|
استنهاض الحركة الشعبية(2من3)
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 3386 - 2011 / 6 / 4 - 08:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الكوادر عنصر أساس
إن أفضل ما قدمته الهبات الوطنية في الآونة الأخيرة هو التركيز والتأكيد على نضال اللاعنف ، والاستناد إلى الحركة الشعبية الديمقراطية. ولكي يتواصل زخم التحرك الشعبي ينبغي رفده بالوعي، ومن أولى بدهياته إدراك الجماهير أنها أداة التغيير الاجتماعي وحارسة التغيير الاجتماعي. تتميز القوى الديمقراطية ، والماركسية على وجه الخصوص، عن الأحزاب الأخرى في إدراك ضرورة أن التغيير الحقيقي تنجزه الجماهير، و يتم التغيير لصالح الجماهير المنتجة . إنه نضال طبقي لا تستوعبه الجماهير بصورة تلقائية. ومن ثم فمهمة قوى اليسار أن توصل الجماهير الكادحة إلى الاقتناع أن جدية التغيير تتمثل في استناده إلى حركة الجماهير ليس احتياطا يدعى وقت الحاجة ، إنما صيرورة تنطوي على إدراك أن التغيير الحقيقي يتجسد في تحويل الكتل الهاجعة والخانعة إلى قوة لذاتها ، فاعلة تقف في صدارة الحياة الاجتماعية. وهنا تتجلى ديمقراطية الثقافة وديمقراطية التوجه السياسي. ولكي تدرك الجماهير مسئوليتها التاريخية ينبغي تواجد الكوادر الثورية بين الجماهير، في تجمعاتها بأماكن العمل والسكن. وما أن تتخلى الجماهير عن سلبيتها وتتحرر من حالة الانتظار حتى تشرع الانخراط في الهيئات المدنية والنقابات المهنية و نقابات العمال والجمعيات الأهلية. والحزب القادر على اكتساب ثقة الجماهير وتحريكها إلى النشاط يمتلك العتلات المؤهلة لذلك ، وهي عبارة عن كوادر تؤمن بضرورة وأهمية ودور الجماهير في تنفيذ المهام الوطنية والاجتماعية وتتقن مهارات التقرب من الجماهير والإلمام بنفسيتها واستيعاب آليات النفسية الاجتماعية، وهي التي تمرر إلى الجماهير ثقافة الديمقراطية وقيم التقدم لتحولها إلى ثقافة شعبية من خلال الممارسة. وتلم الكوادر بالقضايا المتشابكة والمشروطة بصورة متبادلة للتطور الاجتماعي التقدمي. تمارس الكوادر نشاطها الجماهيري بأسلوب ديمقراطي محوره التحاور خال من الأوامرية وأساليب المناكفة والتحايل والخداع.. إن إعداد الكوادر وتربيتها مهنيا وسياسيا وثقافيا حلقة أساس في عملية تشكيل الحركة الشعبية وتصليب عودها. ينبغي أن تتوفر في الكادر الحزبي النزاهة وسعة الأفق والرزانة، بحيث لا يحول الحوار إلى إكراه، ويسف بالنقد إلى مناكفة وكيد. تنشأ معظم نكسات القوى الديمقراطية عن خلل الديمقراطية أثناء التعامل مع الجماهير، أو في العلاقة داخل الفصائل . وإذا اختلت العلاقة الديمقراطية في حياة الفصيل الداخلية فإنها حتما ستختل في العلاقة مع الفصائل والأحزاب الأخرى ويتعذر قيام الائتلاف أو التحالف على أسس سليمة وعملية ومستدامة. والانشقاقات الداخلية في الأحزاب مبعثها عطب الديمقراطية في الحياة الحزبية ، نتيجة تصرف القيادة او عناصر المعارضة الداخلية .
