كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1010 - 2004 / 11 / 7 - 07:17
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
أعيد انتخاب جورج بوش الابن لدورة رئاسية ثانية في الولايات المتحدة الأمريكية, وهو ما كان متوقعاً, رغم الإشكاليات الكبيرة التي رافقت سياسة الإدارة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وفي العلاقة مع الدول الأوروبية والمواقف غير العقلانية إزاء مشكلتي الفقر والبيئة في العالم والسياسات العولمية للبرالية الجديدة والموقف من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. ويبدو واضحاً أن هاجس الإنسان الأمريكي لم يتوجه صوب السياسة الخارجية, بل تركز باتجاه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الداخلية والأحداث المأساوية للحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001, وهي التي أُهملت كثيراً في الدعاية الانتخابية من جانب المرشح الديمقراطي جون كيري. لم تحظ مشكلات العراق والشرق الأوسط, التي عول عليها الكثيرون في أنها ستكون الورقة الرابحة بيد السناتور الديمقراطي ضد خصمه الجمهوري, إلا بقدر ضئيل من اهتمام غالبية الناخبين, إذ لم تزد عن 15 % لا غير.
انتهت الانتخابات وفاز بوش الابن, وماذا بعد؟ أسئلة كثيرة تطرح اليوم في الساحة السياسية في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم, منها مثلاً: هل سيواصل الرئيس الأمريكي سياسته التي مارسها حتى الآن؟ هل سيعيد النظر ببعض جوانب, إن لم يكن كل, السياسة الأمريكية الخارجية؟ هل سيعطي اهتماماً أكبر للقضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي ويتخذ مواقف حيادية واقعية في هذا الصراع؟ وهل سيتخذ إجراءات أخرى إزاء الوضع في العراق ويصحح ما ارتكب من أخطاء هناك؟ وهل ستكون سياسة المحافظين الجدد واللبرالية الجديدة الملونة بصبغة مسيحية انجليكانية مفرطة في التعصب ومهيمنة على الوجهة العامة في السياسة والمواقف إزاء العالم؟ وهل سيواصل تنفيذ سياسة قوى اللبرالية الجديدة والمحافظين الجدد في مجال العولمة بالطريقة التي تريدها تلك القوى والتي تثير العالم كله ضد الولايات المتحدة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تطرح في العالم العربي وفي مجمل منطقة الشرق الأوسط. ولكن قلة منا في منطقة الشرق الأوسط تطرح على نفسها أسئلة أخرى إضافة إلى الأسئلة السابقة, منها مثلاً: هل ستواصل حكومات هذه البلدان السياسات غير الواقعية وغير العقلانية والمناهضة في أغلبها للحياة والحريات الديمقراطية ولمصالح شعوبها؟ وهل ستستمر دون إصلاح حقيقي في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعلاقاتها المتبادلة وعلاقاتها بشعوبها؟ وهل ستسعى إلى إعادة النظر في أسس توزيع وإعادة توزيع الثروة في بلدانها ومكافحة البطالة والفقر والحرمان لدى الغالبية العظمى من السكان وتتصدى لتوسع الفجوة الدخلية ومستوى المعيشة بين الفئات الاجتماعية المختلفة؟ وهل ستمارس القوى والأحزاب السياسية مواقف حازمة إزاء سياسات قوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية وتكافح الإرهاب الفعلي في المنطقة وفي كل بلد من بلدانها؟ وهل ستتخذ مواقف أكثر وعياً وصواباً في دروس التربية الدينية وتغير بشكل جذري برامجها المروجة للعداء والعنصرية والكراهية للأديان والمذاهب المختلفة؟ وهل ستقرر أتباع نهج الفصل بين الدين والدولة؟ وهل ستكون لها مواقف عادلة إزاء مصالح الشعوب والقوميات الأخرى القاطنة معها في المنطقة وتمنحها حق تقرير المصير بما في ذلك الحكم الذاتي أو الفيدرالية, أم أن كل هذا وغيره سيعتبر وكأنه محاولة لفرضه من الخارج, كما تدعي حكومات غالبية بلدان الشرق الأوسط وجميع القوى اليمينية واليسارية المتطرفة وقوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية في هذه المنطقة من العالم, رغم علمها بأن شعوب المنطقة تطرح هذه المسائل وتطالب بها منذ سنوات طويلة؟
