لم تتجاوز مدة استيلاء عناصر المعارضة العراقية على سفارة نظام صدام في برلين على الأربع ساعات، و انتهت كما بدأت من دون أن تُهرق أية دماء بغض النظر عن درجة عفونة دماء أزلام النظام المجرم القابعة في ذلك الوكر المخابراتي المظلم، الا ان ما قدمته هذه العملية من خدمة لقضية الصراع مع نظام صدام كان من الوضوح الى درجة انه ليس لنا ان نغمض أعيننا عنها. لم تنقل الأخبار عن استخدام المهاجمون سلاحا ناريا، بل مال المهاجمون كما يبدو الى تسليط قوة عضلاتهم التي تمترست بروح عالية و إيمان مطلق بعدالة القضية و حتمية النصر فيها. لم يستميت حراس السفارة في الدفاع عن "هيبة" النظام الذي أرسلهم، لسببين واضحين، أولهما هو خوائهم من العزيمة و الأيمان و السبب الثاني هو شجاعة و إيمان المهاجمين النابعة من مد شعبي مقداره 24 مليون مظلوم. المهاجمون أعلنوا أن استيلائهم على السفارة هي عملية سلمية و مؤقتة، و هذا ما حدث فعلا..
موقف المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق من العملية
كان سرعة ظهور الدكتور حامد البياتي، المتحدث الرسمي للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، في قناة تلفزيونية أمريكية (أم اس أن بي سي) ملفت للنظر، و لكننا سنتفهم هذه السرعة متى ما تفحصنا بإمعان الكلمات التي استخدمها الدكتور البياتي عندما فاجأ المذيعة الأمريكية المتحمسة لفكرة إسقاط نظام صدام حسين بقوله ان هذه عمليات إرهابية و تؤثر على مصداقية المعارضة العراقية و اتهم المخابرات العراقية بالإعداد لها. و ما لفت انتباهي أيضا هو إحجام الدكتور البياتي عن استغلال هذه العملية التكتيكية لأغراض إعلامية و التي حاجة شعب العراق لها لا تخفى على أحد وسط تعتيم اغلب وسائل الإعلام العربية و الأوربية لفعاليات المعارضة العراقية و التي يقوم بأجزاء مهمة منها المجلس الإسلامي الأعلى.
ردود الدكتور البياتي على الأسئلة ذكرتني بمن يقف أمام قاضي محكمة و لكن من دون ان يعرف سبب استدعائه، أ هو شاهد أم متهم. بدا لي ان حرص الدكتور البياتي على درأ خطر احتمالية ان يُتهم المجلس الأعلى بالتخطيط لهذه العملية أكثر من حرصه على توظيف العملية بالشكل الذي يتمناه أهلنا في العراق و بما يخدم أهداف المعارضة العراقية بتعجيل إسقاط نظام صدام، و استغلال أي سلاح مهما يبدو ضئيلا ضد إمكانيات النظام الهائلة و التي كان آخرها التلويح بمنح 40 مليار دولار لروسيا لشراء دعمها لنظامه المتهاوي.
بدا لي ان الدكتور البياتي افترض أنه داخل محكمة و القاضي فيها يسأله عن مقدار علمه بتفاصيل العملية؟
و لكي يقطع كل الطرق على القاضي الأشقر (المذيعة) التي لم تخفي تحمسها لهذه العملية و هي تتابع تطوراتها على مدى الساعات الأربعة. اختار الدكتور إطلاق صفة الإرهاب على العملية و منفذيها، علما ان قطرة دم واحدة لم تسقط على ارض السفارة. لن أبالغ اذا ما قلت لكم ان القاضي (مذيعة قناة ام اس ان بي سي) تفاجأت من هجوم الدكتور البياتي على أفراد المعارضة العراقية الذين نفذوا هذه العملية و كأني بها تقول لنفسها "لحظة، هل هناك خطأ، مع من أتكلم، هل هو من المعارضة، أم ممثل خارجية نظام صدام؟" ، و لكن دهشة المذيعة ستزول متى ما أدركت ان حرص المجلس الأعلى على ان يبعد نفسه عن مثل هكذا أعمال هو في حقيقة الأمر صراع من أجل البقاء، ليس البقاء على الساحة العراقية، فالمجلس مشهود له بجهاده، و لكن على الساحة الإيرانية، الأكثر أهمية في الوقت الحالي و الى ان يتم التحرير. قيادة المجلس الأعلى تعيش تحت وطأت ضغط نفسي كبير، فهم عمليا محاطين بضلعين من الأضلاع الثلاثة لمثلث محور الشر (إيران و العراق و كوريا الشمالية) و الذي رسمه الرئيس الأمريكي بوش اثر عمليات الحادي عشر من سبتمبر، مما يجعلهم اكثر عرضة من غيرهم في ان يوسموا بالإرهاب. و المجلس الإسلامي الأعلى يعلم ان هناك من يتربص به (الحكومة الإصلاحية في إيران) متحينا الفرصة المناسبة لتهشيمه و من فيه، و ليس افضل من ذريعة ان المجلس يزيد ابتلال طينة إيران المتهمة أصلا بدعمها للإرهاب متى ما غضبت عليها واشنطن.
