صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1012 - 2004 / 11 / 9 - 09:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مثل العديد من الشباب العلماني المتطلع بشجاعة الى الحياة والحداثة, بعيدا عن الخرافات وخداع النفس, نظرت باعجاب وتقدير الى الدكتور صادق جلال العظم, وكتابه الشهير في السبعينات, "نقد الفكر الديني".
مرت السنون وغادرنا العراق, وذهب الشباب, لكن الايمان الشجاع بالحداثة والحياة ورفض الخرافات لم يتزحزح قيد شعرة. وفي احد الايام عرفت ان كاتبي الكبير, صادق جلال العظم سيظهر في احدى القنوات الفضائية في محاورة تلفزيونية مع احد رجال الدين. انتظرت المقابلة بفارغ الصبر وانا اتوقع ان يسعدنا د. صادق بمحاورة يتغلب فيها العقل على التعصب, والحجة الهادئة على الخطبة الغاضبة المدوية.
كم كانت دهشتي وخيبتي كبيرتان حين وجدت الادوار تتبادل, فكان د. صادق هو الذي يصرخ ويرفع صوته ويتكلم بازدراء في حين حافظ رجل الدين على اتزانه وادبه طيلة المقابلة وهو يحاول الرد على الحجة بالحجة, في حين كان كلام د. صادق اقرب ما يكون الى الشتائم!!
مضت السنون مرة اخرى, وعلمت ان د. صادق جلال العظم سيلقي محاظرة في مكتبة في دنهاخ (لاهاي) فذهبت لاستمع اليه يتحدث هذه المرة عن "الارهاب". لم اكن الوحيد الذي اصيب بخيبة امل من محتوى المحاظرة فلم تزد عن حديث مبسط يمكنك ان تجده في اية مقالة بسيطة عن الموضوع, بل لايزيد عن حديث اعلامي من النوع الذي نراه يوميا على ال (CNN). والتفصيل الوحيد الذي اذكره, كان محاولة ربط الارهاب الحالي بحوادث ارهاب تاريخية. ولم اجد حتى تلك الرابطة مقنعة, وتساءلت لم يقطع الفيلسوف والكاتب المعروف كل تلك المسافة ليقول لنا هذا الكلام.
يبقى تقديري للدكتور صادق شجاعته في السبعينات عندما كتب ما لم يجرؤ الاخرون عليه.
تذكرت هذا كله وانا اسمع خبر فوز الفيلسوف الدكتور صادق جلال العظم بجائزة ادبية هولندية تقديرية كبيرة, وربطت دون ارادتي بينه وبين الفائزين بجائزة نوبل, حيث لايكاد يوجد بين الفائزين بها حسب علمي الا قليل جدا ممن لا يروقون للغرب بافكارهم, ومعظم هؤلاء رفضوها احتجاجا.
لم يكن فوز الدكتور صادق هو الدافع لكتابتي لهذه المقالة, بل ردود الفعل والتقييمات التي اجدها على موقع "الحوار المتمدن" كلما كتبت مقالة تنصف (برأيي) المسلمين. ولاحظت ايضا ان ذلك ينطبق على الكتاب الاخرين. فما ان يكتب احدا مقالة تنتقد اميركا او الحكومة العراقية في شيء ما, او ينبه على خلل ما, حتى ينحدر تقييم القراء لمقالاته بشكل حاد. وان كتبت خاطرة في انتقاد الارهاب لحصلت على اعلى التقييمات, حتى لو لم تكن تلك تضيف شيئا.
صحيح ان تلك التقييمات ليست دقيقة, ويمكن غشها, لكني افترض ان معظمها يعبر عن رأي صاحبه, وان معظم زوار الموقع من المثقفين اليساريين العلمانيين. فهل صار المثقف اليساري العلماني (العربي) مطابقا فيما يرى للاعلام الامريكي؟ هل هو التعب من التفاصيل والتفكير لكي يفرض علينا الاختيار بين اميركا والارهاب كأن لاثالث لهما في هذا العالم؟
في الاسبوع الاخير هزت هولندا جريمة قتل بشعة قام بها شاب من اصل مغربي لمنتج سينمائي هولندي بسبب تهجمه على الاسلام, ووضع على جثته رسالة تهديد لبرلمانية من اصل صومالي, معروفة هي الاخرى بتفرغها لمهاجمة الاسلام. ومن خلال متابعتي للموضوع قرأت قبل بضعة ايام في الحوار المتمدن مقالتين لكاتبتين ثم تعبتها مقالتين اخريين, كانت جميعها تتسم بتجاهل الكثير من الحقائق المهمة. وحين زرت مواقع عربية اخرى وجدتها جميعا بلا استثناء تتحدث بنفس الطريقة (في الحقيقة لم ازر مواقع اسلامية). لذلك رأيت من واجبي ان اوضح الامر باعتباري "يساريا علمانيا" اسكن هولندا ولدي اطلاع على ما جرى فيها في الواقع.