الجماهير الراكدة الهاجعة تتم مقاربتها بسهولة عبر غريزة التدين. ضمن هذه الشروط الاجتماعية تستثمر التيارات الدينية انطواء الجماهيرعلى قلقها وحيرتها وحاجتها لملاذ تسكن إليه، فتوجهها نحو اتكالية تمنحها إحساسا زائفا بالأمن ؛ ومن ثم تحقق نجاحات سريعة في مجال السيطرة على الجماهير الخانعة الراكدة. ولدى السيطرة على الجماهير بتلك الوسيلة يتم حجز الجماهير، وشحنها بالعداء لقيم التقدم والحداثة ، ومن ثم تجمد طاقاتها الكفاحية، وتحولها إلى احتياطي للمحافظة السياسية والاجتماعية. ولهذا السبب نرى الأنظمة القمعية تسهل للحركات الدينية سبل الاتصال مع الجماهير من خلال الجامع والمناسبات الدينية وتفتح أمامها منابر الإعلام ببرامجها المتنوعة وتشجع الجمعيات السلفية والدعاة وبرامج الفتاوى ، يحدوها الحرص في كل ذلك على قصر النشاط على ذوي الثقافة الدينية الضحلة والنظرات الماضوية. ولا نستغرب بعد الجهود المكثفة والمتواترة للتيارات الدينية طوال قرابة قرن من الزمن في أوساط الجماهير أن تتواصل أمية الدين، وإخضاع المعاملات بين الناس وأساليب الحكم للتقاليد والخبرات البالية.
وقد تتردى الجماهير الشعبية دون ذلك المستوى في ظروف الهدر المتعمد من جانب النظام السلطوي. الجمود والانعزال يهدر الفكر ويفقد السيطرة على مجريات الأمور، ويفلت زمام تسيير الحاضر واستشراف المستقبل وصناعته. ضمن الأجواء السياسية المتبلدة ، وكما أفاد الخبير في علم النفس الاجتماعي ، الدكتور مصطفى حجازي، "يهدر الكيان الإنساني ذاته من خلال رده إلى مستوى النشاط العصبي الموجه لإشباع حاجات البقاء البيولوجي. ... يعطل استخدام الدماغ، ولا يبقى سوى الجزء المسمى " الهيبوثولاموس" ، وهو كتلة في وسط الدماغ لا يزيد وزنها عن خمسة غرامات ، أي ما يشكل خمسة وثلاثين بالمائة من الواحد بالمائة من وزن الدماغ البشري الراشد. وهذه الكتلة تضبط وظائف الأكل والنوم والجنس والانفعال." يستعمل الباحث "الهدر" كمفهوم يعادل "الاستلاب "، أي تجريد الفرد أو المجموع من حقوقه الأساس، خاصة حق التفكير والتعبير وحق التمتع بثمار العمل وبقوة العمل . "هدر الفكر هو هدر فعلي لفرص التنمية التقنية والإنسانية سواء بسواء، وليس مجرد أمر يمكن التساهل بشأنه بمختلف المبررات كما هو حاصل في بلاد هدر الإنسان وفكره".