لا يمكن للولايات المتحدة, كما أرى, أن تستمر في ارتكاب المزيد من الأخطاء الفادحة التي وقعت بها في السنوات المنصرمة, ولا بد لها من تغيير ملموس في تلك السياسات, ولكنها سوف لن تبتعد قيد أنملة عن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في أي سياسة تمارسها الآن وفي المستقبل. وليس مطلوباً أن تتخلى عن مصالحها بقدر ما يفترض فيها أن تأخذ مصالح الآخرين بنظر الاعتبار. إن إدارة بوش, التي فازت بدورة جديدة, يفترض فيها أن تكون قد أدركت على الأقل عدة مسائل جوهرية, منها بشكل خاص ما يلي:
1. لا يمكن للولايات المتحدة بعد الآن إهمال دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في سياستها الخارجية كما فعلت في السنوات الأربعة المنصرمة, وكما كانت تريد أن تفعله أصلاً في هذا المجال, وبالتالي لا بد من العودة الجادة إلى احترام ودعم جهود الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بصورة عقلانية ودون ممارسة سياسات التهديد والقوة وإلى إجراء إصلاحات جديدة في النظام الداخلي لمجلس الأمن الدولي تأخذ بنظر الاعتبار مصالح الشعوب النامية.
2. ولا يمكنها تجاوز مصالح الشركاء السبعة في مجموعة الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة (7+1), إذ في مقدورها أن تخلق لها مشاكل كبيرة, كما نلاحظ الأمر حالياً بصدد العراق.
3. لا يحق للإدارة الأمريكية أن تكرر سياسة الضربات أو الحروب الإستباقية, إذ أنها مخالفة للقواعد التي كرسها المجتمع الدولي عبر قرون من العلاقات الدولية, وأن إمكانيات التخلص من النظم الدكتاتورية يفترض أن تتم عبر منح شعوب تلك البلدان تضامناً عالمياً ومواقف مناهضة جدياً لتلك النظم. وأن الدعم الخارجي يفترض أن يكون محفزاً للنضال ضد الحكومات التي تدوس على حقوق الإنسان, وأن لا تكيل الأمور بمكيالين, وإلا فمصداقية سياستها لدى شعوب العالم ستكون في الحضيض, كما هي عليه الحالة في الوقت الحاضر.
4. وأن عليها أن تأخذ بنظر الاعتبار مصالح الشعوب الأخرى في إطار السياسات العولمية التي تمارسها حالياً والتي لا تستجيب لمصالح الشعوب الأخرى, إذ بدون تغيير جوهري في هذه السياسات سيتعمق الانشقاق الراهن في العالم إلى عالمين عالم مُستغِل وعالم مُستَغََل, وأن الفقر في العالم وغياب العدالة النسبية سيقودان إلى المزيد من المشكلات وإلى تفاقم الإرهاب في العالم. كما أن الموقف إزاء البيئة العالمية ينبغي له أن يتغير من جانب الإدارة الأمريكية لصالح المزيد من الحماية ومنع تفاقم تلوثها.
5. وأن عليها أن تدرك بأن الإرهاب لا يعالج بالقوة فحسب, بل وعبر ممارسة السياسة والتحري السلمي والديمقراطي عن حلول عملية للمشكلات القائمة عبر الأمم المتحدة وبدعم من جميع بلدان العالم, وأن يتم ذلك وفق آليات ديمقراطية تساهم في معالجتها قبل تفاقمها, وأن تبذل أقصى الجهود لمعالجة مشكلة الشرق الأوسط الرئيسية, القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. إن مكافحة الإرهاب الدولي يتطلب تعاوناً دولياً يستند إلى أسس الشرعية الديمقراطية والتعاون وليس عبر سياسة الفرض أو الانطلاق من مبدأ خاطئ مفاده: "من يقف إلى جانب سياسة الولايات المتحدة فهو صديق لها ومن ينتقدها فهو عدو لها". إن هذه السياسة أدت إلى فقدان الكثير من أصدقاء الولايات المتحدة وعطلت العمل المشترك لمواجهة الإرهاب في العالم, ومنه إرهاب قوى الإسلام السياسي الأصولية المتطرفة.
