Dr/ JAWAD BASHARA
باحث عراقي مقيم في باريس
من البديهي القول إن انتفاضة الأقصى تشغل وسائل الإعلام الإسرائيلية المكتوبة والمسموعة والمرئية وتطغي على كافة الوقائع الإخبارية الإقليمية والعالمية وتحتل مساحات واسعة من اهتمامات المراقبين والمحللين الإسرائيليين الذين لا يكتفون بعرض وقائعها فحسب بل يحاولون تسليط الأضواء على خفاياها وتبعاتها وانعكاساتها وتداعياتها وتأثيراتها على المجتمع الإسرائيلي . وتعمل وسائل الإعلام الإسرائيلية كذلك على توفير نافذة يطل منها المسؤولون والمحللون والمراقبون بكل انتماءاتهم وتبايناتهم لمخاطبة العقل الإسرائيلي وتكييفه ، وصياغة خطاب توجيهي وتحذيري مهما اتسم هذا الخطاب بالتناقضات واختلاف الآراء بغية تشكيل رأي عام إسرائيلي وتعبئته ، يمكنه أن يضغط ويؤثر على الأحداث والأشخاص من جهة ، وتشكيل رأي عام عالمي موالي للطرح الإسرائيلي، حيث تنقل وسائل الإعلام الغربية صدى الحملات النفسية والإعلامية التي تخوضها وسائل الإعلام الإسرائيلية في الداخل، والصهيونية في الخارج .
لقد رسمت وسائل الإعلام الإسرائيلية المنحازة للأطروحة الحكومية الرسمية والموالية لخط شارون ، مجموعة من الخطوط العامة بغية إيصالها إلى الشارع الإسرائيلي وإقناعه بها من بينها إن السلام مع الفلسطينيين بعيد المنال إن لم يكن مستحيلاً وأنه لا بد من الفصل والعزل التام بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي ، على أن يكون هذا الفصل بالطبع لصالح الطرف الثاني وعلى حساب الأول .
فبعد أحد عشر شهراً من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية بات جزء كبير من الإسرائيليين على يقين تام بأن المخرج الوحيد للصراع المسلح والدامي ، والكفيل بتوفير الأمن لهم، هو العزل التام لجميع الفلسطينيين بمن فيهم عرب 84 ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية ويعيشون داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته والممتزجين مع المواطنين اليهود باعتبارهم إسرائيليين أيضاً والمنخرطين داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته ، بعابرة أخرى العمل على تنظيم حملة تطهير عرقي واثني وطائفي عنصرية دون تسميتها باسمها الصريح .
ويطالب دعاة هذا الحل من خلال وسائل الإعلام ذاتها بتنفيذ هذا الحل دون النظر إلى موقف الفلسطينيين ورغبتهم ، ودون اعتبار لموقف الرأي العام العالمي ، ويطالبون بالمباشرة على الفور بوضع الحواجز الفيزيائية التي تربط بإسرائيل بأهم مستعمراتها الموجودة داخل أراضي السلطة الفلسطينية ، وسحب باقي المستعمرين المنتشرين في الضفة الغربية وغزة ووضعهم داخل المستعمرات المحمية بالحديد والنار والمفصولة عن الفلسطينيين بالأسوار العالية والدبابات والقوات الخاصة . وتحديد الخط الأخضر الفاصل بين إسرائيل وأراضي السلطة الفلسطينية . وفي نفس الوقت إخراج كافة الفلسطينيين من إسرائيل وعدم السماح لهم بدخولها والعمل فيها. وقد ظهر بالفعل في أجزاء معينة من مناطق الحدود جدران إسمنتية وأسلاك شائكة بلغ طول بعضها خمسة كيلومترات لحماية المناطق الإسرائيلية الحساسة ، والعمل على خلق الغيتوات ، أو السجن الكبير كما يسميه الفلسطينيون.وتروج وسائل الإعلام الإسرائيلية مقولة أن هذا الحل يحد من خطورة التضخم الديموغرافي ( السكاني ) الفلسطيني الجارف والمهدد لإسرائيل على المدى الطويل .