تستثمر السلطة المحافظة والمستبدة التربية والإعلام في استمرارية خضوع الجماهير لنظامها. التربية في الوقت الراهن موضوع صراع اجتماعي؛ وحيث تطغى بنية التخلف بتحيزاته وعلاقاته وتوجهات تفكيره فإنها تطوِّع عملية التربية لصالح المحافظة الاجتماعية. وبذلك تقوم التربية بمهمة تعزيز التخلف، وخدمة النظرة السلفية الملتصقة بالماضي والمرتهنة به، وأداتها في هذا الصدد هي التعليم التلقيني. فمن خلال التلقين والتطبيع يتم صب الأجيال في قالب القصور الذهني الذي تزعمه الدعاية السلفية خاصية بشرية، وتبخيس الإنسان. كما يرغم الأفراد على ابتلاع الهدر لينخرطوا في دورات عفوية لا واعية من تبخيس الذات وتسويغ الهدر . الهدر يفقد الأفراد صحتهم النفسية ؛ وبذا فالمهمة الأولى تتمثل في توفير مناخ النقاهة واستعادة الوعي واحترام الذات من أجل إدراك الواجب الاجتماعي والانضمام إلى الحركة الجماهيرية التحررية. عندما يشعر الإنسان بالقهر ويعجز عن تفسيره تسودّ الدنيا في عينيه وتتعطل ملكاته، يتطلع حوله فيرى جماهير استكانت للقهر والاستلاب فتكيفت مع استبداد السلطة وانكفأت على مراراتها تستحضر من خلالها تاريخ الجور وفولكلوره من أمثال وحكم وحكايات، ما يبرر استكانتها لبؤس الواقع، فتشتد حلكة الظلام. نخلص مما تقدم أن المجتمع المتخلف يحمل عناصر تخلف العصور القديمة، وإنسانه مثقل برواسب القهر والاستلاب في نفسيته وتفكيره. فكما تستهل عملية البناء بإزالة الأنقاض وتمهيد الأرض وإعداد الأساسات المنيعة فإن بناء الحركة الشعبية لا بد أن تبدأ من معالجة رواسب الهدر وأنقاضه في النفسية والتفكير، وبالذات تصفية عادات تبخيس الذات ومما يسمى الشوفينية الذاتية ـ الحط من الذات القومية والوطنية ـ و تخليص الجماهير من حالة اللاوعي والعفوية وارتجال المواقف والانفعالية. إن الانفعالية كردود فعل غالبا ما تأتي هوجاء غير منضبطة ، نظرا لتعطيل العقل والتفكير زمنا طويلا. من الخطأ الفادح الظن أن الأمور تستوي حال انهيار نظام القهر والهدر. فالتنمية تشترط اولا وقبل كل شيء توفير سبل نقاهة أفراد المجتمع من مخلفات عهود الهدر الاجتماعي وتنمية قدرات البشر على استعمال العقل والتخلي عن العفوية واللامبالاة. ومن مخلفات الهدر علاقة سيد ومسود تحكم المعلم بالتلميذ ، مواصلة لتقليد الكتاب والشيخ حامل العصا. قد يكون المعلم واسطة تنقل التوجه السلطوي إلى الأجيال الناشئة وفرض ثقافتها، أي إخضاع الناس لسلطة الحاكم المستبد. في المدرسة تختبئ السلطة وجوبا أو جوازا حيث المعلم مصدر المعرفة الوحيد. و الذات الفاعلة والتلاميذ سلبيون بالمطلق؛ ومن ثم فإن أسلوب التدريس في الفصل يعكس هيمنة السلطة السياسية في المجتمع. وبالمقابل ينشد تعليم التحرير اقتلاع ثقافة الصمت وتمكين المتعلمين من أن يؤدوا دور الفاعل الواعي والمحاور الواعي في علاقة جدلية. ويظل المعلم محتفظا بدوره كصاحب خبرة أنضج دون أن يكون له الحق قي تجريد تلاميذه أو طلابه من الخبرة والإنسانية والمشاركة في التساؤل. ولدى تلمس الجماهير، ولو بصورة مبهمة، انتهاكا للكرامة الوطنية وجورا من جهة خارجية فإنها تنفعل وتغضب ، وفي مثل هذه الحالة يمكن مقاربة الجماهير من خلال الحوافز الوطنية واستثمارها لتحريك الجماهير من حضيض الوعي المتردية فيه. أما أن تدرك الجماهير شرط تسيدها للتحرك الوطني كشرط لإنجاز التحرر الوطني والتحولات الاجتماعية العميقة فذلك يتطلب جهدا تثقيفيا مثابرا وكوادر مدربة لديها خبرة كثيفة بالقضايا الاجتماعية بحيث تجيب على تساؤلات الناس وتقود الناس في مختلف شئون وشجون حياتها الاجتماعية. ولكي تقوم الكوادر بدورها على الوجه المثمر ينبغي تواجدها في أماكن التحشدات الجماهيرية واطلاعها بصورة متواصلة على مستجدات الوقائع الحياتية وأن تعي باستمرار التبدلات في المزاج العام.
