|
بصدد بعض خصائص الانتفاضة السورية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3403 - 2011 / 6 / 21 - 16:16
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
من أبرز ملامح الانتفاضة السورية أنها كثيرة البؤر، تجري أنشطتها الاحتجاجية في عشرات المواقع في مختلف أرجاء البلاد، متزامنة في أيام الجمع، ومتفاوتة في غيره. وفي الأسابيع الأخيرة تكثر المظاهرات الطيارة التي تبرز إلى الفضاء العام لوقت قصير، تهتف ضد النظام، ثم تتفرق قبل أن تدهمها أجهزة أمنه وميليشياته. وتفرض نفسها كذلك المظاهرات الليلية التي تستفيد من العتمة لضمان سهولة التفرق إن دوهمت. تعكس هذه الظاهرات الثلاثة، تعدد البؤر والمظاهرات الطيارة والليلية، خصائص أساسية للفضاء العام في سورية. أهمها أنه محتل من قبل السلطات ماديا ورمزيا (بالمخابرات وبالصور والتماثيل)، وأن عموم الناس محرومون من التجمع والكلام فيه، وأن درجة احتلاله تتناسب مع مركزية حيزاته: الساحة المشهورة غير الشارع الرئيس، والشارع غير الجادات الجانبية. في 18 نيسان الماضي، احتل المتظاهرون "ساحة الساعة الجديدة" في حمص لساعات، وشاركت نساء في اعتصامهم فيها، لكن بعد منتصف الليل، هوجموا بالرصاص من جهتين، ما تسبب في مجزرة كبيرة (يُعتقد حتى الآن أنه لم تقل الحقيقة بشأنها، ويصر متابعون "حماصنة" أن أكثر من 200 متظاهر قتلوا تلك الليلة). وقبلها بأيام، حاول متظاهرون من بلدات لصيقة بدمشق أن يحتلوا ساحة العباسيين في المدينة، لكنهم ردوا على أعقابهم. وفي شهر نيسان نفسه حاول سكان البلدات المجاورة لدرعا التوجه نحو المدينة، لكن عشرات منهم سقطوا دون هذا الهدف، هذا قبل أن تصعد السلطات مواجهة الانتفاضة في مهدها الحوراني إلى العنف الحربي الساحق. بهذا يكون تعدد بؤر الاحتجاج هو البديل الأنسب من تعذر انتزاع ميادين مركزية للنشاط الاحتجاجي. أما دير الزور وحماة، المدينتان اللتان خرج الناس فيهما بعشرات الألوف، وأظهروا عزما على احتلال ساحات كبرى، فقد اضطرت السلطات السورية إلى القيام بجلاء رمزي منهما، عبر إخلاء تمثالين للرئيس حافظ الأسد، بدا أن المتظاهرون مصممون على إسقاطهما. مع ذلك لم يقم جمهور المتظاهرين باحتلال دائم للساحتين، ربما تجنبا للكلفة البشرية الكبيرة لهذا الاحتلال، واعتيادا على الطابع المتحرك والمرن للاحتجاجات السورية. لكن هل تتجه الأنشطة الاحتجاجية من تلقاء ذاتها إلى الحيزات المركزية من الفضاء العام؟ هل نموذج ميدان التحرير المصري هو القياسي، وغيره شواذ؟ ليس ثمة ما يبرر هذا التقدير. غير أن ثورات شعبية غير مسلحة، تواجه نظما تعتمد في سلطتها على الاحتلال الكلي للفضاء العام، لا تثبت نفسها دون ظهور في هذا الفضاء، ولا تنتصر دون تحريره واستعادته للعموم. وبخاصة تلك الحيزات التي تشغل مواقع مركزية فيه، مثل ميدان التحرير في القاهرة، ومثل ساحة الأمويين أو العباسيين في دمشق، وساحة الساعة الجديدة في حمص وأمثالها. القصد أن انجذاب الثائرين إلى الساحات الكبرى أمر متصل بنوعية أنشطة الثورة الرئيسية: مظاهرات احتجاجية، سلمية، تنزع إلى جمع العدد الأكبر، وتعمل على إسماع أصوات مكتومة، وإشغال مشهد لطالما كان مخصصا لرجال السلطة، ومنازعة هؤلاء على ملكية البلد. في سورية، حيث تعذر الاعتصام الدائم في ساحات كبرى، وتاليا حشد مئات ألوف الناس فيها، جرى التعويض بالعدد الكبير من البؤر التي يجتمع في كل منها مئات وألوف، وعشرات الألوف أحيانا. وستكون مظاهرات طيارة، سريعة التجمع والتلاشي، حلا في مواجهة نظام أمني بالغ القسوة. أما المظاهرات الليلية فتشغل حيزا غير مركزي من الزمان يشابه تلك الحيزات المكانية غير المركزية التي تجري فيها المظاهرات. هنا أيضا حل مرن لمشكلة جاهزية الأدوات القمعية للاشتغال بأحسن طاقتها في النهار. لكن بينما قد تكون كثرة وحركية بؤر الاحتجاج حلا لمشكلة الحرمان من ساحات عامة، فإن لهذه الحل ثمنه: هيمنة الطابع المحلي المتجزئ على الاحتجاجات، والتقليل من احتمال أن تكون مختلطة جنسيا ودينيا ومذهبيا. كان من شأن تجمعات ثابتة بعشرات ومئات الألوف أن تجتذب جمهور أكثر تنوعا من احتجاجات يتهددها العنف في كل لحظة. في الأيام الباكرة من الانتفاضة توافد على أحد أماكن التجمع في اللاذقية أناس متنوعون دينيا