وإذا كانت هناك آمال بأن تنتهج الإدارة الأمريكية سياسات أكثر عقلانية إزاء العالم, والعالم النامي منه بشكل خاص وإزاء السلام والأمن, فأن فوز بوش الكبير على منافسه الديمقراطي وحصوله على أكثر من 3 ملايين صوتاً زيادة على ما حاز عليه جون كيري, (274 : 254), عزز مواقع الحزب الجمهوري في مجلسي الشيوخ والنواب, وغالبيتهم من المحافظين الجدد المتزمتين واللبرالية الجديدة, ويعد بمثابة تأييد للسياسة التي مارسها بوش خلال السنوات المنصرمة ويعقد ربما الوصول إلى الاستنتاجات المناسبة والضرورية في هذا الصدد. وعلينا أن لا ننسى بأن اللبراليين الجدد يهيمنون جدياً على الكثير من مراكز صنع القرار الأمريكي ومراكز البحث العلمي, وبالتالي فأن توصياتهم هي التي يمكن أن تجد طريقها إلى التنفيذ, ما لم يجر تغيير جدي في كل ذلك وبشكل خاص في حقيبة وزارة الدفاع والعدل وبعض العاملين في مجلس الأمن القومي ... الخ. ولكن نحن نعبر هنا عن رغباتنا, وربما أكثر مما يتقبله الوضع في الولايات المتحدة وتأثيرات المحافظين الجدد!
وإذا كان هذا هو بعض مما هو مطلوب من جانب الولايات المتحدة, فأن المطلوب منا في منطقة الشرق الأوسط كثير جداً ولا تبدو في الأفق أي نية جدية للتوجه صوب معالجة تلك المشكلات التي تتسبب في تفاقم حالة العداء بين غالبية الشعوب وغالبية الحكومات في هذه البلدان. لا تقتصر الإشكالية, كما أرى, على مواقف وسياسات حكومات هذه البلدان فحسب, بل وتمس بالصميم سياسات ومواقف القوى والأحزاب السياسية فيها. إذ أن هذه البلدان قد جربت وصول بعض الأحزاب السياسية القومية مثلاً أو أحزاب الإسلاًم السياسي إلى السلطة (سوريا, العراق, ليبيا, اليمن, مصر عبد الناصر, السودان وإيران ...) التي فرضت نظماً غير ديمقراطية ودكتاتورية ومارست سياسات غير عقلانية وغير عادلة, وبعضها تميز بالشوفينية أو التعصب الديني والمذهبي أو حتى أدخل العشائرية البالية إلى ممارساته في المجتمع. إن البعض من هذه النظم قائم حتى الآن ويمارس ذات السياسات والأساليب المرفوضة من شعوب بلدانه ولم يتعلم من تجارب العقود المنصرمة أو لا يريد أن يتعلم, كما في مواقف القوى القومية العربية اليمينية. كما أن سياسات ومواقف الأحزاب السياسية التي لم تصل إلى السلطة, سواء أكانت في الخندق اليميني أو اليساري المتطرف أو اليساري عموماً, ومنها الأحزاب الشيوعية والاشتراكية أيضاً, تتجلى فيها روح الاستبداد والبيروقراطية في تعاملها مع أعضاء أحزابها ومع الجماهير وفي وجهة السياسات التي تطرحها وفي الخطاب السياسي الذي تستخدمه.