تقارب الكوادر السياسية الجماهير من خلال الحوارات ، تتحقق من خلالها ثقة الجماهير بنفسها وبقدراتها على الفهم والاستيعاب. جميع أفراد المجتمع ممن يملكون العقل السليم لديهم القدرة على الاستيعاب في مجال النشاط العملي. وبذا يمكن لفلاح بسيط أن يتفوق على خريج الجامعة في شئون الزراعة وامور اجتماعية كثيرة. وأسوأ أنماط التثقيف ما يقيم علاقة مرسل ومستقبل تتحول مع الزمن، وضمن ظروف الوصول إلى السلطة السياسية إلى نمط من السيطرة الطبقية والإخضاع الزجري. برز في مجال التربية المناهضة للسلطوية باولو فريري ، وهو من أبرز خبراء التربية في أميركا اللاتينية والعالم. كرس باولو فريري حياته لتعليم الديمقراطية، ومن ثمار خبرته في المجال أن التعليم عمل سياسي بامتياز. فالتعليم في نظره سياسة والسياسة عملية تربوية. يقرر فريري، الذي برز دوره في ستينات القرن الماضي رائدا لفكر تربوي حديث يستند إلى أرقى معطيات العلوم الإنسانية ، وبالذات علم النفس الاجتماعي، أن التعليم يجب أن يؤدي دور الأداة لتبديد ثقافة الصمت واستلاب الجماهير والأسطورة والجبرية. استطاع اكتساب تعلق الفلاحين وثقتهم به؛ ولذلك وضعته الرجعية البرازيلية علي القائمة السوداء، واحتجزه العسكريون الذين وصلوا الحكم بانقلاب دموي عام 1964. سجن واتهم بنشر أفكار " خائنة للمسيح وللشعب البرازيلي فضلاً عن كونه جاهلاً وأميا". يرهن فريري من خلال نشاطه المتواصل في ميدان تعليم المقهورين إن التعليم والتعلم من خلال الحوار هو من أهم القيم اللازمة لبلوغ تلك الصيرورة المتحررة في تفاعل الإنسان، ليصبح صانع حضارته وتاريخه. أغنى ثقافته التربوية بخبرات النشاط التربوي بين المزارعين والجماهير المحرومة، ووضع الكتب حول "تعليم المقهورين" و "تعليم الديمقراطية"، وتحظى كتبه بشهرة في العالم ، نظرا لما تنطوي عليه من مضامين إنسانية. فهو يناهض التعليم التلقيني ويدعو للتعليم من خلال الحوار وشحذ الوعي بالذات المهدورة واكتساب القدرة على الفعل. وقد ألف كتابه "التعليم كمنهج لتعليم الحرية" وهو في سجون ديكتاتورية العسكر البرازيليين، ويقرر في الكتاب أن ليس ثمة تعليم محايد، وإنما هناك تعليم للمقهورين كي يتحرروا أو تعليم من أجل تثبيت قيم القهر داخل المجتمع. التعليم للقهر تتجلى وسائله في القهر من خلال أنماطه كافة، وفي المناهج والمدرسة والعلاقة بين المدرس والتلميذ وفي عمليات الامتحان وفي بيروقراطية الإدارة والكتب المدرسية، وفي نظام توزيع الطلبة على مختلف التخصصات وفي تدني قيمة التربية الفنية وفي أساليب العقاب والثواب، وبالدرجة الأولى في اقتصار التعليم على التلقين وإجهاض ملكات التفكير المبدع والخيال الحي. صاغ مفهوم "التعليم البنكي"، كناية عن إيداع المعلومة كي تسترد على ورق الامتحان، فلا تتحول إلى ثقافة ترشد الممارسة العملية. قال في هذه الصدد، "مهمة التعليم البنكي تتركز في تقليل القدرة على الإبداع عند الطلاب أو إلغائها تماما من أجل خدمة أغراض القاهرين الذين لا يرغبون في أن يصبح العالم مكشوفا لهؤلاء، أو أن يصبح موضوعا للتغيير. فالقاهرون يتصرفون بغرائزهم ضد أي محاولة في التعليم تستهدف تنمية الملكة النقدية وترفض النظرة الجزئية لحقائق العالم." النشاط الجماهيري العملي
