حسن محمد طوالبة
الحوار المتمدن-العدد: 3382 - 2011 / 5 / 31 - 14:37
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ي ضوء الأزمة المالية التي تعصف بالأنظمة الرأسمالية الغربية حصراً وتعصف بالتجربة الأمريكية خاصة, تلك التجربة التي قادت فكرة العولمة بكل مضامينها الاقتصادية والسياسية والثقافية, أخذت صيحات الكتاب والمفكرين تتعالى داعية إلى ضرورة إعادة النظر في الفكرة الرأسمالية لا سيما بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي عزم حكومته شراء سندات وأسهم في البنوك وبعض المؤسسات, أي انه بهذا الإعلان أعاد إلى الأذهان بعض النفحات الاشتراكية, أي العودة إلى القطاع المختلط في الاقتصاد.
وقد كتبت خلال الأسابيع الماضية مقالات حول الأزمة المالية التي تنذر بأزمة اقتصادية كبيرة قد تستمر زمناً طويلاً أكثر من مدة الكساد التي شهدتها دول اوروبا أواخر عقد عشرينيات القرن الماضي, تلك الأزمة التي تصدى لها الاقتصادي المشهور (كنز) ووضع حلولاً لإنقاذ الرأسمالية. وعندما تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهت الحرب الباردة آنذاك, تصدى الكتاب الغربيون لذاك الحدث الدراماتيكي, ونسجوا في ضوئه أفكاراً ونظريات منها (نهاية التاريخ) و(نهاية الأيديولوجيات) و(نهاية عصر القوميات), وقالوا إن الرأسمالية قد هَزمت الاشتراكية.
وفي حينها كتب مقال مطول حول هذا الادعاء نشر في مجلة (الدستور) التي كانت تصدر في لندن, وقد وجدت أن ذاك المقال ما زالت أفكاره مفيدة لطرحها في هذه الأزمة الحالية.
كان السؤال هو: هل انتصرت الرأسمالية بصورة حاسمة ونهائية, وهل فشلت الاشتراكية وانتهت ولم تعد صالحة لتحقيق العدالة..?
لقد شنت ماكنة الدعاية الغربية في الولايات المتحدة وفي اوروبا حملة واسعة من التشهير ضد الأنظمة والقيم والتطبيقات الاشتراكية, وأكدت إن انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وفي دول اوروبا الشرقية يعني أن الرأسمالية قد انتصرت وأن الاشتراكية قد انهزمت.
وحديثي عن الاشتراكية هو حديث عربي يؤمن بالقومية العربية المؤمنة, والاشتراكية في مفهومها, ليست كمفهوم الشيوعية بكل تلويناتها, فالاشتراكية العربية تنطلق من مفاهيم إيمانية تتوخى العدالة بين الناس والاستقلال والحرية, فهي تعتمد على مجموعة من القطاعات الاقتصادية: القطاع العام, القطاع الخاص, القطاع المختلط, القطاع التعاوني, فسيطرة الدولة ليست مطلقة.
فالاشتراكية التي اؤمن بها لا تعتمد القطاع العام فقط, أي هيمنة الدولة على الاقتصاد وبالمطلق, ولا تلغي القطاع الخاص, او الرأسمال الخاص, لأن الإسلام لم يلغ الملكية الخاصة, ولكنه قيّدها بالزكاة التي تؤخذ من أموال الأغنياء لتعطى للفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل "كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاء مِنكُمْ" كما ورد في القرآن الكريم.
وفي حينه قلنا أنه رغم زخم الدعاية الرأسمالية ضد الاشتراكية, لا بد أن تظهر جملة من الحقائق الجوهرية في قابل الأيام, لأن الدعاية الغربية اعتمدت في حملتها آنذاك على خلط الأوراق, وحجب الحقائق عن أنظار الرأي العام, إذ أن ما حدث هو سقوط النظام السوفييتي الشيوعي, وليس سقوط الاشتراكية. وقد انساق عدد من الكتاب العرب وراء تلك الدعاية فخلطوا بين ما أصاب الشيوعية من نكسات في الاتحاد السوفييتي ودول اوروبا الشرقية وبين الاشتراكية. إن النظرية الشيوعية المعروفة في العالم ولدى المفكرين هي (الماركسية اللينينية) وتطبيقاتها في الاتحاد السوفييتي السابق ودول أوروبا الشرقية, وهي التي انهارت, ومع ذلك فإن ما حدث لم يغير من الحقيقة الجوهرية من أن الشيوعية شيء والاشتراكية شيء آخر, كما أن ما حدث لم يُغير من الحقيقة التاريخية المعروفة وهي أن الاشتراكية كأفكار ونظريات واتجاهات قد سبقت النظرية الشيوعية التي وضع أسسها وأفكارها (ماركس وإنكلز).
