|
فلسطين في فكر البعث ونضاله ( بحث قدم لندوة حول مواقف الاحزاب العربية من قضية فلسطينن ( )2003
حسن محمد طوالبة
الحوار المتمدن-العدد: 3396 - 2011 / 6 / 14 - 15:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة: شكلت قضية فلسطين امتحانا عسيرا لكل القوى والاحزاب الوطنية واليسارية والقومية، وقد افرزت تلك القوى، ووضعتها في روابي ومثابات وجبال، وقد تبوأ البعث موقعا فوق الجبال العاليات، لانه ولد عام 1947 مع بداية الازمة التي عرفت فيما بعد بقضية فلسطين. وقد كانت ولادة البعث ولادة خاصة جادة عقب مخاض عسير استمر سنوات عدة، أي منذ عهد البطولة عام 1935 ، حتى انعقاد المؤتمر التاسيسي الاول من نيسان 1947. ولما كان البعث قد وضع اهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية، فانه اعطى رجحانا معنويا للوحدة، وزاد من عنايته بها، عندما ربط النضال من اجلها، بنضال التحرر والاستقلال، وصار الهدفان يشكلان ثنائية مترادفة يكمل احدهما الاخر. فحيثما وجد النضال ضد الاستعمار وكل مايرتبط به أو نتج عنه، فان الامة موجودة وحية، وهذا النضال يوحد القوى المناضلة المجاهدة، وبه تتحقق "وحدة النضال". ومن خلالها يتحقق "نضال الوحدة". وعليه فقد جاء اغتصاب فلسطين من خلال مؤامرة امبريالية صهيونية، إنتفاضا من مفهوم التحرر، ومساسا بكيان الامة الموحدة. ودافعا للبعث لكي يتبنى قيادة المشروع القومي النهوضي العربي، ليواجه المشروع الصهيوني –الامبريالي الذي شرحنا بداياته في فصل سابق. لقد انطلق البعث من ان الاقطار العربية، هي ظاهرة طارئة خلقها الاستعمار الغربي، لتحقيق مصالحه، التي تدوم بدوام التجزئة. وان الوطن العربي وحدة متكاملة، وان فلسطين جزء من هذا الوطن، بل جزء مقدس يهم العرب ( مسلمين ومسيحيين) كما يهم المسلمين في العالم. ولما كانت المؤامرة الاستعمارية هي التي اقتطعت هذا الجزء العزيز من الوطن الكبير، فان مهمة الجهاد لاسترداده هي مهمة الجميع، أي مهمة جميع العرب في كل اجزاء الوطن العربي. وهذا الاسترداد يعني تحرير فلسطين، وانهاء الكيان الصهيوني الذي شكل قاعدة المشروع الاستعماري المعادي في المنطقة.
اولاً: الكفاح المسلح طريق التحرير ويرى البعث بنظرة فاحصة ان تحرير فلسطين بجهد عربي جماعي فيه تخليص الامة من معظم امراضها، كالتجزئة والتخلف والظلم الاجتماعي، والتخلص من النظم الرجعية القديمة والحكومات المتآمرة أو التابعة للاجنبي، كما ان مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني المعادي، يستلزم وحدة الجهد، أي وحدة في القوى البشرية والمادية والمعنوية، وهذا الجهد لايقوى عليه، ولايحققه الا القوى الكادحة الوطنية، الرافضة لكل اشكال الاستعمار. وعندما تقدم الجماهير الكادحة على حمل السلاح من اجل تحرير فلسطين، فانها تملك حريتها، وتعي معنى التحرر الناجز، أي التحرر من الاستعمار، والتحرر من التخلف والجهل والمرض والتبعية، وهذا التحرر ينهي الظلم الواقع على هذه الفئات أو الشرائح الاجتماعية الفقيرة، وبذلك تتحقق العدالة الاجتماعية. ففي معركة التحرير، خلاص للامة من كل الامراض التي فرضها المستعمر عليها منذ بدايات القرن العشرين. وخلاصة القول ان معركة تحرير فلسطين تعني- اضافة لما تقدم- بداية الانبعاث الجديد للامة، أي بداية النهضة والتقدم بخطى واثقة نحو قيام الوطن العربي الديمقراطي الموحدة، المؤهل لحمل رسالة انسانية إلى كل البشرية. ان معركة تحرير فلسطين فرصة تاريخية، لانقاذ فلسطين ومقدساتها وفرصة للامة ان تحقق ذاتها، وتصنع مستقبلها، وتصير قوة فاعلة في صياغة النظام الدولي المتعدد الاقطاب، الذي يؤمن السلام والامن في العالم. مما تقدم لايعني ارجاء تحرير فلسطين حتى تحقق الوحدة العربية ابداً، ولو سلمنا بمثل هذا المفهوم، لكان اقرار منا بوجود الكيان الصهيوني مدة اطول، ولكن البعث يرى ان معركة التحرير تبدأ بخطوة، ومن خلال نواة ثورية تعبر عن حقيقة الامة ووجودها، وتكون طليعتها، وصولا إلى اشراك الامة كلها في معركة التحرير، فالمعركة هي التي تخلق "وحدة النضال" ووحدة المناضلين هي السبيل الصحيحة نحو "نضال الوحدة". ومن هذا الفهم عدّ البعث أن أي نواة ثورية في الوطن العربي، يمكن ان تشكل قاعدة محررة للامة، ينطلق منها المناضلون العرب نحو تحرير فلسطين، وكل خطوة عربية ثورية، انما تشكل دفعا جادا باتجاه التحرير. ان تحرير فلسطين لايكون الا بالجهاد، أي حمل السلاح، والاعتماد على جماهير الامة العربية. وقد جاءت مقالة القائد المؤسس احمد عفلق في عام 1946 بعنوان" لاينتظرون العرب ظهور المعجزة، فلسطين لن تحررها الحكومات وانما النضال الشعبي"، لكي تؤكد المضمون الجهادي الشعبي. وتضع الاساس الثوري لطريق التحرير. وقد ترجم القائد المؤسس المفهوم الجهادي، عندما قاد كتيبة البعث عام 1948، لتقاتل إلى جانب المجاهدين العرب ضد العصابات الصهيونية. ان طريق الجهاد والكفاح المسلح الشعبي، هو الطريق الذي آمن به مؤسس البعث، وتضمنته وثائق البعث، سواء في الدستور الذي اقره المؤتمر التأسيسي، أو في مؤتمرات الحزب المتعاقبة منذ 1947 وحتى اليوم. وتضمن الدستور في المادة (12) نصا عاما جامعا لكل اشكال الاستعمار، فنادى بجلاء كل من انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب، عن الوطن العربي، وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية. وعد الدستور في المبدأ الثالث من المباديء الاساسية ( التي لايجوز تعديلها أو حذفها ابدا). ان الاستعمار عمل اجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة. وعندما ايقن البعث ان قضية فلسطين دخلت مرحلة خطيرة بعد اقرار الامم المتحدة قرار التقسيم 1947، نادى في بياناته إلى تنظيم الشعب العربي وتسليحه، وانشاء فرق مجاهدين من الاقطار العربية لدخول المعركة ضد المغتصب الصهيوني في فلسطين، كما طالبه بالتعرض على المصالح الغربية في الوطن العربي( ). ورغم الانعطافات التاريخية الخطيرة التي مرت في مسيرة البعث في عقد الخمسينات من القرن العشرين، فان فلسطين ظلت في قمة اهتماماته، وقرر انشاء تنظيم فدائي منذ وقت مبكر، ولكن الانعطافات الخطيرة التي مر بها، حالت دون ان ترى الفكرةالنور، وعندما قامت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) عام 1965 باركها البعث، واصدرت قيادته القومية تعميما للبعثيين الفلسطينين بضرورة الانخراط في صفوف (فتح)، كما فتحت ابواب مخازن الجيش السوري ومعسكراته –انذاك- امام (فتح) للتدريب والتزود بالسلاح. وقف القائد المؤسس مؤقفا ايجابيا فاعلا ازاء المنظمات الفدائية، رغم تعددها ومحدودية فعالية بعضها في ساحة العمل الفدائي ضد العدو الصهيوني. وعندما خرجت جبهة التحرير العربية، وانضمت إلى المنظمات الفدائية الاخرى عام 1969، كان سرور القائد المؤسس بها عظيما، ولم يكن يريدها منظمة تقليدية، تضيف رقما إلى باقي المنظمات، بل ارادها حالة نوعية جهادية جديدة، ترفد العمل الفدائي بعطاء قومي متميز، وتجلي بعض الاوهام أو النزعات القطرية عن ثوب العمل الفدائي –انذاك- بل اراد منها اكثر من ذلك، أي ان تصبح " الصيغة الواقعية العملية، لتكون بداية الانطلاق الناجحة المشجعة حتى تتحرك القوى العربية في الاقطار البعيدة وترفد هذه البداية وتكملها"( ). اراد القائد المؤسس من هذه البداية، أي انطلاقة (جبهة التحرير العربية)، ان نشفى من الامراض، وان نتجدد كليا، أي ان تكون مناسبة لان يجدد الحزب نفسه ويلد ولادة جديدة، ولادة نضالية جديدة، ولادة فيها الانبعاث والتدفق النضالي.( ) و إذا كانت الجبهة لم تحقق حلم القائد المؤسس، فان تجربة البعث في العراق حققت حلم القائد المؤسس، إذا شكلت التجربة ولادة حية جديدة للحزب، عبرت عن هذه الولادة بمنهجها الثوري المتجاوز كل الحدود التقليدية في العمل النضالي، منهج اقتحامي يمتحن معدن المناضلين، يمنح الفرصة لهم لان يُخرجوا مكنونات عقولهم ابداعا وخلقا متميزا. وقد ترسخ العمل الثوري المسلح عندما خاضت تجربة البعث في العراق ملحمة قادسية صدام المجيدة 1980-1988 ، لحماية البوابة الشرقية للوطن العربي، وملحمة ام المعارك الخالدة 1991 ومازالت مستمرة حتى اليوم. لقد استخدمت الثورة البعثية كل ممكنات القوة المادية والمعنوية وحوّلتها إلى قدرة في صنع الارادة المؤمنة ضد المشروع الصهيوني –الامبريالي. وكان ابرز نموذج لها دك الكيان الصهيوني بـ(39) صاروخا عراقيا عام 1991 ومن ثم تشكيل جيش القدس من (21) فرقة، من مجموع العراقيين الذين تطوعوا للجهاد في سبيل تحرير فلسطين، الذين تجاوز عددهم سبعة ملايين متطوع. ورفد الانتفاضة الفلسطينية بالدعم المادي والسياسي والاعلامي( ).
