|
في فلسفة -الراتب-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3397 - 2011 / 6 / 15 - 15:47
المحور:
الادارة و الاقتصاد
في فلسفة "الراتب"، دَعُونا، أوَّلاً، نميِّز "الأجْر" من "الراتب"، في نظامنا الاقتصادي (الاجتماعي) الذي هو "الرأسمالية" وقد مُسِخَت مَسْخاً يُعْجِز ساحرات الإغريق عن الإتيان بمثله.
"الأجْر" إنَّما هو مبلغ من المال، يتقاضاه العامل، شهرياً، من رب العمل، ثَمَناً لـ "قوَّة عمله"، التي باستهلاك رب العمل لها (في أثناء إنتاج السِّلع) تُنْتَج "القيمة الجديدة" في المجتمع، فيَذْهَب أحد قسميها إلى مُنْتِجها (الوحيد) وهو العامل على هيئة "أجْر"، ويَذْهَب الآخر إلى رب العمل على هيئة "ربح".
و"القيمة الجديدة (وهي ثروة مادية جديدة على هيئة سِلَع وبضائع)" هي "الصَّحْن" الذي منه يَغْرِف كل أفراد المجتمع (وليس العامل ورب العمل فحسب).
العامل، وبصفة كونه مُحْتَكِر إنتاج "القيمة الجديدة"، يعيل نفسه، ويعيل سائر أفراد المجتمع، في الوقت نفسه. والعامل يُعْطي رب العمل قبل أنْ يأخذ منه؛ فـ "الأجر" الذي يتقاضاه العامل، شهرياً، من رب العمل إنَّما هو "دَيْن"، العامل فيه هو "الدائن"، ورب العمل هو "المدين".
إنَّ "القيمة الجديدة"، التي يعود إلى العامل، وإليه فحسب، الفضل في إنتاجها، يُعاد توزيعها، على نطاق المجتمع، فينال "الموظَّفون" حُصَّة منها على هيئة "رواتب"؛ و"الراتب" يختلف عن "الأجْر" لجهة كونه مبلغاً من المال يتقاضاه الموظَّف، شهرياً، ثمناً لخدمةٍ ما يُقدِّمها.
من "القيمة الجديدة"، يأتي "أجْر" مُنْتِجها، وهو العامل، ويأتي "الربح الصناعي" لرب العمل؛ ثمَّ يأتي "الراتب"، و"الربح التجاري"، و"الفائدة المصرفية"، و"الإيجار (إيجار العقار)"، و"الضريبة".
ولـ "الراتب"، في مؤسَّسات القطاعين العام والخاص، نظامه، ومنطقه، ومعاييره؛ ولقد شمل الفساد الراتب حتى أصبح نظام الراتب جزءاً من نظام الفساد العام.
وأوجه هذا الفساد (الذي اعترى نظام الرواتب في مجتمعنا) كثيرةٌ جدَّاً، نرى منها اتِّساع ظاهرة "وظائف بلا أعمال"؛ فإنَّ اعتبارات "غير مهنية"، تَكْثُر وتتكاثر في مجتمعنا الشرقي، بمكوِّناته الاجتماعية والثقافية دون الرأسمالية، هي التي تَكْمُن في كثيرٍ من قرارات التوظيف والتشغيل، فإمَّا أنْ يُسْتَحْدَث لهذا الموظَّف (الذي توظَّف من طريق "الواسِطة"، أو من طريق تماثُل الموظِّف والموظَّف في انتماء ما من الانتماءات التي تَعْكِس بوجودها وقوَّتها ضَعْف المواطَنة) وظيفة لا يستلزمها، ولا يحتاج إليها، عمل المؤسَّسة، وإمَّا أنْ يُناط به عمل، تحتاج إليه المؤسَّسة، موضوعياً؛ لكنَّ العمل نفسه لا يحتاج إلى هذا الموظَّف الجديد، لِقِلَّة أو انعدام كفاءته وأهليته.
هذا الصَّنْف من "الموظَّفين"، بعضه يؤدِّي عملاً غير ضروري، ولا تحتاج إليه المؤسَّسة، موضوعياً، وبعضه لا يَصْلُح لتأدية عمله الذي هو ضروري، متقاضياً، مع ذلك، راتباً قد يكون من العُلُوِّ بمكان، فيترتَّب على استشراء هذه الظاهرة، ظاهرة "وظائف بلا أعمال"، تنامي جيش العاطلين عن العمل في المجتمع، وغالبية أفراد هذا الجيش هم من ذوي الكفاءات.