ومن المواضيع الأخرى التي تروج لها الصحافة الإسرائيلية وباقي وسائل الإعلام وبشكل مستمر هي " أن العرب لايريدون السلام حقاً ويرفضون التطبيع السياسي والاقتصادي . فحتى مصر التي تربطها بإسرائيل معاهدة سلام تعارض عبر مثقفيها وفئات كثيرة من شعبها خاصة المتدينين منهم ، كل عملية تطبيع حقيقية بين إسرائيل والعالم العربي " كما جاء في صحيفة هاآرتس بتاريخ 31/7 . ويواصل دان ألدار في مقالته قائلاً : " إن إيقاف الانتفاضة خطوة ضرورية تسبق الحديث عن مبادرات إقتصادية " ويواصل قوله : " يكغي التمعن في الموقف العربي ضد التطبيع لتفهم عمق القطيعة القائمة بيننا ، والهوة العميقة الفاصلة بين السلام كضرورة سياسية وبين عدم الرغبة العربية في التعاون الاقتصادي مع إسرائيل " ...
شبّه بحزقيل درور في مقاله في صحيفة يديعوت أحرنوت بتاريخ 3/7 :" القضية الفلسطينية بالفيروس القاتل الذي يحتاج لعلاج عنيف ومكثف" . وهو من دعاة الحل الجذري مهما كان مكلفاً ودموياً كالعملية الجراحية الكبرى التي مهما بلغت خطورتها فلا بد منها حيث بقول : " إن ضعف الحكومة الإسرائيلية الحالية تجاه الانتفاضة ليس قضاءاً وقدراً من السماء على إسرائيل ، بل إن الأمر متعلق بنا نحن الإسرائيليين ، ونحن الذين نقرر ما إذا كنّا نريد تحسين قدراتنا في الحكم ورسم المستقبل ، أو نريد البقاء محكومين بنهج إطفاء الحرائق فقط بدون استئصال من يشعلها وبدون منع حرائق في المستقبل من شأنها أن تأتي على كل الدولة . " ويختتم طرحه بالقول : " من الضروري إحداث تغيير في أنماط العمل . وإذا لم نفعل ذلك فربما سنتغلب في نهاية الأمر على الفيروس الأليم ولكن في هذه الثناء سيواصل الورم الخبيث الإنتشار في الجسم على نحو لن نجد له علاجاً فيما بعد وسيفوت الأوان " ...
تكرر وسائل الإعلام الإسرائيلية باستمرار معزوفة باتت كريهة ومملة تتلخص بأن استمرار الانتفاضة سيعرض إسرائيل للخطر وإن القيادة السياسية والعسكرية في البلاد مطالبة بتجنيد كل قواها للقضاء عليها هذا ما كتبه موردخاي تروبر في صحيفة هيتسوفيه في1 /8 وأعاد للأذهان مقولة خطورة الحرب الطويلة الأمر على أمن وحياة إسرائيل واستمرارها على قيد الوجود . وذكّر بفوائد الحروب السريعة والخاطفة التي " فرضها العرب على إسرائيل على حد قوله " منذ العام 48 إلى يومنا هذا . لأنه لا طاقة لإسرائيل بتحمل تبعات وخسائر الحروب الطويلة مقارنة بما تحققه من نتائج وانتصارات في حروبها القصيرة والخاطفة وبلا خسائر كبيرة في الأرواح . يقول في مقاله المذكور : " إن الانتفاضة المستمرة منذ أحد عشر هي حرب حقيقية ، ولكنها حرب من نوع جديد وخاص ، وهي حرب طويلة الأمد ومتواصلة تطورت من رشق الحجارة إلى السلاح الناري والسيارات المفخخة والكاميكاز البشري واستخدام قذائف الهاون والصواريخ . ولو استمرت هذه الحرب فإنها ستزيد لدينا عدد القتلى والجرحى يوماً بعد يوم الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى اليأس والإحباط " ....
اعترفت صحيفة هاآرتس الإسرئيلية في عددها في الأول من آب / أغسطس إن إسرائيل تواصل لعبة الأكاذيب وتصر على تكرار أخطاء الإحتلال . تقول الصحيفة : " إن إعلامنا يصور الفلسطينيين كمجموعة من الإرهابيين يعيشون في جزر معزولة لتبرير عمليات الإغلاق والتطويق والتجويع " . ويكتب عميره هاس في مقال له في عدد هاآرتس المشار إليه قائلاً : " تتردد الآن في إسرائيل نفس العبارات في كافة التجمعات والاجتماعات والسهرات ومفادها إن هذا النوع من العقاب الجماعي الذي يشمل النساء والأطفال والرضّع والشيوخ لايفعل أكثر من زيادة دعم العمليات الانتحارية والإنتقامية التي توجع الإسرائيليين أكثر فأكثر . فمقابل كل كاميكاز إنتحاري بشري تغلق طريقه الحواجز العسكرية يظهر على الفور عشرة إنتحاريين أكثر جرأة وإقداماً وصلابة وإصراراً وعزماً ، يطورون وسائلهم النضالية والعسكرية ، ويظهر خلفه مئات آخرون يبررون ويؤيدون العمليات الانتحارية التي تهدف إلى إصابة السكان بالهلع داخل إسرائيل . ومع ذلك تشدد وسائل الإعلام الإسرائيلية على ضرورة تكثيف العنف وأعمال القوة لتحجيم الانتفاضة ". وقد أشار الصحافي الإسرائيلي زئيف شيف في صحيفة هاآرتس في الأول من آب / أغسطس إلى أن الخسائر وصلت إلى حد مؤلم لا يطاق لدى الجانبين وتجاوز معدل العشرة اشخاص يومياً من الجانب الفلسطيني يقتلون كل يوم بنيران الجيش الإسرائيلي " ...