ثانياً: رؤية البعث لتحالف الغرب الاستعماري والصهيونية قضية فلسطين هي نتاج مؤامرة امبريالية صهيونية استعمارية ( اوربية – امريكية) تلاقت فيها الابعاد الاستراتيجية والاقتصادية، مع الابعاد الدينية. وجاء قيام الكيان الصهيوني عام 1948 وليد التوافق الغريب بين الايديولوجيتين الشيوعية والرأسمالية، اذ شكل ذاك التوافق كشفا لتردي المنظور الحضاري لكلا الايديولوجيتين، لانهما شاركا في تسويق الظلم بحق الشعب العربي في فلسطين، وتثبيت حق زائف لليهود الصهاينة – كما اسلفنا من قبل-. شكل التحالف الصهيوني –الامبريالي مشروعا استعماريا عنصريا يقوم على منطق القوة، أو ماسمي "حق القوة" الذي صار قانونا يحكم مصائر الامم والشعوب، وقد ادرك بعض المفكرين العرب (نجيب عازوري) مخاطر هذا المشروع منذ وقت مبكر( 1905)، ولكن البعث على لسان قائدة المؤسس (رحمه الله) ادرك ان المشروع المعادي لايواجهه ويتصدى له، غير مشروع قومي نهضوي وحدوي، يؤكد المضمون الحضاري للامة العربية، ويرسخ مباديء القومية الانسانية المؤمنة. ويؤجج روح الجهاد في نفوس ابناء الامة، ومن خلال الجهاد يتحقق وجود الامة الحي، فحيثما يوجد نضال وجهاد توجد الامة الحية، التي تحقق الانقلاب في ذاتها، انقلاب على جميع ارهاصات الماضي ومخلفات العهود الاستعمارية وادرك البعث ان المشروع الصهيوني الاستيطاني، لايمكن مواجهته الا بالكفاح الشعبي المسلح، -كما اسلفنا-. ان هذا الشعار مازال مهما وضروريا، وقد اكدت جدواه كل المنعطفات التاريخية المريرة التي مرت بالامة العربية بعد عام 1948 مرورا بنكسة الخامس من حزيران 1967، وماحدث في جنوب لبنان 1978 و1982 وصولا إلى اتفاقيات التسوية التي وقعتها بعض الانظمة القطرية مع الكيان الصهيوني. اكدت مسيرة نصف قرن ونيف ان الكيان الصهيوني، هو نواة المشروع المعادي لوحدة الامة وصيرورتها ونهضتها، وعمل بكل ممكنات القوة المادية، لتحقيق حلم الحركة الصهيونية في "اقامة وطن قومي لليهود" من النيل إلى الفرات. ورغم توقيع اتفاقيات التسوية المعروفة (كامب ديفيد 1979، اوسلوا 1993 ، وادي عربة 1994) وماتبعها من اتفاقيات جزئية، فان الكيان الصهيوني غير مستعد للتنازل عما حققه بالقوة العسكرية، أي مازال غير مستعد للانسحاب من الاراضي المحتلة عام 1967 في الاقل، وكما جاء في قرار مجلس الامن (242 ) واكده قرار (338)، وغير مستعد لاعادة اللاجئين الفلسطينين تنفيذا لقرار الجمعية العامة للامم المتحدة (194) 1948. وغير مستعد للانسحاب من مدينة القدس جزءا أو كلا، وغير مستعد للتنازل عن المستوطنات في الضفة الغربية وغزة، حيث ستقوم دولة فلسطين المنتظرة. انطلق البعث في نظرته لقضية فلسطين من مدرك قديم مفاده، ان الغرب الاستعماري ضالع في المؤامرة على فلسطين، فهو الذي زرع الكيان الصهيوني ومنحه المشروعية القانونية من خلال الامم المتحدة، ومنحه القوة التي حقق فيها التوازن الاستراتيجي مع القوى العربية، وصار لديه الردع النووي، الذي يهدد فيه وجود الامة العربية، وعليه فان معركة المواجهة مع الكيان الصهيوني، هي جزء من المعركة القومية، ومسؤولية تحرر فلسطين تقع على العرب جميعا، لان المستهدف من قيام الكيان الصهيوني، ليس فلسطين والفلسطين فحسب بل هي الامة العربية والوطن العربي. ان الاطلاق الذي اراده القائد المؤسس في اشتراك العرب كلهم في معركة التحرير، آت من ان الامة العربية، امة واحدة في الاساس يجمع ابنائها كل مقومات الوحدة القومية، وبالمقابل فان اعدائها هم ايضا موحدين في نظرتهم للعرب، فهم متفقون على استعمار البلاد العربية، ونهب خيراتها ومنعها من الوحدة والتقدم والنهضة. وعليه فان القائد المؤسس نقد الدول العربية التي تسابقت إلى عقد اتفاقيات ومعاهدات سياسية واقتصادية مع الدول الغربية، ودعاها إلى اتباع سياسة مستقلة بعيدة عن نفوذ الدول الاستعمارية. ونقد القائد المؤسس الدول الغربية. والاتحاد السوفيتي معها، لان نظرها لم يمتد اكثر من حدود الحكومات العربية، وتتجاهل ان هذه الحكومات شيء عارض ازاء بقاء الشعب( ). لقد ادرك الاتحاد السوفيتي فيما بعد ان مصالحة الاستراتيجية والاقتصادية تكمن في البلاد العربية، وادرك ان الولايات المتحدة في سباق لكسب عدد من الحكومات العربية، لتكون حاجزا امام المد الشيوعي- السوفيتي ، ولذلك فقد عدّل من مواقفه ازاء قضية فلسطين نسبيا، وقابلته بعض الدول العربية بالتفهم والتقدير ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي. وقد صار الاتحاد السوفيتي اثناء الحرب الباردة (1945-1991) نصيرا للقضايا العربية، ولكنه كان يدرك الخط الاحمر الذي لايجوز تجاوزه في قضية فلسطين، أي ان مواقفه كانت بحدود الدعم السياسي والمادي، ولكنه كان يدرك خطورة تجاوز الخط الاحمر الذي فرضته الادارات الامريكية في هذه القضية. ارجح القائد المؤسس دوافع الحقد الغربي على الامة العربية إلى عقد الماضي، فقال في حديث له في مدرسة الاعداد الحزبي عام 1980 ان المخطط الصهيوني الاستعماري الغربي امتداد للحروب الصليبية، ولم يهدأ هذا العداء منذ مئات السنين، وهو مستمر في هذا العصر وقال:"الحروب الصليبية لم تنته بعد وصيفتها الاخيرة هي الكيان الصهيوني" ليكون عقبه كداء في قلب الامة العربية ليشغلها عن بناء نهضتها وليزرع الفتن والانقسامات في داخلها( ) وبعد 22 سنة من حديث القائد المؤسس يعود رئيس الادارة الامريكية ( بوش الابن) ليهدد بشن حرب صليبية جديدة ضد الاسلام، ولشحن المسيحين وتأييده في حربه ضد المسلمين، بدعوى مكافحة الارهاب، اثر احداث "ايلول 2001 في نيويورك، ويظل السؤال قائما" لماذا يحارب الغرب الاستعماري الامة العربية…؟ ويجيب القائد المؤسس في خطابه في الذكرى التاسعة والعشرين لتأسيس الحزب، بان الامة العربية تنهض من جديد لتؤدي دورها الاساسي الضروري، وتصحيح سير البشرية وتقدمها، فهو دور انساني تقوم به انطلاقا من واجبها، ولذلك فان اعداء الامة يحاربونها، لانهم يخشون ان تكون نهضتها مبدلة لسير العصر كله، فهم ( الغربيون) يضعون في طريق هذه النهضة عوائق من حجم، خلق دولة الاغتصاب الصهيوني في قلب الوطن العربي( )، ولما كان زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي لمنع نهضة الامة ومنع تقدمها، حتى لاتقوم بدورها الانساني الريادي، فان محاربة هذا الكيان واجب انساني كبير. ويوضح القائد المؤسس هذا الواجب في اجابته على سؤال في مدرسة الاعداد الحزبي عام 1977 بقوله "قضية فلسطين لم تعد قضية مركزية بالنسبة إلى العرب فحسب، وانما اصبح لهم حجم دولي وعالمي، واصبحت قضية العصر…ونعتبر بان الحل النهائي والسليم والمبدئي لقضية فلسطين سيكون في الوقت نفسه انهاء للاستعمار وللصهيونية في العالم كله….ان تحرير فلسطين هو تحرير للعالم من الاستعمار، وان كان هذا يتطلب زمنا ويتطلب نضالا طويلا"( ). الموقف نفسه وقفة القائد المجدد صدام حسين، ففي المؤتمر التضامني 1982 الذي عقد في بغداد في الذكرى الاولى لقصف الكيان الصهيوني مفاعل تموز النووي العراقي للاغراض السلمية (حزيران1981)، ناشد المؤتمرين والاحرار في العالم بأن يناضلوا ضد الامبريالية والصهيونية من اجل تحقيق الامن والسلام في العالم. وهذا الموقف لم يأت رد فعل على العدوان الصهيوني على مفاعل تموز، بل هو موقف اصيل ومبدأ ثابت. وسبق ان قال عام 1974 خلال مأدبة اقامها رئيس وزراء يوغسلافيا "ان النضال الذي نخوضه ضد كل اشكال الاستعمار والاستغلال، وضد الصهيونية، وضد التسلط والقهر ليس اتجاها مؤقتا، ولم يأت نتيجة ردود الفعل على اوضاع راهنة وآنية". وانما هو نهج اصيل وعميق ينبع من أصول عقيدتنا الاسلامية. نحن احفاد اولئك الرجال العظام المؤمنين بهذه الرسالة المجيدة، نتحمل اليوم مسؤولية الجهاد في اطار العصر الراهن وفي اطار ظروفه الخاصة"( )، ويؤكد القائد صدام حسين الموقف المبدئي بعد العدوان الثلاثيني على العراق 1991 ويدعو إلى الجهاد من اجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وعودة اليهود الغازين إلى بلادهم، وعودة اليهود العرب إلى الاقطار العربية، وان تتحمل دول الغرب جزءا من مسؤولياتها في اقرار الامن والسلم في العالم. ورغم تعقيد الظروف الاقليمية والدولية التي تحيط بقضية فلسطين، الا ان المعركة حتمية ضد المخطط الصهيوني الاستعماري، لان ركيزة الغرب الاستعماري ( الكيان الصهيوني) شكل قاعدة العدوان ضد العرب منذ عام 1948 وحتى اليوم، رغم انه كان يتظاهر بالمسالمة والضعف، وبانه ينشد العيش بسلام وسط جو عربي يكرهه ويضمر الشر له. ولكن عدوانه على العرب في الخامس من حزيران 1967، اماط اللثام عن حقيقته العدوانية امام العالم وامام كل انسان شريف ومنصف فهو كيان عدواني توسعي في طبيعته واهدافه"( ).
