|
اللاّئكيّة
السموأل راجي
الحوار المتمدن-العدد: 3398 - 2011 / 6 / 16 - 01:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كُنت قد كتبت من قبل حول موضوع اللاّئكيّة وعلمانيّة الدّولة والفرق بين تبنّي هذا الخيار وبين التفرّغ المشبُوه لمُهاجمة الأديان أو تناول الموضوعة في حدّ ذاتها بمعزل عن مُحتواها الطّبقيّ وبُعدها التّاريخيّ وتخصيصها الرّاهن وأنشر هُنا النصّ من جديد. لم تكن الماركسيّة تحتاج لفلسفة بعينها للإنبثاق كعلم يقوم على المادّيّة الدّيالكتيكيّة والمادّيّة التّاريخيّة ومن ثمّ لم تكن تحتاج لأيّ إستناد لللاّهوت بأيّ شكل من الأشكال ولا تعتقد بوجود قوى ماورائيّة متمكّنة من الإستفراد بقرار التحكّم بالكون بكلّ متغيّراته.كانت الماركسيّة في إعتمادها على المادّيّة ترى وفق تحليل ملموس لواقع ملموس أنّ الدّين كتصوّر للكون مرّ بتطوّر فكري يعكس تطوّرا مادّيّا بل وهو نفسه نتيجة لذلك التطوّر الفكريّ/المادّيّ في آن واحد
جاء تلبية لحاجات بشريّة عقائديّة أو هو ترجمة لعجزعن فهم الظّواهر وإستقرائها وسرعان ما يتحوّل الدّين إلى مكوّن إيديولوجي تتنازعه الطّبقات الإجتماعيّة أي تستعمله طبقة مهيمنة إقتصاديّا وبالتّالي سياسيّا لإستدامة سيطرتها وإعادة إنتاج هذه السّيطرة وتوظّفه كما ينبغي في سبيل تلك الغاية وتعتقد فيه طبقة مهيمن عليها إمّا للإقناع الذّاتي بما هو موجود وترضية ماورائيّة للواقع المحكوم بقانون الإضطهاد الممارس عليها أو تستعمله فئات للإنتفاض ضدّ تلك السّيطرة,بمعنى أوضح هو نتيجة لواقع إجتماعي غير ثابت وفاعل في هذا الواقع وسبب مباشر يعكس أسبابا عميقة لتحوّلات تشهدها مجتمعات ومثال ذلك الحروب الدّينيّة.
برزت الماركسيّة كعلم في عصر الرّأسمال وصراعه مع قوى الإنتاج في مجتمعات تتنوّع العقائد اللاّهوتيّة فيها من ديانات تتدّعي السّماويّة وأخرى مستحدثة وديانات وثنيّة أو تعتقد في قوى الطّبيعة القاسم المشترك بينها الإعتقاد الرّوحاني والإطلاقيّة في الطّرح والمقدّس الكامن في كلّ تفاصيلها وطيّاتها وطقوس التقرّب من الكائن الأسمى متعدّد الأسماء حسب الأديان ,ظهرت إذن في هذه المجتمعات لتقوم بتحليل مادّيّ للتّاريخ وتفضح توظيف الدّين من الطّبقات التي هيمنت تاريخيّا على المجتمعات وأساسا ركّزت على توظيف الدّين من قبل البورجوازيّة-الطّبقة المهيمنة في عصر الرّأسماليّة-لإدامة هيمنتها وإعادة إنتاج سيطرتها وتبريرها في شكل أكثر رداءة ممّا سبقه فتمّت مهاجمة هذه النّظريّة العلميّة الثوريّة من أصحاب المصالح في توظيف الدّين من كرسيّ الفاتيكان هوجمت ومن مكّة ومجاميع أزهريّة ومن محافل ماسونيّة ومن بيع يهوديّة ومن مثقّفين ليبراليّين بعضهم ملحد له مصلحة في وجود الدّين كرافد إيديولوجي لإستدامة سيطرة قوى في المجتمع على قوى إجتماعيّة أخرى.
دعت الماركسيّة عبر هذا الفضح لهكذا علاقة متينة بين سلطة الدّولة الرّأسماليّة وسلطة الدّين وقدّمت بدائل عبر دعوتها لم تكن الأولى في تقديمها لكن الجديد هنا تركيزها على البعد المادّي وتنزيل دعوتها في منزلة سياسيّة وبالتّالي إقتصاديّة / إجتماعيّة فمثّلت تقدّما على فلسفة الأنوار وعلى الأخصّ طروحات روسّو ومونتسكيو التي مثّلت ممهّدات للثّورة البورجوازيّة في القرن الثّامن عشر وتجسّدت هذه الدّعوة كثّفها ماركسيّون في مفهوم واحد:اللاّئكيّة.