تكافح العفوية في السلوك الاجتماعي بإشراك الجماهير في تنفيذ برامج اجتماعية متنوعة ترفع الفرد من وهدة اللاوعي والاستلاب والسلبية إلى مستوى وعي الذات والبيئة. يتم إشراك الأفراد في النشاط العام من خلال تنظيمهم في الهيئات الأهلية. وهذه أيضا وسيلة مجربة لتثقيف الجماهير سياسيا ورفع سويتها الفكرية كي تفشل أساليب الدعاية المضادة، الحافلة بالزيوف والاختلاقات. يتم الخلاص من عفوية السلوك وارتجال المواقف والاستجابات عبر اعتماد نهج التخطيط والتنظيم ؛ تستوجب دواعي حشد تيار فاعل للمقاومة الشعبية تعبئة شعبية تتقن أساليبها القوى التي تحسن إقامة الصلات بالجماهير الشعبية والتغلغل في صفوفها والتعرف على نفسياتها واجتذابها إلى النشاط السياسي المنظم والواعي. ينبغي الحرص على إقامة النشاط النقابي داخل المنظمات الأهلية على أسس الديمقراطية والنزاهة والمعرفة، بحيث تتعلم الجماهير حسن اختيار الممثلين المنتخبين في الأمور النقابية والسياسية، وفي شتى مجالات النشاط الاجتماعي، ولكي تتقن إدارة الأنشطة والفعاليات العامة. وهذا يعني نبذ أسلوب تقاسم الكوتات في العمل النقابي وفرض عناصر متطفلة على العمل العام ، غير مجربة ولا تمتلك خبرة التعامل مع الجمهور. تتعاظم صلابة الحركات الشعبية ومتانتها وقدراتها في الصد والتحويل إن هي تشكلت من اتحاد كونفيدرالي لهيئات قاعدية للمجتمع المدني تنخرط فيها الجماهير حسب موقع السكن وطبيعة العمل والاهتمامات الثقافية والسياسية. الانتظام في الهيئات الاجتماعية والنقابية والثقافية والسياسية من شأنه أن يقيم الحركة الجماهيرية على أرضية ثابتة. وبعد أن استردت الجماهير العربية معنوياتها وثقتها بقواها ونزلت إلى الميادين، باعتبارها القوة غير المهادنة والثورية حتى النهاية في فضاء النضال المناهض للتخلف والتبعية، فإنه لم يعد سهلا على أعدائها الاستخفاف بمشاعرها والتطاول على قضاياها، أو إغفال تطلعاتها للتقدم .
وحيث أن الإنسان هو محور التنمية، وهو هدف التنمية وهدف الثقافة، و في نفس الوقت وسيلة للتنمية، فإن التنمية البشرية تتشابك مع العوامل الثقافية، بدءاً من القيم المحفزة للعمل والانتماء والهوية، وامتدادا إلى رموز المسئولية الاجتماعية وضوابطها، إلى جانب القيم الدينية ومدى تأثيرها. وتحتل الأولوية في برامج التحول الديمقراطي توفير حق المواطنة للجميع، و أن يتكتل أنصار الحداثة والمؤمنون بحق المواطنة للجميع بغض النظر عن الطائفة والعصبية الدينية أو القبلية أو العرقية لمواجهة هذه الأفات الاجتماعية المستنزفة للطاقات. يتوجب على قوى التغيير الديمقراطي تحسين أدائها العملي والثقافي كي تجتذب القطاعات الأوسع من الجمهور المستلب وتوثيق الصلات مع مختلف الشرائح الاجتماعية من الرجال والنساء وإشاعة مشاعر الثقة بالهيئة الاجتماعية وبالقدرة الذاتية على إحداث التغيير والحفاظ عليه من مكائد الردة. تشكل هذه العناصر ضفيرة الهوية القومية الحضارية المنفتحة على أفق التقدم والازدهار الاجتماعي.
