ويلي جاكسون
الحوار المتمدن-العدد: 1014 - 2004 / 11 / 11 - 08:40
المحور:
القضية الفلسطينية
أدانت محكمة العدل الدولية بتاريخ 9 تموز/يوليو 2004 المشروع الإسرائيلي بمحاصرة الفلسطينيين بواسطة جدارٍ عازل. لكن بالرغم من هذه الإدانة تتابع حكومة السيد أرييل شارون تشييده في أجواءٍ من العنف المتزايد خصوصاً في قطاع غزة.
وكانت المحكمة التابعة للأمم المتحدة تلقت في 10 كانون الأول/ديسمبر 2003 طلباً بالاستشارة صادراً عن الجمعية العامة للأمم المتحدة حول السؤال التالي: "ما هي قانونياً النتائج المترتبة على إقامة الجدار التي تشيّده إسرائيل الدولة المحتلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى داخل القدس الشرقية وحولها، بحسب ما ورد في تقرير الأمين العام، وعملاً بقواعد القانون الدولي ومبادئه لا سيما اتفاقية جنيف الرابعة بتاريخ 1949 والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة حول المسألة؟".
يتعارض هذا الرأي الصريح والمعلن مع المواقف المتناقضة للعديد من البلدان الغربية. وقد اضطرت المحكمة إلى الرد على مجموعة من الحجج لا سيما تلك التي قدمتها دول أوروبية في محاولة لإقناع المحكمة بعدم الإدلاء برأيها.
وتتجلى أهمية الرأي الاستشاري الذي أصدرته المحكمة في نهاية المطاف بأنه أعاد إلى المستوى القانوني عملية البحث عن حل للنزاع المأسوي بين إسرائيل والفلسطينيين. وخصوصاً أن فشل الحل العسكري بات جلياً منذ ردحٍ من الزمن بينما تتعثر المحاولات الأخيرة لإيجاد حلٍّ سياسي ودبلوماسي للنزاع .
ولا بد أن تسعد الأمم الديموقراطية القائمة على أولوية الحق في العلاقات الدولية بهذا اللجوء إلى المحكمة الدولية وهي الضامن القانوني من أجل إيجاد حلٍّ لوضعٍ بات غايةً في الاضطراب. لكن الأمر اختلف عند عجزها عن الوقوف في وجه الالتماس المقدم إلى المحكمة، سعت بعض الدول جاهدةً لإغراق المسألة في نقاشات استخدمت من اجل إطالتها مختلف الذرائع [1].
فقد رفعت حجة عدم الصلاحية لأن الجمعية العامة للأمم المتحدة صاحبة الطلب ليست مخولة البت في مسألة مطروحة أمام مجلس الأمن الدولي. لكن المحكمة التي أشارت إلى المسؤولية الرئيسية المنوطة بالمجلس في حفظ الأمن أكدت أيضاً أنه لا يتمتع بالمسؤولية الحصرية وأنه يشارك الجمعية العامة في تحملها وهي بالتالي تكون ضمن صلاحياتها عندما تطلب حكماً في وضع له هذا القدر من التأثير على حفظ السلام. أما الحجة الثانية فهي أنه لا يحق للجمعية العامة أن تنعقد في دورة استثنائية على قاعدة القرار 377 أ [2](V) التي تتيح عقد هذا النوع من الاجتماعات في حال تقصير مجلس الأمن. والحال أن هذا المجلس قام بواجبه من خلال إقراره "خريطة الطريق". لكن في الواقع فقد تم رفض مشروع قرار يدين تشييد الجدار رفع إلى مجلس الأمن بتاريخ 14 تشرين الأول/أكتوبر 2003 وذلك بسبب الفيتو الذي وضعه أحد الأعضاء الدائمين. هكذا يكون مجلس الأمن تخلف عن دوره ويحق بالتالي للجمعية العامة بحث الموضوع.
كذلك اضطرت المحكمة إلى رد الحجة المتعلقة بالطبيعة غير القانونية المفترضة للسؤال الموجه إليها باعتباره سؤالاً سياسياً. فذكرت بوجود ارتباط وثيق بين الجوانب السياسية والقانونية لأي مسألة دولية، الأمر الذي لا ينفي صلاحية المحكمة للنظر فيها.
