|
اليسار الإسلامي واستعادة القدرة على التخيّل
رضا السمين
الحوار المتمدن-العدد: 3382 - 2011 / 5 / 31 - 06:35
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
اليسار الإسلامي واستعادة القدرة على التخيّل
المجتمع الأهلي ضدّ الشرّ السياسي والفقر المهين
هناك حركات سياسية لديها طاقة هائلة للعيش في الأكاذيب، والتواطؤ على المظالم اليومية، وتخثّر الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية، طاقتها هذه تستمدّها من سلبية الفرد "المواطن" ومن الصمت الموحش للجماعات المحلية. الديمقراطية ليست تقسيم سلطة (...) بل أن يعيش المواطن في مشهد اجتماعي ثقافي تعاقدي ورابطة سياسية متجددة، واعتبار الفرد الفاعل السياسي الأول في دولة الناس، وأنّ تعاون المجتمع السياسي شرط النموّ والتنمية. الديمقراطية والمواطنة توأمان لا يفصمان إلاّ بحشو الكلام واستبداد أقلية حداثوية، من هنا ضرورة صياغة رؤى ديمقراطية للمواطنة. فاعلية ديمقراطية إسلامية لا تزعم التديّن لتحدي السلطة السياسية، وليست حركة سياسية توظف السلطة الدينية، ولا قوة تنظيمية أدواتها الدين والسياسة، بل تسعى ليتجاوز المجتمع الأهلي الدولة دون نقض سيادتها، برفض أن يكون ماضي الدولة السلطانية هو مستقبلنا، أي سجن المواطَنة في "الدولة" التي كرّست أن "لا وطن ولا مواطن بدون هيبة الدولة"، والمشاركة الواسعة والأفقية في حلّ المشكلات لتجاوز أسطورة "مطالبة الدولة بحل كل مآزق المجتمع". إنّ تغيّر "ما بقوم" شرطه الذي لن تجد له تحويلا ولا تبديلا هو تغيير "ما بأنفسهم"، " إذا الشعب يوما أراد الحياة - فلا بدّ أن يستجيب القدر"، انتصار المجتمع اﻷهلي في هذه الحياة وانتصار المؤمن العامل في الآخرة، وكل إنسان ألزِم طائره في عنقه أي يتحمّل مسؤولية ونتائج أعماله. الواجب الأوّل هو الدفاع عن "المصالح العليا" للمجتمع الأهلي، وتغليب قيم العفو مع المخطئ، ومقاومة غرائز الانتقام وردّ الفعل، والرحمة للناس كافة. الانتصار ضدّ الكآبة واليأس وضدّ العُهر والقهر، فالإنسان في قيعان مجتمعاتنا لا يتنفّس إلاّ التّلوّث والغبار، ولا يتحرّك إلاّ وهو تحت الرّقابة، لا غذاء لا كساء لا حبّ ولا سكن، يهلكه القرف وتكثر بداخله ومن حوله العوالم السُّفليّة، تطحنه تجارب الموت البطيء والغمّ واللامبالاة والإكراه... وكلّما هَتكَ الأعداءُ بلاده يَحزن ويزداد غمّا على غمّ، لكن والحمد للّه، يأبى الله إلاّ أن يُتمّ نوره، ولو كره المجرمون، فينتفض الشعب ويريد، "ولقد جئت على قدر يا موسى".
القضايا الكبرى التي تشغلنا، المصالح الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية في المدن، وقراءة القرآن والرحمة للعالمين، ومكانة الإنسان وهويته، ومسائل المرأة، وقضايا البيئة والأوبئة والتعاون، والخصوصية والعالمية، والعقل وتنازع المعاني، والفردي والعام ومسائل الحميمية، والاحتفاء بالإنسان وبالمكان وبالزمن وبالجسد وبالإرادة وبالعقل الفعال المبادر، وتوليد القدرة على تحدي الظرف التاريخي والإيمان بقوة الفعل الإنساني ورحمة الله و"مشروعية الشعب"، واعتبار المواطنة واجبات وحقوق للتعاون من أجل نموّ الإنسان وترويض وحش الدولة. القطع مع أدلوجة وعقيدة أن الدولة هي محط كل الآمال والآلام، ونقل الاهتمام السياسي والفعل المدني من الدولة إلى المجتمع الأهلي، دون أن يعني ذلك توريط المجتمع المدني في تحمل كلّ أعباء العدل الاجتماعي الذي تخلت عنه الدولة في الحقبة النيوـ ليبرالية، والتي تغوّلت فيها سلطة الدولة وتوحّشت على حساب الناس، رغم محاولات الشعوب، سلمًا أو ثورة، للحصول على حقها في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، فالثابت أن الدولة، أيًّا كان شكل نظام حكمها، هي في مواجهة المجتمع لإخضاعه، وفي مرحلتنا التاريخية هذه، لصالح الشركات المتعدّدة الجنسية، وتحويل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات سلعية، والإحلال الكلّي للمنفعة مقابل المَرحمة.
