باريس 18 /8 / 2002
عندما كان إسحق رابين رئيساً لوزراء إسرائيل قبل سنوات صرّح قبل اغتياله بفترة قليلة، في شباط / فبراير 1988 أي قبل أسابيع من إندلاع الإنتفاضة الأولى وذلك أمام حشد من أصدقاء إسرائيل الغربيين من بينهم مارك هالتر وإريك لورون قائلاً بمرارة : " تعلمت شيئا في الأشهر القليلة الماضية وهو إننا لا نستطيع أن نحكم عن طريق القوة أكثر مليون ونصف المليون فلسطيني ، وهذا درس يتعين علينا أن نستخلص منه العبر " .وقد أورد الإثنان هذا التصريح في كتابهما الصادر عام 1994 تحت عنوان : " قوى السلام " .
والحال إن من المؤكد بأن آرييل شارون غير مستعد للإعتراف بهذه الحقيقة أو الاقتناع بمثل هذا الاستنتاج مع إن العنف الذي يواجه قواته من قبل الفلسطينيين والمقاومة البطولية التي يبديها الشعب الفلسطيني لايقارنان برشق الحجارة على قوات الاحتلال في الانتفاضة الأولى . فبالنسبة له:" إن هؤلاء الشباب والشابات من الفلسطينيين الذين لايوجد ما يبرر يأسهم من الحياة ، يفجرون أنفسهم بين المدنيين ويزداد عددهم يوماً بعد يوم ، ليسوا سوى مجموعة من الإرهابيين كالآخرين ممن يعملون في مؤسسات السلطة الفلسطينية بدءاً برئيسها . فتضحياتهم بحياتهم ليس دليلاً على براءتهم ولا يبريء من يقفون وراءهم أو يدفعونهم إلى مثل هذا الإنتحار" .وهو غير مستعد للإعتراف بأنه إذا كان عددهم كبيراً وبإزدياد مطرد فذلك لأنه هناك نوعاً من اليأس بات يمتلك مشاعرهم ويسيطر عليهم، وإنه بخفض وإنهاء مثل هذا اليأس يتشكل بصيص الأمل الذي ينبغي أن يسعى لخلقه وتوفيره كل من يتمسك بفكرة ضرورة تعايش شعبين محكومين بالعيش معاً في رقعة جغرافية واحدة دون أن يغرقا في بحر من الخوف والحقد وروح الإنتقام بل أن يتسلحا بقناعة أنه لايمكن أن يخضع أحدهما الآخر بقوة السلاح ولغة التهديد والإبادة . والحال أصبح العالم اليوم مقتنع وواثق أنه لاسلام بدون الاعتراف المتبادل والقبول المتبادل والثقة المتبادلة بين الشعبين.
فالإسرائيليون عندما أسسوا دولتهم كانوا يهدفون لتحقيق أهداف جوهرية هي في صلب حلم مؤسس الصهيونية العالمية ثيودور هرتزل ، ومن هذه الأهداف الجوهرية منح ا ليهود أرضاً وملجأ آمن بعيداً عن أية تهديدات رهيبة جديدة وسمت تاريخهم الطويل ، وتوفير الرخاء والازدهار والطمأنينة لهم هذه هي الدعامات الرئيسية التي تستند إليها دولة إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 . وقد ترسخت هذه الفكرة في أذهان الإسرائيليين وبأنهم تمكنوا أخيراً من تحقيق هذه الأهداف بالرغم من حروب 48،56،67،73،82، مع الدول العربية إلى جانب الإنتفاضتين الفلسطينيتين . وفي كل مرة تخرج فيها فكرة التعايش المشترك والسلام إلى العلن ، يحدث إحباط وتواجه بصدمة ، ومازال الشعبان يراوحان في نفس المكان بعد إنتهاء " سيرورة أوسلو " التي أنعشت الكثير من الآمال . والذي يريد آرييل شارون تحقيقه اليوم هو تحقيق إنتصار مدوي وكبير بحيث لايمكن لأحد من خصومه أن يشكك في قدرته ومخططاته ويطعن في فاعليتها . وقد صرّح لمجلة الإكسبريس الفرنسية أنه لو كان مكلفاً بقيادة الحرب الجزائرية لكان قد إنتصر فيها وسحق الثورة الجزائرية بأسلوبه" وهذه هي الصورة التي تجول في رأسه أي" حرباً إستعمارية "، فهو مازال يفكر بعقلية أوائل هذا القرن وحروبه الإستعمارية التي ولى عهدها .
سيصل تعداد المسلمين قريباً إلى مليار نسمة في جميع أنحاء العالم من بينهم ما لايقل عن 300 مليون عربي وإن معدل الإنجاب والتكاثر عندهم أكبر بكثير مما هو عند اليهود ولايتوقع من هؤلاء أن يصفقوا ويستسلموا لمخططات رجل من أمثال شارون الذي لايفكر بنظرهم سوى بإذلالهم . وقد رفض مؤتمر كوالا لامبور الإسلامي " أي ربط بين الإرهاب ونضال الشعب الفلسطيني الذي يمارس حقه المشروع في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس " . بينما قال الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي لكون باول وزير الخارجية الأميركي في لقاءهما في الرباط تحت ضغط المظاهرات الاحتجاجية الضخمة ضد جرائم الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية : " إن هيبة ومصداقية الأمريكيين في المنطقة في طريقها إلى الإنهيار "ولذلك صرح وزير الخارجية الأميركي إثر ذلك " بأن فرن الشرق الأوسط سوف يطفح عن قريب " وإن على الإسرائيليين ، مهما كانت دوافع وتبريرات هجومهم ، أن يتقبلوا حقيقة أن استراتيجيتهم وإستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية كذلك بدأت تتعرض للأذى والخطر ، ولايمكن للبيت الأبيض أن يتجاهل خطورة تشدد وتطرف اصدقائه العرب وإنقلابهم ضده سواء في المجال النفطي أو فيما يتعلق بمشاريع الولايات المتحدة الأميركية بشأن العراق وتغيير نظام صدام حسين .
