|
الرأسمالية الجديدة : من القبض على الأرزاق الى القبض على العقول
منير الحجوجي
الحوار المتمدن-العدد: 3387 - 2011 / 6 / 5 - 03:25
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الرأسمالية الجديدة: من القبض على الأرزاق إلى القبض على العقول
موضوع هذه الورقة هو محاولة إلقاء الضوء على بعض وسائل الرأسمالية الحالية في التحكم في العقول كاستراتجيا مكملة للتحكم في الموارد و الثروات.. لقد فهم رأسماليوا العالم جيدا أن السيطرة على الكوكب لا يمكن أن تتم و تنجح و تستمر إلا بمنع تشكل كل وعي أو مقاومة ممكنة للسيطرة و النهب.. و تلجأ الرأسمالية في سياق إنجاح هذه الخطة الراديكالية إلى إخفاء هويتها الحقيقية بتقديم نفسها في شكل حتمية طبيعية بل و "قدرية" لادخل لنزوات البشر فيها كما سنرى .. هكذا يتم التحكم في الأغلبية، بتلاعبات بلاغية مسكوكة جيدا و يسهل سكها في مختبرات و علب التفكير الاستراتجي.. و حتى أبين ميكانزمات الجريمة الأصلية للرأسمالية، جريمة الاستحواذ على العالم و تقديمه على أنه من الأمور "الطبيعية" "المقدرة" و "المكتوبة"، سأشير إلى التحليل الأساسي الذي قدمه غي دوبور Debord كواحد من المحللين الكبار الذين فضحوا بنباهة نادرة التلاعبات الرأسمالية.. خلص دوبور -في سياق دراسته للتحولات العميقة في بنية الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية- إلى أن المؤسسات الموسومة بالخارجة عن القانون لم تعد هي التي تحلم بإخفاء ممارساتها المشبوهة داخل المؤسسات الشرعية ( كأن يرغب محتال عقاري أو مالي أو تجاري كبير بولوج البرلمان للتحصن وراء الكراسي الأثيرة)، و لكن ممثلي المؤسسات الشرعية، كالسياسيين أو مدراء البنوك أو المقاولين، هم من أصبحوا يحلمون باستعمال النموذج المافياوي في تدبير الملفات الخاصة و العامة.. لننصت إلى غي دوبور :" إننا نخطئ كلما حاولنا تفسير أمر ما بمعارضة المافيا و الدولة : المافيا و الدولة لا توجدان مطلقا في حالة منافسة. تبين النظرية بسهولة كل ما بينته بسهولة أكبر إشاعات الحياة اليومية. المافيا ليست غريبة عن هذا العالم، إنها تسكنه كما لو كان بيتها العائلي. ففي عصر الفرجوي المدمج Intégré تماما، تهيمن المافيا في الواقع باعتبارها نموذج كل المقاولات التجارية المتطورة." إذا دققنا- وهنا يعطي دوبور مثالا حيا عن النزوعات الاستحواذية للرأسمالية-في الآليات التي تدبر بها البنوك القروض و الفوائد فسنجد أنها كلها آليات هدفها الأول إحكام الخناق على "الزبون" و إغراقه داخل جهنم الجدولة و إعادة الجدولة.. بطبيعة الحال، و حتى تخفي الطبيعة الإنقضاضية لآلياتها، تلجأ البنوك إلى الخطاب "العلمي الاقتصادي الصارم" فتسمي الإغراء المالي تحفيزا على الاستهلاك و إغراق الزبون في وحل الجدولة تسهيلات في السداد و السلخ الحي و بلا تخدير لجلده مساعدة له على الوقوف على رجليه و.. في الواقع، لم يكن أبدا بامكان الرأسمالية أن تحكم قبضتها على العالم لو لم تنجح في "إقناع" البشر بالتخلي عن أساليب عيشهم الطبيعية الأخلاقية التضامنية و الالتحاق بدوائر اللاهثين وراء إغراءاتها الاستهلاكية السلعية المتجددة باستمرار.. و إذا كانت الرأسمالية قد نجحت في تحويل عدد كبير جدا من البشر إلى تابعين مذعنين تماما لها، فلأنها قدمت اللهث وراء الاستهلاك على أنه هو ذاته الرغبة الطبيعية و الأصلية