كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1014 - 2004 / 11 / 11 - 08:43
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
في جو من الكآبة الشديدة والحزن العميق يتابع الإنسان منذ أشهر أخبار التمرد والقتل وممارسة الإرهاب في الفلوجة والرمادي وبعقوبة وسامراء ومنطقة اللطيفية وما ينفذ من تفجيرات واغتيالات لكبار موظفي الدولة في الموصل وفي مجلس الوزراء في بغداد والقتل الجماعي اليومي الذي يحصد المزيد من البشر في بغداد وكركوك أو غيرها من المدن حيث تصل إليها يد الأشرار. وكان الإنسان يتابع بحزن وقلق كبيرين المفاوضات التي كانت تجري بين الوفد الحكومي وبين الوفد الذي كان يمثل الإرهابيين وأعضاء قياديين في أجهزة الأمن وفدائيي صدام حسين والحرس الجمهوري وبعض العسكريين وكذلك البعض من أعضاء هيئة علماء المسلمين إذا كان يدرك بأن الوفد, وبناء على تعليمات وهيمنة الإرهابيين يحاول كسب الوقت وتمديد المفاوضات لتأمين إقامة دفاعات وتجهيز الإرهابيين بالأسلحة والعتاد الكافي وتأمين العدد الكبير من المسلحين الإرهابيين العراقيين والقادمين من وراء الحدود وإعادة توزيعهم. وجرى تحذير الحكومة المؤقتة من مغبة التأخر في اتخاذ الإجراءات الضرورية لا في الفلوجة فحسب, بل وفي بغداد العاصمة التي اشتدت فيها العمليات الإرهابية واتسعت قاعدتها وجرت إليها المزيد من الضباط والجنود من قوات الجيش السابقة, إذ عندها ستكون المعركة قاسية والضحايا كبيرة والتدمير أوسع, خاصة وأن الغالبية العظمى من أهل مدينة الفلوجة والرمادي قد تحولت إلى رهينة فعلية بأيدي الإرهابيين من مختلف الأصناف. وهكذا وقع المحذور. وبطبيعة الحال لا يمكن رمي مسؤولية تدهور الوضع في العراق على عاتق رئيس الوزراء وحده, بل تتحمله الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص باعتبارها الدولة التي فرضت قرار احتلال العراق على مجلس الأمن الدولي أولاً, ثم على عاتق الصراع داخل الحومة ومع رئاسة الدولة ومع بعض القوى خارج التحالف الحكومي, إذ كان له الدور الملموس في التقاعس والتردد في اتخاذ الإجراءات الضرورية بهذا الصدد. ولم يختلف الأمر في الفلوجة عن الوضع في مدينة الثورة ببغداد, وكذلك في النجف قبل الوصول إلى الاتفاق مع جماعة مقتدى الصدر بمبادرة من السيد السيستاني. وهذا هو الفارق ففي النجف لم يكن هناك من يقف إلى جانب صدام حسين ورهطه, ولم يكن الصدر من أتباع صدام حسين, ولكنه تميز بالعنف والتطرف والنرجسية والرغبة في الصعود على أكتاف الجماهير البائسة ومارس أشرس الأساليب الإرهابية, بما في ذلك محاكم التفتيش السيئة الصيت, ثم أجبر على التراجع, ولا يعني هذا أنه لن يعود إلى ممارسة أسلوب العنف من جديد, إن تسنى له ذلك ووجد الفرصة المناسبة إذ أن الرجل لم يغير أسلوب تفكيره وأطماعه, وبرز هذا الاحتمال حين خرج المتحدث باسم الصدر والموجه الحقيقي لجماعة مقتدى الصدر, علي سميسم, ليصرح حول ما يجري في الفلوجة ويطلب من القوات العراقية عدم التعاون في إيقاف الإرهاب الدموي فيها وفي أنحاء العراق. والخطورة في الأمر تكمن في أن جماعة مقتدى الصدر ما تزال تمتلك من الأسلحة ما يكفي لإعادة الكرة في مدينة الثورة ببغداد أو في غيرها. وأن القوى المتشددة والمحافظة المؤيدة لها من وراء الحدود, في إيران, ما تزال تتحرك بهذا الاتجاه وتدفع به إلى عدم السكوت.
أن المشكلة البارزة في الفلوجة والمناطق المحيطة بها تكمن في أن نسبة مهمة من رجال الدين, وهم الآن أعضاء في هيئة علماء المسلمين السنة, ومجموعة من شيوخ العشائر, وعلى رأسهم حارث الشيخ ضاري, كانوا من أتباع وأعوان صدام حسين ونظامه الدموي ومن المتنفذين والحائزين عل مكاسب كبيرة سقط بعضها بسقوط النظام وفقدوا المراكز التي كانوا يحتلونها والأموال التي كانوا يتسلمونها واعتقدوا بأن جماعة الشيعة ستهيمن على الوضع في العراق وتفقد جماعة السنة موقعها المتقدم في الدولة العراقية.