إن منطقة الشرق الأوسط أمام محنة سياسية كبيرة ولن تخرج منها بعمليات ترقيعية وبإجراءات اضطرارية للإفلات من التغييرات العميقة المنشودة في هذه المجتمعات, وهو ما نلاحظه اليوم في بعض الإجراءات التي تسمى إصلاحية في المملكة السعودية, إذ أن هذه الإصلاحات ما تزال تنهل من التراث السلبي للقرن الرابع عشر والخامس عشر الميلادي وما بعدهما, حيث كان البؤس الفكري والثقافي والتخبط واللاعقلانية تسود منطقة الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية حتى قبل ولوج الدولة العثمانية إلى هذه المنطقة واحتلالها وفرض الثيوقراطية المتخلفة عليها. وليس أدل على ذلك من الفتوى التي أصدرها مجلس علماء المسلمين في السعودية الذي اعتبر ما يجري في العراق جهاداً ضد المحتلين, والذي كما يبدو صدر بناءً على موافقة الحكومة السعودية التي لها خلافاتها الراهنة مع الإدارة الأمريكية, وخاصة في مجالات واحتمال تورط البيت السعودي في ما يجري في العالم من إرهاب أصولي متطرف.
يدرك كل منا بأن للولايات المتحدة مصالح في المنطقة, وهو ليس بالأمر الغريب, إذ أن جميع الدول الكبرى لها مصالح في المنطقة, كما ندرك بأن طرحها لموضوع التغيير في البلدان العربية وعموم منطقة الشرق الأوسط يستجيب لتلك المصالح, وهو أمر مفهوم أيضاً. ولكن علينا أن نرى ونفكر بما يلي: ما هي مصالحنا؟ وأين نقف نحن منها؟ وما هي مواقف حكومات بلداننا إزاء تلك المصالحً؟ وهل أن التغييرات المطلوبة التي تطرحها الولايات المتحدة تستجيب لمصالحنا أيضاً أم تتناقض معها؟ وهل أن شعوبنا كانت تطالب بها منذ عشرات السنين وقبل أن تطرحها الولايات المتحدة على بساط البحث أم أنها بدأت بالمطالبة منذ أن طرحتها الولايات المتحدة؟
إن العلاقات بين الدول لا تقوم إلا على المصالح, وهي مقولة قديمة وصحيحة. ويفترض أن تكون هناك عملية تكافؤ مناسبة ومتبادلة في تلك العلاقات. ولكن سيكون مستحيلاً علينا الوصول إلى تكافؤ في العلاقات إذا ما استمرت أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية بهذا التخلف الشديد, إذ أن عدم التكافؤ في التبادل ناشئ أصلاًً بسبب تخلفنا والتمايز في مستويات تطورنا العلمي والتقني وفي تدني مستوى العملية الإنتاجية في اقتصاديات البلدان النامية, ومنها جميع بلدان الشرق الأوسط التي يعتبر أغلبها دولاً ريعية استهلاكية في الغالب الأعم, في ما عدا إسرائيل, التي يقترب مستوى تطورها العملي والتقني وكذلك الاقتصادي والقوى المنتجة فيها من مستوى تطوره في العديد من الدول الأوروبية المتقدمة, وأسباب ذلك معروفة للجميع ونتائجه واضحة أيضاً.
إن إدراكنا لمصالحنا يساعدنا على التعامل الواعي مع مصالح الآخرين بهدف تحقيق أفضل مستوى من التكافؤ الذي يقره الواقع وليس ما نرغب به ضرورة. وعلينا أن ندرك بأننا نعيش في ظل علاقات إنتاجية رأسمالية تسود العالم كله, بما في ذلك الصين الشعبية التي يقودها حزب شيوعي. ولهذا لا يمكننا الهروب من فعل القوانين الاقتصادية الموضوعية. ولكن السياسات العقلانية لحكومات وأحزاب وطنية يمكنها أن تصل إلى نتائج إيجابية تعجل من عملية تطوير اقتصاديات ومجتمعات بلدانها بسرعة وتقلص الفجوة الراهنة لا في مستوى الدخل, بل في مستوى تطور القوى المنتجة والعملية الإنتاجية وفي التقنيات المستخدمة في الإنتاج, وبالتالي تقلص الفجوة الراهنة في التبادل غير المتكافئ أو العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة. فمتوسط حصة الفرد الواحد من الدخل القومي في السعودية مثلاً مرتفع جداً بسبب النفط, في حين أن اقتصادها كله ريعي وبنيته مشوهة وتابع للاقتصاد الرأسمالي العالمي ويدور بعيدا في المحيط الرأسمالي بعيداً عن المركز ومكشوف على الخارج كلية, حيث يشكل ريع النفط وحج بيت الله القسم الأعظم من الدخل القومي فيها.
