|
مفهوم رجل الدولة
محمد علوان العبادي
الحوار المتمدن-العدد: 3382 - 2011 / 5 / 31 - 11:57
المحور:
اراء في عمل وتوجهات مؤسسة الحوار المتمدن
مفهوم رجل الدولــة .. تأخذ (الدولة كجهاز) اهتماماً محورياً وراسخا ً في جميع مجالات ونواحي البحث والدراسة في السياسة الحديثة والقديمة ، حيث تعتبر "الدولة " هي الوعاء الحاضن لذلك الكادر الكبير والواسع من المؤسسات والدوائر ، التي يديرها رجالات دولة ـ كما تم تسميتهم اصطلاحاً ، رجالا دون ونساء ، حيث يوجد صفوة من النساء اللاتي يتمتعن بميزات وخصائص رجال الدولة ، ولهن وجود ريادي وقيادي في تاريخ البشرية الاجتماعي والسياسي والاقتصادي . وفي ثقافاتنا السياسية الركيكة وفي الدول النامية تحديداً ، لم يهتد عامة الناس ، لوضع تصور عام لفهم وحصر خصائص " رجالات الدولة " ، ولم نلمس أي إدراك لماهية الوظائف والمهام والممارسات والواجبات التي يتبناها رجالات الدولة عند أصحاب الطموح والعصاميين ، ولن نقف هنا عند تقديم تعريف شكلي لخصائص رجل الدولة ، بل سنقدم مجموعة من الإيضاحات التي من خلالها نستطيع أن نتفق على مفهوم وتعريف محدد (لرجل الدولة) حيث نبدأ بالمفهوم الحديث للدولة ، وهي دولة مؤسسات وقانون لا دولة تجمعات أو أحزاب أو تكتلات مارقة قامت كردود أفعال تعود ثقافتها السياسية للعصور الوسطى والقديمة ، وتزول هذه بزوال السبب الذي قامت لأجله ، فلن نجد لهذه الأحزاب أو التكتلات أي انجاز يسجل في تاريخ الأوطان والمجتمعات ونموها ، ويتصف رجال هذه التكتلات والأحزاب بصفة مستثمري المواقف لتحقيق غايات فردية وشخصية وليس من اجل الارتقاء بسمو ورفعة المجتمعات وفقاً لمبادئ راسخة وهادفة، فيكون دورهم في التأثير على عجلة السياسة مرحلي أو آني مُقيد ومحدد بسبب الرؤية المحددة ، ولا يؤخذ به كنموذج يحتذَ ويعتمد ، وفي المحصلة تأسس عندنا إيمانا حقيقيا بأن أي رجل دولة معاصر ومتمكن ، لن يتسنى له أن يحقق أي انجاز في مهامه ، إلا إذا توفرت في دولته جميع مزايا ومكونات المجتمع المدني، وان يكون لدى دولته تفهماً فعليا لمنظومة مفاهيم العالم الحديث. وعليه ، نجد أن رجل الدولة يقف أمام خيارين حاسمين ، إما أن يؤمن بالدولة الحديثة ويتكيف مع دور الدولة الجديد كما يعرفها العالم المتحضر ، أو أن يبقى أسيراً لمفاهيم الكيانات والأحزاب والتكتلات الواهنة التي تستنشق أفكارها وأنظمتها من أوثان الفكر التقليدي الهش ، وتبقى قراراته وبرامجه تتأرجح بين جحافل الماضي المتآكل ومتطلبات الحاضر المتفائل ! وقد يستشف القارئ أن في مضمون هذا المقال وبين ثناياه غايات ورسائل أبثها إلى كل من تبوأ منصبا إداريا رفيعا وهاماً، إلى من يملكون قوة القرار، أو المشرفون على صناعته، إلى المسؤولين ، رسالة فحواها ضرورة إعادة النظر وبدقة وعناية بالغة ، وبانتماء ، عند اختيار الرجال ، وعند تعيين القيادات الإدارية وغيرها ، وأن يكون الاختيار خاضعاً لمنظومة خصائص وميزات رجال الدولة لا رجال الجولة. ترى هل كان هناك رجالات دولة في وطننا ؟ حبذا لو يُدرس هذا " الموضوع " من قبل المختصين في علم السياسية وأصحاب الفكر السياسي والرؤى البناءة ، في ثقافتنا الوطنية والعربية . قد لا نجد حلولاً لمشكلات الحياة السياسية الحديثة والمعاصرة ، وقد لا نصل إلى الاتفاق على مفهوم مشترك حول "رجل الدولة " ولكننا سنضع الأسس والأطر العامة التي ستعمل على توضيح هذا المفهوم ويفتح الطريق أمام الجيل القادم لمعرفة رجالات المستقبل: ومن هو رجل الدولة بحق؟ هل نصف رجالات الدولة بالبناة ؟، هل استشهد بهم المؤرخون؟، هل صنعوا هيبة لأوطانهم ؟، ومما لا ريب فيه ، أن التاريخ يقر بافتخار بنماذج فريدة وعديدة من الرجالات ، ممن تسنموا قمم الانجاز ، وحرارة الولاء والانتماء ، و نقف حيارى أمام حجم منجزاتهم مقابل قلة إمكاناتهم ، فيسحرنا إبداعهم، وفكرهم الوقّاد والمتقد، فيقال رجال فكر ورجالات دولة وأصحاب رؤى، وقد قيل بأن لكل زمان دولة ورجال. وقال تعالى :(وتلك الأيام نداولها بين الناس) (وخير من استأجرت القوي الأمين) وكم نقرأ عن الرجال ، المفكرين والوطنيين أو القادة السياسيين، أو المسؤولين الإداريين ، فقد يكون رجل الدولة قائدا سياسيا أو يكون إداريا مدنيا أو عسكرياً ، فالذي يحظى بحمل صفة رجل الدولة ، سيسعى الكثيرون لتقليده أو القيام بدوره ، ويفشلوا لعدم اتصافهم بقدراته الخاصة ، فهو المتفاني لصناعة تاريخ دولته ليظهرها على الدول ، وهو صاحب القرارات الصعبة والمفصلية ،كأنه علمٌ على رأسه نارُ ، نظير القرارات الصعبة التي اتخذها ، أو المشاريع الإستراتيجية التي صنعها أو قام بإدارة صنعها . فمن خلال واقع التاريخ السياسي ورغم تعدد المفاهيم وتنوعها ، نجد أن المفهوم البنيوي للدولة يرتبط ارتباطا وثيقاً بأنواع رجالاتها وميزاتهم ، فمن الضروري أن يتوّلى شأن الدولة أناس لهم خبرات عالية المستوى بتصريف شؤون الدولة، وأهم ما يمكن أن يتوفر برجل الدولة المعرفة العميقة والواعية بالشؤون المجتمعية العامة والإدراك الملامس لمتطلبات وهموم المجتمع بمختلف شرائحه وكيفية التعامل مع المشكلات التي تتولد عن العلاقة بين كل من الدولة والمجتمع ، حيث كان محور اهتمام رجل الدولة هو بناء وتأسيس فكر متوازن ومبرمج ، يسعى للنهوض بالمؤسسات ومأسستها وبين إشباع حاجة المجتمع والمؤسسات من التشريعات الناظمة ، كمنهج يلتزم به رجل الدولة ليكون القدوة والمثل الأعلى أمام المجتمع، فكلاهما المجتمع والدولة معا بحاجة ماسة إلى رجل الدولة أثناء الأزمات والقلاقل والمحن ، وهذا ما طالب به جهابذة وعمالقة فلاسفة الفكر السياسي في القرون الماضية فمتى نهتدي لاختيار رجل الدولة الأمثل ؟ أو أيهما رجل الدولة ؟ هل هو الذي نشأ في لهيب الأزمة أم هو الذي أنشأها؟ هل هو الذي قبل الانتحار والاحتراق في بركانها ، أم الذي هرولت حقائبه ومخصصاته للخروج بداعي السفر؟ فالذي يعيش هموم المجتمع وينتصر له ، يصبح قلعة شامخة ، وبطلا وطنيا وقومياً ، ومن يفشل في أداء مهمته أو ينحاز وينحرف نحو مصالحة الشخصية ، فان التاريخ سيطويه على الرفوف كوثيقة تعانق الغبار طويلاً ولا تحركها تحرشات المواطنة الصالحة. المنظور الفلسفي لرجل الدولة :- يشير معظم الفلاسفة ، وخاصة ماكس فيبر إلى أن أهم خصائص رجل الدولة تنحصر في ، الشخصية القوية صاحبة القيادة الفكرية ، التي يظهر تأثيرها على جميع شرائح وأطياف المجتمع ، والصلابة في إدارة المواقف والمرؤوسين بمختلف طبقات الهيكل التنظيمي الذي يقع ضمن صلاحياته ، وكيفية صنع قراراته سواء كانت الروتينية وغير الروتينية أو الإستراتيجية ، واستطاعته الدفاع عن القرارات والتوجهات التي تبناها دون أن يتغول على القانون العام أو يحتال عليه، ودون استخدام البدائل غير المشروعة ، الموصوف بالمهارة والذكاء والحنكة في المناورة ، صاحب الإرادة القادرة على تحجيم الخصوم وعدم الالتفات لصغائر الأمور ، بالإضافة إلى التمتع بخبرات الشأن الإداري والبيروقراطي ، وانتقاء الكفاءات لتسيير أحوال وأمور مؤسسته، إذ باستطاعته أن يُدّور عجلة التشغيل كي تستمر بالدوران دون أن يشارك كل يوم بتدويرها ، ويكتفي فقط بالتقييم والمعالجة والمراقبة ، وانه يضيف بين فترة وأخرى أيادي جديدة لها ، لا يكترث بالأرزاء والأقاويل والشعارات والكلام المنمق ، بقدر ما يبالي بالانجازات والأفعال ، لتكون حجة له لا عليه وتحسب له لا عليه . ويرى فلاسفة الفكر السياسي أنه يجب أن لا يتولى السلطة أناس متدربين على القيادة ، ولا أن تكون الدولة حقل تجارب لأناس عديمي الخبرة. وعليه فلا يمكننا العثور على رجل الدولة بين حديثي الأسنان من السياسيين ، أو بين الذين ليس لهم خبرة في الإدارة العامة لشؤون الدولة كنظام مؤسسي متكامل ومنتظم ومتوازن . ولا يمكن لمؤسسات الدولة أن تسير نحو الانجاز أو أن تتقدم للإمام إلا من خلال استثمار الخبرات وتوظيفها وتحفيزها لإيجاد برامج متناسقة لتجعل من الوظيفة العامة ثقافة مؤسسية مُوحدة ، فلقد وجدنا أن رجالات الدولة في العالم الحديث ، لم يأتوا إلى السلطة من الفضاء أو الفراغ ، ولا من جحافل المارقين أو من الأوكار الحزبية أو من المقاهي والمنتديات ! بل يأتون من خلال الاختيارات الصعبة والمواقف والظروف الحرجة، فرجال الدولة لا يمكن أن يكونوا من الرجال المتدينين أو المتعبدين ، أو من الثوار المرْحَلين ، أو الانقلابيين ، حيث ستنقلب الأمور ضدهم ، وسيغرقون بأمواج التحول ، وسيتخبطون بإدارة شؤون الدولة ومؤسساتها ، وستتفكك محاور الاتصال المؤسسي بين الجديد والقديم ، وسيكونون شركاء في هذا التفكك وجزءاً منه ، ولن يتمتعوا بطاقات إدارية وخبرات سلطوية وسيادية لتجعلهم قادرين على إعادة الهيبة لشؤون المؤسسات العامة وتسييرها. رجل دولة (The State Man).. " قد لا نجد تطابقاً لهذا الخلق من البشر ، ولن نجد منه نسخة طبق الأصل ، ولا يمكن استنساخه من خلال التوريث الإداري أو السياسي ، إذ ركز روسو على ضرورة توفر الصدق والصراحة بين رجل الدولة وشعبة ، وأشار