لقد تداعت كل القوى الوهابية المتطرفة في العالم إلى نصرة الإرهابيين في العراق, فهؤلاء يشكلون الفصيل الأول والمتقدم في الصراع من أجل إقامة النظام الظلامي في بلاد الرافدين, واعتبروهم مجاهدين في سبيل الله, والله برئ منهم كبراءة الذئب من دم يوسف. وتداعت القوى القومية اليمينية والشوفينية المتطرفة التي تجد صداها في بعض العاملين في قناة الجزيرة وفي بعض القوى الناصرية وخاصة في مصر, وكذلك القوى البعثية المرتبطة بالتنظيمات العفلقية-الصدّامية. ولا استغرب من مشاركة جماعة ميليشيا الصدر في ما يجري الآن من تدهور الوضع الأمني في بعض مناطق العراق تحت واجهات أخرى, إذ لديهم من الأسلحة والأموال والذخيرة ما يكفي حقاً لممارسة العصيان والعدوان والإرهاب.
وليس غريباً أن تلتقي كل هذه القوى الظلامية والمستبدة معاً, إذ أنها تدرك بأن المعركة القائمة هي معركة بين الديمقراطية والاستبداد الذي تبغيه وتسعى إليه, ولكن الغريب أن يلتقي هؤلاء جميعاً ببعض قوى اليسار العربية المتطرفة التي تعتقد بان عليها أن تخوض المعركة في العراق ضد الولايات المتحدة الأمريكية وبدأت تتهم كل الذين يعملون في العراق ويحاولون إعادة بناء العراق بعد تدمير النظام لها عبر سياساته وحروبه واستبداده ودمويته بالخيانة, في حين أنهم يعرفون بأن صدام حسين ونظامه هما اللذان جلبا بالمحصلة النهائية قوات الاحتلال إلى العراق.
المعركة الدائرة في العراق ليست بين قوات الاحتلال وقوات التحرير والمقاومة كما تدعيه كل تلك الأبواق الخائبة, بل هي معركة بين الديمقراطية والتقدم والاستقرار والبناء وإجراء الانتخابات في موعدها المقرر من جهة, وبين قوى الظلام والشوفينية والعنصرية والاستبداد من جهة أخرى. هذه هي الحقيقة ومن لا يريد أن يراها فهو كما يبدو لي مصاب بعمي التشخيص السليم لمجرى الأوضاع في العراق أو مثله مثل النعامة التي تدفن رأسها بالرمال عندما ترى عدوها القادم نحوها.
الصراع الجاري في العراق ليس صراعاً بين السكان الشيعة والسنة أو العرب والكرد أو الأحزاب المختلفة التي كانت تناضل ضد صدام حسين ونظامه, بل بين قوى وفلول النظام السابق وبعض أعوانه من القوى القومية العربية المتطرفة وقوى الإسلام السياسي الطائفية المتطرفة والإرهابية, سواء أكانت سنية أم شيعية, رغم أن كلاً منهما يريد شيئاً آخر في المحصلة النهائية من جهة, وبين قوى الشعب العراقي من جهة أخرى. إن المخلصين, من نساء ورجال العراق من العرب والكرد والتركمان والكلدان والآشوريين, من المسلمين السنة والشيعة ومن المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين وغيرهم, يتابعون اليوم بغضب واحتجاج شديدين ما يجري في العراق والدعم الذي تمنحه الكثير من القوى العربية لهذه القوى الشريرة التي تشعل نيران الفتنة وتقتل الناس الأبرياء دون تمييز وتختطف الأجانب والنساء وتنحرهم كالخراف, لأنها تريد دفع البلاد إلى مشارف الحرب الأهلية من خلال الجرائم التي يرتكبها الإرهابيون من مختلف الأصناف باسم العروبة مرة والإسلام مرة أخرى والعداء للإمبريالية مرة ثالثة!
لا شك في أن القتال ما كان يوماً طريقاً لمعالجة المشكلات السياسية. ولكن الإرهابيين لم يتركوا أي مجال للحوار الهادئ والرصين, بل دفعوا بالأمور دفعاً إلى معارك من هذا النوع وكأن في مقدورهم إحراز النصر على الشعب العراقي. وساعدت السياسة الأمريكية السيئة والمتعجرفة والغبية إلى صب الماء في طاحونة الإرهابيين.
