دخلت عالم منصور حكمت قارئا، باحثا عن جديد، عن اضافات، عن طريقة بحث اخري، بعد مدة طويلة من التراجع والخمول والمراوحة في تعليق الخيبات والانكسارات علي هزائم الاحزاب الشيوعية في الميدانين العملي والفكري. مما اتاح لقوي اليمين والظلامية، وصنوف القبلية والطائفية والعشائرية، ان تظهر الي السطح، حاملة معها انواع التخلف والرجعية، في مصادرة الحريات الثقافية والسياسية والفردية، فأصبحت ذات سلطات سياسية وقضائية وثقافية، الي جانب الانظمة الدكتاتورية في البلدان العربية.
تثير اعمال حكمت المتعددة، الاسئلة الجديرة بالبحث والمقارنة والدرس النقدي، لكونها تعيد الي الماركسية حيويتها، وتضفي عليها ابعادا انسانية في امتلاء روحي وثقافي وسياسي، ترمي الي التحرر من قبضة السلطات وقيودها الاسرة في تراكمات وعقبات اجتماعية ودينية، تلغي وجود الانسان في طموحاته وحريته وتألقه، وتقتل الابداع فيه.
والانتماء عنده، متجذر، غير طارئ، وليس مؤقتا، لانه يستمد مصادرة من مكابدة الانسان وصراعاته من اجل الحرية والانعتاق من العبودية.
لهذا يندهش المتأمل في اعماله لمدي الطاقة والانغمار العميق في البحث واعادة قراءة التراث الماركسي، سواء في مصادره الاساسية، او المنسوخة لتلاميذ خاملين، بل كانوا الي التقليد اقرب منه الي الابداع. وجمع الي ذلك قراءته تجارب الاحزاب الشيوعية، خصوصا في البلدان العربية وايران.
تعرف علي الماركسية لاول مرة في لندن العام 1973، وكان في الثانية والعشرين من عمره. عكف علي دراسة رأس المال لماركس واعماله الاخري، ثم ما لبث ان عاد الي طهران عند نشوب الثورة الايرانية.
فجمع بين الدرس والملاحظة والانتماء، وأسس مع رفيقه حميد تقوائي منظمة المناضلين الشيوعيين العام 1979. وتطور الامر الي تأسيس الحزب الشيوعي العمالي الايراني العام 1991، وأسهم في تأسيس الحزب الشيوعي العمالي العراقي عام 1993.
لقد قادته بحوثه الي كشف اسباب الخلل في الحركة والاحزاب الشيوعية في العالم، ما جعله يؤكد علي كلمة العمالي في الحزبين، الايراني والعراقي، بوصف الشيوعية العمالية ذات انتماء اجتماعي وحركة فكرية، بمعني التشديد علي البعد الطبقي كمفصل بنيوي لا طارئ، تكونه الظاهرة الاجتماعية وتؤصل وجوده من خلال حركة العمال الاحتجاجية المعادية للرأسمالية والتمييز الطبقي.
وتنتظم الشيوعية العمالية من اجل تعبئة قواها وكفاحها، فالنضال، كما يري منصور حكمت في دراساته خصوصا اختلافاتنا و الديمقراطية بين الادعاءات والوقائع و اسس وآفاق الحزب الشيوعي العمالي و العالم ما بعد 11 ايلول (سبتمبر) ، يهدف الي بناء اشتراكية عمالية ، لا نماذج من الاشتراكيات البرجوازية والحركات الاصلاحية. لهذا، حينما يستخدم الشيوعية العمالية بدلا من الشيوعية ، لان الاخيرة فقدت معناها، واقترنت بتيارات قومية اصلاحية او ديمقراطيات وطنية، يركز بحثه بأدلة في ربط الانتماءات بالحركة الاجتماعية. فسقوط الكتلة الشرقية ، هو سقوط حركة اجتماعية معينة في التاريخ المعاصر، وكانت له دلائله وأسبابه.
ويميز حكمت بين الشيوعية العمالية وما يسميها الشيوعية الرسمية اذ يري ان الاولي عاشت بجوار الثانية التي استهلكتها رأسمالية الدولة، الي درجة تعرضها الي التراجع مع انتصار تيار خلط الثانية بالدولة، يقول: ان النضال الفكري، بالنسبة لنا، وجه من اوجه النضال الطبقي، وهو بالتالي، نضال ضد الآراء السائدة في المجتمع، اراء الطبقات نفسها التي وقفنا ضدها كطبقة في العالم المادي، وعلي الصعيد العمالي، نضال ضد الافكار والمدارس الفكرية والتقاليد النظرية البرجوازية .
