Serge TISSERON
الديناصورات وكائنات ما قبل التاريخ البشرية على الموضة اليوم. وهذا ما كانت عليه الحال في مطلع القرن العشرين عندما راح الادب ثم الشرائط المصورة والسينما تستعيد "العوالم المفقودة". وتدل هذه الروايات على ازدواجية خاصة بتلك الحقبة حيث كان الانسان الغربي يرغب في الاعتقاد ان الحضارات "البدائية" كانت تمثله هو نفسه لكن في حال ولادته.
اليوم، حقق علم ما قبل التاريخ تقدما مدويا وباتت الديناصورات والكائنات البشرية الاولى تثير شغفا من نوع آخر. انه ليس موضوع اكتشاف شعوب مجهولة حتى الآن ما يحتل صدر صفحات الجرائد بل هو موضوع التلاعب بالجينات الوراثية والذي يفتح الباب امام اكثر الاحلام جنونا: هل يتمكن العلماء من خلق كائنات بشرية ذات قدرات عقلية خارقة؟ هل يتم تحضير "قفزة" انسانية شبيهة بالتي شهدت منذ 35 الف عام ظهور اول نماذج "الاومو سابينس" (كائن المعرفة) الذي سوف يحل محل الانسان الاولن "النياندرتال"؟
في الظاهر لا تبدو روايات جان اويل [2] التي لاقت شهرة لافتة في العالم اجمع على علاقة بهذه المسائل. ففي المجلد الاول من حكايته التاريخية، يروي المؤلف قصة مجموعة من "النياندرتال" تشبهنا الى حد بعيد ويعجب القارىء من القدرات الخارقة التي تتمتع بها فتاة صغيرة من فئة "السابينس" (كائنات المعرفة) عثر عليها النياندرتال. في هذا المكان تلتقي رواية جان اويل مع الاهتمامات المذكورة آنفا. لانه اذا كانت الهندسة الوراثية قادرة على تعديل الكائن البشري فمن المرجح ان نكون نحن في وضعية كائنات المرحلة النياندرتالية! وهذا القلق يزداد وخصوصا ان العديد من الراشدين يشعرون به في حياتهم اليومية. الا يواجهون في كل يوم خطر "الخروج من السباق"؟ لكن الخطر لا يأتيهم من كائنات جديدة ذات قدرات خارقة بل من اولادهم بكل بساطة. وعلى غرار النياندرتاليين في كتب جان اويل، يحاول الكبار ان يبقوا "شبابا" وان لا يفوتهم القطار لكنهم يشعرون انهم مهما فعلوا لن يتمكنوا في اي حال من اللحاق بالركب.
هناك سببان اضافيان يبرران اهتمامنا بالديناصورات والكائنات الاولى. فهي تسمح بطرح مسألتين لا حل لهما وما انفكتا تراودان كل كائن بشري: وجوده قبل مجيئه الى العالم ووجود اجداده الذين سبقوه في السلالة البشرية.
فلنبدأ بما قبل التاريخ الخاص بكل منا. ففي ما يتعلق بالديناصورات يميز الولد جيدا بينها وبين "البوكيمون" و"الترولز" او غيرها من الشخصيات الاسطورية مثل "البولروغ". فالديناصورات وجدت بالفعل! وهي وجدت قبل الكائنات البشرية، اي كما وجد الرضيع قبل الولد. يمكن المرء ان يكون شابا ومسنّا، هذا ما تؤكده الدعايات التجارية، وراشدا ومراهقا وحتى رجلا وامرأة في آن واحد. لكن لا يمكن احداً ان يكون في الوقت نفسه رضيعا لا يحسن الكلام وراشدا، اذ ان التعايش مستحيل في هذا المجال. مثل الوحوش ما قبل التاريخية والبشر: علينا التعود على عدم جمعها معا.
يضاف الى ذلك ملحوظة محيّرة وسحرية وهي ان الديناصورات اختفت من دون ان يعرف احد كيف ولماذا. الا نتمثل بالطريقة العجيبة نفسها انتقال الرضيع البدون لغة والذي لا نحفظ منه اي ذكرى الى الولد الذي صرنا عليه؟ يتردد هذا السؤال في العديد من الحكايات الخرافية حيث تتحول الضفدعة الى امير شاب من دون ان نعرف شيئا عن آلية هذا الانتقال.
ان الشغف بالديناصورات عند الولد يجيب جزئيا عن تساؤلاته حول دخوله الى الحياة، فجسمها الثقيل الذي يمنعها من التحرك بسهولة هو صورة لعجز المولود الجديد عن الحركة وتشكل شهيتها الكبيرة نوعا من الصدى لمرحلة حياة الطفل حيث كانت علاقته بالعالم تنتظم حول الرغبة في تقريب كل شيء من فمه ودون هاجس تعرضه للابتلاع. اما توزع الديناصورات الى صنفين، آكل للاعشاب وآكل للحوم، فهو مرآة لنزعتين متعارضتين يشعر بهما الطفل في داخله: السلمية والاجتماعية من جهة مثل الحيوانات المجترة الكبيرة والثانية الكاسرة تقضي على الآخر على صورة Tyrannosaurus Rex.