للبشر، حاجبة "التسخينات" الإيديولوجية وراء هذا اللهث باعتباره من إنتاج و رعاية من لهم مصلحة في أن يرغب و يلهث البشر وراء منتوجاتهم و يربطون سعادتهم بهذا اللهث و بديمومته.. أكرر: إن أخطر ما في الرأسمالية هو إيهامها لنا بطبيعية و بداهة و واقعية و وحدة و كونية الرغبات الاستهلاكية، و في تقديمها للاستهلاك على أنه هو الرغبة ذاتها للبشرية، حاجبة بذلك أثار الاختلاف بين واقعها ( الاستهلاك، التسليع، البيع، المضاربة، التحكم، القوة، الاحتكار..) و الواقع الحي لسكان الكوكب، القادرين في مجملهم على العيش خارج أوهام الاستهلاك، و خارج قانون السلعة، و خارج التطلع نحو "التمتع" بالعالم على حساب كل الآخرين، و خارج الاستقواء و التحكم و التدمير.. يشكل احتلال الرأسمالية للحياة واحدا من أهم تحولات عصرنا. و هي بذلك تحقق أخر مرحلة من مراحل "تطور" الميطافزيقا الغربية. و إذا كانت الرأسمالية قد ورثت عن الميطافزيقا مشروعها في التحكم في العالم، فالجديد هو وضعها لجواهرها و لمتعالياتها "الحداثية" (الاستهلاك، التمتع، القوة، النزوعات الفردانية..) مكان الجواهر الميطافيزقية النظرية "البالية" و "المستنفدة الصلاحية" (العقل، المعيار، الحق، الخير، الجمال..) التي أرستها التصورات الأفلاطونية و الأرسطية و بعدها التصورات الدينية و الفلسفية التاريخية الكبرى. من المهم جدا فهم هذا التحول العام حتى نكون في صورة ما يمر و يمرر من أمام أعيننا. من الصعب إذن أن نفهم بنية عصرنا دون أن نفهم بنية الرأسمالية كاديولوجيا استطاعت- و هذه واقعة خطيرة- أن تلتحم بالبنية الداخلية للعالم، و تصبح طبيعته الأولى بلا منازع.. قاد إحكام الرأسمالية لقبضتها على الحياة فوق كوكبنا إلى إحداث تغييرات غير مسبوقة في وضع الفرد في العالم.. لنقرأ هذا النص الخطير الذي كتبه جيل دولوز Deleuzeأواسط السبعينات والذي لازال يحتفظ براهنية لا يمكن أن تخفى على القارئ النبيه.. يقول دولوز :"الفاشية القديمة التي لازالت حاضرة بقوة في بلدان كثيرة ليست هي المشكل الجديد للعالم. يتم تحضيرنا لاستقبال فاشيات أخرى. هناك فاشية جديدة يتم إرسائها و التي تبدو أمامها الفاشية القديمة مجرد فولكلور.. فعوض أن تكون سياسة أو اقتصاد حرب، تتخذ الفاشية الجديدة شكل تفاهم عالمي من أجل الأمن، من أجل تدبير "سلم" لا يقل فظاعة، سلم يقوم على تدبير متفاهم عليه لكل أنواع الخوف الصغير، لكل الوساوس الصغرى، التي تجعل منا جميعا فاشيين صغار، توكل لهم مهمة خنق أي شيء، أي وجه، أي كلام تشتم منه رائحة النقد، داخل زقاقنا، حينا، و داخل قاعة السينما". أود أن أتسائل هنا: ألا يحق لنا أن نرى في الرأسمالية الحالية فاشية جديدة تبلور نفس الآليات التي تحدث عنها دولوز : الخنق الهادئ لكل محاولة لفتح الحياة على رهانات غير رهانات الاستهلاك و التسليع؟ بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحمل الرأسمالية كل شرور عصرنا.. ألا نساهم من جهتنا في دعم الوحش الرأسمالي و فتح الطريق أمامه ليلتهمنا؟ ألا نعمل على الحسم لصالح الحلول الاستهلاكية كلما وجدنا أنفسنا أمام خيارات صعبة و ضاغطة؟ ألا نقوم، ويوميا، بإسكات أصواتنا وقيمنا الإنسانية ( الكانطية، الاشتراكية، الأخلاقية، الدينية، التضامنية..) لصالح تفاهمات فردانية براغماتية مهادنة منخرطة تماما في "روح" العصر؟ أين يكمن الحل إذن؟ من أين يجب أن نبدأ؟ الجواب هنا لا يمكن أن يكون إلا مركبا.. يجب تجاوز، من جهة، النزعة التشاؤمية الاستسلامية في عمقها التي تنبؤ بنهاية العالم بفعل التدميرات البيئية الناتجة عن تعميم نموذج الاستغلال/الاستهلاك المتطرف لموارد الكوكب و، من جهة ثانية، النزعة التفاؤلية الاستسهالية التي تومن بقدرة العالم على أن يواجه كل التدميرات المرتقبة.. إن أول ما يجب فعله هو اعادة النظر في كل النماذج الاقتصادية و السياسية التي أنتجت الأزمة الخطيرة التي نجتازها.. لأصحاب التشاؤم المفرط أقول بأنه يتوجب استغلال الأزمة الحالية لإعادة ايديولوجيا النظال و المقاومة إلى الساحة و بقوة و حزم.. على كل من يحمل هم كوكبنا أن يلتزم-من ضمن أشياء أساسية كثيرة- بإبداع وسائل الانتقال نحو مجتمعات جديدة تستطيع، كما يقول الروائي اللبناني أمين معلوف، أن تحقق سعادتها خارج استهلاك/إعدام الموارد المادية، و ذلك بأن تسعد بالثقافة و الفنون، أي بتلك المواد اللامادية التي لا يدمر استهلاكها و لا إنتاجها الطبيعة و التوازنات الكبرى للكوكب.. ولأصحاب النزعة التفاؤلية أقول : صحيح أن البشرية تجاوزت دوما أزماتها، و أن المجتمعات كانت دوما لها قدرة كبرى على صد التهديدات و الخروج من المآزق الحادة و بناء التوازنات الجديدة، و لكن الأزمة الحالية هي من الدقة و الجدة و الخطورة ما يستوجب تجاوز الانتظارية و الاتكالية و التبسيطات المستسهلة نحو العمل المكثف و الصارم على نحت أدوات التغيير الخلاق عوض الترديد المنوم لخطاب هيغيلي غامض حول سير التاريخ المحتوم نحو الانفراج و التقدم و السعادة.. و يظل أحسن مدخل لتحقيق هذه اليوطوبيا التي لامفر منها هو التحرر من قبضة ضغوطات النزوعات الاستهلاكية الفردية المعمية للأبصار و السير بلا توقف نحو فضاءات التضامنات الإنسانية الشاملة. سبق لادغار موران أن قال بأن هيمنة الفردانية المتطرفة-استهلاكية أو غيرها- و غياب رؤية تضامنية كوكبية للمشاكل الكوكبية المتفاقمة و الخطيرة هو من أكبر مشاكل البشرية في الوقت الحاضر. إننا لا زلنا، يقول موران، نعيش في كنف حضارة بربرية، حيث الجميع "يناضل" للدفاع عن المصالح و المكاسب الفورية القصيرة المدى مع الاحتياط الشديد من الأخر، الذي غالبا ما يقدم بوصفه العدو الأكبر للذات و لبقائها على قيد الحياة. في هذا السياق، تقدم العلاقات الدولية مثالا جيدا على هذه النزوعات البربرية.. فكل سياسات الدول موجهة ضد الأخر، حتى بل خصوصا عندما يتعلق الأمر بعلاقات "التعاون" الدولي التي تخفي وراء خطابات النيات الحسنة رغبات دفينة في أن يظل الأخر خارج المجال الحيوي للذات و الوطن. كل سياسات الدول هي سياسات في خدمة المحلي و الطبقي و الفوري و المؤقت و المصلحي، بعيدا عن كل رؤية شمولية تومن بالأهمية التي لا تضاهى للبناء الجماعي المشترك. إن هذا هو الزيت الذي يزيد نار المشاكل التي تحاصرنا اشتعالا.. بعبارة أخرى، إن ما يجب عولمته ليس هو وهم الاستهلاك، وقود كل الاستعداءات الحالية و المستقبلية.. نحن بحاجة إلى ثورة انتروبولوجية كبرى، ثورة على الاستهلاك و على الوهم الذي يربط وجودنا و سعادتنا بوجوده و ديمومته.. و لن يتأتى هذا إلا بالترفع على الحاجات المادية و السعي بحب و سخاء نحو ممارسة حياة لامادية بسيطة و باهرة..
#منير_الحجوجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|