إنَّهم جيوش ثلاثة، الأوَّل هو جيش "وظائف بلا أعمال"، والثاني هو "جيش العاطلين عن العمل"؛ أمَّا الثالث فهو "الجيش النظامي" من الموظَّفين والذي تتأثَّر رواتبه سلباً بتنامي الجيش الثاني. ومن أوجه الفساد نفسه، اضمحلال المعايير والقيم الإنسانية والحضارية في الراتب حتى أصبحت "أنْسَنة" الراتب، ورَفْع منسوب "الآدمية" فيه، المطلب الأوَّل والأهم من مطالب الإصلاح الإداري الذي في الأساس منه يَكْمُن إصلاح نظام الرواتب في مجتمعنا.
ولقد فَسَد نظام الرواتب حتى أصبح الراتب على وجه العموم (أي باستثناء الرواتب التي يتقاضاها أعضاء الأرستقراطية الإدارية في مؤسَّسات القطاعين العام والخاص) أبعد ما يكون عن "الراتب"، أو "المعاش"، وأقرب ما يكون إلى معونة مالية ضدَّ التسوُّل (الاستعطاء والشِّحاذة) فتكفي متلقِّيها (غالبية الموظَّفين) شرَّ مدَّ يده إلى "المُحْسنين"، وإلى ما يشبه "الممات" بمعانيه الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية.
إنَّ "فلاسفة" نظام الرواتب عندنا يضربون صفحاً عن حقيقة أنَّ الراتب، لجهة قدرته على تلبية حاجات الإنسان في هذا العصر الذي نعيش، هو "الدِّرع" التي تحمي صاحبها إنسانياً وأخلاقياً، أو "الشوك" الذي يحرس الوردة بأوراقها الرقيقة، فإذا أُفْقِر الإنسان مادياً (أي اقتصادياً) فلن يظل صامداً زمناً طويلاً في مواجهة خطر إفقاره روحياً وأخلاقياً. هؤلاء ("الفلاسفة") إنَّما يمثِّلون مصالح أولئك المُغْتَنين من الإفقار المادي للموظَّف (عبر نظام الرواتب الذي يتوفَّرون على حفظه وصونه) والذين لا يميَّزون خدمة الموظَّف للمؤسَّسة من جَعْل الموظَّف نفسه خادماً لصاحبها، وكأنَّ غايتهم أنْ يُثْبِتوا بالأفعال أنَّ الموظَّف هو الإنسان بصفة كونه البضاعة الأرخص في المجتمع.
رواتب الموظَّفين، في معظمها، هي دون "الحقِّ المهني" لصاحبها الذي يعطي (بما يتمتَّع به من خبرة وكفاءة مهنية) أكثر، وأكثر كثيراً، مِمَّا يأخذ من صاحب المؤسَّسة على شكل راتب؛ ودون "الحق الإنساني"، فراتبه لا يكفيه، أو يكفيه فحسب، لاستئجار شقة، فكيف له أنْ يتزوَّج (في مجتمع مُثْقَل بالأعباء المالية لتقاليد وعادات الزواج) وأنْ يؤسِّس أُسرة؟!
وكيف له أنْ يشعر بالانتماء، وأنْ ينمو فيه الانتماء، فكراً وشعوراً وممارَسةً، وهو يرى "الشيخ" يُنْفِق من المال لإطعام "كلبه"، والعناية به، أكثر ممَّا يتقاضاه معظم الموظَّفين من رواتب.
يقولون إنَّ على المواطِن أنْ يسأل نفسه ماذا قدَّم هو للدولة قبل أنْ يسأل ماذا قدَّمت الدولة له. هذا قول لا يقره منطق المواطَنة؛ فالدولة تعطي وتعطي المواطِن؛ ثمَّ يحقُّ لها أنْ تسأل المواطن ماذا قدَّم لها، فالأب لا يسأل ابنه ماذا قدَّم له إلاَّ بعد أنْ يعطيه ويعطيه حتى يصبح قادراً على العطاء.