انطلقت الحركة الشّيوعيّة في تبني شعار لائكية الدولة وهو في أساسه شعار "بورجوازي" رفعته بورجوازية القرن الثامن عشر الثورية ( ثوريّة لأنّها نقضت فقضت على الإقطاع لتنتكس فيما بعد تمكّنها من السّيطرة على أجهزة الدّولة إلى طبقة رجعيّة ) من حقيقة تاريخية ونظرية جلية، وهي أن ربط الدين بالدولة يؤدي حتما إلى حصول أبشع مظاهر القهر والاضطهاد فلقد كان الدّين كسلطة محايثة لعصر الفيوداليّة وما قبلها سدّا منيعا أمام كلّ تطوّر للعلوم وحضرت تهم الزّندقة والهرطقة ومحاكم التّفتيش والتّكفير كآليّة فعّالة في صدّ التطوّر تضاف لها صكوك الحرمان وأحكام الردّة وكانت الدّولة في عهدتها أو بالأحرى تبحث عن شرعيّة مقدّسة لها في باطن الدّين ومراكزه فآلت الدّولة إلى إطار قهر فكريّ وسياسيّ يبرّره الدّين وينكّل بكلّ من يعارض الإطار السّياسي الذي يكفل وجوده أي الدّولة ولم يتسنّى للبشريّة تحقيق قفزتها إلاّ عبر النّضال ضدّ الإستبداد الدّيني وبالتّالي السّياسي والإقتصاديّ/الإجتماعيّ والعمل على الإطاحة به تحقيقا لمطلب الحرّيّة ولم يطرح هذا المطلب على جدول أعمال النّخب العربيّة لعجز هذه النّخب عن فهم العلاقة بين فصل الدّين عن الدّولة وسطوة هذه المؤسّسة الدّينيّة في المجتمع وعدم جاهزيّة المجتمع المحكوم بقوانين ما قبل رأسماليّة في شتّى مظاهر حياته فبقيت المجتمعات خارج تطوّر التّاريخ فلم تنجز ثوراتها الدّيمقراطيّة البورجوازيّة وجاء الإستعمار المباشر فدعّم المؤسّسة الدّينيّة وهادن رجالاتها وسعى لتوظيفه لفرض سيطرة مطلقة له في هذه المجتمعات وحتّى في أقطار لم يدخلها بصفة مباشرة وواضحة سعت الإمبرياليّة وخاصّة البريطانيّة لدعم عشائر معيّنة لإقامة دول كاملة في مناطق معيّنة لتحقيق مخطّطاتها الإستعماريّة وتسهيل حركة نهبها بدون مجهود عسكريّ .
بدون إطالة سرد وقائع تاريخيّة نقول أنّ حركة التحرّر في الأقطار العربيّة نجحت بدرجات أن تزيح الوجود الإستعماري في ظلّ وجود قوانين وموازين قوى دوليّة جديدة نتجت عن ظرفيّة ما بعد الحرب العالميّة الثّانية وبروز قطب أمميّ يساند هذه الحركات من منطلقات مبدئيّة ويفضح الإمبرياليّة ويعرّيها أمام التّاريخ وبرزت" الدّول الوطنيّة "لما بعد حقبة الإستعمار المباشر في هذه المنطقة من العالم وعوضا أن تقيم حكومات ديمقراطيّة قطعت أشواطا في الإستبداد متقدّمة مستعينة بولائها الخارجيّ وبولاء وتبرير من مراكز الدّين الذي بارك النّازيّة والفاشيّة الإيطاليّة قبلا عبر زخّات المياه المباركة على رأسي هتلر وموسيليني فكان لزاما على القوى المعارضة لهكذا إستبداد طرح مطلب الدّيمقراطيّة على جدول أعمالها وإحلاله المرتبة الأولى وإنسياقها في نقاش العلمانيّة ولائكيّة الدّولة.
و"إذا كانت اللائكية لا تساوي حتما الديمقراطية، فإن الديمقراطية لا يمكنها أن تتوفر في مجتمع معيّن بدون اللائكية" هكذا كتب مُعظم الماركسيّين اللّينينيّين. فلا يمكن الحديث عن مجتمع ديمقراطي لا تتوفر فيه حرية المعتقد ومساواة جميع الأفراد أمام القانون مهما كانت معتقداتهم ومذاهبهم. كما لا يمكن الحديث عن مجتمع ديمقراطي لا يسوس الناس فيه أمورهم بأنفسهم ,برزت هكذا طروحات واضحة ومباشرة كردّ فعل على حماية الدّيكتاتوريّات للدّين وإحتمائها به وإحتماء الدّين بها وإنقلاب شقوق من ممثّليه على الدّيكتاتوريّات نفسها الحامية السّابقة له مطالبة بحصّتها من كعكة الدّولة أو مطالبا بالدّولة بأسرها.