الي مدي تحقق اطروحات منصور حكمت جدواها وفعاليتها في مجتمعات متعددة الرؤي والافكار، ذات بنيات متضادة في تاريخها، لم يستطع اليسار خصوصا التيارات الشيوعية بعد كفاح طويل جاوز سبعين عاما، ان يرسخ حضوره ويثبت وجوده؟ يحاول حكمت الاجابة علي هذا السؤال بما تتصل به من عوامل اجتماعية وثقافية وسياسية، يردها الي التداخل الفكري بين التيارات البرجوازية واليمينية والاصلاحية والدينية، الي حد امكان اندماج الشيوعيات الرسمية الاصلاحية بالدولة وتخليها عن الشيوعية العمالية بمعني انها كانت جزءا من القومية والتيارات الاخري التي يمكن العثور عليها في الاحزاب الشيوعية نفسها. يقول: ان الاتجاهات الاكثر تأثيرا والتي طبعت الفكر الرسمي والفكر الانتقادي في المجتمع البرجوازي بطابعها هي: القومية، الديمقراطية والاصلاحية، تاريخ الشيوعية العمالية هو تاريخ صراع مع هذه الحركات الاجتماعية.. كل المصائب التي حلت بنظرية ماركس ناتجة عن محاولات حركات اجتماعية متنوعة لتحويل هذه النظرية الي وسيلة من أجل احراز تقدم في مجالات لا تنسجم معها هذه النظرية .
يبدو ان منصور حكمت امتلك الحرية كاملة في البحث والمقارنة من دون كوابح رادعة في قراءة التأثيرات المباشرة علي تشكيل الوعي.. ونكاد لا نعثر علي باحث ومنتم في الوقت نفسه في البلدان العربية والشرق الأوسط، يعيد قراءة الماركسية، بصورة عصرية، بتصفيتها من الشوائب التي علقت بها، وابعدتها عن أصولها الاجتماعية في انتمائها الي الكادحين والجماهير الشعبية.
وكان له السبق والفرادة في رفض الحصار والعقوبات الاقتصادية علي العراق حال فرضه، متوقعا الآلام والمآسي التي يخلفها علي جماهير العراق وكادحيه، ومدركاً أسبابه ونتائجه الاجتماعية والاقتصادية. فمنحته الحرية وطابع تفكيره الانساني ورؤيته الي المطالبة برفع الحصار من دون قيد او شرط، بخلاف قوي عراقية معارضة سارت في ركب العقوبات ثم ربطت إلغاءه بشروط سياسية. وأولي حكمت موضوعه الاسلام السياسي الأهمية في بحثه في اطروحته العالم ما بعد 11 ايلول/سبتمبر موضحا ان الغرب هو الذي أوجد هذا التيار ورعاه، خصوصاً في حملات الارهاب والموت في افغانستان بدعوي الجهاد ضد الوجود السوفييتي فيها، وما تبعها من دعم لا مثيل له من قبل حكومات عربية مثل السعودية ومصر. فنشأت ما سميت بحركة الأفغان العرب الذين سيتحولون وبالا علي الحكومات العربية، التي أعدتهم وهيئت لهم اسباب القتال في افغانستان والشيشان. ويري ان ركيزة الاسلام السياسي في عنفه وارهابه يعتمد علي القضية الفلسطينية فحلها يؤدي الي إفلاس الحركات الاسلامية وموتها في الشرق الاوسط.
فالحادي عشر من ايلول (سبتمبر) يمثل جوابا سياسيا علي اوضاع شاذة، فتنصيب طالبان وتدمير بغداد وتجويع الناس في العراق وخنق الجماهير الفلسطينية وقصف بلغراد وكذلك الحرب الطويلة الأمد مع الارهاب ذات صلة بردود واجابات اقطاب الرأسمالية في امريكا واوروبا علي هذه الصراعات، فالحرب والهيمنة والزعامة، وليست صراعاً حول الاسلام والليبرالية الديمقراطية الغريبة والحرية والحضارة والأمن او الارهاب، انها صراع بين القوة العظمي امريكا وبين حركة سياسية متطلعة للهيمنة في الشرق الاوسط .