كتبت مقالة بسيطة عبارة عن عجالة لاتخلوا من بعض الاخطاء اللغوية والنواقص الشكلية, تكمل ما افتقدت من معلومات عن القاتل والقتيل والتحقيق, ولم اكد اضيف رأيا لي في الموضوع, لاني اردت فقط ان اكمل ما لايعرفه قراء العربية عن الجريمة. فالقتيل لم يكن بطلا لتحرير المرأة ولالحرية الرأي كما تؤكد المقالات بلا استثناء.
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=26264
لم يكن هذا بالطبع دفاعا عن المجرم او تخفيفا للجريمة, لكن ليس كل من يقتل بطلا وشهيدا, والا فلم نعيب على عبد الباري عطوان حين قدم لقب الشهادة لولدي صدام؟ لا اقول كذلك ان فان خوخ كان مجرما كما كان عدي وقصي, لكنه, مرة اخرى, لم يكن البطل الانساني الذي صورته المقالات المتحمسة.
ما كتبت كان موضوعيا بل وحتى جافا لايكاد يحتوي الا سلسلة من حقائق اهملت في المقالات الاخرى, لكنها من الاهمية بحيث يمكن ان تصحح صورة خاطئة وتجنب اتخاذ مواقف غير مدروسة يمكن ان تحسب مستقبلا على الكاتب او الحزب المتبني لها. لم اذن قوبلت المقالة بالانزعاج والاحتجاج المعبر عنه بالتقييم المتدني الذي تحصل عليه؟ لم يكن مثالي الدكتور صادق ومقالتي الوحيدان, لكني اكتفي بهما كنماذج فقط. لست قلقا بالطبع على درجة التقييم, فهي لاتتحول الى مال او شهادة, لكني قلق على طريقة تفكير اليسار العلماني العربي التي تفقد مع الزمن شكلها العلمي و تتخذ صيغا متعصبة بعيدة عن روحها. هل تخسر العلمانية, بسبب الضغوط المستمرة القاسية, شجاعتها المتمثلة بالقدرة على تحمل الحقائق الصعبة ومواجهتها بثقة المنطق؟ الروح المؤمنة ان الحقيقة صديق مخلص يجب البحث عنه مهما كان قاسيا؟ لماذا يجب ان "نؤمن" ان كل من يقتله التطرف, بطلا بلا مناقشة, لاثبات رأينا في ذلك التطرف؟ لماذا نحتاج الى المغالطات لانقاذ ما نعتقد به؟ الا نستطيع ان نضع الحقائق ببساطة في مكانها وان نعطيها حجمها الحقيقي ونحن على ثقة ان العلمانية في النهاية هي الصحيحة وانها ليست بحاجة الى التزوير للدفاع عنها؟ ان لم نكن قادرين على التحدث مع المؤمنين بما لانؤمن به, فاين هو الحوار واين هو الانفتاح واين هي مرونة الديمقراطية والحداثة, بل اين هي حرية الرأي الذي نصر على ان المقابل هو الذي يغتاله؟
لقد كانت تلك بحد ذاتها جريمة قتل بشعة, ولك انسان الحق, بل الواجب, بادانتها باشد ما تكون الادانة, فلم يجب ان تضاف اليها رتوش مزيفة لاظهارها باكبر مما هي فعلا, كأنها بحاجة الى الكذب لنرى بشاعتها؟
لنحتضن يا اخواني علمانيتنا بحب وثقة, فان التعصب يقتلها, مهما كان اتجاه ذلك التعصب. دعونا نحتفظ بامكانيتنا بان نفخر بشجاعة فلسفتنا وصدقها في مواجهة الحقائق. دعونا نرحب حتى بالحقائق والتفاصيل التي لاتبدو منسجمة مع الفكرة العامة للعلمانية, وان نتجنب استخدام المراوغات وانتقاء الحقائق المناسبة لاثبات رأينا, ثقة منا بان لدينا ما يكفي من الحقائق الصريحة للدفاع عنه. بل دعونا نحتفل ونحتفي بصدقنا ومرونتنا في قبولنا بالحقائق والتفاصيل التي لاتخدمنا, لانها وحدها الديل على سلامة صحة علمانيتنا وتميزها عن التعصب بانواعه المختلفة.
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