و لكن إذا كان من المُبرر ان يصف المجلس الأعلى هذه العملية بأنها إرهابية، فهل يصح إطلاق هذا الوصف على عملية مشابهة عندما استولت ثورة إيران الإسلامية على السفارة الأمريكية في طهران و ارتهنت موظفيها لاكثر من عام اثر نجاح الثورة هناك؟؟
موقف المؤتمر الوطني العراقي من العملية
بعد اقل من ساعتين اثر بدأ العملية اصدر المؤتمر الوطني العراقي بيانا جاء فيه ان صدام حسين هو اكبر إرهابي في العالم، و أن سفاراته هي مراكز مخابراتية تستخدم لتنظيم العمليات الإرهابية و ملاحقة العراقيين في الخارج. و بالرغم من نفى المؤتمر الوطني العراقي ضلوعه في هذه العملية، الا انه دعى العالم لدعم الشعب العراقي و هو يحارب معركة التحرير القادمة مع نظام صدام. و هكذا يكون المؤتمر الوطني العراقي قد تلافى السقوط في نفس الخطأ الذي سقط فيه المجلس الإسلامي الأعلى. و من السهل تفسير هذه الحالة اذا ما علمنا ان المؤتمر الوطني العراقي لا يعيش داخل الطوق الضيق الذي تضعه إيران حول كل من يتخذ منها قاعدة للعمل المعارض.
و لكن ما يُأخذ على المؤتمر هو تصريحه بعدم معرفته بهذه المجموعة التي قدمها الإعلام الأمريكي على إنها تسمى حركة المعارضة الديمقراطية العراقية. فلا يتناسب قول المؤتمر الوطني العراقي من انه عبارة عن مظلة تنضوي تحتها حركات و تنظيمات معارضة كثيرة و في نفس الوقت يدعي عدم معرفته بوجود هذه الحركة أو المجموعة التي اقل ما توصف أنها ذات تنسيق و فعالية عالية حيث تمكنت من جعل العالم كله متوجهة الى برلين لسماع تفاصيل العملية الناجحة. و لم يفت أحد المعلقين الأمريكان في إحدى القنوات الإخبارية من استخدام هذه النقطة ضد المعارضة العراقية و المؤتمر خصوصا واصفا ايها بأنها تفتقد الى التنسيق و و حدة الصف.
فوائد العملية:
1. قامت بكشف هشاشة نظام صدام و أزلا مه الذين يخرون أمام أول ضربة توجه إليهم.
2. أظهرت هذه العملية نجاحا محدودا في كشف حقيقة وجود الصراع بين الشعب العراقي و نظام صدام المجرم، مصححة للعالم الوهم الذي تولد لديهم أثر استغلال نظام صدام و بعض المطبلين له للتهديدات الأمريكية له بإزالة نظامه مصورا للعالم ان الصراع هو بين أمريكا و العراق، في حين ان الصراع الرئيسي هو بين شعب العراق و نظام صدام. و هكذا فان هذه العلمية نجحت بتصحيح هذا المسار مؤقتا.
3. سهولة إنجاز العملية عزز من عزيمة و ثقة شعب العراق بنفسه في مقارعة نظام صدام.
4. إهانة نظام صدام و كشف كذبه من أن لا وجود للمعارضة أبدا.
5. إحراج بعض الأصوات العربية التي تدعي ان الشعب العراقي لا يعارض نظام صدام.
سوف يكون إسقاط نظام صدام حسين اسهل من الاستيلاء على سفارته في برلين متى ما عمل المؤتمر و ربما المجلس الإسلامي الأعلى أيضا على توسيع مظلاتهم لتشمل فصائل و حركات و مستقلين لا يقلون توقا للإطاحة بنظام صدام من الذين اقتحموا السفارة و مرغوا وجه نظام صدام في الوحل.
عادل عوض
أميركا
August 21, 2002