|
- أحب ساراماجو - - قصة قصيرة
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 3406 - 2011 / 6 / 24 - 13:58
المحور:
الادب والفن
د. أحمد الخميسي
بدأت القصة مع التكليف الذي تلقيناه صباح ذلك اليوم . وكنا– أنا وحلمي – نشرف على الصفحة الثقافية بجريدة " الوحدة " . نجلس في حجرة واسعة تطل نافذتها على شارع عريض ، بها مكتبان متواجهان ، ونقوم بكل ماتحتاجه الصفحة ماعدا تغطية المؤتمرات خارج العاصمة . معنا ، لكن على كرسي قرب باب الحجرة " خلفاوي " ببدنه الضخم ، ورأسه الحليق على الزيرو ، يتصفح مجلات أو يتثاءب إلي أن يطلب منه أحدنا شيئا . التكليف الذي تلقيناه كان بتغطية مؤتمر في إحدى المحافظات البعيدة ، وكالعادة اتصلت بشاب من قسم الأخبار كنا نعتمد عليه في تلك السفريات ، فقيل لي إنه في إجازة ثلاثة أيام لظرف طارئ . وعلق حلمي " ضاعت عليه المئة جنيه بدل السفر ووضعنا في ورطة " . تطلعت إليه أستكشف بنظرتي إن كان قد يقبل بالسفر . فعاجلني بقوله " لا ياعم ! لا . هذا مشوار يحتاج صحة " . كنت أعلم أنه يكره فنادق الأقاليم فلزمت الصمت . خلفاوي الذي اعتدنا تدخله في كل شيء ، واعتاد هو على صمتنا لأن ملاحظاته كانت في معظمها دقيقة ، مط شفته السفلى وهز رأسه قائلا باستهانة " وماذا يكون المؤتمر يعني؟ ناس يتكلمون، نرسل أي شخص والسلام. مشكلة يعني؟ " . وقهقه بصوت مدو كأنما يقف في حقل مفتوح بقريته، وسكت ، ثم استند بباطن قبضته على حافة مكتبي وأعلن ما بين الجد والهزل كأنما يجود علينا بهدية " هاتوا المئة جنيه بدل السفر وأذهب أنا " . الفكرة بدت غريبة ، لم أستوعبها ، مثل قطعة خشب يدفعونها لفم إنسان على أنها طعام فتتعطل حواسه لحظة . لمح خلفاوي حالتي على وجهي ، فتراجع للخلف وأولاني ظهره خارجا من الحجرة وهو يقول " مؤتمر ؟ يعني نخاف يعني ؟ " . وعاد بعد دقائق يحمل فنجاني قهوة ، وضعهما أمامنا بصمت لكي لا يشوش علينا استطعام اقتراحه . خلفاوي الذي ناهز الثلاثين ، ساعي ، لكنه يقوم بأي شيء ، وما لا يستطيعه يظل وراءه بإصرار حتى يتقنه ويتولاه ، ذكي بالفطرة وطموح وحاصل على دبلوم متوسط ، خلال عام واحد من عمله معنا أصبح قارئا للصحف يرمي بملاحظاته الدقيقة على ماينشر ويسخر من تبدل مواقف الكتاب ، بل وصار خبيرا في الكمبيوتر، يفتح ملفات، ويطارد فيروسات . لكن أيعني ذلك أن نرسله إلي مؤتمر ؟ تبادلنا أنا وحلمي نظرة . وبدا أن حلمي حسم أمره فقال لخلفاوي " طيب .. عندك بدلة أنيقة ؟ " . وعلى الفور اندفع خلفاوي من الثغرة التي فتحت أمامه يوسعها مؤكدا بحماس " عندي . وقميص وكرافت أيضا . ثم أنا سأحمل مسجلا صغيرا ، أسجل عليه كل ما يدور ، وممكن كاميرا . وإذا سألني أحد أقول من الجريدة وخلاص . مشكلة يعني ؟ " . ولمعت عيناه بأمل واثق يشجعنا . لكني تظاهرت بأني متردد ، ربما كنت مترددا فعلا ، وأنا أقول له " لكن إياك تفضحنا ! " . صاح بلهجته الريفية الممطوطة " كيف ؟ وكل ما سأقوم به الضغط على زر التسجيل ؟ . ماعدا ذلك أنتم تعرفون خلفاوي يسلك مع الجن " . استراح حلمي وقال له " وإذا سألوك عن أي شيء أنت صحفي . أديب " . هبط خلفاوي برقبته بين كتفيه وفتح عينيه باستنكار " صحفي ماشي . لكن أديب ؟! كيف يعني ؟ " . هونت عليه بنبرة مطمئنة " أنت تعرف أسماء طه حسين والحكيم " ، وشعشعت الفكرة عند حلمي فقال " وما عدا ذلك قل أنا أحب ساراماجو " ! مط خلفاوي بوزه باشمئزاز متوجسا من إهانة " صاراماتو ؟! كيف يعني ؟ " . ضحك حلمي " ليس صاراماطو ، بل ساراماجو ، أديب برتغالي ". زام خلفاوي مدركا أن الكلمة لاتحمل معنى قبيحا ، وقال رافعا حاجبيه لأعلى " واجب أتذكره .. احتياطا " . قبض خلفاوي المئة جنيه وتركنا . وعاد بعد يومين . الحق أقول كدنا لا نعرفه وهو داخل علينا برأس مرفوع وبدلة وتحت إبطه رزمة كتب . وضع أمامنا جهاز التسجيل، وصاح بشمخة " كل كلمة نطقوا بها. ومعي صور للمتحدثين. وبالمناسبة بعضهم أصرعلى التقاط صورة معي للذكرى " . خطف خلفاوي اهتمامنا ، وأصبح ذهابه وإيابه وما فعله الموضوع الرئيسي ، وسألناه عن التفاصيل فحكي كل شيء . قال إنهم استقبلوه بترحاب ( بدا على وجهه أنه أراد أن يقول بتقدير ) ، وإنه كان يتحين الفرصة خلال الأحاديث لتمرير عبارة " بالمناسبة أنا أحب ساراماجو . أديب عظيم " . وقهقه بطريقته الصاخبة مضيفا " مرة واحد منهم سألني ومن يكون ساراماجو ؟ . فأجبته بدهشة – خير ياعم ؟! ألم تقرأه ؟! ". انتبه حلمي إلي رزمة الكتب فسأله " ماهذا ؟ أبحاث المؤتمر ؟ " . وسحبت كتابا من بينها وقرأت بصوت مرتفع إهداء على الصفحة الأولى منه " إلي الأديب الكبير خلفاوي السيد . خالص التقدير لإبداعه " . نظرت إليه ، ورأيت للمرة الأولى سحابة خجل خفيفة تمرق في وجهه ، ولكنه ما لبث أن ثار بغضب صادق صائحا" أهداني إياها بعض الأدباء ما أن علموا أني صحفي في جريدة. ماذا أفعل ؟ كان لابد من سبك الدور ". وغادر الحجرة بعصبية ولم يعد . وفي صباح اليوم التالي رأيناه من جديد عند باب الحجرة في القميص والبنطلون القديمين . وتفادينا كلنا بتوافق غير معلن التطرق لموضوع المؤتمر . وبعد أسبوع صارت مظاريف مغلقة تحتوي على كتب تصل باسم خلفاوي . كان يفتحها أمامنا ببطء ثم يتجه بها ببهجة مكتومة إلي مقعده . هناك يخرج الكتب والروايات ويقرأ بعضها . أحيانا كان يقول بحيث نسمعه " والله هذا الشاب موهوب . أسلوبه حلو " . وبالتدريج صار خلفاوي يسألنا عن كتب بعينها ويستعيرها منا لقراءتها . مع حلول صيف ذلك العام تركنا خلفاوي والتحق صحفيا بإحدى الصحف تحت التدريب ، فلم نره بعد ذلك زمنا طويلا ، إلي أن سمعت في إحدى الجلسات أنه مسئول عن ملحق أدبي في صحيفة رائجة . وكنت بالأمس قريبا من مقر تلك الصحيفة فساقني الفضول لزيارته . واستقبلني في مكتبه بترحاب وتهليل ، وكان عنده شاب جالس بأدب على كرسي عند طرف المكتب ويده ترتجف بورقة ، ونصحه خلفاوي أمامي قبل أن يصرفه " إقرأ ساراماجو . أنا أحب ساراماجو " . واستدار نحوي وهو يضيف بنظرة مركزة وببطء كأنما يبثني رسالة خاصة " وماركيز " . وانصرف الشاب متراجعا بظهره وأغلق الباب خلفه بحرص . صرنا وحدنا ، فانطلق خلفاوي يحدثني عن مشاريعه الأدبية للمرحلة المقبلة .
*** أحمد الخميسي – كاتب مصري [email protected]
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثورة العزيزة .. ثانية !
-
عزيزتي الثورة .. تحية وشوقا ..
-
عن كنيسة إمبابة وحكاية الثور والبقرة
-
خطاب لم يرسل
-
الروس يكتبون : عن الجيش والثورة المصرية
-
مع الانتفاضة والحرية
-
فلاحة عارية تحت جسر الموت ..
-
أقباط الحجارة !
-
في بيت عمي فوزي حبشي
-
حول الثقافة الشعبية القبطية
-
الحب والفولاذ - قصة قصيرة
-
هرش قفا برلماني
-
- غير محافظ - على القاهرة !
-
فتش في دمائك عن السلم الموسيقى
-
تاريخ فقاعة - قصة قصيرة
-
زهرة الخشخاش .. وزمن شعلان الفنان
-
تجربة ابراهيم عيسي
-
أشياء - يُعتقد - أنها أمريكية !
-
الثقافة والأزمة الطائفية
-
الفتنة الطائفية بمصر .. لحظة خطر
المزيد.....
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|