وقد حاولت دول كبرى عديدة إقناع المحكمة بأنه من غير المناسب الرد على سؤال الجمعية العامة، لكن لم ينجمع أمام المحكمة ما يكفي من الأسباب للتراجع بالرغم من أنها تملك الصلاحية المطلقة في هذا الشأن. كذلك لم تتوقف عند الحجة الإسرائيلية بعدم جواز النظر في خلافها مع فلسطين طالما أنها تعارض ذلك. وجاء رد المحكمة بأن بناء الجدار الذي يؤثر على السلم والأمن الدوليين يتجاوز العلاقات الثنائية بين إسرائيل وفلسطين ليقع ضمن نطاق المسؤولية المباشرة للأمم المتحدة التي تمارس رعايةً دائمة على القضية الفلسطينية منذ عهد الانتداب والقرار الخاص بالتقسيم (29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947).
إضافة إلى حجج العرقلة المردودة، اعتبر البعض أن الرأي الاستشاري غير مناسب كونه يتداخل مع الجهود الجارية للتوصل إلى حل سياسي ويقضي على مسار "خريطة الطريق". أو أيضاً بأن المحكمة لا تمتلك المعلومات الكافية عن الوضع السائد على الأرض وأن عليها التخلي عن النظر في المسألة. وكان رد المحكمة بأن مختلف تقارير الأمم المتحدة والمعلومات المستقاة من مصادر أخرى تشكل عناصر تقدير يمكن الركون إليها حول تشييد الجدار والنتائج الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية على الشعب الفلسطيني.
والحجة الدامغة: عدم جدوى الرأي المطلوب لأن الجمعية العامة قد سبق وأعلنت عدم شرعية الجدار. فأجابت المحكمة أنها لا تقرر ما إذا كانت الجمعية العامة بحاجة إلى رأيها أو لا، فالجمعية العامة هي المسؤولة عن تقدير حاجاتها. والحجة الأخيرة تدعمها إسرائيل: إن فلسطين المسؤولة عن أعمال العنف التي تسببت في إقامة الحائط لا يمكنها أن تطلب رأي المحكمة في وضع هي ساهمت في خلقه. وجواب المحكمة هو نفسه: إن من طلب استشارة المحكمة هي الجمعية العامة وليس كياناً أو دولة محددة وبالتالي سيرفع رأي المحكمة إلى الجمعية العامة نفسها.
لم تقع المحكمة في أي من الأفخاخ التي نصبت لها وصولاً إلى الجوهر أي النتائج القانونية لتشييد الجدار. وهذا ما دفع بها إلى استعادة تاريخ المنطقة المتعرج والمأسوي ومراحله الرئيسية من تفكك الامبراطورية العثمانية [3] إلى وضع فلسطين تحت الانتداب عام 1922 والأزمات والحروب المتعددة التي شكلت مسار الشرق الأوسط بين 1947 و1967.
يمكن الاستنتاج من مجموعة العناصر هذه أن الأراضي التي يقام عليها الجدار المتنازع عليه هي أراضٍ محتلة عسكرياً في منظور القانون الدوليوتطبّق فيها بالتالي الأدوات القانونية الدولية المعدّة للنزاعات المسلحة. لذا يفرض على إسرائيل أن تحترم من دون أي تردد القانون الدولي الإنساني المعبر عنه في اتفاق لاهاي للعام 1907 ومعاهدة جنيف الرابعة (1949).
بالمعنى نفسه فقد أعلنت المحكمة أن المعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الأفراد والتي تقرهاإسرائيل قابلة للتطبيق في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومع ذلك ادعت تل أبيب في ازدراءٍ واضحٍ للمحتوى العالمي لحقوق الإنسان أن هذه النصوص لا تطبّق إلا في زمن السلم وأن الحق الإنساني وحده قابل للتطبيق في زمن الحرب. رفضت المحكمة تشريع هذه الأطروحة الخطيرة لتؤكد أن ضمان هذه المعاهدات لا يتوقف في حال الحرب. وبالتالي فان الإدانة تطاول مختلف الانتهاكات المرتبطة بتشييد الجدار والنظام المرتبط به مثل قضم الأراضي ونقل السكان المدنيين الإسرائيليين إلى الأراضي المحتلة (الاستيطان) وتدمير الملكيات ومصادرتها وإعاقة حرية الانتقال وتخريب الظروف الاجتماعية والاقتصادية لحياة السكان الفلسطينيين الخ...