أدرك تماماً بأننا رضعنا الكراهية, كما قال الإنسان البديع والفنان المبدع جواد الأسدي, للولايات المتحدة منذ طفولتنا وونعومة أظفارنا, أي منذ أن تفتح وعينا وشاركنا في الحياة السياسية, إذ خلطنا أحياناً كثيرة بين رفضنا المشروع لسياسات الإدارة الأمريكية, وبين الولايات المتحدة كدولة وكشعب. ولعبت الحرب الباردة دورها في كل ذلك. ومواقف وسياسات الولايات المتحدة إزاء قضايانا ما تزال ترهقنا وتقض مضاجعنا ويفترض أن نعمل من أجل تغييرها وفق أساليب أخرى وليس عبر الكراهية للدولة الأعظم وبالطريقة الفجة الراهنة, أي عبر ممارسة السياسة الواعية لجوهر التناقضات وسبل المعالجة والتصدي السياسي للمواقف التي لا نتفق معها ونعارضها.
لقد شنت الولايات المتحدة الحرب ضد النظام العراقي وأسقطته وأنقذت الشعب العراقي من شروره في العراق وضد جيرانه. كان النظامً استبدادياً عنصرياً شرساً وقذراً لا يمكن أن يجد التأييد والدعم والدفاع عنه وعن ماضيه الأسود إلا ممن يشترك معه بنفس الخصائص والسمات. لقد قتل النظام البعثي الصدّامي من الشعب العراق مئات الآلاف من الناس الأبرياء أو تسبب بقتلهم أو موتهم, واقترب من تدمير التآخي العربي-الكردي, بسبب سياساته العنصرية الدموية ضد الشعب الكردي والقوميات الأخرى, ومارس بذلك وبغيره أكبر الإساءات للوحدة الوطنية العراقية, وعمل على دق إسفين التمايز والشقاق بين العرب السنة والعرب الشيعة, وهجر مئات الآلاف من الشيعة من العرب والكرد الفيلية إلى خارج العراق, كما فرط بثروات البلاد, وأساء إلى العلاقات العربية-العربية بغزوه الكويت, أو إلى العلاقة مع جيران العراق بحربه ضد إيران. والشعب العراقي يواجه اليوم مشكلات معقدة بسبب أخطاء الإدارة الأمريكية التي اقترنت بالركض وراء مصالحها قبل الانتباه لمصالح الشعب العراقي ومصالح المنطقة والسلام في أعقاب سقوط النظام, وبسبب سياسات الإرهابيين الذين يشنون اليوم حرباً عدوانية ضد الشعب العراقي قبل أن تكون ضد قوات الاحتلال, وبسبب المواقف الخاطئة التي اتخذتها معظم القوى السياسية في العراق منذ سقوط النظام.
لا يمكن للشعب العراقي وحده أن يتغلب على مصاعبه التي يتسبب بها الإرهابيون الذين يحصلون على دعم استثنائي مكشوف ومستتر من قبل قوى واسعة في العالم الإسلامي وغير الإسلامي, وأخر شاهد على ذلك قرار مجلس علماء المسلمين في السعودية. ولهذا فالشعب يقف إزاء إشكالية أو محنة كبيرة. فهو غير قادر أن يرفض الوجود العسكري الأمريكي قبل أن توفر الأمم المتحدة له قوات دولية بالقدرات والكفاءة الضرورية لمواجهة الإرهابيين بكل أصنافهم, وفي حالة رفض الأمم المتحدة لأي سبب كان, فلا يجد درباً غير الموافقة على هذا الوجود العسكري لتفادي حرب أهلية طاحنة إلى حين إنهاء الإرهاب الدموي والانتهاء من فترة الانتقال وتشكيل المؤسسات الدستورية العراقية. وبعض الدول المجاورة والكثير من القوى السياسية المعروفة للشعب لا تريد أن تفهم هذه العلاقة بين الإرهاب والوجود العسكري الأمريكي في العراق, وتدعي أن خروج المحتلين ينهي الإرهاب, ولكن هذا غير صحيح, إذ أن عدم إنهاء الإرهاب وغياب القوى القادرة على مواجهتها, يضع العراق تحت طائلة الإرهابيين ويحول العراق إلى دولة مرتهنة بيد قوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية وفلول البعث الإرهابية, وهو ما لا يمكن القبول به بالمطلق, إذ أن الإرهاب سينتقل إلى تلك الدول ويزحف عليها كالسرطان. وهو ما لا تريد أن تدركه حتى الآن.