آرييل شارون يتعرض لضغوط وإبتزازات خصومه ومنافسيه في اليمين الإسرائيلي المتشدد وخاصة بينيامين نيتانياهو الذي يأمل أن يحل مكانه في قيادة الدولة ، وياسر عرفات سجين مواقفه وتخلي الآخرين عنه ومع ذلك فهو يبدو بهيئة البطل المعزول الذي لايمكنه التحرك لتقديم مبادرة فعالة إزاء المقترحات الأميركية في تحريك الوضع والخروج من المأزق وكبح ماكنة الإرهاب. والحال إن رئيس الوزراء الإسرائيلي خاطر كثيراً برده على مبادرة العرب في مؤتمر قمة بيروت وخطة السلام التي تقدم بها الأمير عبد الله وحملت إسمه ، وذلك بشنه هجوماً عسكرياً كاسحاً على أراضي السلطة الفلسطينية وارتكاب مجازر حنين وغيرها مما أثار ضده حفيظة الزعماء الأوروبيين خاصة بعد منع الوفد الأوروبي من مقابلة ياسر عرفات في سجنه في مقر قيادته في الضفة الغربية. والواضح إن آرييل شارون ليس فقط لايثق برئيس السلطة الفلسطينية أبداً بل إنه يكرهه شخصياً ولايطيقه ولو إن الأمر بيده لقام بتصفيته جسدياً منذ أمد طويل . وبما أنه لايستطيع في الوقت الحاضر تحقيق هذه الرغبة الدفينة في صدره ، نراه يعمل بكل ما في وسعه لتقزيمه وتجريده من سلطته ،" لكنه بدلاً من تدميره لعدوه معنوياً زاده مكانة ورفعه وحوله من ديكتاتور إلى بطل رمزي للمقاومة والصمود وخلق سوء تفاهم أولي بينه وبين حليفه الإستراتيجي أي الولايات المتحدة الأميركية " على حد تعبير نيقولا كريتسوف في صحيفة النيويورك تايمز . ونفس الحكم نشرته صحيفة الواشنطن بوست قائلة:" إن ما حصل عليه آرييل شارون هو عكس من كان يأمله فهجومه الوحشي لم يدمر النشاط الإنتحاري بل سيزيد من حجم الدماء المهدورة خاصة بين أبناء شعبه" بينما تطالب صحيفة الوول ستريت جورنال بتكثيف العنف على كل الجبهات. وقد أبدت الصحافة الأميركية في خضم الأزمة وتصاعد الهجمات العسكرية تحفظاً تجاه سياسة آرييل شارون دون أن تصل إلى حد إدانته . وحتى داخل إسرائيل ارتفعت أصوات منددة ومعارضة من داخل معسكر المعارضة واليسار الإسرائيلي .
لم يقتف جورج دبليو بوش أثر أبيه أو رونالد ريغان في الضغط على الزعماء الإسرائيليين لكنه مع ذلك خرج من عزلته بشأن مسألة الشرق الأوسط وأعلن تأييده لتأسيس دولة فلسطينية وهو الأمر الذي لم يتجرأ عليه أي رئيس سابق قبله للولايات المتحدة الأميركية . ومن المؤكد أن على القادة الإسرائيليين عاجلاً أم آجلاً أن ينفذوا ما يخطط له الأمريكيون بشأن الشرق الأوسط حتى لو اضطرهم الأمر إلى الإنسحاب من الأراضي المحتلة والقبول بمبدأ الدولة الفلسطينية وإستئناف المفاوضات السلمية مع السلطة الفلسطينية التي كانت على وشك التوصل إلى حل قبل سنتين في آخر عهد بيل كلينتون وإيهود باراك .
العقبة تكمن في موقف الإدارة الأميركية من شخص الرئيس ياسر عرفات وليس من السلطة الفلسطينية ككل ، وكذلك من طبيعة تشكيل هذه السلطة ورجالها وما يسودها من غموض وممارسات غير مقبولة إلى جانب الفساد المتفشي فيها .
الرد العسكري الإسرائيلي على الهجمات الإنتحارية الفلسطينية منذ أيلول / سبتمبر 2000 أصاب ودمر بإنتظام هياكل ومؤسسات ومرتكزات وأسس البنية التحتية للسلطة الفلسطينية التي شيدها ومولها الإتحاد الأوروبي ، وتم تدمير مباني الأمن الفلسطيني وتشتيت رجاله حيث لم يعد بوسع السلطة الفلسطينية أن تواجه " الإرهاب" وتعتقل " الإرهابيين " كما تطالب بذلك الولايات المتحدة الأميركية . ولكن الشارع الإسرائيلي يتساءل ماذا سيربح الإسرائيليون من جراء دفن عملية أوسلوا ونسف عملية السلام برمتها ؟ يعيدنا هذا التساؤل إلى التمعن في الديناميكية الأميركية في الشرق الأوسط .