إن التقاء الشيوعية والاشتراكية في تجربة الاتحاد السوفييتي السابق, لا يلغي الفارق الجوهري الأساسي بين الاثنين, وهو أن الشيوعية الماركسية - اللينينية وتطبيقاتها الستالينية هي في الأساس نظرية مطلقة وشمولية, سعت للهيمنة على كل جوانب الحياة الإنسانية والروحية والمادية وقالت بتفسير خاص, في حين أن الاشتراكية في الأساس نظرية نسبية تتعامل مع الجوانب الروحية والمادية للإنسان والمجتمع بمنهج لا يعتمد الإطلاق, كما كان هناك خلاف عبر العقود الماضية بين الشيوعية والرأسمالية, وخلاف حاد بينهما وبين الاشتراكية التي قال بها غير الشيوعيين.
وقلنا قبل سقوط التجربة الشيوعية منطلقين من فكرة الحوار والنقد الإيجابي, أن النظام في الاتحاد السوفييتي وفي دول اوروبا الشرقية, فقد حيويته الثورية التي اتسم بها في المراحل الأولى, وتحول إلى نظام بيروقراطي يقوده سياسيون محترفون وموظفون وليسوا ثواراً أو مناضلين أصحاب قضية كما كان قادة الشيوعية الأوائل, وكذلك هو حال الثورات والانقلابات في دول الجنوب.
لقد كان الصراع بين الرأسماليين والشيوعيين داخل البلدان الرأسمالية نفسها قبل الحرب العالمية الثانية نتيجة الصراعات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت في النظام الرأسمالي نفسه, ونتيجة لصراع المذاهب الفلسفية والسياسية في تلك الدول, وخلال الحرب العالمية الثانية توقف هذا الصراع, بل تحالف طرفاه لمواجهة النازية التي كانت العدو المشترك لكليهما.
وبعد سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية, وبعد أن تمكنت الدول الرأسمالية من احتواء خطر الشيوعيين بالاستيلاء على الحكم في كل من إيطاليا واليونان بدأت طبيعة الصراع تتغير, لا سيما بعد أن تحول الاتحاد السوفييتي اثر الحرب العالمية الثانية من مجرد دولة لها نظام تثير غضب الرأسماليين وحقدهم عليه إلى قوة دولية حققت التوازن مع الدول الغربية الرأسمالية, ونافستها على النفوذ والمصالح في العالم.
وبعد ذاك التحول صار همّ الدول الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة كيف تحاصر المعسكر الشيوعي الاشتراكي في إطار الحدود الجغرافية التي وصلها في الحرب الثانية, ومنع انتشار نفوذه وانتشار الشيوعية في بلدان أخرى للحفاظ على مصالحها ونفوذها في العالم وبالذات في أسيا وإفريقيا.
وقد استخدم الطرفان كل وسائلهما الفلسفية والسياسية والفكرية في هذا الصراع وشهدنا خلال ذاك الصراع الذي امتد عدة عقود في القرن الماضي أكثر من حالة كان فيها المعسكر الرأسمالي يسكت أو يصادق أو يعاون دولاً شيوعية لأنها كانت تنافس الاتحاد السوفيتي وتبتعد عن اتجاهاته وتوجهاته الاستراتيجية, كما أقام الاتحاد السوفييتي آنذاك علاقات جيدة مع أنظمة رأسمالية لأنها كانت على خلاف مع الولايات المتحدة.