ثالثاً: الموقف من اتفاقيات التسوية منذ ان تكونت (م.ت.ف) بقرار رسمي من القمة العربية 1964 اخذت تدخل في نفق الانظمة شيئا فشيئا، وتتاثر بالسياسة العربية الرسمية. وعندما برزت حركة ( فتح) عام 1965، جاءت ثورة فدائية مسلحة، ردا على الواقع العربي الخامد، وردا على (م.ت.ف) التي اعتبرتها نظاما جديدا ينضاف إلى الانظمة. وظهرت منظمات فدائية اخرى ذات ميول سياسية متنوعة، يسارية وقومية، وبرز دور الثورة الفدائية في رد العدوان الصهيوني على مدينة الكرامة في غور الاردن عام 1968 . وقد برزت اجتهادات سياسية متنوعة ومتنافرة من قبل فصائل الثورة، ازاء الانظمة العربية. بحيث اخذت الاجتهادات حيزا من وقتها وامكاناتها، وصرفتها عن مهمتها المركزية في مقاومة الاحتلال الصهيوني. الامر الذي قاد إلى وقوع التصادمات مع الانظمة العربية، ومنحها المبررات لكي تعمل على تصفية الثورة واخراجها من ساحات المواجهة مع قوات الاحتلال. لقد فرضت ظروف تواجد فصائل الثورة خارج فلسطين وضعا لايلائم مهماتها الفدائية، أو حرب العصابات، بل اضطرت ان تقلد الجيوش الرسمية، وتبني لنفسها قواعد ثابتة على الارض، وتقتني اسلحة ثقيلة. الامر الذي فرض عليها نمطا قتاليا رسميا، وجعلها هدفا سهلا امام قوات الاحتلال الصهيوني المتقدمة في اسلحتها الحديثة والمتطورة. وقد اثرت تلك الاحداث على قدسية القضية الفلسطينة كما اثرت على بعض المسؤولين في فصائل الثورة، أو بالاحرى المسؤولين في (م.ت.ف)، وجعلتهم يميلون إلى ما اسموه بالسياسة الواقعية، واهمية التفتيش عن حلول تعيد اليهم بعض الحق المغتصب. ويمكن تتبع مسار ميل القيادات الفلسطينية نحو التفتيش عن حلول من خلال قنوات عربية أو دولية، أو من خلال اتصالات مباشرة مع اليهود الذين اعلنوا مواقف ضد العنصرية الصهيونية، مثل منظمة (ماتزبن) التي ظهرت في فرنسا اثر ثورة الطلاب عام 1968. وبعد احداث ايلول 1970 في الاردن اخذت بعض الفصائل الفدائية تتحدث عن امكانية القبول بهدف ازالة اثار العدوان، بعد ان كان الشعار المركزي هو تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني. واتباع سياسة تقضي بتغير حاسم في استراتيجية الثورة. وقد قبلت بعض الفصائل مشروع روجرز. وفي عام 1973 برزت الدعوة اكثر وضوحا بعد حرب تشرين إلى عقد مؤتمر جنيف للسلام والاعتماد على قراري 242، الصادر عام 1967 و338 الصادر عام 1973، لاستعادة الحق المسلوب. وفي عام 1974 بدأ الحديث يدور حول امكانية اقامة سلطة وطنية فلسطينية على اية ارض يتم تحريرها أو انسحاب الصهاينة منها. وبرزت فكرة (اخذ شيئا بدل لاشيء) في حين كان الشعار يقول (كل شيء أو لاشيء). وفي دورة المجلس الوطني-13 عام 1977 جرى يومها اول ترخيص باقامة علاقات مع قوى اسرائيلية بشروط ثقيلة، بعد ان كان الحديث عن مثل هذه الاتصالات من المحرمات، وتعد شكلا من اشكال الزندقة والخروج عن المألوف. وقد ترافق ذلك الترخيص مع زيارة السادات إلى القدس وما احدثته من تأثيرات في الوسط العربي. وفي عام 1982 تبنت (م.ت.ف) فكرة اختراق "اسرائيل" من خلال الاتصال ببعض القوى الاسرائيلية. وجرى اول لقاء علني بن ياسر عرفات و (يوري افنيري) لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من الاتصالات. وفي عام 1984 اخذت (م.ت.ف) تفويضا من مجلسها الوطني الذي عقد في عمان باجراء مفاوضات واقامة علاقات مع اية قوى اسرائيلية بشرط ان تكون في مصلحة القضية الفلسطينية. وجرى لقاء عام 1987 بين (موشي عميراف) عضو اللجنة المركزية لتكتل الليكود وبين فيصل الحسيني والدكتور سرى نسيبه وصلاح زحيقة. وقد اعترف تكتل الليكود في ذاك الاجتماع بان (م.ت.ف) الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، في حين كان الموقف المعلن غير ذلك. وفي عام 1988 بدأ الهجوم الفلسطيني نحو السلام اثر اعلان الدولة الفلسطينية المستقلة في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر (دورة الانتفاضة)، واعقبها إلقاء كلمة ياسر عرفات في دورة الجمعية العامة للامم المتحدة في جنيف وعقد المؤتمر الصحفي المشهور الذي اعلن فيه نبذ الارهاب والاعتراف بوجود "اسرائيل". ومنذ ذلك الوقت تزايد الاعتراف الدولي بدولة فلسطين المستقلة، وفي الوقت نفسه اخذت دول الغرب تبتز (م.ت.ف) لتقديم مزيد من التنازلات مقابل اجراء مفاوضات بينها وبين الولايات المتحدة. وخلال العمل السياسي تعاملت (م.ت.ف) مع احداث الواقع تعاملا منفعلا وليس تعاملا يسعى إلى تغيير الواقع، والبحث في سياق الممكن الذي يوفر بعض المكاسب. اختلال الميزان بين العرب والصهاينة: 1-اضافة إلى اختلال الميزان العسكري بين "اسرائيل" والعرب فان "اسرائيل" ظلت تتمتع بتماسك داخلي رغم تعدد الاحزاب فيها. في حين ان الدول العربية ظلت متنافرة وغير متماسكة في بنائها الداخلي. 2-ونجحت "اسرائيل" في كسب الرأي العام العالمي وتصوير نفسها "بالحمل الوديع" الذي يقف امام "الذئب العربي". وفي الوقت نفسه ارتفعت درجة التكامل بينها وبين دول الغرب حتى وصلت درجة التحالف الاستراتيجي. وبهذا اصبح الغرب صفا يقف ضد من يهدد مصالح وامن "اسرائيل". اما الانظمة العربية فقد ازدادت تبعيتها للغرب. واتسع نفوذه داخل الاقطار العربية التي انقسمت اكثر وتشظت اكثر. 3-وكما اتسمت "اسرائيل" باستقرار نظامها السياسي على خط استراتيجي. فان الانظمة تباينت في المواقف حول القضايا القومية الكبرى. وبالتالي هبط الادراك الشعبي حيال الصراع العربي- الصهيوني. وقد جاءت النكسات لتزيد من درجة الاحباط واليأس لدى الانسان الفلسطيني والعربي بوجه عام. كما ساهمت الدعاية الفلسطينية في تضخيم مآسي الشعب الفلسطيني سواء داخل فلسطين المحتلة، أو في الشتات، وان صبر الفلسطينيين قد نفذ، لطول فترة الاغتراب والتشرد، في حين ان العديد من الشعوب ومنهم شعب الجزائر قد عانى الكثير من الويلات والمصائب، ومع ذلك ظل الصبر رائد هذه الشعوب حتى حققت النصر ووصلت إلى حقها في تقرير مصيرها.