بالوجوب إلى أن يكون رجل الدولة صريحا وصادقاً مع شعبه قريباً وملامسا له وغير منعزل عنه أبدا ، كركن طبيعي من أركان التلاقي المنسجم بين الدولة والمجتمع ، وقال كانط بأن ليس هناك رجل دولة إلا من خلال مجتمع مدني وذلك من اجل ضمان السلام الدائم، ويدعو هيوم في كتابه عن أصل العدل والملكية إلى ركام التجربة وتكوين الخبرات، حيث يرى أن من يزاول دور صانع ومتخذ القرار ، عليه أن يكون ابن الدولة نفسها، وعليه أن يبدأ من نقطة الصفر لمعرفة ما يمكن عمله يوميا بانتظام وعزم ودون تردد حتى لو جاء قدومه متأخراً. وأخيرا لقد طّور راولز نظريته في الدولة وفي ممارسة العدالة في القرن الماضي ، وأضفى عاملا رئيسيا على رجل الدولة ، إذ ألزمه بالإلمام التام بشؤون البلاد ومعرفته بمشكلاتها شرط أن لا يكون طرفا فيها ، وعلى رجل الدولة أن ينظر نظرة عمودية للحياة لا نظرة أفقية ، وان لا ينحاز لأي طرف من الأطراف ، حتى وان كان هو نفسه جزءا من أية مشكلة في البلاد، ولكن بشرط أن يكون موضوعياً ونزيهاً ومخلصا لحياديته ، لا تصنع في مواقفه ولا مضطرب في قراراته ، وقد طالب ماكس فيبر بضرورة تحرر المجتمع السياسي من القوالب التقليدية القديمة والانطلاق في تبني مسارات جديدة ، وعلى رجل الدولة أن يستوعب العصر الذي يعيشه ويستمد رؤيته من قوة الحراك السياسي وتفاعلاته ، ولا ينبغي أن ينظر إلى الوراء أبدا، فالماضي تجربة تدخل فقط في تلقيح رؤية المستقبل ، لإنتاج البذر والثمار المحصنة والنقية. كما يجب أن تدور مصالح رجل الدولة حول مبادئه ، لا أن تدور مبادئه حول مصالحه .
#محمد_علوان_العبادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليأس والبأس والفارق نقطة
-
مذكرات فاسد
-
الحناجر والخناجر والفارق نقطة
-
الشفافية بين المؤامرة والمغامرة
المزيد.....
-
صدق أو لا تصدق.. العثور على زعيم -كارتيل- مكسيكي وكيف يعيش ب
...
-
لفهم خطورة الأمر.. إليكم عدد الرؤوس النووية الروسية الممكن ح
...
-
الشرطة تنفذ تفجيراً متحكما به خارج السفارة الأمريكية في لندن
...
-
المليارديريان إيلون ماسك وجيف بيزوس يتنازعان علنًا بشأن ترام
...
-
كرملين روستوف.. تحفة معمارية روسية من قصص الخيال! (صور)
-
إيران تنوي تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة رداً على انتقادات لوك
...
-
العراق.. توجيه عاجل بإخلاء بناية حكومية في البصرة بعد العثور
...
-
الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا استعدادا لضرب منطقة جديدة في ضا
...
-
-أحسن رد من بوتين على تعنّت الغرب-.. صدى صاروخ -أوريشنيك- يص
...
-
درونات -تشيرنيكا-2- الروسية تثبت جدارتها في المعارك
المزيد.....
-
مَوْقِع الحِوَار المُتَمَدِّن مُهَدَّد 2/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
الفساد السياسي والأداء الإداري : دراسة في جدلية العلاقة
/ سالم سليمان
-
تحليل عددى عن الحوار المتمدن في عامه الثاني
/ عصام البغدادي
المزيد.....
|