أما الخلافات بين الاشتراكيين على اختلاف مشاربهم ومنهم الاشتراكيون العرب وبين الشيوعيين لم تكن لأسباب تتعلق بالتنافس على المصالح الاقتصادية داخل بلدانهم, بل إنهم اختلفوا مع الشيوعية لأنها كانت نظرية مطلقة وشمولية تلغي ما قبلها من عقائد ونظم وعلاقات وقيم دينية وقومية.
وبالنسبة للاشتراكيين العرب بخاصة, فقد اختلفوا مع الشيوعيين لأن الشيوعية الغت الدين والقومية المؤمنة والتراث الثقافي للأمة العربية, إضافة إلى إنكارها للغريزة الإنسانية القويّة في حب التملّك, وهذه الغريزة كانت بنظر الشيوعيين آنذاك غريزة شريرة, أو أنها مثل أشياء كثيرة في الحياة الإنسانية نسبية, فيها ما هو إنساني طبيعي ومفيد, وفيها ما هو ضار أو شرير.
لقد بقي الخلاف بين الاشتراكية والشيوعية على طبيعته الأساسية بصورة عامة خلافاً فلسفياً وسياسياً, في حين شهد الصراع بين الرأسمالية والشيوعية في مرحلة الصراع الاستراتيجي التي سميّت بالحرب الباردة الكثير من التدني الأخلاقي والابتعاد عن القيم الحضارية والمبادئ الإنسانية, لأن هدف كل منهما سحق الآخر وإنهاؤه من الوجود.
وما حصل عندما سقطت التجربة الشيوعية لا يعني على الإطلاق انتصاراً فلسفياً أو سياسياً أو أخلاقياً للرأسمالية على الاشتراكية.0
لنا إن انتهاء التجربة الشيوعية ليس انتصاراً فلسفياً أو سياسياً أو أخلاقياً للرأسمالية على الاشتراكية كما ادعت وسائل الإعلام الغربية آنذاك, وما حصل في الأزمة المالية الراهنة, هو التعبير اللاأخلاقي عن نهج الرأسمالية الجشعة المتغولة على فقراء العالم.
وعودة إلى حوارنا الفكري بين الرأسمالية والاشتراكية المرضي عنها نقول إن الاشتراكية لم تكن في يوم من الأيام اختراعاً سوفييتياً لكي تسقط مع سقوط النظام الشيوعي السوفييتي, كما أن الرأسمالية لم تكن في أوج صحتها وعافيتها بعد ذاك الانهيار للنظام السوفييتي, لكي نفسر ما حدث بأنه انتصار للرأسمالية.
والنظام الرأسمالي بعد الحرب الباردة, وبالذات النظام الأمريكي خاصة في زمن المحافظين الجدد, ظل يحوي الكثير من الأزمات والمظالم, التي جعلت الكثير من المفكرين والرأي العام الغربي نفسه يفكرون في نجاعة الاشتراكية كبديل عن النظام الرأسمالي المتوحش. فالأزمات والمظالم في النظام الرأسمالي متمثلة في البطالة وارتفاع الأسعار, وظهور الأمراض والفوضى في المجتمعات ما زالت تزداد في الأنظمة الرأسمالية الغربية, والأنظمة التي اختارت الرأسمالية وفق توجيهات صندوق النقد الدولي الذي يُعد أحد أركان العولمة الاقتصادية.
صحيح إن النظام الرأسمالي لديه القدرة على التكيف مع الظروف الجديدة وما توفره الليبرالية من مرونة ومن إمكانية حل المشكلات او إيقافها او تسويفها بحيث لا تصل الأزمات والأمراض في النظام الرأسمالي إلى درجة الانفجار ومن ثم سقوط النظام برمته, إلا أن الأزمات المالية التي رافقت العولمة بكل مضامينها قد ألحقت آلاماً كبيرة في شعوب عالم الجنوب, نظراً لنهج الرأسماليين الليبراليين الذين توخوا الربح الوفير على حساب الحياة الإنسانية لفقراء العالم الذين تجاوز عددهم مليار إنسان, وفي الأزمة الراهنة انكشفت الرأسمالية على حقيقتها إزاء البشرية كلها, وإذا كانت قادرة على تجاوز مشكلاتها داخل بلدانها وفي مجتمعاتها, فإنها لم تعر بالاً لمشكلات البشر في عالم الجنوب الذين يشكلون معظم سكان العالم.