يمكننا القول أن الولايات المتحدة الأميركية دخلت القرن الواحد والعشرين في !! ايلول/ سبتمبر عام 2001 وفي ربيع وصيف 2002 أدركت الولايات المتحدة أبعاد هذا التدشين للقرن الجديد في المجال الإستراتيجي. لقد دشنت الولايات المتحدة المرحلة الأولى لآستراتيجيتها والخوف يمتلكها من أن كل شيء بات ممكناً بما في ذلك التهديدات الرهيبة التي لوح بها اسامة بن لادن وأمثاله هذا إذا إفترضنا أنها موجودة حقيقة . أولى إشارات التطمين جاءت من جانب الباكستانيين الذين ابدوا إستعدادهم للتعاون مع الولايات المتحدة عسكرياً لمحاربة الإرهاب وحماية المنشآت النووية للبلاد ، والإشارة الثانية جاءت من جانب فلاديمير بوتين الرئيس الروسي ، الذي وضع الخبرة الروسية تحت التصرف الأميركي إلى جانب الدعم والتأييد المعنوي ووقوف الشبكات النشطة في أفغانستان إلى جانب الحملة الأميركية لمكافحة الإرهاب الدولي . والفضل في ذلك يعود إلى ديبلوماسية الإعتدال التي اتبعها وزير الخارجية الأميركي كولن باول الذي وقف ضد فكرة تسليح الهند لردع الباكستان التي كان ينادي بها وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ومساعده بول ولفوفيتز في إطار محاصرة الطموحات الصينية ، وآفاق التعاون النفطي والتكنولوجي مع موسكو الذي تخيلته مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس . وبعد الهجمات العسكرية على أفغانستان وطرد الطالبان من السلطة مال الميزان لصالح الرؤية التي نادى بها البنتاغون " وزارة الدفاع الأميركية " وأصبح الرئيس جورج بوش في موقع الحَكَم ، إلى حين لزوم إتخاذ القرار الحاسم فيما يتعلق بالمراحل اللاحقة للخط الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الوسط وآسيا والعالم الإسلامي برمته .
عندما قررت الولايات المتحدة الأميركية ولوج المرحلة الثانية من خطتها الإستراتيجية في المنطقة واجهت فشلين : الأول فشل الجولة التي قام بها نائب الرئيس الأميركي ديك شيني في منطقة الشرق في تحقيق أهدافها وكسب العالم العربي إلى جانب الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وضرب العراق ، والمعروف عنه أنه من الداعين لأسلوب القوة في فرض الإرادة الأميركية ، خاصة بعد المعارضة السعودية العلنية والقوية للسياسة الأميركية العامة في المنطقة ، كبداية للمرحلة الثانية المذكورة للحملة الأميركية ضد الإرهاب العالمي. والفشل الثاني هو إخفاق آرييل شارون في إخماد نار المقاومة والعنف داخل الأراضي الفلسطيني مع ما يترتب على ذلك من تبعات وإنعكاسات سلبية على السياسة الأميركية بسبب تحيزها السافر إلى جانب إسرائيل ، مما أرغم الإدارة الأميركية على إعادة النظر والتفكير في إستراتيجيتها العامة في المنطقة . يكشف هذا الأمر عن ثغرة أو تصدع في النظرة الأميركية لشؤون المنطقة ناجم عن آليتين أو محركين متناقضين ومتعارضين يعملان معاً داخل هيئة القرار العليا الأميركية منذ سنوات الخمسينات : الآلية الأولى موروثة من بريطانيا والثانية نتاج مفهوم مركب تركي ـ إسرائيلي غير متجانس على المدى البعيد، وقد تعايش المفهومان أو الآليتان للنظر في شؤون المنطقة إلى أن حصل التفاقم والتدهور التراجيدي الأخير في الأحداث الدائرة حالياً في المنطقة والتي نتج عنها تفرعات مأساوية من حجم أحداث أيلول/ سبتمبر في نيويورك وواشنطن وحرب أفغانستان ومشاريع ضرب العراق وزعزعة الشرق الأوسط بأكمله .