وأعترف حيمي شليف أيضاً في صحيفة معاريف في نفس اليوم بأن : " سياسة التصفيات الجسدية للشخصيات القيادية الفلسطينية تحرض الشارع الفلسطيني وتفرض التصعيد على عرفات ، وإن إتساع دائرة الدم الإسرائيلية ـ الفلسطينية تستدعي المزيد من الضحايا والتدهور إلى درجة الانفجار الذي لا مناص منه " ...
وتبرر الصحيفة في مقال آخر عمليات القتل والتصفيات باعتبارها شرعية وفق قاعدة " من يرد قتلك اقتله " . وحسب تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تناقلتها وسائل الإعلام الإسرائيلية بصورة مكثفة، فإن القياديين الفلسطينيين الذين قتلوا غيلة هم مسؤولين عن مقتل عشرات الإسرائيليين ، ويخططون لعمليات أخرى ، لذا فليس هناك أكثر شرعية من قتلهم وتصفيتهم جسدياً لأن ذلك عمل محق وحكيم ويعتبر بمثابة تنفيذ حكومة الإعدام بحقهم ويحبط عمليات إرهابية مستقبلية كانوا يخططون للقيام بها " ..
وتعتقد إسرائيل استناداً إلى صحيفة هاآرتس إن عرفات لن يبكي على قتل عشرات الفلسطينيين وإن كانوا أطفالاً أو شيوخاً لأنه يرى في ذلك ثمن ونتيجة لجهوده المبذولة من أجل توريط إسرائيل إلى درجة التدويل ، ووضعها في موضع المتهم والمعتدي والمنتهك لحقوق الإنسان " ...
وهناك من بين الإسرائيليين من يعتقد أن سلامة دولة إسرائيل لايمكن ضمانه إلاّ داخل حدود متفق عليها ومعترف بها ومن هؤلاء جدعون سامت الذي كتب في هاآرتس : " على الرأي العام الإسرائيلي أن يتفهم السياق التاريخي للأحداث . وإذا لم يفعل ذلك فإنه سيحكم على إسرائيل بأسوء المصائر ، وعلى المستوطنين المتزمتين أن يدركوا عدم جدوى الصمود ضد الساعين إلى خرابنا فلا فائدة من التشبث بالأوهام . فلا يوجد وهم أكبر من توقع وقف النار من الجانب الفلسطيني . فلا توجد قوة يمكن أن تصمد أمام الحماسة الوطنية " ..
تتجرأ الصحافة الإسرائيلية المناوئة لخط الليكود بين الفينة والأخرى على طرح مقالات نقدية تلقي اللوم على حكومة شارون وسابقه بل وعلى حكومة الوحدة الوطنية في ما آلت إليه الأمور بشأن الانتفاضة الفلسطينية . فهناك من يتهم حكومة شارون بالليونة والتساهل وعدم الحزم أو بالعكس يلومها على تشدها وقسوتها والإفراط باستخدام القوة والعنف والقسوة .