الاسباب الدافعة إلى اتفاق غزة –اريحا: اولا: (( في الجانب الصهيوني)) قد تظهر الظروف الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفتت المعسكر الاشتراكي، وتفرد الولايات المتحدة في زعامة العالم، وكذلك انقسام الانظمة العربية وتبعية معظمها للغرب. قد تظهر ان "اسرائيل" في أحسن حالاتها، وان الظروف في صالحها. وعليه فمن مصلحتها ان ترفض أي عرض للاتفاق مع الاطراف العربية. ولكن العارف لاوضاع "اسرائيل" الداخلية، يُدرك ماتعانيه من مشكلات مالية واجتماعية وامنية. وتؤشر ان من مصلحتها التفتيش عن اتفاق يجعلها تستغل هذه الظروف لابتزاز الاطراف العربية لتقديم تنازلات لصالح مشروعها الاستيطاني. وابرز الاسباب الدافعة باتجاه الاتفاق: 1-"اسرائيل" تخاف من المستقبل، وبالذات من انهيار أمنها القومي، ولاسيما بعد ان تم خرق هذا الامن بفعل الانتفاضة (1987) والصواريخ العراقية التي دكت مدنها في ام المعارك (1991). وقد كشفت الانتفاضة وعرت الامن في "اسرائيل" واصبح الصهاينة يفكرون في المسألة الامنية اكثر من تطوير التكنولوجيا النووية. 2-تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ولاسيما بعد هجرة اليهود السوفيت، فأزمة الديون والعجز في ميزان المدفوعات، وانخفاض قيمة العملة الاسرائيلية وقلة العمالة. كلها عوامل باتت تؤرق الحكومات المتوالية. وماتدفعه الولايات المتحدة من معونة مالية سنوية لايعوض كثيرا ولايد حاجة الصهاينة لمسار الكيان الصهيوني ومخططاته التوسعية. 3-في الوقت الذي اخذت منظمة التحرير تعاني من مشكلاتها الداخلية، اخذت منظمة حماس تقطف الاضواء داخل فلسطين وخارجها نتيجة فعلها، وبتأثير الدعاية الغربية التي ابرزتها. ورافق هذه الظاهرة بروز ظاهرة "التطرف الاسلامي" في الاقطار العربية. ولذلك فان "اسرائيل" تخاف ان تسقط (م.ت.ف) سياسيا واقتصاديا، ويكون البديل فصائل اليسار والتطرف الاسلامي. 4-"اسرائيل" تخاف من الاختلال الديمغرافي داخل فلسطين وميل الموازنة لصالح الفلسطينيين. فرغم ان حرب عام 1948 قد شردت مئات الالوف وهم مايطلق عليهم (اللاجئون). كما شردت حرب عام 1967 ارقاما مماثلة من الضفة الغربية إلى الشرقية، اضافة إلى مئات الالوف هاجروا خلال الفترة من 1949-1967 بفعل الاضطهاد الصهيوني. ورغم كل الاوضاع والظروف السيئة التي عاشها الفلسطينيون فقد تضاعف عددهم سواء الذين يعيشون داخل فلسطين المحتلة عام 1948 أو في الضفة والقطاع أو في الشتاب، فبلغ عددهم حسب احصاء (الانروا) المنشورة في الدستور الاردنية عام 1993 (5.7) مليون نسمة. فاسرائيل تخاف هذا الاختلال في عدد السكان سواء قامت دولة فلسطينية أو سلطة. 5-وتخاف "اسرائيل" من انفراط عقد التأييد الدولي إذا استمرت قضية الصراع العربي-الصهيوني بدون حل. كما ان فرصة القبول العربي (الرسمي) باسرائيل قد لاتتكرر بعد حين. 6-ان الظروف الدولية والعربية والفلسطينية اعطت "اسرائيل" فرصة نادرة لابتزاز المفاوض الفلسطيني، لكي يقدم التنازلات التي تخدم مشروعها الاستيطاني. فمؤشرات اتفاق غزة-اريحا كانت تقدم "لاسرائيل" مزايا مهمة منها وضع القدس خارج قوس الحكم الذاتي. كما ان رسالة عرفات إلى اسحق رابين تضمنت تعهدات مهمة "لاسرائيل" لم تكن تحلم بها من قبل: أ-اعتراف (م.ت.ف) باسرائيل في العيش بأمن وسلام. ب-التزام (م.ت.ف) بانهاء النزاع بين الطرفين. ج-البدء بعهد جديد من التعايش السلمي يخلو من العنف أو أي عمل اخر يعرض السلام مع "اسرائيل" للخطر و هذا التعهد يشمل ضمنا الانتفاضة التي تهدد امن "اسرائيل". د-تتخلى (م.ت.ف) عن واسمي الارهاب أو أي عمل من اعمال العنف. وتتحمل المسؤولية ازاء العنف بالنسبة لكل عناصرها وموظفيها. هـ-تلاحظ (م.ت.ف) حذف أي نقاط من الميثاق الوطني التي تنكر حق اسرائيل في الوجود ومن هذه المواد: 1-مادة (2) تعتبر فلسطين وحدة اقليمية لاتتجزأ. 2-مادة (9) التزام الشعب الفلسطيني بالنضال لتحرير وطنه والعودة اليه وحقه في الحياة الطبيعية فيه وممارسة حق تقرير المصير. 3-مادة (10) النضال عمل شامل يحقق التلاحم بين مختلف فئات الشعب الفلسطيني وبينها وبين الشعب العربي. 4-مادة (19) حق الشعب الفلسطيني في وطنه. 5-الغاء المواد 20، 21 ،22 ،23 . وهذه التعهدات تعني الغاء كل حقوق الشعب الفلسطيني التي ناضل من اجلها طويلا وقدم الشهداء على هذا الدرب. فكل هذه التنازلات ماكانت تحلم بها "اسرائيل" من قبل. ولم تستطع ان تحققه بالعمليات العسكرية والعنف والارهاب. اضف إلى ذلك ماتحلم به "اسرائيل" من تعاون مع الاقطار العربية وبالذات في الخليج العربي. واولى خطوات التعاون تبدأ بالغاء المقاطعة العربية، وفي تطبيع العلاقات بين اليهود والعرب. ويبدو ان هذا المطلب يأتي تنفيذا لنصيحة كيسنجر التي دعى فيها "اسرائيل" الى عدم استعجال الحل الشامل مع العرب، بل العمل على تطبيع العلاقات لضمان العيش وسط جو عربي كان خلال سنوات طويلة جوا معاديا لليهود. وهذا-كما يبدو- ماتسعى اليه الولايات المتحدة ودول الغرب من خلال اقامة تعاون اقتصادي شامل بين دول المنطقة. ان ماحققته "اسرائيل" في اتفاقيات اوسلو، ألغى قرارات الامم المتحدة الخاصة بانسحاب "اسرائيل" من الاراضي العربية المحتلة بعد يوم 4 حزيران 1967. كما انها اخذت باسلوب المماطلة، لفرض الامر الواقع، وعمدت خلق ازمات متلاحقة، لكي تصبح محور المباحثات والاتفاقيات مع الطرف الفلسطيني. ولذلك ظلت القضايا الاساسية مثل استعادة القدس، واقامة دولة فلسطينية مستقلة، وتفكيك المستوطنات، واعادة اللاجئين، خارج اطار المباحثات بين الطرفين. وهذا التعنت هو الذي دفع الشعب الفلسطيني إلى تفجير انتفاضة الاقصى في ايلول 2000م.
ثانيا: في الجانب الفلسطيني-العربي ان ظروف اللجوء والنزوح فرضت على فصائل الثورة ان تبين قواعدها في دول الطوق، والعمل الدؤوب لفتح ثغرات جغرافية للنفاذ منها إلى داخل الارض المحتلة. ولكن هذا الوضع فرض على فصائل الثورة ان تخوض معارك غير متكافئة مع الجيش الاسرائيلي باسلوب الجيوش النظامية- كما اسلفنا- فهذا الوضع وامتلاك اسرائيل التقنية العسكرية حرم هذه الفصائل من نهج الكفاح المسلح باسلوب حرب العصابات. وعندما حصل التصادم المسلح بين فصائل الثورة وبعض الانظمة العربية، برزت حالة جديدة اقرب إلى منطق الدولة منها إلى منطق الثورة. وباتت (م.ت.ف) تتحمل تبعات التدخل العربي في شؤونها. وبفعل تلك الارهاصات تحولت قضية فلسطين في نظر غالبية الانظمة العربية من قضية قومية إلى قضية قطرية محصورة في (م.ت.ف). وقد استثمر اصحاب النظرة القطرية الفلسطينية تلك الاوضاع في بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية بدعوى استرداد تلك الهوية، وهو حق. ولكن النظرة القطرية اخذت تتعمق كلما ازدادت الانظمة ابتعادا عن قضية فلسطين. ومع مرور الايام خيم اليأس والاحباط على نفسية الانسان الفلسطيني في الشتات وبالتالي على نفسية المفاوض. ولهذا لم يتحلى هذا المفاوض بالصبر والثبات والمطاولة التي يتحلى بها الثائر. ويمكن ايجاز أبرز الاسباب بـ: 1-قبول قيادات (م.ت.ف) للواقع الدولي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يعُد الحليف الدولي الكبير للقضية الفلسطينية. وكذلك بعد ضرب العراق الذي يُعد الحليف العربي القومي. وكذلك بعد خروج مصر من معركة الصراع، وقبول سوريا بمنهج التسوية. وكذلك بعد خروج النفط العربي من معركة الصراع ضد تحالف العدو الصهيوني-الامبريالي. هذه المستجدات اعتبرها الطرف الفلسطيني من اهم الدوافع باتجاه توقيع اتفاق غزة-اريحا. 2-شعور قادة (م.ت.ف) ان المفاوضين العرب يريدون ان يحققوا مكاسب ذاتية على حساب القضية الفلسطينية. وبفعل تراكم التجارب السلبية بينها وبين قادة الانظمة إرتأت هذه القيادة ان تسحب البساط من تحت اقدامهم وتفصيل الثوب بنفسها. 3-اوضاع منظمة التحرير الداخلية المالية والتنظيمية، ولاسيما بعد ان فقدت مصادر التمويل الخليجية. 4-تصرفت(م.ت.ف) بردات فعل على اوضاع دولية وعربية، منها عدم قبول وفد فلسطيني مستقل في مفاوضات مدريد. وعدم اشراك فلسطيني القدس في الوفد المشترك. 5-بروز تيار في (م.ت.ف) يؤمن بالمرحلية في التسوية. وقد طرح هذا التيار سياسة "الاستقلال الزاحف" كما عبر عنه الصحفي الفلسطيني توفيق ابو بكر، أي ان يبني الفلسطينيون استقلالا يوما بعد يوم…اما كيف يكون الزحف وماهو هدفه؟ فلا يوجد جواب في الوقت الحاضر، على امل ان يتحقق الجواب في المستقبل. كما انهم يرون ان قبول الاتفاق والمرحلية لم يفرط بالقضايا الكبرى ولكنه يؤجلها. ويرى انصار المرحلية بان هذا العصر هو عصر انتصار الوطنيات والقوميات الصغيرة في العالم. ولكن جاءت الاحداث لتؤكد ان الصهاينة هم الذين تبنوا سباق الزحف البطيء من خلال المماطلة وتسويف القضايا الرئيسة، واختلاق مشكلات فرعية صارت بمثابة قضايا رئيسية، شغلت وقت المفاوضين خلال السنوات اللاحقة.