ومهنيا، وشارك مثفقون معرفون، وكانت تجري مناقشات بين المشاركين. بعد حين بدأ الفتك بالتجمع، فكان أن تراجع الطابع المختلط، وانسحب المثقفون، ودانت الهيمنة للشبان الشجعان من سكان المحلة. ومعلوم أن انتشار العنف في الفضاء العام يقترن بانسحاب النساء إلى النطاقات الخاصة، وكذلك الأطفال وكبار السن. نريد أن الطابع المتحرك والمتناثر للأنشطة الاحتجاجية السورية عائق دون تبادل الأفكار والتجارب والخبرات، يحول دون درجة أعلى من التعارف والتفاعل الفكري والتضامن الوطني والإنساني بين المشاركين. تلزم فضاءات آمنة ومستقرة نسبيا كي تكون التجمعات فيها إطار للتفاعل البشري والتراكم السياسي. وفي غياب هذه الفضاءات تطور خلال الشهور الثلاثة من عمر الانتفاضة السورية طابع شديد اللامركزية لفاعلياتها المتنوعة. تجري الاحتجاجات دون وجود جهة محددة تحركها ميدانيا وتوجهها سياسيا وتغطيها إعلاميا. هذه ميزة أمنية إيجابية، تجعل السلطات غير قادرة على ضربها مهما فعلت. لكن التبعثر يحول دون الاستفادة من تجارب وخبرات البؤر الأخرى. لمواجهة هذا الواقع طورت الانتفاضة جهازا شبكيا لا مركزيا لتبادل المعلومات والخبرات بين ناشطيها، هو التنسيقيات أو لجان التنسيق المحلية. تقوم هذه بثلاثة أنواع من الأنشطة: أنشطة ميدانية، تتمثل في تحديد مواقع المظاهرات والدعوة إليها والاشتراك فيها؛ وأنشطة إعلامية، تتمثل في تصوير المظاهرات ومواجهة السلطات لها، وتعميم الصور على المنابر الإعلامية؛ ثم أنشطة تنظيمية، تختص بتنسيق الجهود والربط بين الناشطين. تمازج الأنشطة التنظيمية بالإعلامية بالميدانية يضفي على تجربة التنسيقيات طابعا ديمقراطيا متميزا، لا يقارن بشي آخر في خبرة أجيال السوريين الحاضرة، لا بالنظام طبعا، ولا بتنظيمات المعارضة التقليدية. ولأن التنسيقيات ولدت في سياق "العمل المباشر"، فإن عملها يتسم بدرجة عالية من التجريب، وهي تعاني من صعوبات التواصل، ومن انقطاعه أحيانا، ومن عدم قدرتها على تغطية مناطق البلاد بصورة متساوية أو متقاربة. لكنها لا تكف عن تطوير حلول، معتمدة بصورة خاصة على فضاءات عامة افتراضية، تتيحها تكنولوجيات الاتصال التي يحوز الشباب كفاءة متفوقة فيها. في المجمل لا يكف السوريون عن ابتكار معالجات للمشكلات الكثيرة التي تواجههم. وبينما يثورون لتغيير نظام رجعي جامد، فإنهم يغيرون أنفسهم ويشكلون بلدهم في صورة مغايرة. الصعوبات لا تنتهي، وقوى التدمير تشتغل بأعلى طاقتها، لكن الإبداع أيضا لا ينتهي.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مكونان مدني وأهلي في الانتفاضة السورية
-
ثلاثة أشهر على الانتفاضة... أية آفاق؟
-
ما هي نقطة التحول السياسي في سورية اليوم؟
-
حوار في الشأن السوري...
-
في شأن الانتفاضة السورية وسياستها
-
المسألة السورية والمستقبل
-
المحنة السورية التي طال أمدها...
-
في نقد السؤال عن البديل في سورية
-
ثورة ضد الإقطاعيين الجدد
-
العودة إلى الوراء ممتنعة، التقدم إلى الأمام صعب، لكن لا بد م
...
-
في بعض أصول الأزمة الوطنية السورية الراهنة
-
الديمقراطية أو البريرية؟ لا بديل آخر
-
حوار: اللي يجرب المجرب...!
-
سجين دمشق
-
الانتفاضة الشعبية وإعادة بناء النظام السياسي في سورية
-
أزمة وطنية يمكنها أن تكون فرصة تجدد وطني
-
حوار عن سورية
-
من السلطة الشخصية الدائمة إلى الجمهوريات الجديدة
-
قٌضايا الإصلاح الوطني في سورية، ورقة نقاش
-
-لاستقلال الثالث- وأفق الثورة الثقافية
المزيد.....
-
صور سريالية لأغرب -فنادق الحب- في اليابان
-
-حزب الله-: اشتبك مقاتلونا صباحا مع قوة إسرائيلية من مسافة ق
...
-
-كتائب القسام- تعلن استهداف قوة مشاة إسرائيلية وناقلة جند جن
...
-
الجزائر والجماعات المتشددة.. هاجس أمني في الداخل وتهديد إقلي
...
-
كييف تكشف عن تعرضها لهجمات بصواريخ باليستية روسية ثلثها أسلح
...
-
جمال كريمي بنشقرون : ظاهرة غياب البرلمانيين مسيئة لصورة المؤ
...
-
-تدمير ميركافا واشتباك وإيقاع قتلى وجرحى-..-حزب الله- ينفذ 1
...
-
مصدر: مقتل 3 مقاتلين في القوات الرديفة للجيش السوري بضربات أ
...
-
مصر تكشف تطورات أعمال الربط الكهربائي مع السعودية
-
أطعمة ومشروبات خطيرة على تلاميذ المدارس
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|