تقتضي ملابسات الواقع الراهن تفعيل جبهة الثقافة بمضمونها الديمقراطي في الصراع المصيري المحتدم. أولا بالنظر لكثافة الكذب والتزييف في دعاية التحالف المضاد ، الأمر الذي يتوجب تحصين الجماهير من تأثيراته، وثانيا لتفعيل الممارسة العملية بإسنادها إلى ثقافة وطنية. الثقافة لا تستقيم دون أن تشحن الممارسة العملية للأفراد والجماعات بالوعي والاستنارة. والسبب الثالث لضرورة تفعيل جبهة الثقافة يكمن في تراخي المقاومة خلال حقبة البيات المنصرؤمة، وهو ما انعكس في أزمة سياسية خانقة. الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن أذهان الديمقراطيين تجزم أن ثقافة مناهضة الصهيونية لا تقتصر على تفنيد أباطيل الفكر الصهيوني وتحليل مقولاته؛ كما أنها لا تقبل الدهشة والذهول إزاء أي حادث أو موقف مهما بدا مباغتا وغريبا للوهلة الأولى؛ فالسياسة التقدمية تحلل من موقف مادي جدلي يلم بالروابط والتشابكات والتبدلات في نواميس المجتمع وتشبيك ظاهراته الاقتصادية والسياسية والثقافية ـ التعليمية ـ الإعلامية. السياسة التقدمية تتجاوز أسلوب العفوية والارتجال و تقلع عن الصراخ، الذي يبدو رد فعل مرعوب لايثق بالذات أمام هدير دبابات المحتل وتفجر قنابله طورت الانتفاضة الفلسطينية بطابعها الشعبي العارم في أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي تجربة شعبية ديمقراطية مميزة، اتخذت شكل اللجان الشعبية والوطنية وأعطت مثالا ملموسا على انجازات العمل الوحدوي المشترك الذي قادته القيادة الوطنية الموحدة. وهذه التجربة هي ما بذل الاحتلال مساع محمومة لشطبها من الذاكرة؛ فاستدرج التحرك الشعبي التالي إلى مواجهة عسكرية غير متكافئة مسخرًا لصالحه تنافس الفصائل الفلسطينية على الشعبوية بالمزاودة في نهج العنف المسلح. خرج الاحتلال من المواجهة بحصاد وفير من مكاسب التضليل الإعلامي؛ إذ قدم النشاط الوطني الفلسطيني أعمالا إرهابية تفتك بالمدنيين العزل في أسواق الخضار ونوادي الموسيقى ومحطات السفر. مضى الاحتلال شوطا بعيدا في ضرب الحركة الوطنية وإرهاب الجماهير وتوسيع المستوطنات وتشييد الجدار؛ ثم ظفر شارون بلقب رجل السلام، بعد أن سحق الحركة الوطنية وكبل إرادتها، وقذف بها داخل متاهة مهلكة من الفلتان والارتباك والفوضى وفقدان الوعي ، الأمر الذي غيب الرؤى وأسقط الجماهير في لجة الإحباط والتنفيس عن الكروب بشتم الذات القومية وتبخيس الذات.