مخاطر توقيع الاتفاق: 1-اغلق الاتفاق الابواب امام قضية فلسطين، كما اغلق ملفها من الحياة السياسية العربية، بعد ان شغلت العرب وشكلت محور تفكيرهم طوال العقود الماضية من القرن الماضي. وتحولت قضية فلسطين من صراع حضاري وصراع وجود إلى صراع من اجل ازالة بعض اثار العدوان. 2-وضع الاتفاق قضية فلسطين في مرتبة متأخرة من سلم الاولويات في قضايا العالم الملتهبة. وعليه فان اهتمام دول العالم بها خفت اكثر واكثر، وقد ظهرت اولى نتائج هذا الاتفاق في اقامة علاقات دبلوماسية بين بعض الدول و"اسرائيل". أو تطور العلاقات بينها في مجالات مختلفة. ولم تستعيد قضية فلسطين حضورها، الا بعد اندلاع في الانتفاضة عام 2000م. 3-افقد الاتفاق الشعب الفلسطيني مشروعية النضال لاستعادة كامل حقوقه، لان التعهدات التي قطعها الطرف الفلسطيني على نفسه إلى الطرف الصهيوني تقضي بالوقوف امام أي حركة نضالية، كونها تقع تحت خانة الارهاب. وهكذا وصفت الولايات المتحدة الانتفاضة بانها قواعد ارهابية ووصفت قادتها بالارهابيين، بما فيهم رئيس السلطة الفلسطينية. 4-وطمس الاتفاق صفحات نضال شعب فلسطين خلال سبعين عاما، عندما اعلنت (م.ت.ف) الغاء الارهاب بالمفهوم الاميركي والصهيوني. 5-والغى الاتفاق الثوابت الاساسية في النضال الفلسطيني، واسقط قرار المجلس الوطني في دورة الانتفاضة، باعلان الدولة الفلسطينية المستقلة عام 1988. 6-ومنح الاتفاق الصهاينة فرصة لان يلغوا قرارات الامم المتحدة المتعلقة بحق اللاجئين في العودة وغيرها من القرارات التي ادانت اسرائيل. 7-طمس الاتفاق حلم الشعب الفلسطيني في تحرير ارضه، وحقه في تقرير مصيره بنفسه، واقامة دولته المستقلة، واستعادة القدس. ولاسيما بعد ان قدم تضحيات كبيرة في سنوات النضال الطويلة. 8-فتح الاتفاق الباب واسعا امام بعض الانظمة العربية لالغاء المقاطعة العربية للشركات المتعاملة مع "اسرائيل" والبدء بخطوات التطبيع وانهاء صفحة تاريخية من العداء في الفكر السياسي العربي وفي الاحساس الشعبي العام. كما فتح الباب واسعاً امام العديد من دول العالم لان تعترف "باسرائيل". 9-كرس الاتفاق احتلال "اسرائيل" لمساحة لحوالي 90% من اراضي فلسطين. وشطب عمليا حق عودة لاجئي 1948 نهائيا، ووضع حق عودة النازحين في مهب الريح. 10-كما ضمن الاتفاق جانبا مهما من أمن "اسرائيل"، وبالذات انهاء مخاطر الانتفاضة السابقة. التي عرت الكيان الصهيوني وكشفت مدى عنصريته واساليبه الارهابية في مواجهة الاطفال والنساء العزل. 11-منح الاتفاق الصهاينة فرصة لان يحققوا حلمهم ومخططهم الاستيطاني التوسعي، من خلال عدم قيام دولة فلسطينية مستقلة، ومن خلال اقامة سوق تعاونية اقتصادية بين دول المنطقة، واقامة مشاريع مشتركة. ان اتنشار الصهاينة في الوطن العربي بصورة منظمة، وبفعاليات محددة "من الانشطة الاقتصادية والعلمية والثقافية، سيجعل دورهم التخريبي اخطر من دورهم الذي يؤدونه، وهم محاصرون (بحدود) الارض لم تعد تستوعبهم وتستوعب المزيد منهم( ). كما منح الاتفاق فرصا جديدة امام الولايات المتحدة لتزيد من نفوذها في المنطقة، والوقوف بوجه الحركة القومية الوحودية، وضد أي نهوض قومي وحدوي تنموي. ان هذا الاتفاق محاولة لانهاء الصراع العربي-الصهيوني، لان فلسطين لم تكن سوى مخفر امامي، اختاره الاستعمار الغربي، لتوجيه الضربة القوية إلى الامة من خلال الكيان الصهيوني. وعليه فالصراع بين الامة واعدائها لن يتوقف عند فلسطين ولن ينتهي بايجاد تسوية ماللقضية الفلسطينية، لانه صراع مع الامة بأسرها، وضد الامة باسرها، وهو لاينتهي الا بان تفرض الامة العربية عليهما حقها في التقدم والنهوض، والاعتراف بدورها التاريخي في خدمة الحضارة الانسانية( ). وقد ناشد البعث من خلال النشرة القومية (التسوية وافاق المستقبل) النخب والقوى والاحزاب السياسية العربية المؤمنة بقضية الامة ان تتمسك بالمباديء والثوابت، ان تغادر حالة الحيرة والقلق " وتتجاوز عوامل الضعف والسلبية، وتتجه إلى الجماهير ببرنامج نضالي، يعمق وعيها بطبيعة الصراع وابعاده، بغية تحطيمها. ولخصت النشرة مخاطر التسوية بالاتي:- 1-التنازل عما اغتصب من ارض فلسطين. 2-الاعتراف بالكيان الصهيوني. 3-انهاء الصراع بين العرب والصهاينة. 4-دمج الكيان الصهيوني في بنية المنطقة العربية ضمن اطار مشروع الشرق اوسطية. 5-تحويل الكيان الصهيوني إلى مركز اقليمي يهيمن اقتصاديا وعسكريا على المنطقة. 6-تكريس التجزئة بين اقطار الامة العربية. 7-محو الهوية القومية للامة العربية. لقد اثار اتفاق اوسلو ثم اتفاق غزة-اريحا 1993 ذعرا وقلقا كبيرا في الاوساط العربية وقلقا مشروعا على المستقبل، وزاد من هذا القلق اتفاق وادي عربة بين الاردن واسرائيل 1994، ولكن الذي حدث هل شل حركة النضال العربي…؟ أو التخلي عن الاهداف القومية…؟ الجواب….لا… فما المطلوب…؟ 1-ان المطلوب ان يكون قلق العرب قلقا ايجابيا خلاقا. 2-ان يكون التمسك بالمباديء وثوابت النضال قويا عند القوميين. 3-ضرورة البحث عن اساليب للنضال تناسب المعطيات الراهنة، واعتماد برنامج نضالي جديد، ويعد فيه الحزب اعدادا عقائديا وتنظيميا بما يتناسب وعظمة الهدف، بوصفه طليعة للجماهير العربية، وتوعية هذه الجماهير بطبيعة الصراع وابعاده. 4-ضرورة الا يشعر اعداء الامة بالامان وانهم اقوياء دائما. 5-الادراك ان لاعالم في حركة مستمرة وصيرورة متجددة وان الفرصة التي واتت الاعداء لفرض التسوية لاتتكرر ثانية، كما ان موازين القوى العالمية بين الامة واعدائها ليست ثابتة. 6-ان طريق التصدي للامبريالية والصهيونية هي طريق النهضة الحضارية الشاملة وهي طريق الجهاد الحضاري. 7-ضرورة استثمار شعارات ام المعارك التي ايقظت الجماهير لتصعيد وتائر النضال على طريق تحرير الارض المحتلة وتحقيق وحدة العرب ونهضتهم وتقدمهم…
رابعاً: تجربة البعث في العراق وفلسطين حالة واحدة شكلت ثورة 17-30 تموز 1968 الرد القومي على نكسة الخامس من حزيران 1967، وبداية الامل في اقامة الدولة النموذج، التي تنهض بالمشروع القومي النهضوي لمواجهة المشروع الصهيوني-الامبريالي. وقد كانت رغبة الحزب، وتوجهه ان تضطلع الثورة في العراق بمهمة وعبء المشروع القومي، لاكثر من اعتبار؟ اولها: قوة تنظيم الحزب وصلابة مناضليه، وعمق تجربتهم النضالية في اسقاط حكم عبد الكريم قاسم، ومواجهة ردة عبدالسلام عارف، والدقة في احكام خطة ثورة 17-30 تموز 1968، رغم ماواجهها من محاولات لاجهاضها، أو حرفها عن مسارها. وثانيهما: لما يتميز به العراق من عمق حضاري مجيد يعود إلى ألوف السنين، وتاريخ نضالي متميز على الصعيد القومي بدءا من حرب 1948 ومرورا بحرب عام 1967 وحروب تشرين 1973. وثالثهما: موقع العراق الاستراتيجي ووفرة موارده الطبيعية، وحيوية شعبه. وفوق هذا واضافة لما تقدم، وجود قائد رمز متميز في عطاءه الفكري، وصموده المبدئي، ورجاحة عقله، وايمانه العميق بمباديء الحزب، وصلته الحية بالشعب وبالامة واعتزازه بتاريخ الامة وتراثها. ومن اجل ان يصبح العراق دولة نموذج مؤهلة تتحمل مسؤولية الدعوة للمشروع القومي، والكفاح من اجله، كان لابد من انشاء بنى تحتية اقتصادية واجتماعية، وتحقيق العدالة والمساواة بين ابناء الشعب، والعناية بالعلم واستيعاب التقدم العلمي والتقني، وولوج ميدان الصناعة الثقيلة بعقل منفتح وابداع وطني غير مرتبط بتبعية للاجنبي. يكون البناء الوطني بافق قومي، قابلا للاندماج والتوحد مع بناء الاقطار العربية الاخرى ونهضتها وتقدمها. والدولة النموذج التي تبني تجربة قومية متميزة، هي الدولة المستقلة في قرارها السياسي وتوجهها الاقتصادي نحو العدل والرفاه لكل ابناء الشعب. فهل تمكنت ثورة البعث في العراق ان تكون النموذج القومي المطلوب….؟! لقد تحقق للعرب وللمشروع القومي الشيء الكثير، بفضل البعث ثورته في العراق، وبفضل تضحيات شعب العراق وصبره وصموده واصراره على تحقيق النصر تلو النصر. فمنذ الايام الاولى للثورة تميزت بقرارها السياسي المستقل، الرافض للتبعية، أو الرضوخ لارادة الاجنبي (تصفية الجواسيس)، واصرارها على استقلال اقتصاد البلاد وجعله بالكامل لصالح ابناء الشعب والامة (تاميم النفط)، تحقق بموارده العدالة الاجتماعية (مجانية التعليم والصحة)، والنهوض العلمي والتقني (المدارس، الجامعات، مراكز البحوث)، والاتصال بالعصر وبكل ماانتجه العقل البشري من تقدم في شتى مجالات العلم، وبالذات في حقلي الصناعة والاتصالات والمعلومات. وقد كان الامن الوطني والقومي في مقدمة اهتمامات الثورة، ومن اجل توفير مستلزمات الامن القومي، كان القرار الشجاع والجريء، بولوج باب الصناعات العسكرية، بالاعتماد على القدرات الوطنية، وهذا ماحسم اهم ملحمتين خاضهما العراق الاولى: قادسية صدام (1980-1988) وتحقيق انتصار حاسم فيها، في 8/8/1988 بمنع المخطط الايراني من التوسع على حساب العرب، والثانية: ملحمة ان المعارك الخالدة (1991-….) وقد تجلى التقدم العراقي في باب