اليساري يوسي ساريد كتب في 12/8 مقالاً في صحيفة يديعوت آحرنوت حمّل فيه آرييل شارون المسؤولية الكاملة لاندلاع الانتفاضة وتدهور الأوضاع الأمنية في البلاد وذلك بسبب تلبيته لغريزة الاحتلال لديه ، فأشعل الفتيل بزيارته للحرم الشريف وأوقد النار مرة أخرى عندما أصبح رئيساً للحكومة وإحتلاله لبيت الشرق واغتياله للشخصيات القيادية الفلسطينية وقال في مقاله : " إن السيطرة العسكرية على بيت ما ، أو على قيادة ما ، أو على موقع مقدس ، أو على منطقة ما ، لايغير من الواقع الديموغرافي أو السياسي السائد " .و أضاف قائلاً : " في القدس الشرقية يعيش أكثر من 200 ألف فلسطيني ، ومن الصعب التفكير بإمكانية الفصل بينهم وبين أكثر من مليون فلسطيني من أخوتهم الذين يعيشون في الضفة الغربية " وواصل يوسي ساريد قوله : " من المكن إحتلال بيت الشرق وغلق أبوابه ورفع العلم الإسرائيلي فوقه لإهانة الفلسطينيين ولكن ذلك لايمكنه إنهاء مشكلة القدس التي ستبقى مشكلة مفتوحة كالجرح ، وهذا الجرح سيواصل النزف ". ويعقب على هذا التشخيص قائلاً : " مالعمل ما دام هناك لدى آريل شارون غريزة الاحتلال المريضة التي لا يمكن كبح جماحها ، ولديه ميل خاص لخطوات مثيرة للتحريض والاستفزاز وبصورة تظاهرية ، وبشكل خاص في القدس التي هي كلها مدينة فخار كبيرة ومقدسة ، مدينة حساسة وهشة . فمثلما استفز مشاعر الفلسطينيين قبل أحد عشر شهراً بزيارته للحرم وأشعل فتيل الانتفاضة ها هو اليوم يحتل بيت الشرق ويشعل النار من جديد التي لن يتمكن من إخمادها بعد ذلك " ...
وهذا الصحافي من النوادر الذين يؤمنون بالحوار كسبيل وحيد لتحقيق السلام ويجسد موقفه في رأيه الذي نشرته صحيفة يديعوت احرنوت حين قال : " إذا لم تتخذ قرارات مسؤولة فإن عرفات وشارون يقعان في أسر المتطرفين من الجانبين واسر الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني المحقونين بالحقد وروح الانتقام وسنبقى نَقْتُل ونُقْتَل ، نستبق الضربة بضربة ، ولن نستطيع الاستباق دائماً ،وبعد ذلك سيكون الوقت متأخراً . فقط الحوار هو الذي لا يكون متأخراً.
في نفس هذا السياق الإنتقادي كتب يوري أفنيري في صحيفة معاريف في 7/8 يقول : " الثنائي بيريس وشارون يتقاسمان الأدوار في مسرحية الحرب : أحدهما يلعب دور الأزعر والآخر يقوم بالدفاع عنه " ثم يواصل أفنيري باسلوب تهكمي هجومه : " إن توزيع الأدوار معروف سلفاً . شارون يهدد العالم فقط لو يتركوه يتصرف ، سيحتل الضفة الغربية وغزة ويقتل عرفات وقيادته ويشرد الجماهير الفلسطينية إلى ما وراء الأردن وربما يجتاح وهو في طريقه لبنان وسورية . وهو لا يأبه ولا يدرك أن هزة أرضية ستضرب المنطقة كلها ، والأنظمة في مصر والأردن ستتقوض وكذلك الإمارات والسعودية ستنهار والنفط سيشتعل ، واقتصاد العالم سيتهاوى . ولكن ذلك لن يحدث ، لماذا ؟ لأن بيريس الشرطي الطيب يمسك بهذا الأزعر المعربد ، ويطوف بعواصم العالم ورؤساء الحكومات ويقول لهم : ساعدوني في كبح جماح هذا الرجل المخيف ، وأنا لن أنجح في مهمتي إذا لم تسمحوا له بتوسيع المستوطنات وانتهاك الاتفاقيات القائمة والموقعة ، وأن لا تفرضوا عليه مفاوضات سلمية ، صحيح إن هذا ليس بالأمر الجيد ولكنه ضروري لمنع وقوع الكارثة " ... "فهم يخافون من شارون وجنونه ولكن طالما يقف إلى جانبه بيريس الطيب فكل شيء على ما يرام " ...
والواقع يختلف تماماً وكل ذلك ليس سوى تمثيل . فلا يوجد لدى بيريس أية إمكانية أو سلطة أو قدرة على منع عربدة شارون وهذا الأخير قادر بحركة يد أو جرة قلم على إنهاء بيريس وأن يضع حداً له ولموقعه في كل لحظة وإلى الأبد . الذي يمنع شارون من العربدة فقط هو موقف الولايات المتحدة الأميركية فهي تضع خطوطاً حمر إذا تعلق الأمر بمصالحها القومية الحيوية .