وبالنسبة الى الصغار يمكن الديناصورات ان تمثلهم قبل البداية اي خلال وجودها الجنيني. وفي هذا المعنى يمكن فهم ما حصل لاحدى المدرّسات التي حاولت تفسير عملية الحمل للصغار. فمن اجل التأكد من حسن فهمهم، دعتهم الى صنع قوالب تمثل فكرتهم عن الجنين، فقاموا بتنفيذ مخلوقات صغيرة منطوية على نفسها كالتي يمكن رؤيتها في الصور الصوتية (ايكوغرافيا) لكن البعض منهم اضاف على ظهور هذه المخلوقات اشواكا شبيهة بالتي ترسم على ظهور اليناصورات [3] !
اذا كان يمكن الديناصورات ان توحي للطفل سرّ ما قبل تاريخه الشخصي فإنها تتمتع بميزتين تسمح لها بأن ترمز بصورة غير مباشرة الى اسلافنا وهي انها تنتمي الى صنف اندثر وانها عرفت حقبة مجد لا منازع فيها.
كانت الديناصورات سيدة العالم في زمانها، كما كان اسلافنا. ومثلهم لم تكن متساهلة بعضها مع البعض، فالمعارك الطاحنة التي خاضتها هذه الحيوانات البائدة ضد بعضها توحي للصغار اعمال العنف التي مارسها البشر ضد بعضهم البعض طوال القرن العشرين [4] . ان هذه المآسي التي يستشعرونها متمثلة في تاريخ الديناصورات المكوّن من الهجرات والاضطهاد والعنف المتعدد الاوجه...
فالكائنات البشرية الاولى هي مثل اجدادنا بعيدة وأليفة في آن واحد: غرباء تماما عنا في نمط معيشتهم وفي المقابل قريبون جدا منا في انفعالاتهم كما تشير الى ذلك باستمرار روايات جان اويل.
لكن لماذا الذهاب بعيدا للبحث عن اخراج لإنسانيتنا؟ اولا لأن المطلوب ايجاد قاعدة مشتركة للانسانية جمعاء والمساهمة بالتالي في خلق "وعي كوني"، كما ان اسبابا اخرى تعود الى الصعوبة التي تجدها بعض العائلات في مقاربة تاريخها الحديث العهد.
بات معروفا هذا الشغف بعلم السلالات الذي انتاب مجتمعاتنا منذ الثمانينات وقد حاول بعض المدرسين استخدام هذه الحماسة من اجل فتح عيون الطلاب على تاريخ القرن العشرين فدعوهم الى بناء شجرة سلالتهم بمساعدة الاهل. النية في حد ذاتها ممتازة اذ المطلوب دفع الصغار الى التفكير في تعاقب الاجيال والحركية الجغرافية والاختلاط العرقي وفي الوقت نفسه مقاربة الحرب العالمية الاولى وفترة الاحتلال. وقد رحب الاولاد بهذا المشروع.
لكن المؤسف ان العائلات لم تتجاوب والاسوأ ان عددا منها ابدى اعتراضه اذ هناك العديد من الاسرار المخبأة لا يريد الاهل التحدث عنها ومنهم من لا يريد ان يطرح عليهم اولادهم اسئلة حول تاريخهم الخاص. مختصر الكلام ان الكشف عن التاريخ المشترك يتقدم لكن تواريخ العائلات تبدي مقاومة. وتلك مشكلة خطيرة. يمكننا التغاضي عنها، يمكننا تكرار القول ان على المدرسة تلقين القيم الجمهورية الكبرى وتقديم المعلومات حول المراحل السوداء من تاريخنا، لكن من الواضح ان ذلك لا يكفي. هناك في جميع الفئات الاجتماعية عائلات تشجّع على التبادل والمساءلة وغيرها يقفل فيها من خجل او من ألم على مراحل بأكملها من التاريخ العائلي.
ان صعود التطرف اليميني في الانتخابات الاخيرة التي جرت في بلدان اوروبية وخصوصا فرنسا ليس بعيدا عن هذا الصمت العائلي. هل نقبل الواقع اذاً؟ كلا. فحيث يمكن الدولة التدخل عليها تشجيع كشف النقاب عن القصص العائلية التي يستحيل بدونها فهم التاريخ المشترك.
في انتظار ذلك فإن الشغف بما قبل التاريخ يغذي الحكايات الخرافية الجديدة: ان عالم الديناصورات الخالي من الشفقة ومتاهات آخر النماذج البشرية "ما قبل كائن المعرفة"، تحمل القلق بالانتماء الى عالم تخطاه الزمن وتركز الشعور الاليم ان مآسي الحياة التي لم تجد حلا عند اسلافنا سوف تظل ترمي بثقلها علينا الى وقت طويل...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عالم نفس ومحلل نفسي، من مؤلفاته L Intinmité surexposée, Ramsay,
[2] Jean. M. Auel, 1980 Les enfants de la terre, Paris, Presses de la Cité, 1991 (5 tomes).
[3] اشكر لوك غوران على تزويدي هذه الحادثة.
[4] Pascal Hachet., Dinosaures sur le divan, psychanalyse de Jurassic Park (Paris, Aubier, 1998).
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم