رموز مهمة سياسية و فكرية و حقوقية ، و التضييق على الفعاليات المدنية و حركة حقوق الإنسان في سورية .
لذلك وصمت استراتيجيات الرفض المالكة للسلطة هذه التوجهات التي تعاطت بشيء من النقد مع القضايا الداخلية ، بأوصاف التخوين و العمالة ، التي تخدم مباشرة أو موضوعيا الإمبريالية و الصهيونية . و ذلك لأن كتابات المثقفين وبياناتهم و بيانات حركة حقوق الإنسان والمنتديات اهتمت بالتحديات الداخلية - القضايا الصغرى - ( الحريات العامة ، الديمقراطية ، حالة الطوارئ و الأحكام العرفية ، قانون الأحزاب ، سيادة القانون ، حقوق الإنسان ، قضايا الفساد ...) على حساب القضايا الكبرى ( الصراع مع الإمبريالية و الصهيونية ، الوحدة العربية ، تحرير الأراضي المحتلة ،......) .
رغم تأكيد هذه الكتابات على أن جذر " القضايا الكبرى " هو " القضايا الصغرى " و بالأحرى إن القضايا الصغرى هي ضبط القضايا الكبرى ، و إلا تحولت القضايا الكبرى إلى شعارات تجييشية تعبوية فارغة المضمون السياسي و الواقعي ، و مع الزمن تفقد بريقها الأيديولوجي، فمسار فقدان كرامة الفرد و قمع الحريات و انتهاك حقوق الإنسان ، واستمرار حالة الطوارئ و الأحكام العرفية من عام 1963 وهيمنة الفساد ....لم تحرر الأراضي المحتلة ولم تحقق أهداف الثورة .... ، و تاريخنا مع الصراع العربي الصهيوني و العداء للإمبريالية خير دليل على ذلك . حيث كانت مجتمعاتنا على الدوام خارج المعادلة السياسية ، و في خانة العطالة .
من هنا كانت حرب استراتيجيات الرفض على المهتمين بتفعيل المجتمع المدني ، حاولت من خلالها التأكيد على أن مبادئهم الفكرية و الأخلاقية و السياسية ليست سوى تمويه من أجل أهداف أخرى " أكف بيضاء لأيادي سوداء "، بالتالي هي مصابة برذيلة النفاق و الكذب ، فدعوة هؤلاء لانخراط المجتمع في الحوارات المرتبطة بمصيرهم و إلى إحياء المجتمع المدني في سورية ، اعتبرت دعوة من أجل الفتنة الطائفية و تفتيت اللحمة الوطنية ، وبزعمهم ، هي دعوة منافية لكل القيم و المبادئ التي أنتجت الوحدة الوطنية في سورية و المناقضة أيضا لقيم و أخلاقيات مجتمعاتنا الموروثة و الأصيلة و النقية . فنصبت نفسها، ومبادئها الثقافية والأخلاقية، معيار قيمي أساسي يحدد مدى انتماء الفرد لوطنه ، و كذلك تحدد القيم و المبادئ المفترضة ، التي يجب عليه أن يتحلى بها .
بهذه المنهجية ازداد تجريد الأفكار المطروحة من قبل الداعين للمجتمع المدني من الأهلية الأخلاقية حدة ، عندما تم نقل " الحوار " من المستوى المعرفي / السياسي إلى المستوى الأخلاقي . و هي من أكثر التوجهات خطورة ، في هذه اللحظة التاريخية التي تمر بها المنطقة و ربما سوف نحصد نتائجها المدمرة لاحقا .