إن العالم الغربي لا يخلو من الأحزاب الاشتراكية او من الاشتراكيين الذين يناضلون بأساليبهم الخاصة وضمن ظروفهم الخاصة ضد كل أمراض النظام الرأسمالي ومظالمه, ويُعرّون أزماته وإخفاقاته في توفير الحياة الحرة الكريمة لغالبية السكان. فالنضال نحو الرفاه والعدالة من منظور اشتراكي إنساني, ما زال قائماً في الدول الغربية الرأسمالية ولن يتوقف ما دامت الرأسمالية تفرز أزمات وتتسبب في وقوع أزمات ترهق كاهل المواطنين في تلك البلدان.
الاشتراكية كأفكار ونظريات واتجاهات سبقت نشوء الماركسية وظلت حتى الآن, وإن خفت صوتها في فترات معينة, فالاشتراكية تمتلك جذوراً عميقة في التاريخ الإنساني الحافل بشتى أشكال النضال ضد الاستغلال وضد القهر والسيطرة والحرمان, وضد استغلال الإنسان للإنسان وتناضل من أجل تحقيق العدالة, كما تمتلك جذوراً عميقة في القيم والتعاليم التي بشرت بها الديانات السماوية الثلاث خاصة الإسلام.
ومن الطبيعي أن تبقى الدعوة إلى العدالة الاجتماعية والى مقاومة الاستغلال ما دام هناك تباين صارخ في الملكية وفي مستوى معيشة الناس, وما دام هناك استغلال من جانب الغني للفقير ومن القوي للضعيف, وهذه كلها ظواهر موجودة في الأنظمة الرأسمالية كبيرها وصغيرها. ومن هنا فإن بقاء الاشتراكية كدعوة ضرورة لتحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي.
نظرة سريعة على الدول في أوروبا الشرقية التي تحولت من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي, يعيش بعضها او أكثرها في حالة من الضياع, وينتشر فيها العديد من الأزمات والأمراض, رغم الهوس الذي برز قبل عقدين والإعجاب بالنظام الرأسمالي, وبالذات التجربة الأمريكية.
ورغم أن القيادات السياسية في هذه البلدان قد اختارت المنهج الرأسمالي إلا أنها ما زالت في حيرة وقلق من صحة تلك الخيارات ونتائجها الفعلية في تحسين المستوى المعاشي للمواطنين, وحل الأزمات الجديدة التي خلفتها الرأسمالية جراء المضاربات في البورصات وبيوتات المال, وابتكار أنماط من التجارة لم تكن معروفة في السابق بهذا الشكل, مثل تجارة الأسلحة والمخدرات وتجارة الرقيق وتجارة الأعضاء البشرية. ومن الجلي أن هذه القيادات التي عاشت تجربة الاشتراكية وفق النموذج الشيوعي الستاليني ما زالت لا تملك رؤية واضحة عن كيفية تحويل بلدانها من نظام سابق إلى نظام جديد يكون أفضل من سابقه.
وبدون غرض سيئ فإن الولايات المتحدة ومعها دول أوروبا الغربية الرأسمالية التي روجت لانتصار الرأسمالية في الدول التي كانت تحت المظلة الشيوعية, لا يهمها أن تصبح هذه الدول دولاً رأسمالية مزدهرة, لأن مثل هذه النتيجة إذا ما كانت ممكنة التحقيق فإنها تضيف إلى لائحة التنافس في العالم الرأسمالي منافسين جدداً تنضاف إلى الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. وهذا التوقع لا يصب في خيارات الدول الرأسمالية الكبرى التي تطمح دائماً أن تبقى متربعة فوق قمة الهرم الاقتصادي في العالم.
لقد كان الهم الأول بالنسبة للولايات المتحدة إزالة او إضعاف الاتحاد السوفييتي كقوة عالمية تشكل معها نظام القطبية الثنائية في العالم, لكي يتاح لها المجال للتفرد بالعالم. والمعونات التي قدمتها الولايات المتحدة ودول أوروبا للدول التي انفصلت عن المنظومة الاشتراكية معونات هزيلة لا تمكنها من النهوض الحقيقي الذي يأخذ بيدها نحو الرفاه والحياة المتوازنة, بل تركتها تصارع إفرازات الرأسمالية المتغولة وفق معطيات العولمة ومضامينها. كما أن هم الدول الرأسمالية الكبرى إبقاء الدول المتحولة إلى النظام الرأسمالي في وضعها الجديد, وعدم الارتداد نحو الماضي أي نحو النظام الاشتراكي القديم رغم ما رافقه من عيوب وأخطاء.