إن رؤساء الشركات النفطية الأميركية العملاقة هي الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية وهي تكتفي اليوم بالصمت أو بالشجب أو الاستنكار اللفظي عندما يصفي آرييل شارون زعماء فلسطينيين جسدياً وهذا الجنرال العجوز يعرف جيداً أين يوجد الخط الأحمر وهو ينتظر بصبر ذلك اليوم الذي قد يفلح فيه في إقناع الأميركيين بإطلاق العنان له وتحرير يديه لتنفيذ مغامرته الكبرى ...
فشارون مازال يتحدث بلغة السيف والبتر والاستئصال ويعمل على زرع اليأس في نفوس مواطنيه من أية بصيص أمل للخروج من المأزق الذي وضعهم فيه ويدفعهم للتصلب وللمزيد من المقاومة والعناد حتى لو أدى ذلك إلى إنتحار إسرائيل " هذا ما يحاول أفنيري إيصاله إلى أذهان الإسرائيليين.
ففي مقابلة أجرتها صحيفة هاآرتس مع آرييل شارون أعرب هذا الأخير عن رأيه بوضوح في طبيعة الموقف الحالي في المنطقة وفرص التسوية وشكل الكيان العبري في الفترة القادمة. وأعلن صراحة أن دولته جاهزة تماماً لتوطين مليون يهودي من شتى بقاع الأرض في صحراء النقب التي سيحولها إلى جنة خضراء . وكرر أمنيته في تحويل الأردن إلى دولة فلسطينية وتقديم 9 بالمائة فقط من أراضي الضفة الغربية يمكن إلحاقها بالدولة الفلسطينية المقبلة كما يتصورها داخل الأراضي الأردنية ، وأستبعد إمكانية التوصل إلى تسوية في المستقبل المنظور في ظل حالة الحرب ، وأدعى أنه قادرة على سحق الانتفاضة . كما شدد على استحالة تفريط إسرائيل في الأماكن اليهودية المقدسة كالقدس والحرم الإبراهيمي ..الخ
وعلى سؤال : هل سيعيش الشعب الإسرائيلي على الدوام في حالة حرب ؟ أجاب شارون:
" الشعب الطبيعي لا يسأل هذا السؤال ، وعليه أن يعرف أن له وطناً وله كرامة وطنية وله كامل الحق في أرضه وهو مستعد للدفاع عنها بأي ثمن تماماً كما حدث ذلك على مر سنوات الثورة الصهيونية . وكل ما كنّا نجحنا فيه هو أن نقف هنا شاهرين السيف . لقد بنينا دولة عصرية وحققنا عمران وصناعة متطورة وزراعة فريدة من نوعها وجيش ونظام صحي ونظام تعليمي ، ألم يتم كل ذلك واليد مازالت تمسك بالسيف ؟ حيث السيف هو جزء من الحياة " ...
وقد صرح شارون عبر وسائل إعلامه بعدم إستعداده للانسحاب من مدينة الخليل لأنه يوجد فيها الحرم الإبراهيمي ويقول بهذا الصدد : " هذه جذورنا العميقة فكيف يقترحون علينا التنازل عنها بمثل هذه السهولة ؟ إذن ليس وارداً التخلي عن المستوطنات في الخليل ، ولا يجب تقديم أية تنازلات ، خاصة في القدس . إنها وديعة سلمت إلينا كأمانة يجب أن نحافظ عليها . لذا أكرر للجميع إن إخلاء المستوطنات غير وارد في الحسبان وان الخريطة التي رسمتها منذ سنوات هي التي سيقوم عليها مشروع التسوية وإلاّ فلا حاجة بنا لأية تسوية"..
وتأكيداً لهذا النفس التعنتي كتب مئير شتغليتس في صحيفة يديعون آحرنوت في 8/8 مقالاً يقول فيه : " شارون يسعى لدفع الفلسطينيين للاستسلام ، وبعد ذلك طردهم للأردن . فهو يريد تصفية الهوية القومية والوطنية الفلسطينية وإعادة رسم حدود وطابع الدولة " وأعترف صاحب المقال إن نهج شارون هو نهج الحرب " من اجل أرض إسرائيل الكاملة ". لذلك لايمكن تصديق أية وعود يطلقها شارون . يقول الصحافي في مقاله "المهم ليس ما يقوله هذا الأخير بل ما يفعله. فشارون يتيح إمكانية صياغة عشرات التقارير ، وتشكيل العديد من اللجان ، لكنه سيطلب أن يكون تنفيذ توصياتها ومقرراتها على الأرض حسب تفسيره هو . وعندما يطالب شارون بوقف إطلاق النار فهذا يعني في قاموسه أن يمنع كل الفلسطينيين من حمل أي قطعة سلاح تنشيء ناراً بما في ذلك السجائر . وعندما يطالب بالهدوء التام فذلك بلغته يعني أنه لا يحق للفلسطينيين الاحتجاج حتى ولا في الأحلام ضد تجسيد حلم صهيون الأكبر وخاصة عدم مطالبته بتجميد المستوطنات بل بالعكس السكوت عن تنظيمه الحملات الحكومية الإعلامية الواسعة لتشجيع بناء المستوطنات وتوسيع ما هو موجود منها "..
