|
ثلاثة أشهر على الانتفاضة... أية آفاق؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3395 - 2011 / 6 / 13 - 18:00
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في المجرد، تنفتح تطورات الأزمة السورية على ثلاث احتمالات أو أربعة. أولها أن يسحق النظام الانتفاضة بالقوة، ويعود إلى أيام الماضي السعيد قبل منتصف آذار. الاحتمال الثاني أن تتمكن الانتفاضة من إسقاط النظام، والتحول من "سورية الأسد" إلى سورية جديدة، جمهورية وعامة. الاحتمال الثالث يتمثل في تسوية تاريخية من نوع ما، تستوعب جانبا من النظام الحالي في سورية ما بعد بعثية وما بعد أسدية. أما الاحتمال الرابع فيتلخص في أن يقود عجز النظام عن سحق الانتفاضة والعجز المحتمل للانتفاضة عن الإطاحة بالنظام إلى ضرب من الاستعصاء السياسي المديد المنهك للبلد، على نحو سبق أن رأينا نظائر له في لبنان و، بصورة ما، في العراق. الاحتمال الأول هو ما اختاره النظام. يسحق الانتفاضة أولا، ثم قد يقوم بإجراءات تحديثية شكلية، تبقي السلطة كلها بيد الطاقم الحاكم، المتصرف السياسي الوحيد في البلاد. لكن رهان إسقاط الانتفاضة هذا يتأكد فشله كل يوم. حتى أسابيع قليلة مضت، كان مؤيدو الانتفاضة والمتعاطفون معها يتملكهم القلق من قدرتها على الاستمرار في وجه نظام دراكولي، يخوض معركة حياة أو موت ضد المحتجين من محكوميه. اليوم لم يعد الشاغل مرتبطا بالاستمرار، بل بالكلفة الإنسانية والوطنية، وبالمنعطفات المحتملة، وبأمد الصراع. هل يحتمل أن تنجح الانتفاضة في إسقاط النظام، على ما يدعو شعارها المركزي في الأسابيع الأخيرة؟ وماذا بالضبط يعني "إسقاط النظام"؟ من الملائم أن تصوغ قوى الانتفاضة، والمعارضة ككل، فهما سياسيا استيعابيا لمضمون هذا الشعار، يتطلع من وراء الانتهاء من نظام الواحد الشخصي والحزبي، وحاكمية الأجهزة الأمنية، إلى استيعاب مصالح اجتماعية وسياسية مرتبطة بالنظام القائم ضمن ترتيب سياسي جديد في البلاد. الواقع أن هذا من الهواجس الحاضرة بالفعل في تفكير الطيف المعارض، وأن أحدا لم يدافع عن منطق استئصالي أو اجتثاثي حيال النظام ككل، إلا أنه بالمقابل قلما يجري التمييز ضمن "كل" النظام بين مركب سياسي- أمني- مالي لا معنى لأي تغير سياسي لا يفككه، وبين طيف من المواقع والمصالح الاجتماعية التي لا بد من إدماجها ورعايتها في سورية الجديدة. والحال أن المنطق العدمي الاستئصالي الذي يواظب عليه النظام من جهة، وتَصرَّفَه حتى اليوم ككل متراص لا تمايزات فيه من جهة ثانية، يقلل من فرص تبلور تصور استيعابي للتغيير. لكن هذا ميدان أساسي للعمل، الآن وفي كل وقت. ونجاح الانتفاضة في تحقيق هدفها الأساسي، نقل سورية إلى نظام سياسي أكثر عدالة وحرية، مرهون بقدر كبير بالقدرة على الاستجابة لهذا التحدي. من شأن ذلك أن يدفع باتجاه تشجيع التمايزات داخل النظام بين استئصاليين، لا يقبلون غير إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وبين "معتدلين" يحتمل أن يبحثوا عن تسويات ومخارج سياسية عقلانية، فيؤهل شروطا أكثر ملاءمة للسياسة والتفاوض. في النهاية، لا يمكن للنصر إلا أن يكون سياسيا، وإذا كان النظام عاجز عن الانتصار، فبالضبط لأنه إطلاقي أو لا سياسي جوهريا، يُحوِّل كل صراع سياسي (نسبي وقابل للتسوية) إلى صراع وجودي، معركة حياة أو موت. وخلافا لما قد يتراءى لنا، فإن النظام هو من يرفض التفاوض حتى اليوم، وما يقتضيه ذلك من الاعتراف بأطراف سياسية أخرى، مساوية له من حيث المبدأ. هذا ما ينبغي أن يكون واضحا لقوى الانتفاضة. ليس لها أن ترفض مخارج تفاوضية محتملة (غير موجودة بعد)، بل وعليها هي أن تصر على أفضلية مخارج كهذه، وإن بالطبع دون التضحية بالمبدأ الأساسي: الانتهاء من الحكم الأبدي الوراثي، والعمل على بناء نظام ديمقراطي