الصناعات العسكرية، في دك الكيان الصهيوني بحوالي 39 صاروخا في 1991، فرقت الامن الصهيوني الذي طالما تشدق الصهاينة به، وبصعوبة خرقه من قبل العرب. وفي ضوء ماتقدم من انجازات وانتصارات لصالح المشروع القومي العربي، دخلت المواجهة مع المشروع المعادي (الصهيوني-الامبريالي) مرحلة جديدة في ام المعارك، حيث شكل الموقف العراقي في الصمود والتصدي للعدوان الامبريالي-الصهيوني وللحصار الجائر، بداية مرحلة جادة في مواجهة المشروع المعادي للامة، ولاسيما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء مرحلة القطبية الثنائية، ومن خلال ام المعارك تحركت مشاعر ابناء الامة، كما اثارت حماسة الشرفاء في العالم، لكي يقفوا ضد الهيمنة العدوانية للقطب الدولي المتفرد في العالم، واصبح العراق وقيادته نموذجا لهم، يستلهمون فيها معاني الجهاد والمقاومة والصبر في مواجهة قوى الشر والعدوان. والامر الاكثر اهمية ان ام المعارك كشفت عن الافق المسدود للتسويات التي سار في نهجها بعض الاطراف العربية، في مرحلة النكوص والارتداد، وفي فترة ساد فيها التضليل الاعلامي المتعمد واخفاء الحقائق. وبالمقابل كشفت سادية القوى المعادية التي تشكل نواة المشروع المعادية للامة، ومقدار حقدها على العرب، وانحيازها لقاعدة الشر والرذيلة والخرافة (الكيان الصهيوني). لقد حققت تجربة البعث في العراق انجازات وانتصارات ذات اثر ايجابي كبير لصالح المشروع القومي، لانها ابتعدت عن طرح الشعارات المجردة، بل ركزت جهدها في الميدان والتفاعل مع طموحات الانسان العربي وامانيه، فقد رسخت التجربة، نموذج وحدة وطنية، واحدثت تحولات مادية ومعنوية في شتى المجالات. فالتجربة البعثية في العراق، انتجت شعبا موحدا بكل قومياته واديانه وطوائفه، ورسخت معاني الوطنية بين ابناء الشعب، وطورت جيشا عقائديا مسلحا بكل ممكنات القوة الفنية والتدريبية.وابرز مايميز التجربة انها افلتت من طوق الاحتكار العالمي لصناعة السلاح والاتجار به-كما اسلفنا-وامسكت بناصية العلم والتقنية وهو مااعطى ثماره في حملة الاعمار والبناء عقب العدوان الثلاثيني. ان ماتحقق من انجازات وانتصارات على الصعيدين الوطني والقومي، ماكان ليتحقق لولا وجود شعب حي مكافح، وحزب طليعي ثوري، وقائد تاريخي. فالقائد صدام حسين عرفه الجميع من اصدقاء واشقاء، شخصية متميزة في الخلق والابداع والشجاعة وصناعة القرار الاستراتيجي، والرؤية المستقبلية. ومن خلال هذه الشخصية صانعة القرارات التاريخية اثمرت التجربة نواة وقاعدة صلبة يقف فوقها المشروع القومي العربي، وفتحت امام العرب مرحلة جديدة من النضال القومي، مرحلة الجهاد والتحرير. كان ومازال على قدر مع فلسطين ومع الوحدة العربية، فطلائع العراقيين شاركوا في الثورة العربية الكبرى 1916، وشاركوا في ثورة فلسطين عام 1936، وكانت مشاركة الجيش العراقي فاعلة في حرب عام 1948، ومازالت مقبرة الشهداء العراقيين في مدينة جنيين شاهدة على تضحياتهم من اجل تحرير فلسطين، وكذلك مشاركة الجيش في حرب 1967 دفاعا عن الاردن، ومازالت مقبرة الشهداء العراقيين في مدينة المفرق شاهدة على تضحياتهم. وبعد الثورة كانت مشاركة الجيش العراقي فعالة ومؤثرة في حرب تشرين 1973، وحماية مدينة دمشق من السقوط، ومازالت مقبرة الشهداء العراقيين في دمشق شاهدة على تلك التضحيات. ان هذه التضحيات باتت معروفة للجميع، واصبح موقف العراق بعد ثورة 17-30 تموز 1968، ازاء فلسطين، يتميز بالثورية والواقعية معا، ولاسيما ان الثورة جاءت في احدى موجباتها للرد على النكسة التي حصلت في حزيران 1967. وقد استذكرت قيادة التجربة البعثية في العراق، صيحة مؤسس البعث التي اطلقها 1947 بقوله: لاتنتظروا المعجزة، فلسطين لن تحررها الحكومات، بل العمل السشعبي المسلح". فتبنت الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1965، وقدمت لفصائلها المقاتلة شتى انواع الدعم والاسناد المادي والمعنوي، واردفت تلك الفصائل، بفصيل فدائي نوعي، هو (جبهة التحرير العربية) التي اريد منها ان تكون اضافة نوعية لاعددية، جبهة قومية لاقطرية، موحدة لامفرقة، مجاهدة لامساومة.
خامساً: صدام حسين وفلسطين شب صدام حسين في صباه مع نكبة فلسطين عام 1948، اذ كان طالبا في المرحلة الابتدائية، وينظر بعينين حانيتين نحو خارطة فلسطين العربية، ويقود مظاهرة طلابية، في مدرسة صلاح الدين الابتدائية في مدينة تكريت، هاتفا باعلى صوته "فلسطين عربية" فلتسقط الصهيونية". وقد ظل هذا الهتاف يرن في اذنيه طوال السنوات اللاحقة في شبابه وفي عنفوان رجولته، وفي اعلى سدة القيادة، وصار يردده في كل خطاب قومي. وزاد حب صدام حسين لفلسطين اكثر فاكثر، بعد ان اعتنق مباديء البعث، الذي ولد مع ولادة قضية فلسطين، وظل على قدر معها طوال نصف قرن الماضي. وارتبطت فلسطين بنظر البعث مع الوحدة والتحرر. وصار النضال باتجاه فلسطين يقود إلى وحدة النضال، ووحدة النضال يقود إلى نضال الوحدة. ففلسطين بنظر صدام حسين هي مهماز صحوة الامة العربية، وواحدة من اقدس رايات العرب المؤمنين( ). ووضع صدام حسين حبه لفلسطين في الصدارة من اهتماماته الفكرية والعملية، وهو يقود ثورة البعث في العراق (17-30 تموز 1968) وعاشت فلسطين وقدسها الشريف بكل معانيها الدينية المقدسة، وتاريخها وتراثها في عقل وضمير القائد صدام حسين منذ صباه، فقد رضع حليب القومية العربية، المشبع بحب فلسطين، والمصمم على تحريرها من رجس الغزاة المستوطنين الصهاينة دعاة واداة المشروع المعادي للامة العربية. وقد عزز هذه المشاعر وتلك القناعات لدى القائد صدام حسين، المنظور الفكري القومي للبعث، عندما انطلق عام 1947 وشكل منذ ذاك الوقت –قاعدة انطلاق جديدة للامة العربية، قاعدة محررة في الفكر وفي التنظيم وفي العمل، من كل ذيول ورواسب وقيود التجزئة وعقليتها ومصالحها. قاعدة مندفعة نحو الامام، ومعها جماهير الامة العربية نحو هدفها التحرري النضالي، أي تحرير الارض، وتحرير الانسان معا، وبعث الشخصية القومية الرسالية في ابناء الامة( ).ومنذ ذاك التاريخ كانت فلسطين في صلب المهمات القومية للبعث، وعمل منذ البداية على توضيح الطريق الصحيح لتحرير فلسطين، ونبه إلى خطر المشروع الصهيوني-كما اسلفنا وخطر المعالجات السطحية الراكضة وراء سراب التسويات مع اعداء الامة، الذين يتمتعون بكل مقومات القوة المادية والفنية. ومن هذه المشاعر، ومن هذا الوعي الاصيل لصيغ معالجة قضية فلسطين، كان القائد صدام حسين ناصحا لاخوانه قادة المقاومة الفلسطينية ومحذرا من مخاطر التاثيرات الخارجية على الثورة وعلى القضية الفلسطينية بعامة، اذ قال في حديث له في استقبال وفد عمال فلسطين عام 1984:" عندما توزع القضية الفلسطينية إلى اوراق في سوق المساومة فان النتيجة النهائية لهذا ليس ايذاء فلسطين جغرافيا فحسب وانما ايذاء القضية الفلسطينية والنضال القومي للامة العربية( ). وعليه فان الامر المنطقي والطبيعي –كما يرى القائد-هو ان يكون القرار الفلسطيني قرارا وطنيا، بعيدا عن تدخل القوى الخارجية، التي تسعى إلى القضاء على الشخصية الفلسطينية واضعاف أو مصادرة روح الجهاد لدى المواطن الفلسطيني. ان هذا التحذير من مغبة تحويل القضية إلى اوراق في اسواق المساومات السياسية، سواء في السر أو العلن انذاك، أو عدم الوقوع تحت التأثيرات الخارجية، كان نتيجة استشراف مستقبلي، بان اصحاب المشروع المعادي للامة، عندما صمموا مشروعهم فانه يقضي اقامة وطن لليهود الصهاينة من "النيل إلى الفرات" وعليه فمن غير المعقول ان يتنازلوا عن مكاسب حققوها بالقتال، ولاسيما انهم يعتقدون ان مشروعهم مرتبط بمعتقدات دينية ومستعدون للتضحية في سبيلها. وهذا الاستشراف المستقبلي حول عقم التسويات ظهرت نتائجه بعد منح الفلسطينين (السلطة الفلسطينية)، ضمن اطار جغرافي مطوق ومحاصر يفتقد إلى ابسط مقومات الدولة المادية، وظهر تعنت الجانب الصهيوني في تنفيذ أي بند من بنود الاتفاقات الموقعة مع طرف السلطة الفلسطينية. فلم يوافق الصهاينة على مطلب تفكيك المستوطنات المقاومة فوق اراضي السلطة، ولم يوافقوا على عودة اللاجئين، أو الخروج من القدس. وعليه فان نظرة القائد صدام حسين لتطورات القضية الفلسطينية، نظرة ثورية واقعية، فهي قضية الامة العربية، وهي في الحالات الطبيعية، حالة موحدة للامة، وليست مفرقة لها، كما ان هذه القضية تحتل مكانتها في المجالين الاسلامي والانساني العالمي، وعليه فان النضال من اجل هذه القضية، نضال انساني، وليس قضية محدودة، بل قضية ذات بعد انساني( ). فالصراع العربي-الصهيوني، الدائر فوق بقعة جغرافية استراتيجية في العالم، اصبح مسألة دولية، وهذا يعني ان العالم يتأثر بها، وذلك معناه ان العرب قادرون على التأثير في العالم، والصراع يجعل صوتهم مسموعا في الاطار الدولي، ويكونوا قادرين على صناعة الاحداث باتجاه أهدافهم( ). وفي حديث القائد للصحفية المصرية سكينة السادات في 19/1/1977، طالب الرأي العام