فعندما أبدى المثقفون وجهات نظر في القضايا الداخلية ، في سياق مناقشتهم لموضوعة المجتمع المدني ، اعتبرت المسألة تخطيا للخطوط الحمراء و تجاوزا للسقف السياسي للمنظومات الأيديولوجية الرسمية ، و بالتالي انتهاكا للمقدسات ، مما وضع مفهوم المجتمع المدني ، المنافس للرؤية الرسمية ، و الناطقين به في خانة الضلال الأخلاقي و الانحراف القيمي ، وهنا – على التحديد – مس " الدفاع المناعي الأيديولوجي / المذهبي " لهذه المنظومات القائم على تقديس أسسه و ركائزه و إنجازاته ، مما يجعل هذه المنظومات محمية بحزام صلب من التابو ينشر حوله الترهيب ، محولا الحوارات بين و جهات النظر المتباينة و المختلفة إلى صراع بين آلهة الخير و آلهة الشر ، وكل ما ينبثق عنهما يكتسب الصفة الإطلاقية ، فكل وجهة نظر تتصل بالرؤية الرسمية محملة بكل المضامين الأيديولوجية الإيجابية و بالتالي تكون جديرة بالاحترام و الإعجاب ، و كل تعبير أو رؤية تضمر نقدا أو معارضة ترفض و يندد بها بوصفها تشكل انتهاكا للقداسة ، وهذا ما يثير الرعب و الكراهية " إنها إهانة للوطن " ، " انتهاكا للوحدة الوطنية " ، " خيانة للقضية القومية " ، وبذلك يتم إرغام هؤلاء " الدنس " على السكوت ، مما أدخلنا في مناخ محموم من الهوس الأيديولوجي – السياسي الذي يتحول فيه الحوار الفكري – السياسي إلى قضية نافلة وغير مجدية وليتم إطلاق يد الأجهزة الأخرى التي كانت تنتظر الأوامر بفارغ الصبر ،وتتم عندئذ الدعوة إلى استئصال " الاستفزازيين " " أصحاب الأيادي السوداء " و " المتآمرين على الوطن " ، في مناخ ثقافي و سياسي ملائم ، حُمل فيه اصطلاح المجتمع المدني بدلالات أخلاقية و سياسية رذيلة و باطلة ، ووضع الناطقين به موضع اتهام و استهجان لأنهم مهرطقين و منحرفين ، فحكم على هذه المناقشات بالصمت و على بعض المثقفين و السياسيين بالسجن ، ليكونوا درسا لمن لا يعي دروس السجن .

هكذا و بهذه الآليات المركبة و المعقدة ، تكون استراتيجيات الرفض الأيديولوجية قد حققت أهدافها ، أولا : بنقل الحوار من المستوى المعرفي / السياسي إلى المستوى الأيديولوجي / الأخلاقي ، ثانيا : " فقد " بذلك مفهوم المجتمع المدني و بعض مكوناته الواقعية المتشكلة في بلادنا ، التي حاول البعض أن يعيد إليها الحياة ، مصداقيته في رحى آليات التجييش و التهميش ، التي ساهمت في إسكات الأصوات " الشاذة " من جديد ، لتعود هذه المنظومات الأيديولوجية السياسية تحتفل بنشوة النصر و التأمل في صدى صوتها الوحيد و هو يجلجل في صقيع هذا الوطن ثالثا .

و أخيرا يمكن القول : بأن القضية ليست في مفهوم المجتمع المدني ، أو غيره من المفاهيم التي طفت و تبلورت في سياق تجربة تاريخية و اجتماعية مختلفة . بل أنها أبعد من ذلك و أعمق ، إنها تكمن في تلك الترسانة الأيديولوجية الصلبة التي تعيش و هم أن بطن الذات هو المصدر الوحيد للحقيقة ، وبأنها المعيار الوحيد لانتماء الإنسان إلى وطنه . مما أجهض مناخات الحوار الممكنة . وهي أيضا مأساة مجتمع يجيش من أجل أن يتغنى بتهميشه.

نضال درويش: سورية – الحسكة
[email protected]
[email protected]



#نضال_درويش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل ...
- في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري ...
- ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
- كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو ...
- هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
- خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته ...
- عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي ...
- الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
- حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن ...
- أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - نضال درويش - المجتمع المدني بين التهميش و التجييش - الساحة السورية نموذجا