كانت بريطانيا هي التي اختلقت " السياسة الخاصة بالعالم العربي " التي توجد نسخة باهتة عنها معروفة بإسم " السياسة العربية لفرنسا " . وتستند هذه السياسة العربية البريطانية التي ورثتها عنها في أحد شطريها الديناميكية الأمريكية في الشرق الأوسط ، إلى ديمومة وثبات وإستقرار الأنظمة الملكية في شبه الجزيرة العربية إلى جانب التحالف الأيديولوجي مع الإسلام المحافظ الأكثر تشدداً الذي سبق تجريبه واختباره في المختبر الكبير للسياسة البريطانية في إمبراطوريتها إبان احتلالها وإستعمارها للهند الكبيرة قبل إنسلاخ باكستان الإسلامية عنها .والذي أثبت صحته في ميلاد دولة باكستان الموالية صراحة ، قلباً وقالباً ، للغرب. وعند تبني الولايات المتحدة لهذا المفهوم البريطاني فذلك يعني جعل الولايات المتحدة للمملكة العربية السعودية الحليف الإستراتيجي الجوهري في المنطقة من الجانب العربي إضافة للحليف الاستراتيجي الإسرائيلي بالطبع مما يعني بالتالي الإضطرار إلى إتخاذ بعض التحفظ والتروي تجاه المخططات الصهيونية التوسعية في المنطقة . [ وهناك أمثلة عملية على ذلك من خلال مواقف الشخصيات القيادية الأميركية من أمثال مارشال وآشيسون في عهد ترومان ، وجورج بال في عهد جونسون في وقوفهم ضد مخططات الدولة العبرية في المنطقة آنذاك على سبيل المثال لا الحصر ] وكذلك في موقف الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الأولى تجاه العلمانية التركية، والتي بلغت قمتها في حملة الجهاد الأفغانية في سنوات الثمانينات حيث لعبت المخابرات البريطانية من جديد دوراً أساسياً وجوهرياً في التحالف مع التيارات الإسلاموية وفي خلق النموذج الطالباني بالتعاون مع المخابرات الباكستانية في بداية سنوات التسعينات . إن ظل هذه السياسة قد بدا واضحاً في الانتقادات الشديدة التي وجهتها إدارة الرئيس بيل كلينتون السابقة للمعركة العلمانية ضد الإسلامويين الأتراك في تركيا وعبر المساعدات اللوجستيكية والسياسية التي قدمتها المخابرات البريطانية والأمريكية للإسلامويين الجزائريين والمعونات والخبرات التي قدمت للثوار الإسلامويين في كشمير كل هذا أملته المفاهيم الأصولية والسلفية للعربية السعودية التي كانت تشعر بالتهديد الشيعي الثوري المتطرف المنطلق من طهران خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية فيها سنة 1979 حيث كانت السعودية ، وبمساعدة أساسية ومهمة جداً من لندن وأجهزتها الأمنية والمخابراتية، وواشنطن وأجهزتها المخابراتية كالسي آي أي، تنشر وتبث سياسة " الإحتواء السني السلفي " من خلال إعادة أسلمة المجتمعات الإسلامية وفق منظار وهابي. وبإسم هذه السياسة وهذه النظرة والمفهوم الأيديولوجي قدمت مساعدات تثير الجدل والاعتراض للإنفصاليين الشيشان في زمن الجنرال دوداييف في بداية سنوات التسعينات.
في مقابل ذلك تأتي المقاربة التركية ـ الإسرائيلية ، التي لم تأخذ صيغتها الإستراتيجية الواضحة إلا بعد عام 1956 بعد أن نجح الحلف الأطلسي في صد التوسع السوفيتي في أوروبا وتحويل الإتحاد السوفيتي لجزء من ديناميكيته الأيديولوجية والسياسية والاستراتيجية نحو الشرق الأوسط حيث عقد تحالفاً ثابتاً مع القومية العربية الثورية ، قومية جمال عبد الناصر والبعث العربي الإشتراكي وجبهة التحرير الجزائرية والأحزاب الشيوعية المحلية واحتاج الأمر آنذاك إلى إيجاد ردع سياسي ـ عسكري أمتن وأقوى من الجيوش الضعيفة للأنظمة المحافظة : لم يعد الجيش التركي العلماني يواجه أي حرج في حملته لمحاربة الطبقات السياسية الإسلاموية في الأناضول ، وإنخراط شاه إيران في سياسة علمانية تحديثية إستبدادية وبالقوة والقسر تشبه الخطوة التركية ضد رؤية وإرادة المرجعيات الدينية الشيعية المتحفظة ، وذلك بدعم وتأييد وتنسيق من جانب المخابرات الإسرائيلية . وإسرائيل التي تخلى عنها حليفها الإستراتيجي الديغولي آنذاك ، بعد أن إستكملت بناء ترسانتها النووية ، أصبحت بدورها خياراً عسكرياً جاداً ومهماً للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة . إن هذا المفهوم الثاني أصبح ممكناً ومتجسداً من الناحية العملية في عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وذلك لوجود نفس الأعداء المشتركين للطرفين الإسرائيلي والسعودي والمقصود بهما السوفييت والقوميين العرب الذين تدعمهم وتسلحهم موسكو بقوة . وكانت الولايات المتحدة تدير هذا التحالف ـ المتناقض من خلال تحديد مواعيد متبانية ومتنوعة في نفس النهار لزبونيها وحليفيها في المنطقة إسرائيل والسعودية للتشاور والتنسيق دون حاجة للإلتقاء بينهما نظراً لإعتبارات نفسية كثيرة آنذاك . وقد برعت وزارة الخارجية ا|لأمريكية في تحقيق ذلك على مدى سنوات طويلة .
ولكن بعد إنتصار " المجاهدين الأفغان " وإنهيار الإمبراطورية السوفيتية وإندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتبعات حرب الخليج الأولى في نهاية سنوات الثمانينات تدهورت هذه الآلية الأميركية بالتدريج . وقد دافع جورج بوش الأب وبحماسة عن تدعيم وتمتين التحالف الأميركي ـ السعودي مقابل تثبيت مستوى التحالف الإستراتيجي الأمريكي ـ الإسرائيلي ،مع اللامبالاة التامة للرأي العام الأميركي . نتج عن ذلك تفاهم بين المخابرات السعودية والمخابرات المركزية الأميركية والمخابرات البريطانية في لندن التي أصبحت مركزاً للنشاط الإسلاموي الأصولي والسلفي المتشدد والمتطرف إلى جانب مراكز أخرى كالخرطوم وبيشاور وكان هناك أحد النشطاء الإسلامويين يصول ويجول بكل حرية على المسرح اللندني السياسي والإعلامي يدعى أبو قتادة بلا أي رادع أو خوف أو تردد ويعمل علناً لحساب تنظيم القاعدة ، وقد ساعده البريطانيون على الاختفاء حماية له غداة تفجيرات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001 .