ومهما قيل عن تحول الأنظمة المعنية إلى أنظمة رأسمالية, فهي لم تصبح دولاً رأسمالية بالمعنى الحقيقي. وإذا كان بقاء الاشتراكية كدعوة وضرورة أمراً متوقعاً في الدول الرأسمالية الغربية فإن الاشتراكية تبقى ضرورة لبلدان الجنوب ومنها الأقطار العربية, لا لتأمين العدالة والتوازن الاجتماعي والاقتصادي فحسب, وإنما لضمان الاستقلال السياسي والاقتصادي وضمان فرص جدية للتنمية والتقدم.
بات من المعروف ان الرأسمالية الغربية هي نتاج الثورة الصناعية ونتاج الاستعمار الذي انتهجته الدول الأوروبية منذ ثلاثة قرون, ولولا الاستعمار لما ازدهرت الصناعة في أوروبا رغم قيام الثورة الصناعية فيها, لأن الصناعات الأوروبية - آنذاك- كانت بحاجة إلى المواد الخام الأولية, وبحاجة إلى الأسواق الخارجية لتصريف منتجاتها كما وفر الاستعمار الأيدي الرخيصة, ويمكن القول أن النهضة التي شهدتها الولايات المتحدة كانت الأيدي العاملة السوداء الإفريقية أحد أسبابها ومقوماتها, ولما جاءت الثورة العلمية والتقنية (ثورة الاتصالات والمعلومات) في القرن الماضي مكنت الرأسمالية من تحسين المستوى المعاشي للناس ومن استمرار الرأسمالية من دون أزمات طاحنة.
كل العوامل الآنف ذكرها مكنّت الرأسمالية من البقاء وتحقيق هذا الازدهار الصناعي في بلدان الغرب, ولكن هذه العوامل غير موجودة في أغلبها في دول الجنوب لذلك لا يمكن من الناحية الواقعية إقامة نظام رأسمالي حقيقي فيها كالنظم الرأسمالية في الولايات المتحدة وفي أوروبا, قبل أن تتوفر العوامل الأساسية التي يرتكز عليها الاقتصاد بكل قطاعاته.
وعندما يندفع المفكرون الغربيون للترويج للرأسمالية بكل أساليب الإغراء والدهاء, فإنهم لا يهدفون خدمة شعوب عالم الجنوب وتطوير اقتصاد بلدانها لكي يرقى ومستوى الاقتصاد العالمي, بل يسعون حقاً إلى نشر القيم الرأسمالية وبعض ممارساتها في بلدان الجنوب المتخلفة في معظم المجالات, كما أن انتشار القيم الرأسمالية يوفر للدول الرأسمالية فرصاً أفضل لاستغلال تلك البلدان والسيطرة عليها..0
لنا إن منظري الرأسمالية في الغرب وفي الولايات المتحدة, سخروا جهدهم وذكاءهم وقدراتهم الغنية لنشر القيم والممارسات الرأسمالية من خلال مضامين العولمة الثقافية. ولم يكن هدفهم خدمة الشعوب الفقيرة في بلدان الجنوب, أو توفير الفرص لهم للتطور والنمو, بل كان هدفهم استغلال تلك البلدان ونهب خيراتها الطبيعية, وتسخير أهلها للعمالة الرخيصة في بلدانهم الصناعية. ومن أجل هذا الهدف الذي يستحق العناء والجهد بنظرهم, سعوا إلى إقناع مثقفي دول الجنوب أن الطريق الرأسمالي في الاقتصاد وفي الثقافة هو طريق الخلاص لبلدانهم من الفقر والتخلف.