ومن النقاط الجديرة بالبحث في كتابات منصور حكمت، انه يتجنب استخدام مصطلح الامبريالية علي الدور الامريكي في الشرق الاوسط والعالم، فيكتفي باستخدام الغرب والشرق والقوة العظمي، وهي مفردات مجردة عن دلالالتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لأنها لا تعبر عن حقيقة الصراع ونوازعه الاساسية، التي اصبحت ماثلة بأدلتها الصاخبة اكثر مما كانت في زمن ماركس وانغلز. ويمكن الاستدلال علي دلالة حكمت في ثنايا بحثه، بان الامبريالية صارت مشجبا يعلق الارهابيون والديكتاتوريون وتيارات رجعية اخري غاياتهم لاضفاء الشرعية علي وجودهم، لكنهم في حقيقة الامر يمثلون قوي البطش والارهاب والتصفيات الجسدية واطلاق الاحكام والفتاوي في تكفير الناس والحاق الأذي بهم، كما يحدث في المغرب والجزائر واليمن ومصر والسعودية وباكستان وافغانستان وايران والعراق.. والقائمة طويلة.
فإذا صح هذا الاستنتاج، لا يبدو انه صائب من الناحية العلمية، لان الامبريالية في وقتنا الحاضر، تغتنم كل الفرص المتاحة لنشر هيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، سواء ادعت الحكومات الديكتاتورية وقوي البطش الاسلامي تصديها ومقاومتها الامبريالية او لم تدع ذلك!
فنسبة الفقر والمجاعة والحرمان في العالم في تزايد مستمر، وهيمنة البنك والصندوق الدوليين علي دول العالم الثالث بشروطه القاسية، بالاضافة الي الدعم الامبريالي غير المحدود للارهاب الصهيوني ما يؤكد تفاقم الأزمة العالمية بطابعها الاقتصادي والعسكري بفعل التفوق الامريكي، وتفرد الامبريالية في العالم، من دون ضوابط او نوازع اخلاقية او اجتماعية.
ويري ان الحركات الاسلامية التي تواجه امريكا والغرب لا تفهم من الامبريالية شيئا، ولا يهمها ذلك، لأن الاسلام السياسي كان وسيلة بيد الغرب في الحرب الباردة ضد السوفييت ووسيلة لهزيمة الحركات والثورات اليسارية و العمالية في كل بلدان المنطقة. انه وسيلة استخدمت بعد أزمة وفشل الحكومات القومية في الشرق الاوسط للوقوف بوجه اقتدار اليسار وقوته.. فبامكان الحكومات الاسلامية، ان تبقي، وحتي يمكن للارهاب ان يبقي، بشرط ان يكون الشيوعيون واليساريون في ايران وافغانستان وباكستان وتركيا ضحايا ذلك الارهاب.
لقد خطف الموت منصور حكمت وهو في أوج نشاطه الفكري النقدي، لم يكمل مشروعه، ولم يجب علي اسئلة تراوده واخري يكونها البحث وتتجدد معه. كان يشعر بالحاجة الي رؤية الآخر في مشروعه نقدا وحوارا وقراءة، لتستكمل عناصر البحث ولاخراجه الي دائرة ضوء اخري اكثر اتساعا وحيوية.
يحرص جمع كبير من قرائه والمتأثرين بأفكاره او المنتمين الي فضاءاته الايديولوجية والفكرية خصوصا من الماركسيين الايرانيين والعراقيين، الي اعادة قراءته، بالحرية التي توافرت لديه ليكونوا مبدعين في تمثل افكاره ورؤيته، كما لاحظنا في الكلمات التي القيت في مراسم ذكراه في لندن، ولعل انجازاته الفكرية والايديولوجية في محاولة لسد الفراغ الكبير في الفكر الماركسي فرضت حضور العدد الهائل من بلدان العالم، يودعون رجلاً في الحادية والخمسين من عمره، قضي نصفه في الابداع الفكري والانتماء.
وكان السؤال الكبير: من سيكمل مشواره ويجيب علي اسئلتنا؟
كاتب من العراق يقيم في لندن