1
هل المواطنة عضوية في جماعة سياسية مما يطرح قضايا الهوية والولاء، وعلاقة الفرد بالجماعة ومنظومة القيم الحاكمة فيها ؟ هل المواطنة مفهوم قانوني وما يستدعيه ذلك من علاقة الفرد بالدولة بالرابطة القانونية والتمثيل السياسي والمسؤولية ؟ هل المواطنة ذات سياديّة، وما يستتبعه ذلك من قضايا الحريات والحقوق والفضائل المدنية والمشاركة الديمقراطية ؟ هل المواطنة، مزيج من كل هذه المقومات السالفة في ظل علاقة ديناميكية بينها، وتحت وقع تحوّلات اجتماعية وسياسية وتاريخية ومادية مرتبطة بالمكان والجغرافيا السياسية ؟ أيّا كانت التعريفات، على أهمية اختلاف مقارباتها، فإنّ الأساس الذي تنبني عليه المواطنة هو ممارسة الحرية والوجود الإنساني في المجال العام. المواطن - الفرد هو محور المجتمع الحديث، والحداثة يمكن تفكيكها إلى مكوّنات ثلاثة، المواطن والوطن ونزع القدسية عن السياسي، وحدّ الوطن بأرض وجماعة ودولة وعقد اجتماعي، وإكساب الحقوق مكانة قانونية ودستورية، بدلا من التواضع الثقافي المبني على التوافق التاريخي أو الغلبة. وفي النظام الرأسمالي الليبرالي يغلب على تصور المواطن الاعتبارات النفعية الاقتصادية أساسا. العولمة عمّمت نموذج المواطن المستهلِك المستهلَك، وكشفت التناقض بين سيادة السوق العالمي (إسرائيل والشركات المتعدّدة الجنسية هما أهمّ أدوات الإمبريالية لخدمته) والمواطنة الديمقراطية المنشودة. التطورات السياسية والاقتصادية، في زمن العولمة، باتت تتحدى مركزية الدولة، مثلها مثل مراجعة المواطنة كمفهوم، والسعي لإكسابه أبعادًا أكثر عمقا من التصور البسيط الاختزالي الخاضع لثقافة "الربح المالي"، وآثار تحولات المكان والمدن، كفضاء للمواطنة، على تجليات ودلالات تعدد الثقافات والإثنيات والنوع (الجندر)، وما أدت إليه المدن الكوسموبوليتية من تنامي الجدل حول المواطنة متعددة الهجرات. كلّما قَلتّ "هيبة الدولة"، ظهر المواطن، وانتصر الناس في مواجهة حالة المواطنة المأسورة بقيود الدولة وسلطانها. كيف نخرج من أسر الليبرالية أو إتباع الآباء ؟ في قضايا المرأة والتعددية الثقافية والأقليات، وتفعيل دور الإنسان الفرد في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحماية البيئة ونوع الحياة على الأرض، والدفاع عن حق الحياة واللغات وكرامة الشعوب ضدّ هيمنة الرأسمالية، وواجب الاستقامة في السلوك والأخلاق وتوحيد الله وقراءة القرآن، والإبداع في تجديد نوعية العلاقة بين الفردية والجماعة السياسية، بين التنمية والحرية والعدالة، بين الإنسان والكائنات الحية والميزان، والضرورة الحيوية لاستعادة المواطن والوطن من أسر الدولة، دون السعي بالضرورة لا لهدمها ولا للسيطرة عليها. الخيار الإستراتيجي هو المساهمة في ما يحقق مزيدا من التحرر الإنساني، ومواجهة مسألة الاستبداد دون تردد ولا التفاف، وحلّ قضية العلاقة بين الحاكم والمحكومين، لأنه لا قيام ولا كرامة لمجتمع تختلّ فيه علاقة السلطة بالمجتمع، ومن هنا الأهمية القصوى للقضاء على الاستبداد، ومواجهة التحايل على الحرية سواء بإضفاء "الصبغة الديمقراطية" على المجتمع بعدم إنكارها نظريا وإبطالها عمليا ! أو التحايل عبر البحث عن كل المبررات لتأجيل البناء الديمقراطي بالمقولات الجاهلية التي تدّعي أنّ المجتمع غير "مؤهل" ! أو التحايل بالكلام عن الديمقراطية كغاية واستخدام وسائل غير ديمقراطية ! أو التحايل بتحقيق المؤسسات صوريّا وعدم العمل بوظائفها عمليا ! أو التحايل بإيجاد "تعددية اسمية وهامشية" مضادة لما هو مطلوب من أجل ديمقراطية حق ! أو التحايل بإشاعة مضادات الديمقراطية في المجتمع مثل الرشوة والمحسوبية وكل ما يعرقل "مجتمع الكفاءة". والحقّ أنّ مسألة الديمقراطية لا تكمن فقط في المظاهر الخارجية، من تعددية برلمانية وانتخاب وأغلبية، بل لها قيم أساسية تقوم عليها وهي الكرامة الإنسانية، ومجتمع الكفاءة، وتعزيز الثقة بالنفس لدى الأفراد وفي المجتمع الأهلي، والقناعة الفكرية بصلاحيّة الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة عند النخبة وفي المجتمع، واعتبار الألم الإنساني شرّا في حدّ ذاته، وأنّ العدالة هي الأصل للنموّ والتقدم والسلم الأهلي. إذا كانت الدولة هي التي تصنع تقدم الشعب في الغالب، فقد كانت عندنا فاشلة، سواء في طريقة عملها في السلطة، غياب الحريات والمشاركة، أو في إدارتها للشأن العام، دون رؤية علمية ولا فعاليات اجتماعية، واكتفائها منذ عقود بوظيفة النهب وأجهزة الأمن الهمجية، مما جعل دولة المسخ معادية لكل اختلاف أو تمثيل أو إبداع ومحارِبة للمجتمع الأهلي، وما نتج عن ذلك من ظلم وشرّ. "الدولة المسخ"، أي العهر بالمال وبالحكم، واستغلال المناصب الحكومية والوظائف العامة لتكوين الثروات، والرشوة والصفقات، وغسل الأموال عبر المصاهرة و"الأسماء المستعارة"، في مجالات الإعلام والزراعة والإسكان والأراضي والبنوك والمنشآت السياحية، وتحويل البلاد مقابل عمولات رخيصة إلى سوق مستباحة للشركات الأجنبية، ودفع كلّ هذه الأموال الهائلة إلى الحسابات السرية في الخارج، حتى أصبح سرّ الثروات أهمّ وأخطر من السرّ العسكري. إنّ "الدولة الشريرة" ليست نتاجا لميول أفراد أشرار قد يتم استبدالهم بأشخاص آخرين، بل هي انعكاس للتناقض بين الخير والشر الموجود داخل كل فرد، وللتناقض بين المجتمع الأهلي والملأ الفاسد (قارون وهامان وفرعون)، وانعكاس للتدافع بين المجتمع المُنتج وأقلية النهب والاحتكار. إنّ لبّ مشكلنا السياسي هو المجتمع المفصول عن الدولة، وأن جميع المشاكل القائمة تدور كلها بشكلٍ أو بآخر حول الدولة. كيف نجابه الواقع المعيش المُتمثّل في التناقض المجرم بين الدولة والمجتمع الأهلي ؟ حتى لا تبقى المسألة السياسية تحت رحمة الهوى الفردي أو الإستراتيجيات الأجنبية المُعادية وجب علينا أن نفهم حقيقة الدولة المُعاصرة : الدولة هي جهاز مسلّح وإدارة وولاء، الجهاز المسلّح (الجيش، أجهزة الأمن، القضاء، وأدوات القمع النفسي، وفي كثير من حالات "دويلة القهر" تكون الدولة هي جهاز القمع ولا شيء غير البوليس.) والدولة هي الإدارة التي تعمل كجيش مدني لترتيب العمل الجماعي.. بهدف اقتصاد الوقت والجهد، توحيد لغة التلقين والمعاش، وتوجيه الثقافة نحو "العلم التطبيقي" (لا الإدارة "البيروقراطية" المسخ التي في البلاد العربية والتي لا تعدو أن تكون "عطالة مقنّعة" أو مأوى لمرتزقة الحزب الحاكم، ولا تعبّر عن أيّ تنظيم عقلاني ! ) والدولة وجود قدر معيّن من الإجماع الذي هو وليد التاريخ وتعبير عن مصلحة حالية في نفس الوقت، وهذا الإجماع يُعبّر عنه الفرد ويترجمه إلى ولاء. إنّ كل دولة لا تملك درجة متناسبة من ولاء وإجماع مواطنيها لا محالة فاشلة. دعم ونشر جمعيات ومؤسسات المجتمع الأهلي، لرفع مستوى الوعي والنشاط في كافة المجالات، وتوسيع المسئولية والمبادرة وإذكاؤها بالخبرات دفاعاً عن مصالح الناس، وتشجيع المبادرات والفعالية، والقضاء على الخنوع والتواكل والسلبية واللامبالاة. "التأسيس" الفكري والثقافي، لحرية التفكير والتعقّل وحفظ الكرامة والحقوق، وللعدل بين الرجل والمرأة وأوّلية الانتماء لنفس واحدة ولشعب واحد. وتشجيع المبادرات، الفردية والأهلية، لحل القضايا الحياتية وأمور المعاش في السلم أو وقت الأزمات. التعرّف على ماذا يملك المجتمع من ثروات ؟ وما هي احتياجات كل فئة أو جهة ؟ وتشبيك الكفاءات ودعم كل مبادرات المجتمع الأهلي والمدني في مواجهة "الدولة" و"العولمة". ابتكار الحلول لمسائل الجنس والعائلة والزواج وتثقيف المستهِلك، ودعم المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، ومسائل خلق الثروة، وغير ذلك من الأعمال المتعلقة بحاجات الناس، والثقافة والترفيه، والعمل الدائم على رفع مستوى الشعور بالوحدة والتعاون في وعينا وحسّنا الفردي والجماعي. "مجتمع أهلي" يقاوم نهب نخبة الفساد والظلم، ويقاوم "التّدمير الأجنبي"، فيمارس المجتمع الأهلي دور الحماية الذاتيّة لوجوده من الانهيار والتفكّك أو الاختناق والموت جوعا ومرضا، والحفاظ على وحدة المجتمع، وتنظيم مقاومة مدنية فعّالة ضدّ صنوف الغزو الوحشي السلعي والعسكري والفكري. معرفة السياق العالمي وموازين القوى فيه وحاجيّات المجتمع الذّاتيّة، وعدم تجاهل المصالح العليا للفقراء والمستضعفين والمهشمين، خاصّة وحالنا اليوم يتميّز بغياب إستراتيجية واضحة تفصّل الطّريق وتوضّح الرّؤية في مجالات التّغذية والتعليم والدّفاع والتنمية. إنّ المصير اختيار يتقرّر في النفوس، قبل أن يحدث في الأرض أو يأتي من السماء، فـ "ما بقوم" مرتبط بـ "ما في أنفسهم"، وتغيير ما بالنفس مهمّة الإنسان. إنّ تغيير ما بالنفس أعمق وأوسع من التزكية الأخلاقية أو التخلص من المعاصي، بل يعني إكسابها القدرة على الفعل، وعلى تحقيق الواجب والجهر بالحقّ. كيف ننظم القدرات المحلية ونطور المهارات والتواصل داخل نسيج المجتمع المحلي مباشرة (الأسرة، العائلة الممتدة، جماعة الجيران، جماعة الأصحاب، النقابات الأهلية التي تحمي الصُنّاع المحليين وصغار التجار وغيرهم ممّن ينتسبون إليها وتحميهم من ظلم ونهب رؤوس الأموال المتعدّدة الجنسية، جمعيات رعاية أصول المهن وتربية وتكوين الحرفيين الجدد، وقد قامت في تاريخنا أكبر المستشفيات على العمل الأهلي، بل وقام التعليم على الأوقاف الخيرية، ضد هيمنة اليأس أو السلطان، وتفعيل التعاون الاقتصادي في العلاقات العشائريّة، الجماعات المدنية، الطرق الصّوفيّة، وبناء الجمعيّات الخيريّة، وجمعيّات التّضامن المختصّة، ودعم أهل الحرف وجمعيّات الخدمات الاجتماعية، والنّشاطات النّسويّة، وتزكية شبكة العلاقات في الجوار والحيّ وأماكن التعبّد، وشبكات التواصل الاجتماعي...) ؟ أي الربط بين التغيير الداخلي للإنسان، وهي مسؤولية تقع بالكامل على عاتقه، وبين المتغيرات التي تحدث في مُحيطه، سواءٌ سلباً أو إيجاباً، مجتمع يأخذ كتاب الله بقوة ويعدّ العُدّة ضد الظلم والفساد، ويبني المدينة والدولة المدنية. هذا الوجود الجماعي الطبيعي أصابته كثير من الأمراض، ممّا حرم المجتمع من مواجهة التّحدّيات العمليّة التي تواجهه وتواجه أفراده، والحقيقة أنّ إضعاف هذه الرّوابط بدعوى وجود هذه الأمراض أو بدعوى وجود "مؤسّسات حديثة" تعوّضها، هو خسارة هائلة تٌدخل العباد والبلاد في عنت كبير وفشل خطير، مع ضرورة الاستفادة من التّجارب البشريّة في مختلف بلاد العالم، حتّى يتمّ إثراء يومي للخبرات في حلّ المعضلات التي نواجهها على مستوى التنظيم وحلّ المشاكل الزّراعية والصّناعية المحلية، ومسائل التّجارة والتّبادل بأنواعه المختلفة وعقلنة القوى والإفادة من تنظيمها وسدّ حاجاتنا الفعلية، وحتّى نقاوم الاستعمار الجديد وعائلات الفساد والظلم فلا يستمرّوا في تلويث أجواء أسرنا ومدارسنا وعامّة اجتماعنا، ومواجهة التّسميم السياسي الذي يفرض علينا الإحباط والتخريب واليأس والتّفقير والتجهيل والانحراف، والذي يحاول بكل الوسائل أن يجعل مجتمعاتنا مجتمعات عالة وتسوّل... وتأبيد تلك الحالة بالاستبداد والدّعارة والغياب أو الهجرة والنفي. إنّ أداء الواجبات هو الطّريق الوحيد للحصول على الحقوق، في هذه الحياة الدّنيا وفي الآخرة، وتجنّب الإسراف والتّبذير، والإعراض عن الهذيان والشقاق، والعمل على بناء "الإرادة السّياسيّة" المشتركة، التي تدفع بملايين السّواعد العاملة والعقول المفكّرة الصّالحة في بلادنا، نحو الهدف الجماعي في التنمية والحرية والكرامة. إنّ الوقت الزّاحف لا يجب أن يضيع هباء، والقطع مع "الثرثرة" كشكل من أشكال الوجود و"تضييع الوقت" فنحن في حاجّة ملحّة إلى توقيت دقيق، وتحويله إلى ساعات عمل حقيقة، أو ساعات فرح ومتعة حقيقية ! استعادة التّأثير والإنتاج في حياتنا الحاضرة بخطوات واثقة كي نحلّ مشاكل تأخّرنا عن تلبية حاجاتنا نحن الحقيقية والهائلة، فيحقق المجتمع الأهلي نقلة نوعية بخوض "رحلة التغيير الذاتي". توليد القدرة على التداول السّلمي للسّلطة شرط الحرّية السياسيّة، ولنبني مجتمعا يحيا بالمشاركة والكفاءة، وتنمية الوعي الأهلي بمسائل التّنمية الإنسانيّة القائمة على تبادل الخبرات البشريّة، وأن لا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، والحفاظ على الأرحام والتعاون على البِرّ، وحماية حقوق النّاس... ليتمتّع بها الجمعُ والأفراد. وما زالت المأساة القائمة أنّنا "مُجتمعٌ يُخالفُ فيه السلوكُ المعتَقَد"، وهي من أخطر المسائل التي نعيشها يوميا، وعلى جميع المستويات في سلوكنا الجماعي، أي سلوك الناس وهم يتبادلون (المعاش والاقتصاد) وهم يتحاكمون (السياسة) وهم يتنافسون أو يحاربون (التدافع والحرب) أو يتمايزون أو يختلفون (بين الحق والباطل، الجائز والممنوع، الصدق والكذب، العلم والجهل). واجب الدفاع المدني، باسم الله ودفاعا عن مصالح الناس "من رأى منكم منكراً فليغيره"، وتقوية الروابط المتعدّدة للفرد بالمجتمع الأهلي على أساس العهد القوي تجاه المجتمع والإحساس بالمسؤولية وتحويل "كلمة حق في وجه سلطانٍ جائر" إلى ثقافة ووعي جماعي، والنهي عن التفرّق (التعدد لا يعني التفرّق) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى. الإنسان القرآني (الذي يجتث القابليّة للاستبداد والإفساد من عقله وقلبه وجوارحه وسلوكه) والعمل على أن الحضارة تعاون وبناء وهندسة وكفاءة وخبراء، وليس تكديسا للمقتنيات والبضائع والاستهلاك ! العمل هو الذي يفتح الأبواب المغلقة، ويزيل السدود والحواجز، ويرفع الحصار، وهو الذي يجعل المجتمع قادرا على التفاعل مع المتغيرات المُستجدّة وفق مصالحه العليا. الإفادة من تبادل الخبرات الكثيرة، الناجحة والمتطورة، في أمكنة عديدة من العالم، مع الذين "يدعون إلى القسط"، في كل القارات، والحكمة ضالّة المؤمن أنّا وجدها التقطها فهو أحق الناس بها، فهناك أنهار من أفكار وبرامج وخبرات وتجارب وموارد وطاقات يُمكن الإفادة الكبيرة منها، في توليد الطاقات المحلية بوسائل قليلة، وحل قضايا حقيقية بتمويل محلي متواضع، وخبرات إنسانية عالمية في مناهضة "العولمة" ومناهضة الحرب، والتجارب الناجحة في الاقتصاد التبادلي غير المسعّر بالعملة SEL، وفكرة التعاون والتفاعل حول قضية معينة ومحدّدة بغض النظر عن الاختلاف الذي يمكن أن يوجد في القضايا الأخرى.
2
سلطة الاستبداد دائما ما تقوم بتوظيف التديّن لخدمة أغراضها، مما جعل الدين في أحيان كثيرة في مواجهة مع المصالح المباشرة للناس، في حين أنّ تجربة التأويل وإعادة قراءة القرآن في تاريخنا، أعطت نموذجا فريدا لما يجب أن يكون عليه التديّن كداعم اجتماعي للناس بإيجابية الأثر والتأثير، وعلى عكس توظيف الدين في خدمة الاستبداد استطاع تأويل المعارضة أن يجعل الدين مع الناس وفي خدمة مصالحهم العليا وليس ضدهم، الإسلام ضدّ الفقر وضدّ امتهان كرامة الإنسان، ومن المفترض أن الدين جاء لتحرير عقول الناس، ولكن ما يحدث الآن على العكس من ذلك تماما، حيث يستخدم الدين في كثير من الأحيان كباعث على الجمود والتردي في هاوية التقليد الأعمى، واستخدام الدين كسلاح يشهر في وجه الآخر أيا كان وجعله سببا دائما للشقاق والصراعات، والمشكلة تكمن في الممارسات والتقاليد غير المبرأة عن الهوى في غالب الأحيان، والتي تحجب الرؤية وتمنع الإبصار والتبصر. أليست واجباتنا الأولى هي، الصّدق ضدّ الكذب، الأمانة ضدّ الخيانة، التّبليغ ضدّ الكتمان، البصيرة ضدّ الجهل، العلم والذّكاء ضدّ التّهوّر، والشكر لله ضدّ الجحود ؟ سواء في الآفاق أو في أنفسنا، ليس في الخلق أثر للعبث، ولا خطأ في الكون والوجود... فليعرف كلُّ فرد لماذا يحيا ؟ وما الهدف من الخلق ؟ التّوحيد هو تحقيق القرآن في حياة الأفراد والجماعات ضدّ الظّلم بأنواعه وضدّ الفساد بأقنعته وأسلحته المختلفة، وإنّ كثيرا من النّاس ليظنّون بالله تعالى ظنّ السّوء !! ولا يسلم من ذلك إلاّ من تدبّر القرآن وتعرّف على آياته. الوحي جاء ليعرّفنا بخالقنا سبحانه وتعالى (لا كما تتحدّث عنه الإسرائيليّات)، وعن تجربة الإنسان كعالَم بكامله مع ربّه ومع محيطه الخارجي ومع نفسه، وعن تجارب الجماعات والأنبياء ضدّ الظالمين والمستكبرين وادّعاءاتهم الاجتماعية والتاريخية، ولم يأت كحزمة حدود ونواهي. ديننا هو إسلام العمل الصّالح لتغيير ما بأنفسنا وما بواقعنا والجهر بالقول. ليس الإيمان وراثة، فالتّكليف الإلهي هو لفرد عاقل حرّ ومسؤول وليس لصبيّ أو مجنون، أو لتابع آبائه وعشيرته فيكون مثلهم إيمانا أو كفرا، سفيها أو عاقلا، عاجزا أو قادرا. الإنسان لم يُكلّف عبثا وحياته مواقف وامتحان لجهده وفعله. الإنسان حبيب الله وخليله، مخلوقه وكليمه، بدليل إرسال الوحي إليه، وجعله في قلب الكون، وتسخير ما في السّماوات والأرض له، وتكريمه في البر والبحر، هذا وضع الإنسان في الحياة كما بيّن لنا القرآن الكريم ليثق الناس بأنفسهم ويعرفون عظمة مكانتهم. احترام الإنسان روحًا وجسدًا، وضمان حقّه في المأكل والمشرب والملبس والمسكن... منذ الولادة حتى لحظة الموت. لكن بسبب الاستبداد والفساد صرنا من أكثر المجتمعات التي تُعاني من التفاوت الفاحش بين الفقراء والنّاهبين، بين الجوع وعهر الاستغلال. واجبنا اليوم أن نقدّم للناس رؤية قرآنية بلا غبش، ونذكّرهم بأيّام الله، وأن نتقدّم أمامهم لمواجهة عدوّهم من ظلم وفقر وجهل. القرآن جاء للإصلاح في الأرض ومواجهة الإفساد فيها... ليحرر الإنسان من الأسر "الطبيعي" أو الاجتماعي أو السياسي، ليحثنا على واجب التعاون والمشاركة في الأفكار والأموال، وليُبيّن لنا وجود قوانين لبقاء أو فناء المجتمعات وتطورها : لا يمكن وجود حياة كريمة في مجتمع مبنيّ على الهلاك، أي غياب أصل العدل فيه. أهم أصول الإسلام : إقامة علاقة مباشرة بين الإنسان وربّه دون أيّة واسطة، فلا بُدّ من إصلاح الخلل الذي أصاب تلك العلاقة في زمننا المتأخّر، ورفع الوصايا والحواجز، سواء الموروثة أو المبتدعة حديثا. أم على قلوبٍ أقفالها ! لنكسّر الأقفال... ونحطّم كل ما يرسّخ التخلف والمرض والعهر، سواء في التعليم أو السلوك اليومي، سواء في النظر أو العمل، وكل ما يمنع العلم عن الناس أو يهدم العقل، وكل ما يمنع عنهم تعلم المداواة والبرء من الأمراض، وكل ما يمنعهم من النظافة وحسن العيش وطيّب الكلام، والتصدّي بإحسان لكلّ من يفتن بين الناس أو يسعى لتفكيك وحدة المجتمع الأهلي وشق صفوفه، وتفريق عامته وإشعال البغضاء بينهم. كيف نقيم الميزان، بين الواجبات وكرامة الإنسان في واقعنا المعاصر ؟ الأنس بين حقوق الفرد والجماعة ؟ (وتجب معرفة الإسلام من القرآن بمساعدة معجم جيّد للغة العربية، وممّا صحّ من السنّة بدليل قطعيِّ الدلالة متّصل السند بالله سبحانه وتعالى، ومن معرفة منهجية لسيرة الصالحين ووقائع التاريخ وحوار الأفكار، وإلاّ سرنا ـ والعياذ بالله - في طريق الشيطان ونحن نظن أننا نسير في طريق الرحمان. المعرفة بوسائل الحوار والجدل بالتي هي أحسن، بالتعقّل والدعوة إلى التفكّر، بتنمية الاستجابة الطوعية... وتقبُّل التساؤل والحيرة، ودعوة النّاس بصبر وعلى بصيرة.) تأكيد الدّعم لحقوق الناس التي يكفلها القرآن الكريم لكلّ إنسان دون نسخ أو مسخ. كرامة الإنسان كإنسان، باستعادة كرامة المرأة المسلوبة ظلما وعدوانا، في مؤاخاة مع كرامة الرجل، وتحرّرنا من هوامات التقاليد اللاإسلامية المكبّلة والغادرة التي كلّستها عادات الآباء والقبائل. واستعادة الأنس بين المساجد وبين التنمية المدنية، بتفعيل دورها في التنمية المحلية والدفاع المدني (إضافة للعبادة)، بدعم المبادرات المحلية الإنتاجية وتنمية الفطنة الاجتماعية وتعلّم القرآن، والنباهة والحسّ بالتاريخ، فتثري مشاركة الفرد والمجتمع الأهلي في الاقتصاد المحلّي وفي النشاط السياسي الأهلي. استعادة النشاط الاجتماعي في كل مسجد، مهما كان بناؤه متواضعا وعدد المصلين فيه قليل، هو أحد أهمّ نقاط القوة لشعبنا، ومن أعظم المكتسبات لبلادنا، وهي من أهم مراكز التقاء المجتمع الأهلي. التوصّل بعد