لم يدخر منظرو الرأسمالية في الغرب, وكذلك زعماء السياسة والحكام في بلدان الغرب, وسعاً في استغلال الدين المسيحي للترويج لقيم الرأسمالية. علماً أن حكام أوروبا القدامى لم يعتنقوا المسيحية بدافع إيماني صادق, بل قاوموا هذه العقيدة الإنسانية القادمة من بلاد الشرق أي من فلسطين حصرياً. وقد أوقعوا أشد العقاب بمن آمن بالمسيحية من أبناء أوروبا الفقراء الذين كانوا يعانون من ظلم الإقطاعيين والنبلاء وجشعهم. وعندما فرضت المسيحية نفسها واعتنقها الحكام بقرار فوقي, عملوا على تسخيرها لخدمة مصالحهم وتعزيز سلطانها, ولم يكتفوا بذلك, بل تحالفوا مع الكنيسة من أجل أغراضهم الدنيوية.
وتذكرنا سجلات التاريخ أن حكام أوروبا استخدموا هذا التحالف مع الكنيسة في الإيذان بإعلان الحروب الصليبية ضد بلدان العرب والقدس بخاصة, بدعوى تخليص المقدسات المسيحية من أيدي العرب, كما استخدموا المسيحية أداة دعائية لتضليل شعوب بلدان آسيا وإفريقيا, وإقناعهم بأن الاستعمار - الذي يعني لغوياً إعمار البلدان وتنميتها- يهدف إلى نشر الإيمان بالله وتعريفهم بالطريق الذي يوصل شعوب هذه البلدان إلى الرفاهية والتقدم. وما زال الغربيون يستخدمون القيم الرأسمالية بعض أنماط الديمقراطية الغربية وشعارات حقوق الإنسان والحرص على نقاء البيئة لتحقيق أهدافهم الاستعمارية.
إن هذا الاستذكار التاريخي يُفيد في تذكير بعض مثقفي العرب, وتنشيط ذاكرتهم لمراجعة مواقفهم وآرائهم الفكرية, وأن يعوا هذه الحقائق عندما يتعاملون مع القيم والممارسات الرأسمالية في بلداهم حصرياً.
إن شعوب بلدان الجنوب -الذي كان يطلق عليه العالم الثالث- التي تؤمن بالرأسمالية وتعتنقها في تطبيقاتها, فهي تعتنق عقيدة ونظاماً يقودان إلى أن تصبح هذه الشعوب عبدة وموالية بالكامل للدول الرأسمالية الغربية, لأن اقتصاد هذه البلدان - التي تفتقر إلى العوامل الأساسية في النهضة والتقدم - سوف يتبع الاقتصاد الرأسمالي في الدول الصناعية الكبرى, لا سيما بعد تنفيذ مبادئ التجارة الحرة, والرضوخ لتعليمات وشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإعمار.
كما إتباع المنهج الرأسمالي في تطبيق الديمقراطية الغربية, خاصة في الانتخابات, يقود إلى سيطرة الرأسماليين والليبراليين على المؤسسات التشريعية والبلدية, لأن آليات الانتخابات بالنموذج الغربي تعتمد على سيطرة المال والإعلام, فبمقدار ما يملك المرشح من المال ويسخر الإعلام لخدمته, بمقدار ما يُحقق الفوز في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية, وبالتالي فإن القوانين التي يشرعها البرلمان المنتخب لا تخدم إلا المصالح الرأسمالية, وعندها سيكون المواطن الفقير هو الخاسر الأول, وهو المغلوب على أمره, وهو الذي تم استغفاله بالشعارات البراقة.
قد يقول قائل إن هذا الكلام مردود, بدليل تطبيق الرأسمالية في عدة بلدان آسيوية وصارت نموذجاً للتجربة الرأسمالية الناجحة, خاصة في تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة. صحيح أن هذه البلدان حققت إنجازات صناعية واقتصادية مهمة, ولكن هذه الانجازات كانت نتيجة ارتباط هذه البلدان ارتباطاً عضوياً بالنظام الرأسمالي الأمريكي, ومن موقع التابع له, وهذا الارتباط ليس ثابتاً, أي أن هذه البلدان وبعد عدة عقود من التقدم والازدهار, تعقدت الأوضاع فيها واشتدت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية كما تصاعد العنف فيها خاصة في كوريا الجنوبية, ونشأت فيها تيارات معارضة لاستلاب بلدانهم استقلالها السياسي وسيادتها الوطنية, وحقها في تقرير مصيرها بنفسها, إذ نشأت تيارات تطالب بالوحدة مع كوريا الشمالية, وتيارات في تايوان تطالب بالعودة إلى أحضان الوطن الأم الصين الكبرى, كما عادت هونغ كونغ من قبل. فالتقدم والنمو من دون استقلال وسيادة وحق تقرير المصير تبقى أموراً مادية خالية من الروح, فهو تقدم يقود إلى الخواء والى الانحدار القيمي وتخل عن الثقافة القومية الأصلية.