وأمام هول الهجمات الإنتحارية وما نجم عنها من خسائر حاولت بعض الأطراف الأمريكية القيادية لعب الورقة المزدوجة الإسرائيلية ـ السعودية ولكن هذه المرة مع افتراضات وإحتمالات ومعرفة أوخبرة أصبحت متقادمة تعود إلى سنوات الحرب الباردة .وقد أعتقدت واشنطن أن اسلوب القوة والبطش والقمع بلا تردد ولا تحفظ الذي طالب به آرييل شارون يمكن أن يكون وسيلة فعالة في إعطاء درس قاسي للمتطرفين الفلسطينيين مما سيتيح بالتالي إمكانية ظهور كتلة فلسطينية معتدلة تستأنف المفاوضات السلمية مع الدولة العبرية من النقطة التي توقفت عندها في خريف عام 2000 . وفي نفس الوقت تخيلت واشنطن إن ولي العهد السعودي الأمير عبد الله ذو التوجهات الإصلاحية والميول القومية العربية أنه قد لايتمكن من أخذ مقاليد السلطة في بلده خلفاً لأخيه الملك فهد من عائلة السديري وأن الشقيق الآخر من نفس العائلة وهو الأمير سلطان هو الذي سيسطر على مقاليد الأمور لذا فقد أساءت تقدير دوره وتأثيره ، وهو بدوره قد أدرك ضرورة التعامل والتنسيق على قدر ما مع الولايات المتحدة حفاظاً على عرش المملكة وإستقرارها وإلاّ فسوف تعم الفوضى والثورات بلاده .وقد أعتقدت أمريكا إن هذا الأخير [ أي الأمير عبد الله ] الذي وعد بصورة سرية بإخراج القوات الأمريكية من بلده ، سوف يدخل في صفوف الحلفاء المؤيدين للمخططات الأميركية ولمشاريع ضرب العراق وتغيير نظامه وإسقاط صدام حسين الذي لايكن له الكثير من الود والإحترام كباقي الأمراء السعوديين الذين يكرهونه تماماً . والحال إتضح للأمريكيين وبوضح تام ، على المستوى العلني والإعلامي على الأقل ، إنه لايوجد رجل سياسي عربي واحد ، ولا نظام عربي ، مستعد للوقوف معهم في مناورتهم الكبرى ضد العراق الأمر الذي يتطلب نشر ما لا يقل عن 350000 رجل حسب تقديرات مسؤول مكتب العراق السابق في المخابرات المركزية الأميركية سي آي أ كينيث بولاك في مقاله في مجلة السياسة الدولية وتوقعه لحدوث إنفجار داخلي في العراق على غرار التفجير الإنقسامي في يوغسلافيا الفيدرالية بعد موت الجنرال تيتو حيث إن العراق مقسم حالياً ولو بصورة غير رسمية إلى ثلاث مناطق كردية في الشمال وعربية سنية في الوسط وعربية شيعية في الجنوب على حد تعبيره.
وقد تبين للولايات المتحدة الأميركية أنه لايمكنها التخلص بسهولة من صدام حسين كما لايقل عن ذلك صعوبة التخلص من ياسر عرفات الذي تمكن بمناورة حاذقة التنسيق مع الموجة الإسلاموية المنتشرة في الأراضي الفلسطينية لخلق ما يعرف بـ " التنظيم " بزعامة مروان برغوثي الذي اعتقلته السلطات الإسرائيلية وقدمته للمحاكمة بتهمة إرتكاب جرائم ضد المدنيين الإسرائيليين . وهذه الحركة المعروفة باسم التنظيم قامت بنشاطات لاتقل خطورة وأهمية عن نشاطات منظمتي حماس والجهاد الإسلامي مما ساعد على دفع المسألة الفلسطينية إلى مركز وقلب الأزمة الشرق أوسطية وهكذا قيض لشارون وديك شيني أن يعلنا إفلاس مشروعيهما كما هو حال إشهار شركة إنرون الأمريكية العمالقة لإفلاسها بعد أن كانت قد راهنت على حدوث إنخفاض كبير في أسعار النفط يهز السوق النفطية العالمية ويخرجها من ورطتها المالية المستعصية .
