|
خطباء آخر زمان
حميد طولست
الحوار المتمدن-العدد: 3410 - 2011 / 6 / 28 - 02:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا يختلف اثنان حيال أهمية المنبر ودوره الأساسي في بناء القناعات وطرح المشكلات والتأثير في الرأي العام عبر تاريخنا الإسلامي المديد، ولذلك انبرى رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطابة بنفسه ولم يترك المنبر لأحد من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين رغم كثرة مشاغله وتعدد مهامه وقد سار على نهجه الخلفاء والأمراء والولاة. وخطبة الجمعة عند المسلمين محاضرة أسبوعية يحضرها الناس أسبوعياً، وهي واجبة على كل مسلم عاقل بالغ مقيم صحيح، والتخلف عنها جد خطير، ففي مستدرك الحاكم وغيره عن أبي الجعد الضمري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه" قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط مسلم". وهي كذلك مصدر مهم وهائل لتلقي المعارف والمعلومات، دينية كانت أو دنيوية تركز في مدة زمنية قصيرة في حال كانت "الخطبة" بالمقاييس الصحيحة والمعايير المضبوطة الواجب الالتزام بها. ليكحال بعض خطب الجمعة في زماننا هذا، والتي يجزم أكثرية من يحضرونها، أنهم ينصرفون منها دون أن يعوا ما يقال فيها. وباعتقادي أن الخلل ليس في المصلين بقدر ما هو في بعض الخطباء -مع احترامي للعلماء المقتدرين منهم ً- حتى أصبحنا لا نفرق بين خطيب وآخر، حيث أصبحت خطبهم موحدة يتحدثون فيها بلغة مستنسخة يطرحون خلالها مواضيع واحدة ويرتدون زيا واحدا وكأنهم جميعهم نسخة واحدة لخطيب واحد يفتقد لفن الخطابة ومهاراتها. فكم من خطيب تتطلب منه المناسبة، هدوءاً وسكينة، فيجعل الخطبة حرباً ضروساً، فلا تسمع منه إلا قعقعةً وجلجلةً وكأننا أمام قبائل داحس والغبراء، أوحروب البسوس وصراعات ملوك الطوائف، أو على عتبات بيت المقدس أيام صلاح الدين. وكم من خطيب يأتيك وكأن مهمته وغايته المثلى أن يجعل الناس نياما. وهكذا تدور الأسابيع وتتكرر الخطب التي يحضر المسلم منها أكثر من خمسين خطبة في العام، ومع ذلك يبقى الُمستفَاد منها والمستفيد قليلا جدا، لعدم توظيف المنابر توظيفها الامثل لقضايا الوطن "الحساسة" والمكشوفة والتي يتهامس بها الناس في المقهى وفي الشارع، ولا تتناولها وسائل الإعلام احتشاما أو خوفا: كقضية التوريث السياسي، والدكتاتوريات، والطائفيات، والدين، واضطهاد المرأة، والجنس، والصراعات الحزبية والقبلية، والتخلف العلمي، والأمية الفاضحة، وتغول عائلات القادة وأبنائهم وزوجاتهم وأصهارهم وأنسابهم على مقدرات وثروات البلدان واختلاسها.. واستغلال المنبر لنشر العنصريات وإيقاظ الفتن النائمة، حتى انطبق على بعض الخطباء المتفيقهين قول أبي الطيب المتنبي: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم هذا الشاعر الذي يفتخر به كل العرب، ومع ذلك لا تتذكر غالبيتهم العظمى من بيته الشعري إلا عجزه (يا أمة ضحكت من جهلها الأمم). أما صدره (أغاية الدين أن تحفوا شواربكم) فلا يذكره أحد،أو لا يريدون ذلك، رغم أهميته في تشخيص -منذ مئات السنين - حالة الانحراف عن المضمون الأساسي للدين نحو المظاهر والاستعراضات الزائغة التي لا تمت للدين بصلة إيمانية أو علمية عبر خطباء متطفلين على المهنة، أغلبهم لا يحمل من المؤهلات سوى (اللحية الطويلة والقشابة القصيرة وفوقها " الجاكيطة" والحداء الرياضي "نايك") ما دفعني إلى هذه المقدمة الطللية عن خطبة الجمعة هو ما أصبح عليه حال بعض الخطباء الذين كثيرا ما تنخدع عين الرائي بمنظرهم الزائف، ويختل معيار تقييم صدقية الكثير منهم. حيث يكون الجانب المتطرف المخفي هو