العالمي ان يفهم ان الصراع بين العرب والكيان الصهيوني، فهو ليس صراعا دينيا، كما يحاول الصهاينة ان يصوروا الامر، أو كما أوحت به بعض السياسات العربية واجهزة اعلامها…ومن اجل فهم واقعية نظرتنا العربية بعيدة المدى التي تتعلق بالدعوة إلى دولة فلسطين التي يتعايش فيها الاديان والمواطنون معا، مهما كانت دياناتهم على ارض مشتركة وسيادة واحدة وحقوق متساوية بهوية فلسطينية…لابد ان نبرهن عليها(العرب) بخطوات عملية مقنعة، ومنها فتح فرصة العودة لليهود العراقيين إلى العراق، وان يعود اليهودي السوري إلى سورية، واليهود المغاربة إلى المغرب، مثلما الامريكان والفرنسيين والالمان إلى بلدانهم الاصلية. ان موقف القائد من رحيل اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين من بلدان العالم وعودتهم إلى بلدانهم الاصلية، موقف قديم كرره في اكثر من مناسبة، ففي حديث للقائد مع الصحفي الفلسطيني ناصر الدين النشاشيبي في 19/1/1981 قال: الحل الذي يعيد للعرب وللعراق الحقوق كاملة في فلسطين هو ان تعود للعرب فلسطين ويعود العرب الى فلسطين، وفي حديث اخر مع وفد فلسطيني في 16/1/2001م تكرر الموقف المبدئي نفسه بالقول: ان الحل هو ان يهاجر اليهود من فلسطين، واضاف…هذا كلام نقوله بيقين، يقوم على حق لنا، وهو الحصول على ارض فلسطين ليس لاهلها فحسب، وانما حرصا على الامن والسلام والاستقرار في المنطقة ايضا. ومن هذه المنطلقات ظل خيال القائد منصبا على ان تصبح فلسطين خالية من كيان صهيوني مغتصب( )، خالية من اليهود المغتصبين ارض العرب بفلسطين، وهذا الموقف القديم الجديد، لايظهر أي تعصب ديني ابدا، بل يٌظهر السماحة التي نادى بها الاسلام، وتحلت بها القومية العربية، فاليهود العرب مٌرَحب بهم في البلاد التي كانوا فيها بالاصل، اما اليهود الاخرون فعلى الدول الاخرى ان تستوعبهم إذا كانت هذه الدول حقا، من دعاة حقوق الانسان. لقد نقل صدام حسين قضية فلسطين إلى المحافل الدولية، فكانت فلسطين حاضرة في مباحثاته مع زعماء الدول التي زارها أو استقبلهم في بغداد. ففي كلمته التي القاها اثناء مادبة الغداء التي اقامتها الحكومة السوفيتية في موسكو في 5/8/1970، خاطب قادة الاتحاد السوفيتي بالقول :" ان قضية فلسطين حجر الزاوية في السياسة الخارجية التي تنتهجها ثورة 17 تموز…وان العراق يحدد موقفه في ضوء مواقف تلك الدول من قضايا العرب التحررية ولاسيما قضيتنا المصيرية، قضية فلسطين، لان الوجود الصهيوني على أرض فلسطين هو عدوان مستمر على الامة العربية وعلى شعب فلسطين". وفي حفل تكريم اقامة رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي إلكسي كوسيغين في 22/3/1973 تكريما لصدام حسين، خاطب القادة السوفيت بالقول:" لقد برهنت الاحداث وتجربة السنوات التي اعقبت عدوان حزيران 1967، ان سياسة التراجع والتنازلات امام الوعود الامريكية الكاذبة لايمكن ان تحقق شيئا ذو جدوى لشعبنا العربي الفلسطيني وفي البلاد العربية التي احتلت اراضيها، وان أي صيغة تدعو إلى مجابهة الصهيونية بمعزل عن النضال ضد الامبريالية هي اما جاهلة أو مخادعة". يتضح من هذا الخطاب ان صدام حسين-منذ وقت مبكر- ادرك كنه العلاقة الاستراتيجية بين الصهيونية والامبريالية، وان التصدي للصهيونية يستلزم التصدي للامبريالية في الوقت نفسه. وفي محادثاته مع السيدة انديرا غاندي رئيسة وزراء الهند في 27/3/1974 قال:" ان العراق كقطر عربي، يقوده حزب قومي اشتراكي، تحتل قضية العدوان الصهيوني المدعوم من الامبريالية العالمية والامريكية بشكل خاص اولوية خاصة من اهتماماته وسياسته الخارجية لارتباط ذلك بصميم مسيرة ثورتنا المعادية للاستعمار ومواقعه، ومصالحها الهادفة إلى بناء اقتصاد متين متوازن بعيداً عن سيطرة الاحتكارات الامبريالية. وهذه المسألة تهم جميع الاحرار والتقدميين في العالم، لذلك نرى ضرورة بذل المزيد من الجهود والتفهم لطبيعة ذلك العدوان، وجوهره وسبل مواجهته بما يضمن تحرير جميع الاراضي العربية المحتلة". وبما ان الكيان الصهيوني وليد مؤامرة امبريالية ضد الامة العربية، وضد وحدتها ونهضتها وتقدمها، فان صدام حسين ظل حازما في تشخيصه طبيعة المواجهة المطلوبة من العرب، وربط ربطا حقيقيا بين الصهيونية والامبريالية، والنضال ضدهما نضال تحرري يخدم الامن والسلام في المنطقة وفي العالم. ان الجهد الفكري الذي قدمه قائد البعث وثورته في العراق، ومنظمات الحزب في الوطن العربي، شكل ارضية مبدئية لكل المناضلين العرب، سواء في فصائل الثورة الفلسطينية أو في الاحزاب العربية، واصبحت افكار الجهاد وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، شعارات الاجيال الفلسطينية والعربية، مع بداية القرن الحادي والعشرين، رغم ان اقطاب المشروع المعادي للامة قد كشروا عن انيابهم، مستغلين الاختلال في التوازن الدولي، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وحالات التراجع والانكفاء من طرف الانظمة العربية الرسمية، وصمت بعضها خوفا، وعمالة البعض الاخر للاجنبي من اعداء الامة.
مواقف عملية من اجل تحرير فلسطين لم يكتف قائد الثورةبالمجابهة الفكرية، أو التحريضية-التعبوية فقط، بل اردف القول بالعمل، ووضع المباديء القومية التحررية الوحدوية في اطار التطبيق العملي، لان المباديء النظرية بدون عمل، تظل مبادىء فلسفية في طيات الكتب، ولكن عندما تدخل المباديء حيز التطبيق، فانها تصبح دليل عمل الامة نحو تحقيق اهدافها، وتعطي النموذج والمثال للاخرين لكي يقتنعوا بصحة الافكار والمبادىء، أو يقتدوا بالنموذج في القول والفعل. لم تمض سنة على قيام ثورة تموز حتى بادرت بطرح مشروعات للتضامن العربي الفعال، على طريق الوحدة العربية، مشروعات تكفل رفع المستوى العربي من حالة التردي إلى مستوى المجابهة، مع المشروع الصهيوني –الامبريالي المعادي لوحدة الامة، والمعادي لأماني ابناء الامة وتطلعاتهم نحو غد مشرق. لقد بادرت الثورة في العراق على الصعيد الرسمي، بطرح العديد من المشروعات الكفاحية التي تحقق قدرا من التضامن والعمل العربي المشترك، باتجاه تحرير فلسطين، فبدأت الثورة طرح مشروعاتها منذ عام 1969 في مؤتمر قمة الرباط، ثم قمة طرابلس 1970، كما طرحت مشروعا على سوريا ومصر 1972 من اجل لقاء وحدوي بين هذه الاقطار، في خطوة لانشاء جبهة مواجهة عسكرية ضد قاعدة المشروع المعادي ( الكيان الصهيوني). وطرحت الثورة مشروعا كفاحيا في مؤتمر وزراء الدفاع العرب1973. وفي حرب تشرين كانت مشاركة العراق مشاركة فعّالة ومؤثرة في مسار المعركة -انذاك-. وعلاوة على المشاركة العسكرية ، فقد استخدم العراق النفط سلاحا في المعركة، ودعا الدول العربية المنتجة للنفط ان تستخدمه سلاحا في المعركة القومية، وطرح القائد صدام حسين الاعلان القومي 1980، الذي ينظم العلاقات العربية-العربية، والعلاقات العربية مع الدول الاجنبية، في مبادرة لضمان الامن القومي العربي. وبعد ان حقق العراق نصره المؤزر في ملحمة قادسية صدام المجيدة (1980-1988) توجه بافكار وحدوية جديدة لانشاء مجلس التعاون العربي 1989 بين العراق ومصر والاردن واليمن( ). ان فحوى تلك المشاريع، التي استندت إلى الاطار الفكري للبعث، هي تحقيق مواجهة مبدئية مع المشروع المعادي، وتعبير عن الهوية القومية الحضارية وعن القيم الانسانية، وبالتالي اخراج القضية الفلسطينية من انفاق القطريات الضيقة ومن اجتهادات اصحاب المباديء الاممية، واخراجها اخيرا من النتائج الوخيمة التي ستنفثها العولمة بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية. وبالتالي وضع القضية الفلسطينية في مكانها الطبيعي في حضن العروبة الدافيء. ويمكن القول ان الثورة في العراق اكدت مقدرتها على قيادة المشروع القومي التحرري، عندما ادركت مخاطر خطوة انور السادات عام 1977 باتجاه المصالحة مع العدو الصهيوني، وما احدثته تلك الخطوة من اثار سلبية على الامة العربية، لانها اخرجت اكبر قطر عربي من ساحة المواجهة مع المشروع المعادي. ففي ذلك الوقت العصيب، بادرت الثورة إلى الدعوة لعقد مؤتمر قمة عربية في بغداد 1978. وبالفعل فقد إلتأمت القمة في بغداد، بعد ان تم تهياة اسباب نجاحها، واتخذت قرارات مهمة عديدة تم تطبيق قسم حيوي منها( )، وقد شكلت تلك القرارات القاعدة الاساس نفسيا وعمليا في صمود الاخرين وعدم انهيارهم مثلما كانت تتوقع الصهيونية ودهاقنة الامبريالية بعد موقف السادات ذاك. وانطلاقا من تلك التجربة الناجحة، جاءت دعوة القائد صدام حسين 1997 لعقد قمة عربية على مستوى الرؤساء والملوك والامراء، لبحث موضوع واحد هو قضية فلسطين، وان تبتعد القمة عن الشكليات والبروتوكولات الخاصة بمثل هذه المناسبات، وان يشبع الزعماء العرب موضوع القمة حقه من النقاش والتحليل، والتوصل إلى قرارات جادة يمكن تنفيذها، لانقاذ مايمكن انقاذه في موضوع فلسطين، ولاسيما بعد سلسلة من التراجعات والانتكاسات التي حصلت في العقدين الاخيرين من