وللخروج من المأزق السياسي ـ الديبلوماسي ـ العسكري الحالي في إطار خلط الأوراق وعمليات غسل الدماغ الإعلامية ، لابد والحال هذه الفصل بين الحالة السعودية والحالة الإسرائيلية وتغيير أوضاع حليفي الأمس في فترة الحرب الباردة ولكن بصورة مختلفة بالنسبة لكل واحد منهما . هذه هي مقاربة ورؤية كولن باول ومساعده ريشارد هاس ، رئيس شعبة التخطيط للسياسة الخارجية في وزارة الخارجية . ويقول هذا الأخير " إذا أرادت المملكة العربية السعودية التحرر والتخلص من العباءة الأميركية فليكن لها ذلك " وقد غيرت واشنطن من طبيعة تحالفها مع السعودية ولم تعد تعتبرها من أولى أولوياتها الأمنية وقامت بنقل معظم محتويات القاعدة الأمريكية في الرياض إلى قاعدة العديد في قطر تمهيداً لخروج القوات الأمريكية من هذا البلد وكذلك إفراغ محتويات قاعدة الخبر التي سيتم استبدالها بحاملات طائرات وتسهيلات تقدم لأميركا من قبل الإمارات العربية المتحدة وعُمان. وإذا أرادت العربية السعودية إعادة إدماج السوريين والعراقيين في العائلة العربية الواحدة تحت إشرافها فلها أن تفعل ذلك دون أن تطلب رخصة أو إذن من واشنطن وبدورها لن تأخذ بالاعتبار الموقف السعودي ولا التقيد فيما بعد برد الفعل السعودي وبالموقف السعودي إذا ماقررت ضرب العراق والسماح لإسرائيل بتصفية حساباتها مع حزب الله أومع دمشق وليس للسعودية بعد ذلكأن تتدخل لدى واشنطن لتغيير مسار الأمور في الشرق اوسط وفقاً ما تشتهيه الرياض، مع إقتناع واشنطن إن مفهوم الأمير عبد الله بإعادة اللحمة للصف العربي وإندماج الأشقاء العرب هو على المدى البعيد أكثر المواقف مدعاة للإستقرار والتطور الإيجابي في المنطقة ولن توضع عراقيل أو موانع في طريق هذا المشروع التصالحي العربي ـ العربي الذي بانت ملامحه الأولى في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002 . ولكن بالمقابل ستعمل الولايات المتحدة الأميركية على تعزيز التعاون والتنسيق الأميركي ـ الروسي في المجال النفطي لتأطير السياسة السعودية الجديدة في مجال زيادة الأسعار والحد من النزعة العدوانية السياسية ـ الإقتصادية للنظام الجديد. لقد إنتهى النظام القديم بحرب الخليج الثانية وسقوط جدار برلين وإنهيار الإتحاد السوفيتي ، ولم ينجح جورج بوش الأب في إستكمال مقومات النظام العالمي الجديد لكن أحداث أيلول / سبتمبر 2001 أرغمت الولايات المتحدة الأميركية عل تسريع عملية تشييد هياكل وأعمدة ودعامات النظام العالمي الجديد على أسس جديد تقف هي على قمته . وهكذا بدأت عملية " إحتواء " جديدة. فمن جهتها يتعين على المملكة العربية السعودية ، إذا أرادت الإستمرار والبقاء على قيد الحياة وعدم التعرض لضربات قاضية، أن تساعد الولايات المتحدة الأميركية في سعيها لتدمير تنظيم القاعدة وللقبض على أسامة بن لادن بكل السبل عندما يخرج من الباكستان التي يلجأ إليها الآن حسب كافة التقديرات كما هو حال مساعده أبو زبيدة . وعليها أن تقدم الدعم المالي والسياسي والمعنوي لحملة تطويق وشل الحركات الإسلاموية المتطرفة كحركة الإصلاح في اليمن ، ووقف المساعدات التي تقدمها للجمعيات الإسلامية الخيرية المنتشرة في أنحاء العالم ، ووقف الحملة الإعلامية المضادة والمناوئة للولايات المتحدة الأمريكية في وسائلالإعلام السعودية وأوساط رجال الدين، وبعد الإنتهاء من كل ذلك يمكن فك لحمة التحالف الأميركي ـ السعودي وترك المملكة العربية السعودية تواجه قدرها وحدها خاصة إذا هبت عليها رياح التغيير من الداخل . وهذا بحد ذاته تهديد مبطّن للسعوديين يدفعهم للتفكير والتأمل ملياً قبل المضي قدماً في توجهاتهم الجديدة .
ومع إسرائيل إتبعت الولايات المتحدة الميركية الحل المعاكس : مواجهات على المدى القصير ، ترك المجال للقيادة الإسرائيلية لتحقيق ما تستطيعه في أقصر فترة ممكنة وتقليم اظافر السلطة الفلسطينية وخلق أمر واقع جديد تستأنف وفقه أو على أساسه المفاوضات الجديدة من نقطة الصفر ، وتحالف أوثق وامتن واقوى أكثر فاكثر على المدى البعيد مع الدولة العبرية . وقد تبين ذلك بجلاء من خلال عبارات المديح والإشادة بسياسة شارون أملاً في جعل الجنرال العجوز أكثر قابلية للتعاون مع الرغبات الأمريكية التي لاتتناقض في نهاية المطاف مع الرغبات الإسرائيلية وإن إختلفت مساراتهما خاصة فيما يتعلق بمسألة إستئناف المفاوضات والتعامل مع المستعمرات الإسرائيلية ومشكلة الدولة الفلسطينية القادمة . كولن وباول وكونداليزا رايس يسعيان خفية إلى تقويض حكومة شارون بعد إنتهاءها من عملياتها العسكرية الجارية في الأراضي المحتلة ، على غرار سيناريو بيل كلينتون الناجح مع حكومة نيتانياهو سنة 1998 . وفكرتهما تتلخص بتسهيل مهمة وصول حكومة إسرائيلية بديلة ، والأفضل أن تكون حكومة إتحاد وطني يكون محورها يسارياً وليس يمينياً كما هو الحال اليوم، ترتكز على شخصيتين بارزتين إسرائيليتين مقبولتين على الصعيدين الداخلي والعالمي وهما زعيم يسار الليكود السابق دان مريدور ، و وزعيم حزب العمال الحالي ووزير الدفاع "فؤاد" بينيامين بن اليعزر العراقي المولد والأصل . وستكون مهمة هذه الحكومة تجميد المستوطنات والبدء بإنسحابات رسمية مدروسة من الأراضي الفلسطينية المحتلة تمهيداً لتفكيك 75 % منها تقربياً وفي مقابل ذلك إبرام معاهدة تحالف جديدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ونشر درع صاروخي مضاد للصواريخ متطور جداً وحماية الفضاء الإسرائيلي من أية هجمات جوية أي كان نوعها في إطار منظومة حرب النجوم المستقبلية التي تشارك فيها الصناعة العسكرية الإسرائيلية إلى جانب الأمريكية.