المسيطر على ذوات من يطلق عليهم أو يطلقون على أنفسهم "خطباء"، والمتدثرين بركام التخلف، وإن بدت واجهة الصورة عكس ذلك.. فكثيرهم مسكون بعشق الماضي.. مشدود إليه في أعماق لاوعيه المليء بالتعصب المذهبي والحزبي والقبلي، والذي يعملون على تحويله إلى دين يفرض على الناس جميعا، لا مناص لهم إلا الالتزام بشريعته وإلا أصبح من يرفض ويمانع أو حتى يناقش، مهددا في عقيدته وحياته. ما ينم عن فهم متطرف للإسلام من قبل بعضهم وهو ما يعطي انطباعا على تخلفهم وقسوتهم على الدين الحنيف الذي يظهرونه بصورة مشوهة مقارنة بالأديان الأخرى السماوية و الوضعية، فأي فقيه هذا الذي يتباهى بعنصريته ويستغل خطب الجمعة " هذه المناسبة الدينية المقدسة" لأغراض دنيئة يحاربها الإسلام ويحذر منها ويلعن موقظها. وأي فقيه هو ذاك الذي يخالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة، القائمة على التبشير والتيسير بدل الغلو والتعسير، كما ثبت في الصحيحين عن انس بن مالك رضي الله عنه: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا". وقد أفادت التجارب أن العنف لا يولد إلا العنف، وأن روافد العنف والإرهاب والطائفية والرجعية تظل قادرة على استغلال الدين للوصول لغاياتها ما لم يعمل على تجفيفها من المؤسسات الدينية نفسها. هناك بون شاسع بين الإسلام كدين وأيديولوجيا متكاملة للحياة وبين من يطبقها، وهنا تحضرني قولة الشيخ محمد عبدو بعد زيارته لأوروبا والتي تنطبق على هذا النوع من الخطباء حيث قال: "رأيت إسلاماً ولم أر مسلمين ورأيت مسلمين ولم أر إسلاما" وإنه لمما يؤلم النفس أن لا يرى المرء كرامة له لا في المسجد ولا خارجه. وما يزيد النفس حزنا وحسرة أن ترى الفقهاء الأبرار مؤخرين مهمشين، والسفهاء مبرزين فى مناصب حساسة كالخطابة الذين تراهم يغضبون حيث ينبغي خفض الغضب، ويخفضونه حيث لا ينبغي خفضه أو تهدئته. وكارثة الكوارث أن تعلم أن لاشيء يفيد في إصلاح الوضع المُتردي لبعض أئمة المساجد رغم كل المبادرات الجبارة التي بذلها أمير المؤمنين الملك محمد السادس شخصيا، والتدابير التي اتخذتها وزارة الأوقاف، والتي تشكل نقلة نوعية متميزة ومطلوبة بل وملحة لتشخيص التردي الخطير المحدق بمجال الخطابة والوعظ والإرشاد والإمامة، وتفكيكها إلى كل عناصرها الأولية، ووضع الكف، وليس الأصبع فقط، على الجرح المُتسع إذا ما تجاوب الخطباء والأئمة معها. لكن لا حياة لمن تنادي. فتفعيل ذلك على أرض الواقع وفوق منابر الجمعة يعتمد بالدرجة الأولى على الخطباء والأئمة أنفسهم، وذلك لأن الكثير من المتفيقهين منهم، مرتاحون لجهلهم – الذي لا يحتاج إلى شواهد لإثباته -وتجاهلهم لكل شؤون الأمة، مستغلين خطب الجمعة في التسييس والدفاع والترويج لأجندات جمعياتهم وأحزابهم التي لها مشاريعها ولها أولوياتها التي يلتزمون بها على حساب الدين ولا يعملون من خلالها إلا على إعادة إنتاج تخلف الأمة من جديد، وتكرار انحيازها إلى كل ما هو بدائي خرافي وغريزي ومتخلف، مُستسلمين لعواطفهم الطائفية عوض الفكر النير والعقل المتنور. ومن مظاهر تخلفنا العام أنه كلما استطاع أحدهم الوصول إلى منبر مسجد جبن في مناقشة القضايا الحساسة، وحرن عن فتح الملفات الجوهرية وظل يدور في نقاش العموميات دون الإقتراب مما يحيط بنا من مآسي تغرق الأمة كل يوم، واكتفى بالمزايدة على الناس تعصباً وطائفية، معلنا أنه "ينبوع الحقيقة" والآخرون، كل الآخرين زنادقة و قطيع نعام، يتشوق سيفه لقطع رقابهم. فبدل أن ينتهج أغلبيتهم منهج التبشير بالعاقبة الحسنة والتوجيه بالصبر الذي في الغالب يعقبه الفرج، نجدهم يعتمدون أساليب متشددة تنشر التشاؤم والقنوط