وما زال مصير تايوان مرهونا بقرار من الإدارة الأمريكية في البيت الأبيض فعندما تقتضي مصالح الولايات المتحدة مع الصين التخلي عن تايوان, فإنها ستفعل ذلك دون ندم, وسجل الإدارات الأمريكية في هذا الشأن معروف من خلال تخليها عن ماركوس في الفلبين, وعن الشاه في إيران.
أما النماذج العربية التي تحولت من النهج الاشتراكي إلى النهج الرأسمالي, مثل مصر. فقد كانت مصر دولة رأسمالية إقطاعية قبل ,1952 وتحولت إلى اشتراكية في عهد عبدالناصر, ثم عادت وتحولت إلى الرأسمالية في عهد السادات ثم مبارك, حيث انتشرت فيها القيم الرأسمالية التي روجت لها العولمة بكل آلياتها. وبعد مرور سنوات على هذا التحول, نشطت حركات التمرد والعنف, وشهدت الساحة المصرية حوادث مؤلمة من العنف الذي وصل حد الإرهاب, وبدلاً من أن ينعم الشعب المصري بالرفاه والنعيم ويأكل السمن والعسل كما وعدت الإدارة الأمريكية ازداد عدد الفقراء والعاطلين عن العمل, وانتشرت أمراض فتاكة خاصة تعاطي المخدرات وامتد الفساد المالي والإداري أماكن عديدة في المؤسسات المالية.
وفي الأردن الذي كان يمزج بين الرأسمالية وسلطة الدولة, أي بين القطاعين الخاص والعام, تحول إلى نظام الخصخصة وفق تعليمات صندوق النقد الدولي, وقد تم بيع العديد من المؤسسات الاقتصادية الرابحة والتي كانت تحتاج إلى قدر من الحزم الإداري, والنقاء الأخلاقي, لكي تُحقق المزيد من الأرباح.
وكذلك الحال في الدول الغنية بالنفط, فهذه الدول خافت على ثرواتها إذا ما تحقق قدر من التضامن العربي إن لم نقل الوحدة العربية, في حين أن مثل هذا التضامن يوفر الآمان للثروة العربية وينميها من خلال استثمارات حقيقية على الأرض تحقق الربح والتقدم للجميع. وبدلاً من استثمار أموال النفط في استثمارات حقيقية, ظلت هذه الأموال بيد المضاربين في البنوك والبورصات, وصار مآلها الهدر والضياع مع أول عاصفة تهب على هذه البيوتات المالية في الدول الرأسمالية.
إن بلداننا في عالم الجنوب التي لم تتوفر على كل ممكنات الاقتصاد المتقدم وفق النموذج الرأسمالي, ليس أمامها لضمان أمن المواطنين اجتماعياً إلا الطريق الاشتراكي الوطني الخاص الذي يراعي ظروف كل بلد, ولا يجوز استذكار التجارب الاشتراكية الفاشلة في بلادنا وخارجها, لأن العيب في الاشتراكيين أنفسهم وليس في الاشتراكية كمنهج يتوخى ضمان السيادة والاستقلال الوطني وحق تقرير المصير.
كما أن التطبيق الاشتراكي المستنير بمبادئ الإسلام الضامنة بعدم الغش, والداعية إلى الوفاء والإيمان بكل القيم السماوية النبيلة كالعدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان من ذكر وأنثى. إن هذا الطريق الوطني الخاص هو الاشتراكية الصالحة لأبناء بلدان الجنوب, وهو طريق يجمع بين الرأسمالية المرضي عنها وبين الاشتراكية التي ترفض تسلط الدولة المركزية.0
#حسن_محمد_طوالبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