وبدأ الحديث في الآونة الأخيرة من قبل بعض الأشخاص من العاملين في مجال حقوق الإنسان على الصعيدين العراقي والعربي عن وجود مقاومة وطنية مشروعة في العراق, وهم يعرفون ويدركون تماماً بأن العمليات الجارية في العراق ليست بأعمال مقاومة شعبية, بل الإرهاب بعينه, ولكنهم, كما يبدوا, كانوا بطريقة ما يشكلون جزءاً من النظام أو أنهم فقدوا مصالحهم بطريقة ما. وعلى هؤلاء أن يدركوا بوضوح بأن من تجاوز على حقوق الإنسان كان النظام العراقي, ومن يتجاوز اليوم أيضاً هي العصابات المنفلتة من عقالها بكل تنوعاتها, وفي مقدمتها فلول النظام وقوى الزرقاوي وما يماثلهما. وأن الاحتلال جلبه صدام حسين وليست قوى المعارضة العراقية, وأن الاحتلال ليس نهاية التاريخ وسنتخلص منه ولن يسمح الشعب باستمراره بأي حال.
إن المعركة الجارية في العراق لا تسمح لأحد بالوقوف على الحياد, فإما أن تكون مع قوى الشعب أو ضدها, وليس هناك من خيار ثالث, إذ أن الحياد يخدم أعداء الشعب من الإرهابيين ولأنه يسرق حلم الناس الطيبين بمستقبل أفضل وإقامة نظامً سياسي أكثر احتراما وممارسة لحقوق الإنسان وأكثر إشباعاً لبطون الناس واستجابة لمصالح الشعب.
إن المعركة قاسية وشرسة وستكون ضحاياها كثيرة ولن تكون قصيرة الأمد, لأن العراق أصبح مركز ثقل هذه المعركة, وعلينا خوضها بكل السبل المشروعة المتوفرة, ولدينا الثقة بقدرة الشعب على إحراز النصر.
لم يكن الخيار العسكري مطروحاً أصلاً لو تخلى هؤلاء الأوباش والقتلة عن أخذ المدن رهائن بأيديهم وتهديد المجتمع وابتزازه وقتل المزيد من الناس. وما يزال الخيار السلمي قائماً لو تخلى هؤلاء عن سلاحهم وغادروا العراق إلى بلدانهم, ولو سلم العراقيون أسلحتهم وعادوا إلى جادة الصواب.
إن النداءات التي بدأت تتقاطر من كل حدب وصوب باسم الإسلام أو العروبة ليست سوى التعبير عن البؤس والتخلف الفكري والوعي الاجتماعي والسياسي الذي تعاني منه تلك الهيئات التي تصدر مثل تلك البيانات, ومنها هيئة فقهاء التطرف في السعودية, وأغلبهم ممن تربى على أيديهم أسامة بن لادن وأتباعه ومن ارتقى الطائرات ليفجرها في أجواء نيويورك وواشنطن ويتسبب في المآسي الراهنة في الكثير من مناطق العالم.
إن النداءات التي أطلقتها هيئة علماء المسلمين السنة في العراق وفقهاء التطرف في السعودية وتصريحات مسؤول ميليشيا الصدر علي سميسم وبعض القوة القومية وغيرهم يمكن أن تدفع بالمغامرين والإرهابيين إلى إشعال فتيل الفتنة في بغداد ومناطق أخرى, أو البدء بتفجيرات إجرامية واغتيالات في كردستان, لهذا يفترض فتح العيون واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع حصول ذلك, كما يمكن أن تبرز محاولات الاستيلاء على مناطق في بغداد أو في غيرها من المدن العراقية. إن المعركة شرسة ولكنها مفروضة على الشعب ولا بد من خوضها سياسياً وعسكرياً.
إن الإرهابيين سيقتلون المزيد من البشر وسيدمرون المزيد من البنية التحتية ومشاريع الاقتصاد العراقي, ولكنهم لن يحصدوا غير العار ولن يحققوا النصر على الشعب العراقي, فالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والخلاص من الاحتلال هي المطالب العادلة للشعب وهو الذي سيحققها وليس قوى الإٌرهاب وسفاكي الدماء!
ولكن لن تتحقق هذه الأهداف النبيلة للشعب العراقي بدون تحقيق وحدة قواه الوطنية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية أو بدون وحدة وتضافر بنات وأبناء القوميات المختلفة أو أتباع الأديان والمذاهب المختلفة في مواجهة العدو المشترك, الإرهاب. إن العراق على أبواب التحول والأعداء يريدون إيقاف عجلة التقدم والتحول صوب الحرية والديمقراطية, صوب الانتخابات القادمة باعتبارها الخطوة الأولى على طريق طويل ولكنه الأكثر ضماناً لعراق ديمقراطي فيدرالي جديد.
برلين في 10/11/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