انقطاعٍ طويل إلى "عهد مشترك" يمثّل حدّا أدنى للإجماع ويُؤسّس للولاء، يبدأ بـ "ألاّ نشرك بالله شيئا وألاّ يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" ويدفع للتعاون في حلّ المشاكل المحلية اقتصادية كانت أم اجتماعية. مساجد تستعيد "الفصحى" لتوحيد لغة التلقين والمعاش، لغة التعليم ولغة الحياة، لغة القرآن ولغة العلم والعمل، فيتوحّد الإنسان، ويُحقّق مزيدا من الحرية الاجتماعية، ويتدرّب محليا على مواجهة المخاطر كالأوبئة والكوارث الطبيعية أو الاقتصادية، دفاعا عن الحياة وحماية لأعراض الناس وثرواتهم وخياراتهم. مواجهة المسائل التي يتحدّانا بها هذا العصر كقضايا المال والتّخريب الاستعماري الجديد، القضايا الجنسيّة ومحاولات تدمير الأسرة، قضايا البيئة وتخريب البرّ والبحر والهواء، وضرورة تثبيت الدّيمقراطيّة بممارستها في كل حال وحين، وحق التّواصل والحوار، والمشاركة مع كل الشعوب في المجابهات العينيّة للظلم العابر للقارات، وتحريم الخوض في مسائل لا تفيد نهضة الأمّة بتجنّب المعارك الجانبيّة أو التي لا تعمّ بها البلوى في هذه المرحلة الأخطر من تاريخنا. والجهر بإنكار المنكر، كُلّ حسب همّته وإمكانيّاته، ومحاربةُ الجيمات الثلاث، الجور والجهل والجوع. ثقافة باسم الله ومن أجل النّاس ومصالحهم العليا، ضدّ فرعون وهامان وقارون والنّاكثين، ضدّ الظلم والإستحمار والاستغلال والتدليس، ضدّ الاستبداد والأحبار والمترفين والمنافقين. إنّ التّاريخ البشري هو تاريخ الصّراع ضدّ الظلم والاستكبار، بأبعاد جديدة في كلّ مرحلة، وأمام كلّ إعادة إنتاج للظّلم ونشر الظلمات يهبّ الصّالحون وأنصار العدل والتوحيد. رؤية للعالم وللوجود، مضادّة للظّلم وللفساد.. تفسّر الكون وسننه وتحمي الفرد روحا وجسدا، تدافع عن المجتمع اﻷهلي وتدفع عنه الظلمات والحصار. التّوحيد والعدل، يعني عمليّا القضاء على الشّرك في السّلوك العملي والخُلقي للأفراد وللجماعة، أي بناء مجتمعات بلا قهر ولا تسلّط ولا استغلال. "لا إله إلاّ الله" تُحرّر شعور الإنسان وواقعه من كلّ القيود والسّلاسل الاجتماعية والسياسيّة والمادّية... تُحرّر الفرد من كلّ أسوار القهر. نقرأ القرآن ونهتدي به لمواجهة مشاكل النّاس كما هم في هذا العالم وهذا العصر (لا مشاكل عالم وعصر آخر) ونستعدّ بالقرآن ليوم الحساب. والقرآن يؤكّد لكلّ قارئ ولكلّ مواطن يتلوه، واجب التّفكّر، التّدبّر، التّعقّل، وهو يدعونا لما يُحيينا (ولن تتكشف معاني الكتاب العظيم وأسراره قطّ للذين يتّخذون القرآن مهجورا.) غاية القرآن هي رفض آليات القهر والنهب، ورفض ثقافة السحر والحظ وإتباع الآباء. يدعونا إلى النظر في أنفسنا وفي كتابنا وفي العالم، ويحثّنا على الاجتهاد ورفض الشرك والتوسّط والأسرار والتقاليد وكل ما يُعارض التحرّر والعدل والعقل من ظلم ووهم وظن ولُبس في الرؤية، ويؤكّد على الوضوح والبيان في النظر والعمل. التكليف قائم على النظر والفهم وبذل المجهود، يعني حرّية الإنسان وضرورة اختياره، بين الخير والشر، بين العدل والظلم، وبين الطيبات والخبائث... وما ينتج عن هذا الاختبار من الجزاء، وكلٌ يأتي ربّه فردا والعاقبة للمتّقين. واجبنا الجهر بالقرآن ضدّ الظلم وضدّ الفساد، واستعادة التغيير الجذري الذي أتى به القرآن الكريم منذ كلمة "اقرأ" (...) بالإقبال على تفهّم الآيات في الكتاب وفي النفس وفي الآفاق. "اقرأ" (...) الكلمة الحضارية التي أدهشت النبي الأمّي، وحفزّت أصحابه، وأثارت عليه العالم. حضارة التوحيد، بتفعيل قراءة وفهم المسلمين للقرآن الكريم، وتحويل العالم إلى "دار الشهادة" (وتجاوز التقسيم القديم إلى دار إسلام ودار كفر، والذي لم يعد مطابقا للواقع منذ قرون)، فنكون الأمّة الشاهدة على الناس. أي أن نكون شواهد على الاستقامة ومكارم الأخلاق وتجسيدا للعدل. إنّ مفهوم "المداولة" القرآني للحضارة ولأيّام التاريخ، يعني أن حركة العالم مستمّرة لا تتوقف... إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها. حضارة "اقرأ" والدهشة النبوية المعرفية أمام هذا "الأمر"، دعوة لقراءة الكتاب ولقراءة آيات الكون وللآيات في أنفسنا، وتحويل هذا الأمر... إلى برنامج عمل يشارك في تحقيقه المجتمع الأهلي كفرض عين على كل رجل وامرأة. أي التعامل العقلي والعلمي مع جميع ظواهر الخلق في العوالم والنفوس والمجتمعات. الأمّة الشّاهدة والعمل الصّالح، حتى نكون خير أمّة أخرجت للناس. الجنس البشري كله أبناء آدم وحوّاء وهذا معنى السلام الحق. كيف نقيم نظاما عادلا في عالمنا وعلى أرضنا ؟ الأساس الصحيح هو العدل السياسي والعدل الاجتماعي والعدل القضائي والعدل بين الرجل والمرأة، وقد أصابتنا الكارثة، في تاريخنا، عندما أخرج "علم الكلام" العدلَ من مجالات السياسة والاجتماع والقضاء والأسرة (...) وراح يزايد في الحديث عن العدل الأخروي، وهي كلمة حقٍّ أريد بها باطل، أي السكوت لمصلحة الظالم ومن يجلدون ظهرك ويسلبون أموالك، في حين أن العدل هو أساس المجتمع القرآني في هذه الحياة، وشرط النصر في واقعنا الحاضر... إنّ افتتاح القرآن العظيم بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" وكلّ السور (عدا "براءة") إنما يبيّن ومنذ البداية أنّ السمة الجوهرية لهذا الدين تقوم على الرحمة والمغفرة والتسامح بين البشر، فطبعَ المسلمين بطابع الرحمة والتراحم والتعاون (من المفيد الانتباه إلى أنه لم يفتتح السّور بأحد أسماء الله الحسنى الأخرى). فالله سبحانه وتعالى بَعث خاتم رسله، رحمة للعالمين، ليجمع الفرقة وليزيد الألفة، ولم يبعثه ليفرّق الكلمة وليتحرش الناس بعضهم ببعض، بل لتحقيق الأخوّة وليخرِج الناس من عبودية العباد والأغلال التي تكبّلهم إلى عبادة الرحمان الذي خلق كلَّ شيءٍ ثم هدى، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
3
أيّة رؤية للديمقراطية ؟ فالفرد النفعي الذي يرنو إلى المصلحة الذاتية عبر الانتخاب لتحقيق أكبر منفعة وأقل ضرر، يفكر في العملية السياسية باعتبارها تضمن له تمثيلا لمصالحه في السلطة، أي المواطن النفعي الذي يبحث في الدولة عن مصلحته كمستهلك، لا عن تحقق ذاته الإنسانية الكريمة كإنسان. الديمقراطية الليبرالية هي نموذج مناسب لصفقة (...) الدولة المهيمنة التي تقبل تغيّر مقاعد السلطة، لكنها لا تقبل العدل الاجتماعي ولا تحديد سلطتها في مواجهة ميلها الطبيعي للتغوّل، في حين أن المواطن المدني - الجمهوري (استعادة فكرة "الجمهورية" كتعبير سياسي عن جماهير الناس) يؤمن بالتعاون وبفكرة المنفعة العامة التي "تتجاوز" مجرد قسمة مقاعد بين المصالح الفردية المتعارضة، المواطن الجمهوري يشارك في المجال العام بهدف التعاون على البِرّ والرحمة، وينظر للسياسة بمنظور اجتماعي وحسّ ثوري بالمسئولية الأخلاقية، فيصبح الفعل الديمقراطي أقرب للديمقراطية المدنية، ويستمد طاقة نوره من عقيدة الشعب ومشروعيته، مشكاة نور المواطنة، لا "خطر الظلامية" كما يزعم الظالمون من الليبراليين الجدد الذين أضاعوا مفاتيح تاريخهم ويحتمون بسلطة الدولة أو حتى بالمحتلّ، والذين يريدون أن يطفئوا نور الله في الإنسان ليصبح محض مستهلك للسلعة وللهيمنة. إنّه لا دولة ناجحة بدون هوية وإدارة مسؤولة وانتماء، ولا ديمقراطية حقيقية بدون عدل وحرية، ولا إنسان بدون الرحمان. الإنسان فيه أبعاد مطلقة لا يمكن اختزالها في الطبيعة وحدها، ومن هنا ضرورة التعامل الاجتماعي والتاريخي مع متغيرات عودة الدين للمجال العام، وعودة القيم إلى المجال السياسي والاقتصادي، فالحركات الإحيائية عمت العالم كله جنوبا وشمالا، وضرورة الخروج من ثقل الإيديولوجيات الحداثوية وصناعة الأوهام، ونقد فصل العقل عن الوحي، والواقع عن الغيب، خاصة وأنّ الإسلام يمثل أفقا تقدميًّا وديمقراطيًّا. ما يرهبنا، في مرحلتنا التاريخية وواقعنا المعاصر، ليس شبح القرون الوسطى، مع العلم بأنّ صور هذا الشبح تختلف من مجتمع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، بل إنّ ما يرعبنا هو النظام العالمي الجديد بنهب شركاته المتعدّدة الجنسية وحروب تدميره الشاملة، بخطاب إنسانيته المزدوج وقدرته على التدمير والقصف، بإغراقنا بالتلوّث البيئي والسلع والأوبئة، بتغريب الإنسان وتفقير الثقافة والمعنى. العلمنة كانت في جوهرها نزع القداسة عن الدين وعن العالم ـ نشأة وتطورًا ومآلا ـ وإسباغ هذه القداسة على الدولة، ولأن مفهوم الدولة كان وما يزال هو المفهوم المركزي في النظرية السياسية السائدة، فقد بقيت "أسطورة" الدولة العلمانية في مجال النظرية السياسية أقوى من أن تتعرض لنقد جذري برغم أن الإشكاليات المطروحة، في مرحلة ما بعد الحداثة وهيمنة الرأسمال العالمي وإحياء مقاومة التديّن التحرّري، مع تراجع العلمانية على أرض الواقع السياسي للشعوب شمالا وجنوبا، إشكاليات مثل إعادة التأسيس للرابطة السياسية، وضمان الحريات العامة والعدالة الاجتماعية داخل المجتمع الواحد وفي العالم، وتشابك قضايا الثقافة والأخلاق والسياسة والعمل، هذا الواقع الجديد كان فرصة ذهبية للحداثة لتجديد نفسها وإنقاذ غاياتها العليا الأصلية ضدّ غلبة الجانب الاقتصادي الليبرالي على جذورها الديمقراطية، لكن هذا لم يحدث. وتبقى المهمّة على سلّم الأولويات... تجاوز الإعاقات الذاتية والضغوط الخارجية المضادة لحرياتنا، والتوترات الاجتماعية والسياسية والنّفسية الموروثة عن الاستبداد، ومواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف أصلا بمفهوم "المشاركة" تحت سقف الجوع والحرمان من أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، والخروج من ثقافة الإحباط والثرثرة، واستعادة "الفرد الإنسان" كقيمة، ومنع هدر كرامته التي غابت في وعينا ولاوعينا الجمعي والفردي. تنوير البصر وتحرير البصيرة، وإنتاج أفكار أصيلة للقوّة والحرمات، تدعم وتتشابك مع حركة اجتماعية ونضالية من أجل الحق والميزان بين الواجبات والحقوق، ونموذج ديمقراطي جماهيري... أي دولة الناس.