وبمجرد الإنتهاء من هذه الإستعدادات والتحولات الإقليمية ستركز الولايات المتحدة الأمريكية جهودها بجدية على المشكلة العراقية التي بدأت التهيئة الإعلامية والنفسية لها منذ الآن لكنها لن تتحقق على أرضية الواقع قبل بداية العام القادم 2003 وربما في تاريخ مقارب لتاريخ إنتهاء حرب الخليج الثانية حيث سيكمل الرئيس الأمريكي الإبن من النقطة التي توقف عندها الرئيس الأمريكي الأب ، أي إنهاء المهمة بإسقاط النظام العراقي الذي ساعدته أمريكا على البقاء لإعتبارات أمنية وإستراتيجية وإقتصادية دولية وإقليمية ومحلية وغدرت بالإنتفاضة الشعبية التي فجرها الشعب العراقي بتحريض أمريكي واضح ومباشر . وقد سبق لتوني بلير أن صرح في نيسان / أبريل الماضي بأن المسألة العراقية لن تحل قبل عام على الأقل وبأسلوب الإحتواء العنيف واسلوب القوة بلا شك . سوف تعمل الإدارة الأمريكية قبل على تهدئة الجبهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية بكل الوسائل والسبل وتمهيد الطريق لخلق دولة فلسطينية بالمواصفات الأمريكية ـ الإسرائيلية المطلوبة يشرف عليها مالياً ويرعاها الإتحاد الأوروبي والعربية السعودية ودول الخليج ، عندها تنتفي الحاجة إلى تشكيل تحالف عربي مناويء لصدام حسين بل تكفي مراقبته ومعاقبته من وقت لآخر إذا تجاوز الخطوط المرسومة له لحين إسقاطه عندما تحين الفرصة لذلك.وسيعمل توني كلير على إقناع جورج بوش الإبن بهذا الحل المؤقت في الوقت الحاضر إلا إذا إستفز صدام حسين المجتمع الدولي وعاند وخالف القرارات الدولية ومنع دخول المفتشين الدوليين من جديد عندها سيقدم الذريعة اللازمة للأمريكيين للقفز من مرحلة التهديد والوعيد إلى مرحلة التنفيذ .
يعمل الأمريكيون اليوم على ترسيخ التحالفات الإقليمية الجديدة المستندة على ثلاث نقاط تؤمن حالة الإستقرار في المنطقة : روسيا ـ تركيا ـ إسرائيل ، وانفتاح على إيران ديموقراطية معتدلة تتعاون في تأمين تدفق نفط بحر قزوين والنفط الأذربيجاني . وبهذا تتمكن أميركا من إحتواء المد القومي ـ الإسلامي في المشرق العربي الذي سيشهد في نفس المدى الزمني ذات الأزمات التي شهدتها الشيوعية الستالينية والتي أدت إلى فشلها السياسي والأخلاقي والمعنوي وبروز حلول أكثر ديناميكية لعالم عربي في طريق التوحد والإتحاد التدريجي عكس ما ترتأيه شهية دونالد رامسفيلد العدوانية في مقابل رؤية كولن باول الإعتدالية ورؤية كونداليزا رايس " الروسية " ، لشرق أوسط مستقر بضمانة أمريكا قادرة على الدفاع عن مصالحها الحيوية ، وحركة إسلاموية في طريق التراجع والتقهقر والإندحار. لاننسى أنه فلاديمير بوتين قام غداة أحداث ايلول /سبتمبر التراجيدية بتغيير طاقم الكرملين والجيش الروسي واقال وصفى معظم القيادات القديمة التي تحن لأيام الحرب الباردة ومحاربة الولايات المتحدة واعتبارها الخصم اللدود وبالمقابل قامت كونداليزا رايس بإبعاد كل دعاة المواجهة الأمريكية الروسية من طاقم الإدارة الأمريكية الجديدة واعتبار روسيا حليف استراتيجي. لذلك أبدت واشنطن استياءها وإمتعاضها الشديد من التقارب العراقي ـ الروسي الجديد وتوقيع إتفاقيات تجارية ونفطية بحوالي 40 مليار دولار في نهاية آب 2002 وسوف تبذل كل ما في وسعها لعرقلة مثل هذه المشاريع الاقتصادية التي تعوق وتعرقل مخططاتها في المنطقة لأن الولايات المتحدة الأمريكية تريد وحدها الإستيلاء على نفط العراق الغزير وهو ثاني أكبر إحتياطي عالمي مثبت للنفط بعد السعودية دون أن يقاسمها أحد فيه.