تعددي، يوفر تمثيلا أكثر ديناميكية وانفتاحا للمجتمع السوري. بهذا المعنى الاستيعابي للتغيير، يتضاءل الفرق بين "إسقاط النظام" وبين تسوية تاريخية، تستوعب المصالح الاجتماعية والسياسية التي تجد تمثيلها فيه اليوم، ولا تستبعد غير التيار العدمي المتطرف الذي اختار التنكيل نهجا للتعامل مع الانتفاضة. بحكم تركيب المجتمع السوري من جهة، والتطاول المحتمل للأزمة الوطنية من جهة أخرى، واحتمالات التدويل من جهة ثالثة، الاعتدال والتسوية هما السياسة الوحيدة المثمرة. ربما يقال إن الوقائع العنيدة أقوى من الأفكار الطيبة، وإن الواقع المعاين هو عنف مطلق يمارسه النظام ضد احتجاجات سلمية، عادلة ومشروعة، فما جدوى الكلام على تسويات وحلول سياسية؟ هذا الكلام صحيح كتحليل، لكنه ليس مجديا كعمل. السياسة منطق عملي غير حتمي، وفي العمل يمكن أن تظهر ممكنات جديدة في كل وقت، وأن تنفتح أبواب التسويات والحلول التفاوضية من حيث لا يتوقع أحد. يبقى احتمال رابع لا يمكن استبعاده: توازن قوى سلبي، يحول دون التغيير ودون تسوية تاريخية مُشرِّفة: يفشل النظام في تحطيم الانتفاضة، وهذا مؤكد اليوم، ويتعذر على الانتفاضة تغيير النظام، وتسير البلاد نحو تعذر الحكم. وقد يأخذ هذا الاحتمال شكل نزاع أهلي، يختلط حتما في منطقتنا بأصابع إقليمية ودولية، تطيل أمده. المدخل إلى تجنب هذا الاحتمال الأسوأ هو أن يدرك النظام أنه لا يمكن أن يفوز بهذا الصراع أبدا، وأن لا سبيل إلى العودة إلى الوراء. هذه هي الواقعة الأكثر يقينا في سورية اليوم. النظام مرشح لأن يخسر كل شيء طالما هو يصر على أن لا يقدم أي شيء لمحكوميه الثائرين. وبينما قد يستطيع تأخير ولادة سورية الجديدة، أو حتى قتل سورية ككيان، فإنه لن يستطيع إعادة الحياة لسورية القديمة، البعثية. لقد ماتت حين قتلت نحو 1500 من محكوميها، دون ما يشير إلى أن همتها في القتل قد فترت. لكن المدخل إلى تجنب احتمال التعفن المديد هو أيضا أن تجمع الانتفاضة، وقوى المعارضة عموما، بين النشاط الاحتجاجي المستمر وبين المبادرات السياسية التي تركز على جوهر الأزمة السورية اليوم: التعارض بين تطلع السوريين إلى الحرية والاحترام والمساواة في بلدهم، وبين نظام سياسي متقادم ورجعي بكل معنى الكلمة، يدافع عن مصالح جزئية متطرفة، وفاقد لأي معنى وطني عام. مضمون التغيير في سورية هو الخروج من هذا النظام الضيق إلى أوضاع تكفل لعموم السوريين، بمن فيهم من يقفون اليوم أقرب إلى النظام أو إلى جانبه، حريات أكبر وحقوقا أكبر وأمنا أكبر، وفرصا أوسع للترقي الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. سلاح الانتفاضة هو التظاهر السلمي، وسياستها هي التفاوض والبحث عن تسوية وطنية جديدة، ورهانها هو الحرية والعدالة للسوريين جميعا.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما هي نقطة التحول السياسي في سورية اليوم؟
-
حوار في الشأن السوري...
-
في شأن الانتفاضة السورية وسياستها
-
المسألة السورية والمستقبل
-
المحنة السورية التي طال أمدها...
-
في نقد السؤال عن البديل في سورية
-
ثورة ضد الإقطاعيين الجدد
-
العودة إلى الوراء ممتنعة، التقدم إلى الأمام صعب، لكن لا بد م
...
-
في بعض أصول الأزمة الوطنية السورية الراهنة
-
الديمقراطية أو البريرية؟ لا بديل آخر
-
حوار: اللي يجرب المجرب...!
-
سجين دمشق
-
الانتفاضة الشعبية وإعادة بناء النظام السياسي في سورية
-
أزمة وطنية يمكنها أن تكون فرصة تجدد وطني
-
حوار عن سورية
-
من السلطة الشخصية الدائمة إلى الجمهوريات الجديدة
-
قٌضايا الإصلاح الوطني في سورية، ورقة نقاش
-
-لاستقلال الثالث- وأفق الثورة الثقافية
-
من الوطنية الممانعة إلى الوطنية الديمقراطية
-
قضايا في شأن تونس الجديدة
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|