|
الهوية إنسان 12 (ب)
إلهام مانع
إستاذة العلوم السياسية بجامعة زيوريخ
الحوار المتمدن-العدد: 3393 - 2011 / 6 / 11 - 00:16
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
. ISHكنا نسميه إش هكذا كنا نسميه. وكان يكفي ان ننطق بحروفه حتى يتبدى لنا معناه. ، الحروف الأولى لمنزل الطلاب الدولي ISH.إش، منزل قضيت فيه سنتين من عمري عندما إرتحلت إلى العاصمة الأمريكية واشنطن لدراسة الماجستير بفضل منحة فولبراليت أمريكية. منذ وطأت قدمي عتبة باب منزل الطلاب الدولي أحسست أني وصلت اخيراً إلى بيتي. فتنفست. آه ما أجمل الهواء عندما يكون نقياً. أليس ذلك غريباً؟ طوال عمري، وفي كل مكان عشت فيه، كنت أشعر أني غريبة. طوال عمري. حتى في وطني الأول اليمن، كنت أشعر أني غريبة وغيري كان يصفني بالغريبة. أبي كما تعرفان كان دبلوماسياً. ولذلك كنا ننتقل من بلدٍ إلى أخر، ونعود إلى اليمن لفترة سنتين. في كل بلد ذهبت إليه كنت شيئاً أخر لغيري. نبتة غريبة تُزرع في أرض بعيدة، تطل برأسها من بين أوراقها وزهورها، تتأمل ما حولها، تبتسم، قبل أن تخلع جذورها، وترحل إلى أرض جديدة، لتندس في تربته ... إلى حين. وكان لي هوية وإسم جديد في كل مكان. في اليمن كانوا يعتبروني نصف نصف، يمنية... إلى حدٍ. وعندما عملت في جامعة صنعاء لثلاث سنوات بلغني أنهم كانوا يسموني المصرية الطويلة. فكنت ابتسم. غيري يخجل من إختلاط دمه. أما أنا فأفخر به. في مصر، حيث ولدت، وتجري في دمي دماءاً مصرية، كنت لغيري يمنية إلى حدٍ. لهجتي مصرية إلى حدٍ، ولذلك كان السؤال دائما يتبدى في أعين محدثي، عندما اقول "بل يمنية". في إلمانيا حيث عشت طفولتي المبكرة، ظننت لفترة أني ألمانية. ولم اكتشف أني غير ذلك إلا عندما إرتحلت من جديد وكففت عن النطق بالإلمانية. فكان إنكشافاً عن مستقبلِ هوياتٍ متداخلة. في إيران حيث عشت ثلاث سنوات كنت "العربية" في مقابل "الفارسية". وأبي، إستاذي، كان يغني لي حينها "أنا يمني، فأسأل التاريخ عني أنا يمني". وأظن ان الدموع تسيل اليوم على وجنتيه لو سمعني اغنيها معه من جديد. آه ياأبي. هل ستغنيها لي من جديد اليوم؟ في المغرب حيث عشت لأول مرة في حياتي في بلد أربع سنوات متصلة كنت "مشرقية" لا "مغاربية". وفي كل مرة كنت اتحدث فيها مع شخص مغربي يُغير محدثي او محدثتي من لهجته المغربية الدارجة إلى العربية الفصحى.ولم يُجدِ كثيراً تأكيدي أني افهم الدارجة. و كانت دوماً لفتة كريمة من قِبلهما. هناك درست في مدرسة عراقية، طلابها من ابناء وبنات الجالية العربية الدبلوماسية في المغرب. ورغم أني تعلمت دوما (ماعدا في اليمن) في مدارس مختلطة، إلا أني هناك تحديداً تعلمت ان الفتاة يمكن ان تكون وحدها في مجتمع كله ذكور، ولن يضيرها. بل تقف شامخة وعيناها تلمعان. كنت الفتاة الوحيدة في الفصل بين 11 طالباً في السنة الأولى من الأعدادية . وهناك تعلمت ايضاً أن الصداقة ممكنة بين فتاة وشاب. ولازلت اذكر صديقاي السعودي عبدالله بيومي والعراقي سعد معاذ بالمحبة والخير. تماماً كما تعلمت انه ليس هناك شيء إسطوري او خارق في الرجال. هم من نفس الطينة. وكنت اعرف ذلك من منزلنا، لكنه تأكد واقعاً ملموساً بالتجربة. في الكويت، حيث درست البكالوريوس، وعشت للمرة الثانية اربع سنوات متصلة، كنت نصف نصف، نصف يمنية نصف مصرية. ثم اصبحت في زيارتي الميدانية التي قمت بها عام 2008 سويسرية. عربية لكن سويسرية. وحبذا لو تجاهلنا الموقف اليمني خلال إحتلال العراق للكويت. وفي الولايات المتحدة كنت "غريبة ساحرة"، من بلد يغوص في التاريخ، يبحث محدثي عن موقعه على خارطة العالم ولايستطيع. وكان يمكنني ان اكذب واقول إنها مدينة امريكية تقع جنوب كاليفورنيا، وكان المسكين سيصدق. لكني اكره الكذب. واليوم سيصعب إبتلاع الكذبة خاصة وأننا اصبحنا مصدّرين لبضاعة رعب، إسمها الإرهاب، ويسميها شيوخنا الجهاد. في سويسرا، كنت يمنية، ثم تحولت بفعل قادر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية إلى "المسلمة"، واليوم بعد خمسة عشر عاماً متصلة من الحياة فيها يعتبرني البعض هنا "سويسرية مسلمة". وأنا سويسرية أيضاً.. إلى حد. ------ غريبة كنت. أبحث عن مكان أسميه وطن، وكيان أسميه هوية. كطائر تائه يبحث عبثاً عن سربه. إلى أن دخلت باحة ذلك السكن الطلابي. إش. إنترناشونال ستودنت هاوس. هناك احسست أني اتنفس من جديد. ولم اعرف مكاناً سواه أحسست فيه أني جزء منه كذلك البيت. كنت صاحبة البيت منذ دخلته. ولم أكن غريبة البتة. اليس ذلك عجيباً؟ بيت يضم 82 طالبة وطالبة ينتمون إلى 33 دولة من قارات العالم الستة، ويمثلون كل أديان العالم. . بيت هو الكرة الأرضية بأسرها بالبشر الذي فيه. وأحببته كما لم أحب وطناً من قبل. وكان وطني. إلى يومنا هذا. في إش كنا جميعاً غرباء. كل ينتمي إلى دولة ودين ولون وعرق. ولاننا كلنا كنا أجانب فإن حصيلة جمعنا كانت ياللعجب هوية الإنسان لاغير. كنا إنسان أولاً. الهوية كانت إنسان. هكذا كنا نتعامل مع بعضنا البعض. كنا في إختلافنا وتنوعنا متساوون. ولم يهم كثيراً من أي بلد جئنا، أي دين، او لون جلدنا. كان المهم في علاقتنا "كيف نتعامل مع غيرنا". "عامل غيرك كما تُحب ان ُتعامل"، إلى يومنا هذا لم أعرف افضل من هذه القاعدة في التعامل مع من حولي. الإختلافات الثقافية والسياسية التي فرقتنا في العالم الخارجي حملناها معنا بكل تأكيد إلى هذا السكن الطلابي، ومعها الخوف والتحفظ. لكننا تعلمنا مع الوقت كيف نتغلب على اللحظة الأولى من التردد ثم ننظر إلى ما بعد خوفنا. وكثيراً ما كنا نندهش من الحب الذي في الإنسان. في إش تعرفت على أول صديقة يهودية لي. سيلفيا من بيرو. شعلة من الحياة. إلى يومنا هذا أحتفظ بقلادتها... قلادة بسيطة محفور عليها كلمات قصيرة: "ليس هناك أفضل من صديق عزيز". وهي صديقتي وأحبها أيضاً. وفي إش تعرفت على زوجي توماس، وأبو ابنتي سلمى. وأذكر كيف نظرت إلى يديه أول مرة إلتقينا فيها، ثم رفعت عيني إلى وجهه، تأملته قليلاً، وعرفت لحظتها أنه سيكون نصيبي. هناك من يؤمن بالحب من أول لحظة. أما أنا فأؤمن بالثقة من أول نظرة. وثقت فيه، وكنت لا اثق بالرجل إلا إذا كان أباً، أخاً، أو صديقاً. لم اثق به أبداً كرجل. توماس كان مختلفاً. وكان كما توقعت. في إش إكتشفت أني كنت غريبة لأني في قرارة نفسي لم أتمكن من الإنتماء إلى مكان واحد، كل الدول التي عشت فيها اوطاني... إلى حين، لكني كنت دوماً قادرة على أن احلق بجناحي وارتحل إلى مكان جديد. فكنت دوماً شيء ما إلا قليلاً.و لم اشعر بالإكتمال إلا عندما فهمت من أنا. بدوية تؤمن أن العالم بأسره وطناً. وتتخذ من الإنسان هوية والوطن لذلك كان دوماً في داخلي. غيري يمكنه ان يسميني كما يشاء، لكني أنا من يحدد من أكون. وأنا هو أنا. وهذا يكفي. الوطن في داخلي. وهذا الوطن اسميه انسانيتي. ولذا لن تعني الحدود الجغرافية شيئا بالنسبة لي، ففي كل مكان ذهبت إليه تعرفت على الإنسان فيه، ولم يهم كثيرا من يكون، لونه، عرقه، دينه. في النهاية كان دوماً إنسان. وكانت إنسانيته كنزي. إش كان العالم كما يجب أن يكون. العالم كما يجب ان يكون. وللحديث بقية.
#إلهام_مانع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهوية إنسان 12 (أ)
-
كيف أؤمن بالله؟
-
مواطنون لا ذميون 10
-
إلهام مانع في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: افاق التغي
...
-
الشريعة تنتهك حقوق المرأة 9
-
قانون مدني علماني عادل
-
الشريعة ليست عادلة 7
-
-معاً مع حسن البنا ضد الحداثة-!
-
الوطن... الإنسان!
-
أمة تكره؟
-
لأن الأمة لم توجد قط!
-
أمة؟
-
علينا أن نختار!
-
لا صوت يعلو فوق صوت الثورة! حقاً؟
-
اليمن.. أمام مُفترق الطريق من جديد!
-
صباح الخير يايمن، صباح الخير ياوطن!
-
مصر على مفترق الطريق!
المزيد.....
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
-
وصول المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وغادي موزيس إلى خان ي
...
-
سرايا القدس تبث فيديو للأسيرة أربيل يهود قبيل إطلاق سراحها
-
سرايا القدس تنشر مشاهد للأسيرين -جادي موزيس- و-أربيل يهود- ق
...
-
قائد الثورة الاسلامية يزور مرقد الإمام الخميني (ره)
-
خطيب المسجد الأقصى يؤكد قوة الأخوة والتلاحم بين الشعبين الجز
...
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|