والسخط، يخرج المستمعون إليها بلا فائدة، بل وربما يلجؤون لأي تصرف أحمق للتفريج عن سخطهم وتهيج عواطفهم التي أشعلتها الخطب الملتهبة بالتطرف، والتي لم يُلتزم فيها بمنهج التبشير والتيسير الذي أوصى به سيدنا محمد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وورد في القرآن الكريم الكثير منه، والذي لاشك أن الكثير من الخطباء يحفظونه عن ظهر قلب ويكرره الأئمة وخطباء الجمعة على مسامع المسلمين كل أسبوع. لكن بعضهم ربما ومع كل أسف لا يفقه ما يتلو..!. ففي ختام سورة «فاطر» نجد هذه الآية التي تُعلّم الناس أهمية التمهّل في محاسبة الآخرين وعدم التسرّع بإطلاق الأحكام عليهم، والتعامل مع الناس بمجمل ما هم عليه من سلبية وإيجابية وليس التوقف عند حالة سلبية واحدة فقط. تقول الآية الكريمة: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا» (45). وليست سورة «فاطر» وحدها التي تدعو الناس والمؤمنين بالله عزّ وجلّ إلى حسن السلوك مع الآخر وإلى تفهّم حكمة الخالق تعالى بخلق الناس مختلفين، فالقرآن الكريم كلّه دعوة واضحة إلى ذلك. لكن مشكلة العالم الإسلامي الآن أنه لا يتوازن مع تراثه الحضاري الإسلامي الذي يقوم على الحوار مع الرأي الآخر: «ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحِكْمةِ والمَوْعظةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُم بالتي هيَ أحسنُ» ـ سورة النحل ـ الآية 125 ـ «أفَأنْتِ تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يكونوا مؤمنين» / سورة يونس ـ الآية 99 ـ «وجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا» / سورة الحجرات ـ الآية 13 ـ «مَنْ قتلَ نفساً بغيرِ نفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فكأنَّما قتَلَ النَّاسَ جميعاً ومَنْ أحياها فكأنِّما أحيا النَّاسَ جميعاً» /سورة المائدة ـ الآية 32 ـ «وَعِبادُ الرَّحمنِ الذين يَمشونَ على الأرضِ هَوْناً وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلونَ قالوا سَلاماً» / سورة الفرقان ـ الآية 63 ـ «وكذلك جعلناكم أمَّةً وسَطاً لتكونوا شُهداءَ على النَّاسِ» / سورة البقرة - الآية 143 ـ «وَمَا أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً للعالمين» / سورة الأنبياء ـ الآية 107 فلملذا لا يكون الخطباء –المتطرفين منهم- رحماء بالعالمين بهذه الأمة، بدل الاتجاه بها شيئا فشيئا نحو الأصولية والتعصب والتطرف والانغلاق والابتعاد عن الاعتدال والتسامح وهم أقدر على ذلك من أي كان. وفي الختام أريد التنبيه إلى أن المقصود من مقالي هذا ليس هو خطيب الجمعة بذاته، ولكن المقصود هم الراديكاليون، دعاة الأصولية المعادية لمفهوم الاعتدال نفسه. الذين يريدون أن يفهمونا بأنهم هم الآن سادة الموقف، يأمرون وينهون كما شاؤوا وبما شاؤوا. حميد طولست [email protected]
#حميد_طولست (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار مع كاتب جديد.
-
خطباء آخر زمن؟
-
لماذا نخاف التغيير في هذا البلد الجميل؟
-
التكريم.
-
هل للجلادين وقت للكتابة؟؟
-
مجرد مساءلة قلم.
-
وهكذا تكلم القدافي
-
حفل خيري من اجل الأطفال التوحديين.
-
الديموكتاتورية؟
-
انفلوانزا الكراسي.
-
لقد تشابهت الجمهوريات علينا
-
ديكتاتورية الشعوب.
-
ديكتاتورية رؤساء...
-
ذكريات عيد العمال.
-
ثورات الناس على دين متفيقهينا
-
تزوير التاريخ سخرية سياسية أم استخفاف بالعقول؟
-
استقالتي من حزب الاستقلال.
-
مطاعم القلب، الصدقة الجارية..
-
جسور باريس دليل سياحي بإمتياز
-
الصراع السياسي.
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|