ويواصل الصحافي في مقاله الآنف الذكر في عرض برنامج شارون تجاه الفلسطينيين وانتفاضتهم المسلحة قائلاً : " يتضح من أعمال شارون أنه ينوي دفع الفلسطينيين إلى مسار نهايته معروفة : في المرحلة الأولى ، إستسلام بلا قيد أو شرط . وفي المرحلة الثانية ، خيار الضفة الأخرى ( الشرقية ) لنهر الأردن " . ويعتقد الصحافي إن هذا النهج هو ذاته برأيه الذي تنتهجه جبهة الرفض العربية ولكن من زاوية معكوسة : " فهذه الجبهة معروفة بصبرها ، وهي مستعدة للوهلة الأولى بالاكتفاء بتجسيد حق الفلسطينيين في العودة ، ومن ثم بعد سنوات سيأمروننا بالتوجه سباحة إلى قبرص " ... ومن هنا يستنتج كاتب المقال : " إن شارون يسعى بصبر وتؤده لتنفيذ خطته الجهنمية للقضاء على السلطة الفلسطينية تدريجياً مرحلة بعد مرحلة ، كل تصفية في وقتها ، وكل قصف في موعده ، وكل اجتياح في زمانه".
إن نهج شارون ليس جديداً وليس فريداً أو خاصاً به . فهو نهج كل زعماء إسرائيل من اليمين واليسار ، من العمال والليكود على حد سواء كما قال آريه آرنون في صحيفة يديعوت آحرنوت في 6/8 . فباراك أزال القناع عن وجهه . فهو يؤيد حكومة حرب لا تريد مفاوضات جدية . وكانت مقترحاته في كامب دافيد في نهاية عهده مقرونة بشروط تعجيزية ومدموغة بشعار " إما كل شيء أو لا شيء " ومربوطة بمطالب لايقبلها الطرف الفلسطيني بكل تأكيد من قبيل ضم نسبة كبيرة من أراضي الضفة الغربية إلى إسرائيل بصورة نهائية ، وإبقاء المستوطنات على حالها في مواقعها داخل الأراضي الفلسطينية لكنها خاضعة للسيادة الإسرائيلية ، وإنشاء أربع مناطق فلسطينية ممزقة ومنفصلة عن بعضها البعض بفواصل إسرائيلية ، وأخيراً تراجع إيهود باراك عن موقفه حيال القدس ، وتحويله الخلاف الوطني إلى خلاف ديني وهذا ما قاد إلى نتيجة مأساوية مفادها ( لا يوجد لنا شريك للتفاوض على السلام إذن ؟ أعدوا العدة لمواجهة مع الشعب الفلسطيني غير المستعد للسلام بشروطنا ) . وهكذا سمح باراك لشارون بزيارة الحرم وتفجير الانتفاضة فلا عجب أن ينتخب الشعب شارون لمواصلة المهمة " ..
باراك يؤيد حكومة شارون خلافاً لوعوده قبل الانتخابات ، وهو يعرف أن هذه حكومة لا تريد العودة إلى مفاوضات جدية ، وهي حكومة لاتقترح على الفلسطينيين حتى في حالة زوال التوتر والعنف وإحراز الهدوء ، أي أمل في حل مضمون ومقبول . وهذا سيقود حتماً نحو الحرب وإذا شنت الحرب بمقاييس شارون فستكون هناك مفاوضات حول تسوية بين دولتين وتلغى القضية الفلسطينية " ..
طالب عكيفا آلدار في هاآرتس في 6/8 رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون أن يتبنى خطة وزير خارجيته شمعون بيريرس لأنها الوحيدة القادرة على إخماد الانتفاضة . فهذه الخطة تقضي بأن يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون على الملأ بأنه إذا نجحت السلطة الفلسطينية في وقف الانتفاضة فإن إسرائيل تتعهد رسمياً أمام المجتمع الدولي بتنفيذ كافة الاتفاقيات والالتزامات التي وقعت عليها ، وتحدد موعد للتسوية النهائية قبل نهاية هذا العام".