إن الشعب العراقي يدرك هذه العلاقة الجدلية بين الإرهاب والوجود العسكري الأمريكي في العراق, ويدرك أن من كان يراهن على أن الإرهاب المتفاقم في العراق سيضعف الرئيس الأمريكي بوش ويمنع من إعادة انتخابه, يفترض أنه قد أدرك الآن بأن العكس كان هو الصحيح, وأن خطاب الإرهابي والهمجي الأكبر أسامة بن لادن قبل الانتخابات بأيام قليلة ساعد على رفع عدد المصوتين له.
إن المهمات التي تواجهنا اليوم في العراق أولاً وقبل كل شيء تتركز في إيقاف الإرهاب وإنجاز مهمات الانتقال, ومنها الانتخابات العامة وتشكيل الحكومة الجديدة.. الخ, عندها سنواجه مباشرة مهمة الانتهاء من الوجود العسكري الأجنبي أو من الاحتلال في العراق.
ولكن الشعب العراقي واجه وما يزال يواجه مشكلة أخرى تتمثل في محاولة الإدارة الأمريكية عبر قواتها في العراق الهيمنة على القرار السياسي والعسكري في مواجهة الوضع, وبالتالي تتسبب, شاءت ذلك أم أبت, في موت الكثير من العراقيات والعراقيين والمزيد من أفرادها وبقية القوى المتحالفة معها في العراق. كما أن الخلافات في إطار القوى السياسية العراقية وعدم الاتفاق على صيغة مشتركة والفردية في عمل رئيس الوزراء تقود هي الأخرى إلى المزيد من التعقيدات في الوضع المعقد أصلاً. كما أن الأذن غير الصاغية لدى الحكومة وغالبية الأحزاب السياسية العراقية وعملها السياسي نصف الواثق من نفسه يساعد في المزيد من المشكلات التي يعاني منها الشعب في الوقت الحاضر. إن الأمل موجود, ولكن الأمل دون عمل مدروس ومخطط ومنظم ومتفق عليه من أجل تحقيق حسن التنفيذ يقود إلى المزيد من ضيق الصدر والعجز عن التنفيذ الفعال وصعوبة كسب الناس إلى جانب القضية التي يسعى الشعب إل تحقيقها. وهو ما نواجهه حالياً, رغم ما تحقق من إيجابيات معينة.
إن الشعب العراقي, بعربه وكرده وتركمانه وكلدانه وآشورييه, سينجز هذه المهمات بثقة عالية بالنفس رغم كل الصعوبات والعقبات المحيطة به أو التي توضع في طريقه, وعلى الشعوب العربية إنجاز مهماتها أيضاً, مهمات تغيير أوضاعها وإقامة النظم الديمقراطية فيها لتستطيع أن تتحدث بلغة مفهومة ومقبولة مع العالم كله, بدلاً من الغوغائية التي تثيرها بعض القوى والشخصيات السياسية العربية التي تحاول الطعن بكل عراقية وعراقي يشارك في الحياة السياسية وفي الحكومة المؤقتة باعتبارهم عملاء للمحتل. إن هؤلاء لا يساهمون بأي حال في مساعدة الشعب العراقي لإنجاز مهماته والخلاص من الاحتلال, بل يشاركون في تكريس الاحتلال أطول فترة ممكنة. إن الشعب العراقي بحاجة ماسة إلى مساعدات شعوب وبلدان الشرق الأوسط كلها من أجل إنجاز تلك المهمات, مهمات إيقاف الإرهاب والقتل المتواصل وتدمير البنية التحتية وتعطيل تصدير النفط الخام, مهمات إقامة عراق حر, ديمقراطي, فيدرالي مستقل ومزدهر وليس في إعاقة إنجاز هذه المهمات.
برلين في 6/11/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