القرن الماضي. المهم من عقد القمة المقترحة انقاذ قضية فلسطين باقل مايمكن من الخسائر الاعتبارية والمادية، أو كما عبر القائد: لاندع الصهاينة يستضعفون العرب والفلسطينين منهم، ليكيلوا لهم الضربات ويسخروا اكثر فاكثر من قدراتهم وعقولهم( ). ولابد من التوقف عند مبادرة القائد صدام حسين في 12/8/1990 التي جاءت في خضم اوضاع خطيرة جدا عندما كانت قوى المشروع المعادي للامة، تحشد قواتها العسكرية في المنطقة لشن العدوان على العراق، في تلك الظروف الخطيرة كانت فلسطين حاضرة في ذهن القائد وضميره. ان المبادرة وضعت سياقا زمنيا لانهاء الاحتلالات في المنطقة، استنادا إلى قرارات مجلس الامن التي اتخذتها تجاه قضايا عربية وقضايا المنطقة، وبخاصة قضية الصراع العربي-الصهيوني، بعيدا عن اسلوب الانتقاء أو الازدواجية في التصرف. وجوهر المبادرة ان ينسحب الصهاينة من كل الاراضي العربية التي احتلوها، وبخاصة الاراضي التي احتلوها من العرب عام 1967 من غير قيد أو شرط، وعند ذلك تطبق قرارات مجلس الامن الاخرى بما في ذلك القرارات ذات الصلة بموضوعة الكويت( ). ان تلك الاوضاع لايتحملها الا نمط خاص من القيادة التاريخية، ولايتحملها الا شعب عريق مثل شعب العراق، ولايتحملها الا حزب رسالي مثل حزب البعث العربي الاشتراكي راعي المشروع القومي العربي وقائده. في مثل هذه الاوضاع، تجلت عظمة ملحمة ام المعارك في الموقف المبدئي من قضية فلسطين، وتحضر فلسطين ودرتها القدس الشريف في ضمير القائد وتشخص امام ناظريه وهو بعيد عنها مكانيا، ويعلن الجهاد المقدس، وتتطوع الملايين، ويُشكل جيش القدس من اجل انقاذها من براثن الصهاينة، وتحريرها من النهر إلى البحر. وهاهو القائد يخاطب الرئيس الليبي في رسالة جوابية في 11/10/2000م بالقول:" اننا لسنا ردفاء لشعب فلسطين، وانما اهل قضية واحدة ومصيرنا واحد". ويؤكد الموقف المبدئي الجهادي في رسالته المؤرخة في 17/10/2000م إلى مؤتمر القمة العربي التي انعقدت في القاهرة بان موقف العراق الواضح هو الدعوة والعمل لتحرير فلسطين بالجهاد، لان الجهاد وحده هو القادر على تحرير فلسطين، واي وصف اخر يبقى قاصرا على ان يسترجع فلسطين. كل فلسطين، ويطلق سراح القدس ومسجده الاقصى من اسره، ويحرر الاراضي العربية المحتلة الاخرى( ). لقد رافق هذا النضال السياسي على المستوى الرسمي نضال اخر على المستوى الشعبي، اضطلعت فيه قيادة الحزب والثورة والمنظمات الحزبية والاتحادات والفعاليات الشعبية في العراق. وبفعل هذا النضال اصبحت بغداد محط رحال القوميين والشرفاء في الوطن العربي، يعقدون فيها المؤتمرات والندوات ويقيمون فيها المسيرات والمظاهرات، انتصارا للحق العربي، وانتصارا للصمود والكفاح حيث يكون في اقطار الوطن العربي، سواء كان في العراق أو فلسطين أو لبنان. واصبحت بغداد بعد ملحمتي القادسية وام المعارك، محط رحال الاحرار والشرفاء في الوطن العربي وفي العالم، ومنها يتزودون بالعزيمة والاصرار على مواجهة الشر والعدوان ممثلا في زعامة المشروع المعادي للامة العربية والمعادي للانسانية كلها. وفي اطار العلاقة مع المناضلين الفلسطينين في كل الفصائل، كانت علاقة صميمية تقوم على الصراحة المبدئية بعيدة عن المجاملة والتسويف، والتأكيد عليهم بان يتخلصوا من تأثيرات الانظمة القطرية وان يتخلصوا من اوهام اللعبة الدولية، وبالمقابل ان تكون الامة العربية مصدر إلهام ثورتهم، رغم ماتعانيه من مآسي ومن ويلات. فالامة تظل اساس الثورة ومعينها الذي لاينضب، ومصدر تفاؤلها، لان عروبة فلسطين باتت تشكل نسيج الحياة العربية، وتهتز قلوب العرب لاي مصاب في فلسطين. ان ارتباط فلسطين بعمقها العروبي القومي، وارتباط ابناء العروبة بفلسطين، وايمانهم بحتمية تحريرها، بات يورق الحكام القطرين، ومنهم اصحاب المال في دول الخليج العربي فهؤلاء حرصوا منذ زمن بعيد على ان تبقى الثورة بعيدة بتأثيراتها الثورية الجهادية عن مجتمعاتهم، ويدرأون عن انفسهم وكراسيهم بدفع بعض المال كرشوة إلى الثورة الفلسطينية، ومحاولتهم ايهام رجال الثورة بانهم واسطة خير مع القوى الدولية المؤثرة، لخدمة قضية فلسطين. ولكن جاءت ملحمة ام المعارك لتكشف هذا الزيف، وتظهر صحة الطرح القومي الذي نادى به قائد المشروع القومي المجاهد صدام حسين.
ام المعارك وفلسطين. شكلت المواجهة بين المشروع القومي العربي، في قاعدته المحررة (العراق) وبين المشروع الصهيوني-الامبريالي المعادي، بداية مرحلة جديدة من المواجهة، ولاسيما بعد اختفاء القطب الدولي (الاتحاد السوفيتي) الذي كان يحقق الموازنة في النظام الدولي. فقد اثارت حماسة الشرفاء في العالم للوقوف ضد هيمنة القطب الواحد، ممثلا في الولايات المتحدة. كما كشفت ام المعارك الافق المسدود للتسويات الاستسلامية، في مرحلة النكوص والارتداد، وفي مرحلة ساد فيها التضليل المتعمد واخفاء الحقائق، وكشفت ام المعارك سادية قوى المشروع المعادي للامة، ومقدار حقدهم على العرب، ومقدار تحالفهم وتبنيهم المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسعي. لقد وضعت ام المعارك كل مباديء الحزب التي بشر بها وناضل من اجلها اكثر من نصف قرن، دفعة واحدة امام اعين ابناء الامة، وبالذات الوحدة والعدالة في توزيع الثروة، تحرير الارض المحتلة من قبل الصهاينة العنصريين. وأحدث صمود العراق الاسطوري وبسالته في ام المعارك الخالدة حالة مد نهضوي جهادي في فلسطين وفي لبنان، وهذه الحالة تُعد فرصة تاريخية قلّ نظيرها في تاريخ الامة العربية المعاصر، للصعود نحو مستوى من الفكر ومن العمل القومي الجاد باتجاه التحرير والوحدة. ان فرصة كهذه لايقتنصها، إلا من يستحقها، ومن تتوفر فيه اشتراطات الارتفاع بنضاله وفكره إلى مستوى التحديات القومية وعيا ونضالا وتخطيطا( ). ومثل هذه الفرصة التاريخية ماثلة امام القوى القومية والوطنية في الوطن العربي، القوى التي تؤمن بضرورة النضال ضد الاحتلالات وضد الاستعمار ومؤامراته، وتؤمن بحتمية تحرير الارض والانسان، ومثل هذا الايمان-ان توفر حقا- كفيل بتوحيد أطر النضال ويجمع الاطراف المعنية به، في كل موحد في مواجهة التحديات ومواجهة المشروع المعادي للامة. لقد علمنا التاريخ الانساني، ان القوى المتجبرة والشريرة يزداد شرها وعدوانيتها كلما سادت حالات الضعف والتشرذم لدى امة أو شعب معين، فالضعف يثير شهية وشهوة الاشرار، لاستغلال حالة الضعف، لتحقيق اهدافهم وتنفيذ مخططاتهم على حساب الضعفاء. اما الامم المناضلة فانها تخسر في لحظة المواجهة الانية ولكنها تربح في النهاية، وتسجل لنفسها سبقا في التاريخ الانساني. وعليه فان الرد على المشروع الصهيوني الامبريالي، لايكون بالضعف والاستكانة والاستسلام لارادة الاعداء، بل يحتاج إلى وضع انقلابي يعبر عنه بالجهاد، وضع يتسم باليقظة ومضاعفة الجهد والتضحية والاقدام، كما يحتاج إلى التعامل مع العلم والتقنية لضمان صيرورة النهضة والتقدم للامة. وفي الوقت الذي يسعى الاعداء إلى ترسيخ انماط سلوكية وفكرية وسياسية واقتصادية في المجتمع العربي مثل العولمة والشرق اوسطية والتطبيع مع الصهيونية، فان المهمات الاساسية امام القوى القومية، ان تعمل على تعزيز الانتماء القومي لدى المواطنين العرب، وتعميق وعيهم باهمية التمسك بالقومية المؤمنة. والامر الذي اكدته تجارب الشعوب المناضلة، هو ان تعزيز المباديء القومية في التحرر والوحدة، لايكون الا بالنضال الشعبي، وهذا النضال هو الضمان لاستمرار الوعي الوحدوي التحرري. ولنا في انموذج العراق مثالا على صحة هذه الفرضية، فالصمود العراقي بوجه اعتى قوة عالمية، اعطى مثالا للامم والشعوب التواقة للحرية والتحرر، لكي تناضل من اجل تحقيق اهدافها. والاولى ان يقتدي بهذا الانموذج العرب في كل مكان رسمين وشعبين، لان النضال تأكيد لوجودهم وتأكيد لحقهم في الحياة الحرة الكريمة.
#حسن_محمد_طوالبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدب الرد في الإعلام الالكتروني
-
هل يقف الغرب حقا مع ثورات الشعوب ؟
-
حكام العرب يسمعون ما يروقهم
-
حوار فكري متجدد بين الرأسمالية والاشتراكية
-
الإنسان العربي بين خياري الحرية والأمن
-
حق تقرير المصير سلاح ذو حدين
-
- العرب والغرب بين خياري الصراع أو الحوار الحضاري
-
جدل في ايران حول الخلاف بين المرشد والرئيس
-
نظرة دول الاقليم من الانتفاضات العربية
-
نحو نظام دولي متعدد الأقطاب
-
ملعون من يفتح للاجنبي ابواب بلاده
-
نملك القوة ولا نملك القدرة على استخدامها
-
رسالة عمان والمسؤولية المشتركة للدفاع عن الاسلام
-
عدوانية صهيونية متمردة ضد العرب
-
المصالحة الفلسطينية هل تقود الى قيام الدولة
-
اغتيال بن لادن نقطة لصالح اوباما في الانتخابات
-
يوم العمال احتفالات شكلية واهمال للمطالب
-
العولمة دراسة في المضامين والاهداف
-
يوم دامي في ذكرى احتلال الاحواز
-
الثورة حق تاريخي لكل الشعوب
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|