ومن المعلوم إن من ضمن مواد تسوية الوضع النهائي إقامة دولة فلسطينية على الفور . لكن شارون لن يقبل ولن ينفذ هذه الخطة لأنه لا يثق بعرفات ولا بالفلسطينيين ولا بالعرب قاطبة.
إن عدم الثقة بعرفات أمر مشترك بين كل الزعماء الإسرائيليين من غولدا مائير إلى شارون مروراً ببيغن وإسحق شامير ونيتانياهو وبيريس وإسحق رابين وإيهود باراك. لقد اتهم هذا الأخير ياسر عرفات بالغش والخداع على صفحات الصحافة الأميركية وقال إنه ليس أهلٌ لكي يكون شريكاً في السلام.
ويعلفق أمنون لورد في صحيفة يديعوت احرنوت على موقف باراك قائلاً : " لقد أخطأ باراك كثيراً في حياته العملية والسياسية والعسكرية لكنه مع ذلك أثبت أنه يعرف كيف يستخلص الدروس والعبر من تجربته وإنه في لحظة الحسم يعرف كيف يرتكن وينسحب إلى الظل ويتحول إلى جندي احتياط وهذا ما يميزه عن باقي زعماء حزب العمل " ..
لا أحد يعرف في إسرائيل إلى أين تتجه الأمور ، وماذا ينوي آرييل شارون فعله بالضبط على ضوء التصعيد الخطير في الآونة الأخيرة والذي تزايدت وتيرته يومياً من خلال مضاعفة العمليات الانتحارية الفلسطينية والعمليات الانتقامية الإسرائيلية واغتيال القيادات الفلسطينية ، وقد إتهم ياعيل باز ميلماد في صحيفة معاريف في 9/8 آرييل شارون بأنه كالنعامة ، يدفن رأسه في الرمال ويكتفي بسياسة التصفيات الجسدية وتراكم الاحباطات، لذلك فهو ليس بالزعيم المناسب في هذه الظروف القاسية .و أضاف يقول : " نحن بحاجة إلى زعيم حقيقي يقدم حلولاً في الأوضاع العصيبة والمستحيلة أو أن يبحث عن هذه الحلول على الأقل كما كان يفعل الزعماء الإسرائيليين السابقين من أمثال بن غوريون ومناحيم بيغن وليفي اشكول " ..
والحقيقة إن التفكير العسكري البحت سيطر وما زال يسيطر على تفكير ووعي القادة الإسرائيليين وعلى الغالبية العظمى من الشعب الإسرائيلي منذ اندلاع الانتفاضة ولا أحد في إسرائيل ، عدا قلة نادرة ، يدرك أنه لايمكن معالجة العنف بعنف مضاد ، ولم يتعلمون من تجارب الماضي على حد قول يزهار بار في صحيفة يديعوت احرنوت في8/9 وقال : " علمنا التاريخ البشري أن إرهاب دول لا يستطيع أن يقضي على إرهاب منظمات وعصابات". وأضاف ناصحاً : " على حكامنا أن يفهموا مغزى حكمة الحكيم الصيني سين تاسو قبل 2500 سنة عندما كان يقول ( تعمق وتأمل في حروب الماضي وتعلم من تاريخها ، كن قوياً وحافظ على هدوئك وتحلى بالصبر ولا تدفع عدوك إلى الزاوية . ساعده دائماً في إنقاذ كرامته . ضع نفسك مكانه وحاول رؤية الأمور من زاويته ) ، لكن شارون لايعرف ذلك ولا يفهمه ، ولا توجد لديه خطة فهو يؤمن أن الصراع القائم لا يحلّ إلاّ بالقوة . ولا يعلم ان نزع الشرعية عن الآخر ( الخصم ) يؤدي لحمام دماء ، وإن اللغة العدائية المتبادلة تكشف عن عمق العداء حسب تعبير ميرون بنفنستي في هاآرتس الذي اضاف : " لا يمكن للفلسطينيين بالطبع أن يوافقوا على الوصف الإسرائيلي والتعريف الإسرائيلي للشرعية وعدم الشرعية في استخدام العنف . ولا يمكنهم أن يوافقوا على أن يدمغ من يتحدى نظام الاحتلال بصفة مجرم جنائي أو قاتل ، ويرون أنفسهم يعيشون حالة حرب مشروعة ضد عدو كل أعماله وأهدافه غير مشروعة من وجهة نظرهم " .