أمَّا أنْ تسهر الدولة على حرمان مواطنها من كل شيء تقريباً؛ ثمَّ تسأله ماذا قدَّم لها فهذا إنَّما هو الوقاحة بعينها.
قِلَّة قليلة من الموظَّفين المُصْطَفين الذين يَنْتَمون، في المنطق المتهافت نفسه، إلى "شعب الله المختار"، هم الذين يَنْعَمون بامتياز "الراتب السماوي"، وبامتياز "الهوَّة السحيقة" بين هذا الراتب وبين متوسط الرواتب في المؤسَّسة، وبامتيازات مادية ومالية أخرى.
و"المهنية"، أو "الكفاءة"، لا تُبرِّر هذا "الراتب السماوي"، فهي معيار من معايير عدة (أهم منه). ونحن لو أمْعَنَّا النظر في المعايير المستثنى منها معيار "المهنية"، أو "الكفاءة"، لَوَجَدْنا الفساد بصوره المختلفة متأصِّلاً فيها؛ وكأنَّ "الرشوة"، وأخواتها وأشباهها، هي الكامنة في حصَّة الأسد من "الراتب السماوي" الذي به يؤلِّفون القلوب.
وإنَّ "البطالة"، التي يَحْرِصون عليها كل الحرص، وينافِقون في إظهارهم الحرص على مكافحتها، هي سلاحهم الأمضى في ترويض وإخضاع صغار الموظَّفين، أي الذين لا يتقاضون من الرواتب إلاَّ ما يقيهم شر التسوُّل، فربُّ العمل، أكان الدولة أم الفرد، يدعو كل موظَّف من هؤلاء الموظَّفين إلى أنْ يَحْمِد ربه على هذا المكروه؛ لأنَّه يظل في عيش أفضل من عيش ذاك العاطل عن العمل؛ وقد يخيِّره قائلاً له إمَّا أنْ تَقْبَل هذا "الممات" المسمَّى "معاشاً"، وإمَّا أنْ تنضم إلى جيش العاطلين عن العمل.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأُمَّة بصفة كونها -مَصْدَر السلطات-!
-
سورية.. حتى لا يتحوَّل -الربيع- إلى -خريف-!
-
-الاقتصاد السياسي- للإعلام!*
-
جبريل يقود -الفرقة الرابعة- في مخيم اليرموك!
-
ما معنى -أيلول- المقبل؟
-
معنى ما حَدَثَ في الجولان!
-
-إصلاح- يسمَّى -إحياء عصر الجواري-!
-
من يونيو 1967 إلى يناير 2011!
-
نظرية -الثقب الأسود-.. كوزمولوجيا يخالطها كثير من الميثولوجي
...
-
رد على الأستاذ نعيم إيليا
-
كيف نفهم -المفاهيم-؟
-
-الربيع العربي- إذا ما ألْهَم شعوب الغرب!
-
الطفل حمزة يجيب عن سؤال -إصلاح أم ثورة؟-
-
سيِّد نتنياهو.. اسْمَعْ ما سأقول!
-
خطاب يشرح خطاب!
-
-الحرِّية- هي مجتمع لا يُنْتِج ظاهرة -مخلوف-!
-
ثلاثة مواقف فلسطينية لا بدَّ منها
-
-المُؤْمِن- و-المُلْحِد-.. و-ثالثهما-!
-
-العفو- شعار الثورة المضادة!
-
الاقتصاد السياسي للرئيس العربي!
المزيد.....
-
الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد
-
صندوق النقد يرحب بالإصلاحات المصرية
-
مدفيديف: الغالبية العظمى من أسلحة العملية العسكرية الخاصة يت
...
-
-كلاشينكوف- تنفذ خطة إنتاج رشاشات -آكا – 12- المطورة لعام 20
...
-
إيلون ماسك يحطم الرقم القياسي السابق لصافي ثروته.. كم بلغت ا
...
-
اتهامات أميركية لمجموعة أداني الهندية بالرشوة تفقدها 27 مليا
...
-
تونس.. توقف بطاقات -UnionPay- الصادرة عن بنك -غازبروم- الروس
...
-
مصر.. بيان رسمي حول أزمة سفينة -التغويز- وتأثيرها محليا
-
القنصل الأميركي لدى أربيل: العلاقات الأميركية العراقية توجه
...
-
قفزة مفاجئة في سعر الذهب الان.. تحديث غير متوقع
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|