كذلك ترفض المحكمة الحجج الأمنية والدفاع المشروع عن النفس لتبرير بناء الجدار. بالطبع إنها تعترف لإسرائيل بحق وحتى بواجب حماية نفسها من أعمال العنف القاتل لكن الإجراءات المتخذة يجب أن تتناسب مع القانون الدولي ولا يمكن لإسرائيل الادعاء بما يمليه عليها الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس [4]. فإن هذا الحق لا يكون ساري المفعول إلا في حال اعتداء مسلح من دولة على دولة أخرى، والواقع أن ما تعانيه إسرائيل من عنفٍ لا يأتيها من دولة أجنبية. فالدولة العبرية هي التي تتحمل مسؤولية ما يحدث فوق أراضٍ تحت سيطرتها.
كذلك دحضت حجة "حال الضرورة" التي تتيح للدولة المعنية عدم التقيد بالحقوق المضمونة إذا لم يكن لديها من وسيلة أخرى لحماية نفسها. ففي نظر المحكمة، إن بناء الجدار لا يمثل الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام إسرائيل لحماية نفسها.
أخيراً وفي مساهمة جوهرية، تضع المحكمة في صلب رأيها حق الشعوب في تقرير مصيرها وتجعل من تطبيق هذا المبدأ على النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني شرطاً لإقامة سلامٍ عادلٍ ودائمٍ في المنطقة. وجميع الدول مدعوة للتقيد بهذا المبدأ وتسهيل العمل به. كيف لا نلاحظ أن المحكمة سمحت لفلسطين بالتعبير عن موقفها بينما لا تفتح قانوناً بابها إلا للدول والمنظمات الدولية. والظاهرة لافتة وخصوصاً أن المواقف لصالح القضية الفلسطينية تراجعت مع تقدم عملية الإحالة على محكمة العدل الدولية [5] .
في المحصلة اعتبر الجدار الذي تبنيه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية غير شرعي وعلى الدولة تدميره وإلغاء كل التشريعات والقوانين المتعلقة به وإصلاح الأضرار التي تسببت بها عملاً بمسؤوليتها القانونية [6]. أما الدول الأخرى فلا يحق لها الاعتراف بهذا الوضع غير الشرعي.
يجدر التذكير بشبه إجماع القضاة الخمسة عشر حيث لم يسجل سوى رفض واحد على مجمل النص واعتراضين على واجبات الدول الأخرى. لكن بالرغم من أن رأي المحكمة ليس ملزماً فإن القانون قال كلمته وباتت الجمعية العامة للأمم المتحدة والأسرة الدولية تمتلك العناصر التي من شأنها توجيه سلوكها المقبل. والأمر ملح إذ أن المطلوب وقف حلقة العنف الأعمى على الأرض ومواجهة استراتيجيات التدمير السياسي الهادفة إلى منع قيام دولة فلسطينية مجاورة ومتعايشة مع إسرائيل [7]. إن زمن القانون ليس زمن السياسة وواجبنا أن نجعل الأول يلتحق بالثانية.
--------------------------------------------------------------------------------
* مستشار وأستاذ في جامعة باريس السابعة، دنيز ديدرو.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] اشارة الى "خارطة الطريق" التي أقرت في 19/11/2003 من خلال القرار 1515 لمجلس الامن الدولي بدعم من الرباعية المكونة من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وروسيا والامم المتحدة، وكذلك اتفاق جنيف وحوله Qadoura Fares, « L’accord de Genève, une fenêtre ouverte sur l’espoir », Le Monde diplomatique, décembre 2003 ; Monique Chemillier-Gendreau, « Israël-Palestine, une paix fondée en droit », Le Monde diplomatique, janvier 2004.
[2] تحت اسم "الوحدة من اجل الحافظة على السلام".
[3] Henry Laurens, « Comment l’empire ottoman fut dépecé », Le Monde diplomatique, juin 2003
[4] لا سيما المادة 41 من شرعة الامم المتحدة.
[5] حصل القرار بوقف بناء الجدار على موافقة 143 ومعارضة 4 وامتناع 13 في الجمعية العامة للامم المتحدة بينما لم يحصل قرار استشارة المحكمة الدولية الا على موافقة 90 ومعارضة 8 وامتناع 90 ايضا
[6] حول اشكالية اصلاح اضرار الحرب انظر Monique Chemillier-Gendreau, « Dommages de guerre à géométrie variable », Le Monde diplomatique, octobre 2003.
[7] لوموند، 8/10/2004.
#ويلي_جاكسون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