يعتقد شمعون فيفر في مقال له في صحيفة يديعوت احرنوت في 10/8 إن الآراء متباينة بين بيريس وشارون فهذا الأخير يتصرف دائماً كعسكري في ميدان المعركة وليس كسياسي ورئيس حكومة . ففي إحدى محادثاته مع كولن باول وزير الخارجية الأميركي جهد في أن يشرح له رؤيته للنزاع مع الفلسطينيين في الوقت الحاضر وقال له : ( أحدثك كعسكري مثلك خاض عدة معارك ، لذلك أنت تعرف أن هناك لحظات في المعركة يكون فيها الجانبان المتصارعان مرهقين ويائسين وسينتصر في هذه الحالة الطرف الذي يعرف متى يرفع رأسه في اللحظة التي يبدو فيها كل شيء مفقوداً ونحن لدينا القوة للمواصلة ) .. بينما يعتقد بيريس ويعلن رأيه جهاراً : ( نحن نتسبب في بؤس الفلسطينيين وهناك حدود لتصرفنا الطغياني ) . وفيما يتعدى هذا الاختلاف في الرؤى بين بيريس وشارون حول طريقة التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين ، هناك فرق جوهري عميق بينهما في فهم جذور الصراع ومستقبله . فشارون يعتقد إن المسألة المصيرية الآن هي : من الذي سينهار أولاً ، الإسرائيليين أم الفلسطينيين ؟ هل سيكون هو أم عرفات ؟ بينما يعتقد شمعون بيريس إن الأمر لا يتعلق بمبارزة بين حاملي مسدسات في وضح النهار وإنما صراع دموي بين شعبين يقاتلان على نفس الأرض " لذا يعتقد بيريس إن من واجب إسرائيل مغادرة قطاع غزة على الفور والاعتراف بدولة فلسطينية . وقد صرح لبعض المقربين منه بشكل خاص وبصورة غير رسمية : " إن إسرائيل متمسكة بغزة بطريقة جنونية ونحن نتسبب في بؤس مئات الآلاف من الفلسطينيين المسجونين في بيوتهم في ظروف قاسية ولا إنسانية تحت التطويق والإغلاق ومنع التجول وذلك من أجل ضمان أمن ورفاهية بضعة مئات من المستوطنين . هناك حدود لتصرفنا الطغياني الصلف هذا " وقد تسرب هذا التصريح لوسائل الإعلام الإسرائيلية التي نشرته عن لسانه ويضيف شمعون بيريس قائلاً : " علينا أن نقدم للفلسطينيين تسوية يكون في مركزها إقامة دولة فلسطينية على الفور في الضفة الغربية وقطاع غزة الخاضعة حالياً للسلطة الفلسطينية وكذلك على بعض الأراضي الأخرى التي ستعطى لهم في إطار المرحلة الثالث للتسوية التي لم تنفذ بعد . وعلى إسرائيل أن تخلي على الفور أغلب المستوطنات الموجودة في قطاع غزة وتلك المعزولة في الضفة الغربية . وإن على إسرائيل تفعل ذلك حتى ولو من طرف واحد من أجل ضمان بقاء إسرائيل كدولة يهودية " ...
وتحاول بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية اليسارية إقناع الجمهور الإسرائيلي بعدم فائدة ، وبخطورة المستعمرات الموجودة في الأراضي الفلسطينية ونقض الأطروحة الرسمية اليمينية كما كتب رافي مان في صحيفة معاريف في 8/8 قائلاً : " إن المستوطنات هي رمز العجرفة وتعكس الاستخفاف التام بالفلسطينيين فلا يمكن تحديد حدود بسبب تلك المستوطنات ، ولا يمكن تفادي الاحتكاكات العنيفة مع الفلسطينيين بسببها ، وهي رمز للاحتلال وغير مقبولة في أعين الرأي العام الدولي الذي يمكن أن يعزل إسرائيل عقاباً لها على سياستها الاستيطانية الخطيرة ، إلى جانب كونها تشكل عبئاً مالياً ثقيلاً على كاهل الدولة ، وتكلف الكثير من الأموال .. لذلك فإن العودة إلى حدود 67 ضرورية حتى لو كان ثمنها التخلي عن مستوطنات الضفة كما كتب موشي حراني في يديعوت احرنوت في 27/8 محاولاً وضع إيجابيات وسلبيات المستوطنات علي طرفي الميزان وعرضها على الرأي العام الإسرائيلي ليعطي حكمه بشأنها . وهكذا يتضح إن الإعلام الإسرائيلي منقسم إلى مؤيد ومعارض ومادح ومنتقد لسياسة شارون تجاه الانتفاضة والتسوية والسلام مع الفلسطينيين متمتعاً بهامش الحرية الذي يضمنه له الدستور الإسرائيلي .