|
الماركسية في توجسات مارك فلورباييه
عذري مازغ
الحوار المتمدن-العدد: 3389 - 2011 / 6 / 7 - 00:35
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لم تصدق بعد الدول الرأسمالية أنها حقا وجدت الطريقة المثلى لتصريف أزمتها الخانقة، تفسخت الثورات العربية أخيرا فوجدت في تحرير الشعوب طريقا ثالثا آخر، طريق من النوع الجيد الذي تتوخاه الأقسام الثقافية للسفارات الرأسمالية بالعالم العربي: العدالة الخلاقة، او كما قال مارك فلورباييه: إعادة تأسيس المساواة وفق ما لم يفكره دهاقنة الإقتصاد السياسي، ومؤدى هذه الفكرة ببساطة هي إعطاء الاولوية للأكثر فقرا اعتمادا على مبدأ تكافؤ الفرص الذي يتحقق اساسا على مبدأ تساوي النتائج، مقام موسيقي جميل يختلف مستوى الإستمتاع به باختلاف الأذواق، يتكافأ السمع إليه وتختلف النتائج على مستوى الإستمتاع، لكن النتائج لا تختلف، بل تتبذر على مستوى نباهة كل فرد، وتتحدد إذن فيه مسؤولية الأفراد في درك مستويات الإستمتاع، فالنتائج متساوية بالمطلق من حيث موسيقى المقام مشعة للجميع، لكنها مختلفة بالفعل على مستوى درجة استمتاع الأفراد وذوقهم.أي أن المسؤولية الفردية للأشخاص هي المحددة اخيرا للعدالة الخلاقة. ينظر مارك فورباييه ببراءة برجوازية تلقائية مشحونة بجدية فائقة كالتي يبديها الرئيس ساركوزي وهو يتخطى جون ماري لوبان في فاشيته، فالإشكالية في المساواة عنده انها لا يمكن أن تتحقق إلا في سياق أحجامها بين أفراد المجتمع من خلال تحقيق “استقلالية الأفراد في الخيارات الصحيحة” واحترام اختياراتهم الفردية في مشاريع حياتهم، والجميل في لغة مارك، هذه السلطة التي له في اللسان: أحجام للمساوات، وهي بالطبع أحجام مختلفة لدى الأفراد، والواجب الذي تحتمه العدالة الخلاقة، هي احترام خيارات الأفراد التي هي احجام معينة تتوافق ووضع الأفراد، وبما ان الأولوية للأكثر فقرا فمعنى هذا ان العدالة تتحقق وفق حاجة الفقراء للممكن من حيث الممكن هذا هو السعادة والرضى عن النفس الذي يبتغونه على عكس من يبتغي العيش في صخب المدنية، فالسعادة كما قال تتوزع بالتناسب المجحف مع الشقاء الذي هو أيضا يصيب الأغنياء، من هنا فالمعيار الحقيقي لتوزيع السعادة غير ممكن بالدرجة ذاتها التي لا يمكننا القضاء على الشقاء، مساكين هؤلاء الأغنياء في شقائهم، السعادة والشقاء إذن هو المعيار التجريدي للعدالة. ويبدو من خلال هذا السمو في التجريد الرائع لمارك ولغيره من فلاسفة الرأسمالية أنهم استلهموا جيدا مقولة المثل الشعبي الرائع بدوره والذي يقول: ينقص الأغنياء قدر ما لديهم من غنى، فالأكثر فقرا هو الأكثر شقاء على مايبدو والمعدمون في الأرض تفيض سعادتهم بمجرد أن يتوفر لديهم الممكن عكس الأغنياء الذين يكبر شقاؤهم بكبر ثرواتهم، ويكفي فقط أن تتوفر لديهم الإرادة المستقلة والحرة في اختيار ما يريدون وفق هذا الممكن الجاحد، هكذا تتنوع وتتموج رقصات الفكر البرجوازي وفق مقام العدالة الخلاقة في مجتمع يتوق أن يكون “مجتمعا جيد التنظيم” حسب الفيلسوف الأمريكي رولز مجتمع يسوده التعاون وتتوزع فيه المنافع والواجبات وفق “ تصور عام للعدالة. ماتت الماركسية عند مارك فلورباييه، وفقط ماتت بالسقوط المدوي لحائط برلين، وهو سقوط مذوي بالفعل على رؤوس النساء الشقراوات من أوربا الشرقية كما قال برلماني روسي ذات مرة(1)، أما مارك فقد رأى سقوط الماركسية في أنها لم يعد لها الجرأة في طرح بديل حتى لا تغرقها في السخف كما قال وإثارة جرائم جديدة، وهو صمت يقابله “صدى الواقعية التقاليدية للأحزاب السياسية” يقصد ثغاء الأكباش في برلمان الحكومات الإنتخابية، والحقيقة ان ما يخلق الهواجس الكبيرة للرأسمالية حسب مارك وجون بول فيتوس ليست الماركسية التي انتهت أصلا عندهم بل هذا “الدفع الديموقراطي المتواصل” هو من يدعها في خطر دائم وهو ما يحتم البحث عن اشكال راقية للعقد الإجتماعي حسب فيتوس، وبغض النظر عن موت الإشتراكية أو عدمه، فإنه قلما نجد مثل هذه الصراحة المبيتة لمفكرين غربيين هاجسهم الكبير هو هذا الدفع المتواصل للديموقراطية في مازق ازمي بين الضرورة التي تفرضها الديموقراطية من حيث هي دفع إلى “الحرية والحكم الذاتي” الذي لا يتصادم مع ا”لإستخدام الحر للتقنيات الجديدة في النقل والإتصال” وبين ما يحدثه هذا من انقلابات هامة في الأنظمة المتسلطة وما يترتب عن ذلك مما يمس علاقات العمل التي تتصف بها الرأسمالية، مهمة الرأسمالية إذن هي هذا الحد من الدفع الديموقراطي الذي لا يخلو بدوره من تاثيرات مزعجة بل إن «الوضع المثالي للمواطن، هو العيش في ظل سلطة ديكتاتور عطوف بقدر ما عليه الله الأب» هذا ما يدعونا إليه مارك فلورباييه وعبره مثقفي الغرب الرأسمالي وبالصراحة الفجة عبر الملحقات الثقافية لسفاراتهم ببلداننا، لأن الإستقلالية هي خسارة مؤلمة للبراءة المكلفة، فالبراءة تقتضي مثل هذا الحاكم العطوف، أما الديموقراطية فتقتطي مزيدا من التحرر والكرامة الإنسانية، لكن تستدعي أيضا مزيدا من “مسؤوليات الفرد عوضا عن تقليصها” . من خلال هذه التوطئة يموضع مارك فلورباييه إشكاليته العجيبة التي يتناولها في كتابه « الرأسمالية أم الديموقراطية» ويبدو من خلالها انه انتهى الأمر مع الإشتراكية المفلسة ولم يبقى الآن إلا التفكير في المعضلة الجديدة التي تثيرها الديموقراطية، فصيغة العنوان كما سبق هي على شكل تساؤل في الخيار بين الرأسمالية او الديموقراطية وهو بهذا حسم الامر في وضعنا بين شيئين هما البداهة المطلقة بعد أن ثبت سقوط حائط برلين وما سببه ذلك من انتكاسات الفكر الماركسي بعد فشل التجربة السوفياتية وتقوقع الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية بين الإنحلال التام والخضوع التام لقدر انهيار الإتحاد السفياتي، انتهت مملكة الأرض إذن إلى نزاع آخر بين الرأسمالية ونقيضها الديموقراطية في ملهاة جديدة تعيد فيها الرأسمالية إنتاج علاقات السيطرة بشكل تبدو فيها هي القوة التي لا مفر لها عبر تأسيس منظومة مفاهيمية جديدة تتوق ان تطرح جديدا في الفكر بمستوى من السرامة المنطقية القاطعة. مات الفكر الإشتراكي عند مارك لكن بقيت توجساته عنده كما لو أنه يحارب شبحا مزعجا وهو بالفعل مزعج عندما يكون الميت حاضرا في تمفصلات كتابه هذا، لكن الغريب في هذا التموقع الجديد للفكر الرأسمالي هو في هذا الإلتفاف الرائع حول الديموقراطية التي شكلت لما يزيد من قرنين اهم تبجحات الرأسمالية، ولهذا الإلتفاف دلالة تاريخية يؤسس لمرحلة جديدة للهيمنة الرأسمالية محكومة بغريزتها الوحشية والهمجية في ضرب كل المكتسبات التي تحققت على مستوى الحقوق الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي طال ما كانت تتبجح بها مجتمعات الرفاه الرأسمالية، هاهو مارك قد خلص بقناعة قاطعة على موت الإشتراكية الذي يحتم بجدية الرجال السارمين، (بجدية الرجل الديبلوماسي المحنك) أن يتجه إهتمام الفكر ومعه العالم إلى مابعد الرأسمالية فدعونا إذن نتلمس توجسات مارك من خلال تتبع فكره الذي مازال ماركس من قبره يزعج أحلامه.