تشير التحليلات الغربية ، وبخاصة الأوروبية منها ، أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تأخذ بعين الاعتبار المصالح الحيوية لحلفائها الأوروبيين ولم تضع نصب عينها إحتياجاتهم ومصالحهم ومواقفهم فيما يتعلق بسياستها الشرق أوسطية ، حيث لايشكلون أكثر من مصدر تمويل للملفات التي تحتاج إلى الأموال للإستمرار والبقاء كملف السلطة الفلسطينية ، مقابل تأمين المظلة النووية والحماية الإستراتيجية لهم من خلال منظمة حلف شمال الأطلسي. مما لايقبل الشك إن الأوروبيين اثبتوا عجزاً لامثيل له في الشرق الأوسط وهذا أمر ملموس من خلال ما تعرضوا لهم من إحتقار وتجاهل وإستبعاد عن هذا الملف الخطير على حياتهم وإستمرار نموهم وإزدهار إقتصادياتهم لإعتمادهم التام على نفط الشرق الأوسط بالدرجة الأولى ، فحتى آرييل شارون تجاهلهم وأهانهم عندما حاولوا الضغط عليه ولو بخجل لكسب تعاونه معهم في الخروج من الأزمة وليس صحيحاً الإدعاء بأن الرئيس الأمريكي قرر الخوض في الملف الشرق أوسطي نتيجة لتأثير الإتحاد الأوروبي عليه كما يدعي بعض الزعماء الأوروبيين حفظاً لماء الوجه . فأوروبا موجودة كظل للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ويمكن الإشادة بما تقدمه أو تبذله أوروبا من جهود فقط عندما تقترب الولايات المتحدة الأمريكية من الأطروحة الأوروبية بهذا الخصوص . فعندما طالبت أوربا لقاء وفدها الدبلوماسي بالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات اصطدمت بالرفض القاطع من قبل آرييل شارون وعدم سماحه للوفد الأوروبي بلقاء عرفات في حين أرغم على الموافقة في نفس الوقت تقريباً والسماح بلقاء الموفد الأمريكي للشرق الأوسط الجنرال أنتوني زيني لياسر عرفات بالرغم من إن هذا اللقاء لم يكن مثمراً على حد إعتقاد الأوروبيين .وإن شارون لم يخضع كلياً للضغوط الأمريكية بل إستمر في تنفيذ خطته بالرغم من إعتراضات بعض الحمائم في الإدارة الأمريكية حيال سياسته تجاه الفلسطينيين . العالم كله استغرب من هذا العجز الأوروبي أو بالأحرى هذا الغياب المفروض على الأوروبيين أمريكياً وإسرائيلياً . وقد لوح الأوربيون على لسان ميخيل أنجل موراتينوس المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط للإسرائيليين بخطأ وخطورة موقفهم الرافض للحضور الأوروبي والدور الأوروبي في هذا الملف الحساس " لأن مثل هذا الموقف الإسرائيلي الخاطيء سيحرم إسرائيل من حسن النية والإرادة الإيجابية للأوروبيين تجاه إسرائيل ووقف سبل التعاون الاقتصادي معها والحال إن الفلسطينيين لن يقبلوا أية خطة سلام أمريكية لم تحصل على تاييد ومباركة الأوروبيين " بينما صرح وزير الخارجية البلجيكي لويس ميشيل إن على الدول الأوروبية الخمسة عشر أن تقييم سياسياً موقف الاحتقار والإهانة التي وجهتها لهم الحكومة الإسرائيلية ، ولكن ما كان يمكن لإسرائيل أن تتخذ مثل هذا الموقف الوقح تجاه الأوروبيين لولا التشجيع الخفي من جانب الأمريكيين لهل ، كما يقول وزير الخارجية الفرنسي السابق هيوبير فيدرين في مجالسه الخاصة . لكن الألمان حاولوا تخفيف حدة التوتر بتصريحهم أنه لاينبغي أن ننظر للأمر بمنظار التنافس بين الأمريكيين والأوروبيين . وإن أوروبا ممثلة في اللجنة الرباعية الدولية المكونة من الأمم المتحدة وأمريكا وأوروبا وروسيا المكلفة بإطلاق وإنعاش مبادرة السلام الشرق اوسطي . لكن الدبلوماسيون يعتقدون إن أوروبا لن تنجح في تجاوز دور الكومبارس في هذه اللعبة الدولية لأن الإسرائيليين يعتقدون جازمين بأن الأوروبيين قد باعوا أنفسهم للعرب طمعاً بثرواتهم وبترولهم ويعقب الأمريكيون:" إن عملية السلام نحن الذين نصنعها ولا أحد غيرنا". ولاتجرأ دولة أوروبية كبيرة مثل ألمانيا ، بسبب ماضيها وظروف تاريخية معروفة ، أن تتخذ أي قرار أو خطوة لمعاقة دولة إسرائيل وهذا يعني تكريس حالة الإنقسام الأوروبي عملياً في مجال السياسية الشرق أوسطية للاتحاد . والعلاقة الحميمية بين أمريكا وإسبانيا لاتتيح لهذه الأخيرة إمكانية معارضة الموقف الأمريكي أو السياسة الأمريكية في منطقة تعتبرها منطقة نفوذ خاضعة لها وحدها ناهيك عن بلدان أوروبية أخرى صغيرة تدور في الفلك الأمريكي كهولندا وغيرها . أما بريطانيا فهي كعادتها موزعة بين هويتها الأوروبية وعلاقاتها المتينة والخاصة والمتميزة مع أمريكا مما جعلها تنساق وراء السياسات الأمريكية بصورة آلية تقريباً كما هو واضح من موقفها تجاه مشروع ضرب العراق على سبيل المثال . تبقى فرنسي هي الوحيدة المتهمة من قبل الإسرائيليين والأمريكيين بصداقتها المغرضة والإنتهازية للعرب .
ولكن هل يستطيع الأوروبيون فعلاً أن يؤثروا بثقلهم في معادلة الشرق الأوسط الأمريكية ـ الإسرائيلية ؟ هذا مانشك به كثيراً . أما العالم الإسلامي فما عليه سوى تلقي الضربات والصفعات والإهانات وإستلام الأوامر وتنفيذها بلا أي نقاش أو إعتراض وإلا فإن تهمة الإرهاب سوف تسلط عليه كالسيف لتبيده عن بكرة أبيه فهل تستطيع الباكستان أن تعارض قراراً أمريكياً أم أندونيسيا أم ماليزيا أم أفريقيا الإسلامية ؟.هذا هو واقع الحال الذي ينبغي علينا إدراكه وفك رموزه وطلاسمه عند الحديث عن الإستراتيجيات الدولية عندنا.