إحدى فضائح الرّأسماليّة اليوم هو حمايتها للدّين وإسنادها لقوى سياسيّة تدّعي تمثيله مقابل عدائها لقوى أخرى وهي نفسها تحتمي اليوم به لتقوم بإنتكاستها المهزليّة لتبرير أفعالها وهذا إمام الدّيكتاتوريّات العربيّة جورج بوش يحدّثه إلاهه آمرا له بالتوجّه لحماية المسيحيّة وذراعه في الشّرق الأوسط يقيم دولته التي وعدته بها قوى الإمبرياليّة في مفتتح القرن العشرين على أسس اليهوديّة ويبارك إسلام أردوغان ويتحالف مع السّعوديّة ويتناقش سرّا أحيانا وعلنا أحيانا مع الإخوان وإشتقاقاتهم ويدعو لإدماج قطعان من طالبان في مشروع "الدّولة"التي أقامها في أفغانستان ويفيض كأس القوى الدّيمقراطيّة :لذا فإن الجدال الجاري اليوم بين أنصار اللائكية وأعدائها هو جدال له أبعاد سياسية هامة. إنه يفصل في النهاية بين أنصار الديمقراطية والتقدم وأعدائهما وعمليّة فضح هذا الزّواج بين قوى الردّة المسنودة من دوائر الرّأسمال بشكل مباشر عبر تعلّة وسطيّة هذه القوى أو تلك الأكثر دمويّة والتي كانت قد تربّت في أحضان الإستخبارات الأمريكيّة ومشتقّاتها,أقول عمليّة الفضح تقدّم نفسها كضرورة ملحّة ولا تمثّل ترّهات البعض ممّن يدّعي اللّيبراليّة المنتكسة بطرح النّيوليبراليّة بمهاجمة أديان بعينها إلاّ جزءا من تواطؤ مع مشاريع ومخطّطات الدّوائر الكبرى وتغاضيا قصديّا عن رجعيّة تلك الدّوائر نفسها السّاعية لإعادة إنتاج أو إستدامة سيطرتها المباشرة وغير المباشرة عبر مهادنة قوًى للردّة وإسناد للدّيكتاتوريّات المبعثرة بل ودعم مسبوق للقوى التّكفيريّة المسلّحة بالتدريب والمال والسلاح والإعلام.
والمهامّ الدّيمقراطيّة للماركسيّة تقضي بالدّفاع عن حريّة المعتقد واللّباس والمطالبة بعدم دسّ البوليس أنفه في هذه الحريّة مع إقامة الفارق الطّبقي الحاسم بين دعوات مشبوهة, لمهرّجي الليبراليّة السّاقطة تاريخيّا في مراكزها التّقليديّة, للعلمانيّة/ وبين طرح علميّ قائم على تحليل ملموس لواقع ملموس يبيّن جوهر اللاّئكيّة ومفهومها ويعمل على تعرية تعامل الدّيمقراطيّات البورجوازيّة وتوابعها الدّيكتاتوريّة في المنطقة مع الإستغلال الدّيني وتشابهه مع شتّى أنماط وأشكال الإستغلال الأخرى وبلغة أخرى:إن اللائكية، وليكن ذلك واضحا للجميع، لا تعني الإلحاد، بل فقط تحويل الدولة إلى مؤسسة مدنية تضمن مساواة أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات مهما كان جنسهم أو معتقدهم أو مذهبهم. فيمارس المواطن معتقده بكل حرية ودون أن تتدخل الإدارة لتفرض عليه هذا المعتقد أو ذاك أو لتميّز بين هذا المواطن أو ذاك بسب معتقده أو لتمنع الناس من التفكير الحرّ بدعوى أن ذلك مناف لتعاليم الدين، الخ. بعبارة أوضح يعتبر المعتقد في ظل الدولة اللائكية مسألة شخصية يحسمها الفرد بينه وبين نفسه وهي الوحيدة الضّامنة بتعرية المشاريع الفاشيّة لقوى الردّة وكشفها ودحرها وبوّابة للدّيمقراطيّة إن لم تكن أساسا لها .
#السموأل_راجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قمّة المافيات الثّمانية ومُشتقّاتهم
-
ليُحاكَم بشّار!
-
الحزب الشّيُوعيّ الماركسيّ اللّينينيّ بالإكوادور
-
المُنظّمة الماركسيّة اللّينينيّة:ثورة النّرويج
-
حزب العُمّال الشّيُوعيّ الدّانماركيّ
-
الحزب الشّيُوعيّ المكسيكيّ-الماركسيّ اللّينينيّ
-
قوائم الشّهداء والمُعتقلين في سُوريا
-
حزب العُمّال الشّيُوعيّ الفرنسيّ:PCOF
-
الحزب الشّيُوعيّ بالشّيلي-العمل البروليتاريّ AP
-
الحزب الشّيُوعيّ الثّوريّ البرازيلي
-
عيدُ العُمّال:من أجل القطع مع اللّيبراليّة
-
بشّار ضمانة الكيان الصّهيُونيّ
-
نشيد الأمميّة عنوان تحرّكات 1 آيار
-
بيان الأوّل من مايو:الأمميّة الشّيُوعيّة
-
إجرام لا ينقطع من بَشّار وشبِّيحَتُه
-
موقف الأمميّة الشُّيُوعيّة من التدخّل العسكريّ في ليبيا
-
تقديم -وحدة وصراع-:اللّسان المركزيّ للأمميّة الشّيُوعيّة
-
حول النّدوة الأمميّة للأحزاب والمُنظّمات الماركسيّة اللينيني
...
-
بَرَاثِن الثّوْرَة المُضَادّة
-
وفاءًا لَكُم رِِفَاقًا فارقتُمُونَا
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|