ويحول دون تناسق فكره رغم كل الزعيق التبشيري على طول فقرات كتابه. وهو مقال أتوخى نشره عبر حلقات هي نقض لفقرات الكتاب نفسه. في نقض إعادة تأسيس المساوات من خلال هذا العنوان الفرعي« إعادة تأسيس المساواة» تبدو المساواة أنها كانت سائدة بالفعل ويتحتم فقط إعادة تأسيسها وفق المعطيات الجديدة التي تشكل السوق الحرة إحدى المظاهر الفينومينية التي تتطلب إعادة صياغة المساواة، فهي، يعني السوق الحرة، ساهمت في الفوارق الإجتماعية بشكل بقي وضع الفقراء في مستوى معيشي “ثابت ومتدني” حسب مارك ووضع الأغنياء زاد غنى “بوثيرة كبيرة” حسب قوله دائما، لكن المفارقة في هذا القول وفي قول آخر هي هذه المقارنة العجيبة التي يقيمها الكاتب في تطرقه لهذه الفوارق في البلد الواحد كالولايات المتحدة حيث يقول: «تجمدت قدرة الشراء لدى أصحاب الرواتب المتدنية خلال الأربعين سنة الماضية بينما تضاعفت قدرة الشراء لدى الشركات إلى أكثر من عشرة أضعاف» وهي المقارنة التي قلما يستثمرها مفكر يتوخى الدقاة الأكاديمية التي يدعوا لها الكاتب عندما يصف قول« نصف سكان العالم يعيشون بدولارين...» الذي استهل به فقرته هذه بالقول أنه قول مجرد، وهو وصف صحيح لو أنه اتخذ فعليا هذا المنحى، لكن مقارنة قدرة الشراء لدى الفرد، بها لدى الشركة لا يستقيم إلا إذا كانت الشركة تتماهى في الفرد أو انه يتكلم عن شركات يملكها فرد أو أفراد، وهو قول يعيد صياغة القول الأول بشكل آخر يتناسب عمليا مع المعطيات الإحصائية العامة، أي أن 80 في المئة من سكان العالم تعيش على عشرين في المئة من الثروة العالمية بينما عشرون في المئة من سكان العالم تستحوذ على ثمانين في المئة من الثروة، والقول هذا يزيح تاليا ما يتوخاه مارك برفضه “نصف العالم” وتزكيته في الوقت نفسه حين يتكلم بالتجريد نفسه عن الدول الغنية والدول الفقيرة. وهنا أعود إلى الدقة نفسها التي لمارك، فأقول:صحيح أن الأغنياء يزدادون غنى بوتيرة كبيرة لكن وضع الفقراء يزداد، وهنا أخالف مارك، بوتيرة أكبر في التردي وليس هو وضع ثابت ومتردي في نفس الآن فالقول هذا الذي يجمع القول ونقيضه لا يستقيم فنيا إلا في متعة النص كما هي عند رولان بارت، ولا أقول كما هي عندنا في العالم العربي.
في فقرة :« العدالة، المساواة، نفس المعركة» يقر مارك أمام هذه الحالة من التفارق الإجتماعي بصعوبة حصول توافق بصددها، لكن الحل عنده لا يستلزم ثورة كما عند الماركسيين لأنها شوهت مفهوم العدالة، يحضر هذا التوجس الماركسي عند الكاتب لكنه لا يقول لنا في طول حديثه كيف شوهت الماركسية مفهوم العدالة، ولا لماذا لا يستلزم الوضع حلا ثوريا، بل سيذهب على مطية أخرى قادته إلى مناقشة عدد من الأطروحات الرأسمالية التي سادت في القرن العشرين في بحث مضني عن إعادة مباركة لصياغة قانون العدالة الخلاقة من خلال إعادة بناء ثلة من المفاهيم التي من وجهة نظرنا لم تراوح وضعها إن لم أقل إن مابعد الرأسمالية التي يبشر بها مارك فلورباييه هو إعادة التاريخ إلى زمن العبيد بتفاوت صارخ يستحضر فقط التراكم المعرفي والتكنولوجي الهائل، العبد فيه على خلاف عن العبد في زمن القن بتملكه هذه المعارف العلمية والتقنية المتطورة. وما حضور التوجسات الماركسية عند الكاتب إلا خوف غريزي بحدس الواثق من أن الآتي هو اكثر من ثورة عبيد. يتبع
(1) في إشارة بلاغية إلى تأسيس شارع الهوى على أنقاض حائط برلين
#عذري_مازغ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يا لربيع الثورات عندنا
-
إسبانيا: ولغز 15 ماي
-
ليسقط مثلث برمودا
-
حكايا من المهجر: لقاء مع بيكاسو (3)
-
حكايا من المهجر: لقاء مع بيكاسو (2)
-
حكايا من المهجر: لقاء مع بيكاسو
-
الثوابت الخرافية في المغرب
-
التحول في الثبات
-
المؤامرة حين تتأسطر عند الأنظمة
-
شظايا خواطر
-
ملح الثورات العربية
-
قراءة في الهيكل الإقتصادي لوليد مهدي
-
وليد مهدي: قراءة ماركسية في الهيكل الإقتصادي
-
المغاربة عندما يكتبون بالنجوم
-
ليبيا والمؤامرة الدولية
-
ثورة الشعوب العربية والإسلام السياسي
-
القذافي، الهلوسة وخطاب الإحتضار
-
التنوع في وحدة الهم
-
المغرب و20 فبراير
-
الثورة في تونس ومصر وآفاق خلق فضائية يسارية
المزيد.....
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|