قصّرت قوى اليسار في مجال تنشيط جبهة الثقافة على الصعد المحلية والإقليمية والدولية. إذ بسيادة منطق " كل شيء يتقرر من فوهة البندقية" استخفت القوى السياسية بمهام توعية الجماهير، وبالأحرى تجمدت جبهة الثقافة ، الأمر الذي خلخل التنظيمات الكفاحية لقوى اليسار ، وأشاع الفلتنان وعدم الانضباط. في غمارالتركيز على النشاط المسلح افتقدت حملات ترويج ثمار الأبحاث العلمية التي نزعت عن إسرائيل لبوسها المزيفة. ليس مجرد واجب الاعتراف بالجميل، إنما لإغناء معرفتنا ينبغي الاطلاع على ودراسة مؤلف البروفيسور المؤرخ كيث وايتلام الذي أثبت اختلاق إسرائيل القديمة لتبنى على أنقاضها السرابية إسرائيل المعاصرة. واجبنا التمسك بقيم النزاهة العلمية والجرأة والسمو الأخلاقي المتجسدة في إبداع البروفيسور المؤرخ شلومو ساند من جامعة تل أبيب ، الذي قدم الأسانيد العلمية الناقضة لمقولة الشعب اليهودي، إذ تقطع بأن اليهودية ديانة تشكلت تاريخيا بالتفاعل مع أفكارٍ أخرى ونهضت على أكتاف شعوب من مختلف الأعراق والقوميات، شأن الديانتين المسيحية والإسلامية . كما أن علينا واجب الإقرار بالنزاهة العلمية وبالشجاعة الفائقة للبروفيسور إيلان بابه، صاحب " التطهير العرقي في فلسطين"، الذي وصفه البروفيسور وليد الخالدي " الكتاب المدهش ـ إنجاز قد يجمع بين كل من التأليف الجدير بعالم ، والوضوح الأخلاقي والتعاطف الإنساني".. لم تحظ مؤلفات هؤلاء القيمة بالنشر والترويج اللازمين مكونا أصيلا في الثقافة الوطنية، وأحد أمضى الأسلحة الفكرية في مناهضة الزيوف الصهيونية ـ الامبريالية. هذا احتياطي في جبهة الصراع الثقافي، جمده صقيع الإحباط واليأس، مع تغييب دور الثقافة في الصراع، واعتماد العفوية والاستجابات التلقائية. ليست جماهير الغرب وحدها خدعت بدعايات الاستشراق وتحويراته المغرضةلصالح الحركة الصهيونية وإيديولوجيتها ؛ بل إن إعلاميين ومفكرين عربا ما زالوا يأخذونها كمسلمات ويروجونها بين المتلقين العرب، وذلك بالنظر لغياب النزعة النقدية التي حث عليها إدوارد سعيد لدى مقاربة الفكر الغربي والتراث القومي.
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
استنهاض الحركة الشعبية (1من3)
-
الامبراطور أوباما عاريا
-
رضاعة النازية مراجعة نقدية لمسيرة بائسة (2من2)
-
رضاعة النازية .. مراجعة نقدية لمسيرة بائسة
-
أمية الدين أداة هدم وتدمير بيد الثورة المضادة
-
تحفات القاضي المصري والبحث التاريخي
-
مع رواية - قمر في الظهيرة- لبشرى أبو شرار:بشرى تستشرف ثورة ا
...
-
من سيقرر مصائر الثورات العربية
-
مع كتاب إيلان بابه التطهير العرقي في فلسطين 2
-
التطهير العرقي في فلسطين / إيلان بابه (الحلقة الأولى)
-
لموطن الأصلي للتوراة 3
-
ردة غولدستون
-
الموطن الأصلي للتوراة(2من)3
-
الموطن الأصلي للتوراة
-
مع شلومو ساند في كتابه اختراع الشعب اليهودي
-
يسفهون الرواية الصهيونية
-
مع البروفيسور شلومو ساند في كتابه اختراع الشعب اليهودي حلقة
...
-
كيث واينلام في كتابه اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ ال
...
-
أعمدة سرابية لهيكل الأبارتهايد
-
تتهتكت الأقنعة
المزيد.....
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
-
مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل
...
-
القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت
...
-
الخارجية: روسيا لن تضع عراقيل أمام حذف -طالبان- من قائمة الت
...
-
التشيك.. زيلينسكي ناقش مع وزير الخارجية استمرار توريد الذخائ
...
-
الجيش الإسرائيلي يحقق بـ-مزاعم- مقتل رهينة لدى حماس، ومئات ا
...
-
مقتل 15 شخصاً على الأقل وإصابة العشرات في قصف إسرائيلي طال و
...
-
الدفاعات الجوية الروسية تسقط صاروخين و27 طائرة مسيرة أوكراني
...
-
سقوط صاروخ -ستورم شادو- في ميناء برديانسك في زابوروجيه
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|