عدوّ المجتمع الأهلي هو نظام "خلايا الفساد والاستبداد" وحلفائه في الخارج، وأجهزة الأمن التي تحميه، وعلى رأسها البوليس السياسي، الذي يعمل دائما لتصفية أي مصدر للخطر على المصالح الفاسدة قد يأتي من القوى السياسية أو المجتمع الأهلي، وكلّ همّه إحباط ثقافة الحرية في المجتمع وإبطال "مشروعية الشعب". نظام يدفع الخريجين الجامعيين إلى قيعان المدن والأرياف، ومحاصرة أية إمكانية لميلاد الفرد الحرّ كفاعلية اجتماعية وسياسية وقانونية تبادر بالأفكار والإنتاج والفعل السياسي، ويمنع ظهور مؤسسات المجتمع الأهلي الفاعلة والمدنية، ويسعى دائما لتحويل "الحُكمْ" إلى نظام إدارة الطوارئ... وسط أرياف متصحرة ومدن ريفية وأحياء مليونية للمهمّشين، وإجبار الناس على تضييع الحياة والطاقة في التحايل على البطالة وأزماتها الكثيرة والهجرة كملجئ وحيد للشباب. من أهمّ خصائص هذه "الدولة المسخ" إخضاع كلّ مؤسسات الدولة إلى الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها حكومة ظلّ من عصابة النهب الاقتصادي والمافيا، وسعيها لتأميم الصراع الاجتماعي بالتخويف من الفراغ الأمني والأزمة الاقتصادية وهروب السياح... أثبتت التجربة الجزائرية، وغيرها كثير، أنّ إيمان بعض عصابات "النخب الحديثة" بالديمقراطية هشٌّ وضحل... بل أنها على استعداد لاستعداء "المؤسسة العسكرية" أو أيّ قوّة خارجية ضدّ المجتمع الأهلي، للحيلولة دون وصول خيار شعبي للسلطة متى حصل على أغلبية ديمقراطية، هذا مع كثرة الأحزاب الهامشية من جهة إحداث "جعجعة" ديمقراطية دون بناءات وخيارات وقوى فعلية، وعملت "الدولة المسخ" على خنق أي إبداع مدني في المجال المهني والعمالي والثقافي والاجتماعي والسياسي وحاصرت المجتمع الأهلي في كل المؤسسات الوسيطة... إنّ نخبة الفساد والاستبداد هي قوّة شرّ مُسلّحة، تنهب المجتمع الأهلي "كلّه" وتُرغم الناس على الموت البطيء، وتدفعهم دفعا إلى اليأس المهين في الداخل والخارج. أقلّية الفساد والظلم هذه جماعات اجتماعية صغيرة ولكن تحتل مواقع خطيرة تهيمن و"تتحكّم" في النسيج الاجتماعي والإداري للبلاد، فهي صغيرة ولكن مصمّمة ومُنظّمة، وتخدم في ذات الوقت مصالح أجنبية فاسدة. "أجهزة الأمن" هي اليوم، آلة في أيدي نُخبة ناقمة على المجتمع الأهلي... وما زالت تُمثّل في بلادنا، "الخادم" المُكلّف بحماية هذه النُخبة الحاقدة، ومشاريع نهبها لخيرات البلاد والعباد ! هناك في بلادنا إرادة قوية داخلية مرتبطة بإرادة أجنبية قوية، تعمل على إدامة التأزّم والخوف، وتعميق التفكّك الاقتصادي والاجتماعي، وإدامة الفشل السياسي لمجتمعاتنا. الصراع الآن والتدافع بعد ثورة الكرامة، هو بين نخبة الشرّ والمجتمع الأهلي. كيف نستعدّ نفسيا وعقليا وعمليا، لمواجهة "ثالوث الفساد"، عائلات النهب وأجهزة القمع والناقمين على المجتمع الأهلي وثقافته، ثالوث فاسد يُصارع المجتمع الأهلي على أرضنا لنهبه وقهره، بل يعمل وفق خطط الاستعمار الجديد على إلغائه لصالح دويلة "انفتاح" تدّعي لنفسها صورة الدولة وهي في الحقيقة لا تملك إلا السرقة والبوليس. إنّ إغفال قوة أجهزة الشرّ المسلح، التي تحمي عائلات الفساد والاستبداد، يؤدي إلى مآزق تنظيميّة ونفسية وسياسية في المجتمع الأهلي، إذا جاءت لحظة، بعد الثورة، قد تقرّر فيها الأقلية الفاسدة مهاجمة المجتمع الأهلي من جديد، بالنار والأسلحة والأجهزة الإيديولوجية والإعلامية. وتبقى مشروعية النقاش العلني والعام حول مسألة، تسليح المجتمع والأفراد، دفاعا عن الحريات وعن المجتمع الأهلي وخياراته، بموازاة مع أسلحة الدولة (دون حاجة لأن يكون ذلك "ضدها")، هل هذا الخيار ضد السيادة، وأية سيادة، وبأي عقد اجتماعي في أية لحظة تاريخ ؟ وفي واقع إمكانية غدر الدولة بالناس ؟ وهل هذا ضد العصر وشروط المنتصرين في هذا العالم ؟ أم هو تطوير فعلي لـ "أفق المعنى" واستعادة لمعاني في السلم الاجتماعي تمّ تهميشها، وإحياء لمعاني المجتمع المحلي القادر على الدفاع عن الكرامة، والإنسان المقاوم للظلم ولو كان فردا ؟ (النقاش محتدم وحقيقي في مجتمعات كثيرة بما فيها الولايات المتحدة التي يمكن شراء السلاح فيها كما يشترى الخبز وتنتشر فيها التيارات المعادية لاحتكار الدولة للسلاح، ونعرف مدى تعقّد هذه المسألة وعلاقتها بصناعة التسليح ومخاطر العنف الأفقي والجريمة، ومع ذلك نؤمن بمشروعية النقاش العام حول هذه المسألة.) فلا بدّ من الاهتمام بالواقع وأولويّته على الماضي، وأولويّة المصالح العليا للمجتمع الأهلي والمواطن الكريم، والانشغال بالإنسان في حاضره الاجتماعي الثقافي السياسي والتعامل مع قضاياه العملية وإعداده لمواجهة الكوارث الطبيعية أو الخارجية أو الهمجية، في حالات "عدم الاستقرار" و"عدم الاتفاق" و"عدم اليقين".
4
خيار اقتصادي مغاير يهتمّ "بنوع الحياة" لا شراء كل جديد، حيث الأولوية لوسائل النقل الجماعية والنظيفة، الضمان الصحّي للجميع، التعليم للكل، العون والرعاية للقاصرين والعجّز والمعاقين، الدفاع عن الكائنات الحية سواء كانت حيوانات أو نباتات أو فقراء جائعين، الاهتمام بالماء ورعايته وصونه، وحماية الأرض جوفها وتربتها ومناخها. العمل على توفير الأكل واللباس والسّكن وحقّ تكوين أسرة وحقّ العمل والحقّ في العدل... لكلّ واحد وللناس جميعا. مجتمع مقتصد ومتعاون، رحماء بينهم أشدّاء على المفسدين في البر والبحر والجوّ. مجتمع أهلي يؤمن بالله الخالق الكريم، يحمي الحرمات الفردية والجماعية، ويحبّ الأرض وتنوع الحياة. إنّ نظام "المنافسة" الذي بناه النظام الرأسمالي وعمّمه، وثقافة "الربح المالي"، أي بمعنى صراع كلّ واحد ضد كلّ الآخرين... حوّل الحياة ولقاءاتها إلى معركة تُحدّد الرابح والخاسر بمعايير مالية وعنصرية لا مبالية بمصالح الناس العليا وبثقافاتها، ولا مبالية بالحياة وتوازنها البيئي، وبما أنّ (سفينة الأرض) في زمن العولمة باتت صغيرة جدّا حيث فعل كل واحد، سواء كان فردا أو دولة أو جماعة أو عرقا، يؤثر على كل الناس، وعلى نوع الحياة في كوكبنا، فإنّ الخيار الرّأسمالي وما ينتج عنه من كوارث، يدفع المجتمع الأهلي للتساؤل عن كيفية المقاومة والدّفاع عن الحياة. النظام الرأسمالي الظالم والمُفسد لمُقدّرات الطبيعة، والمُعمّق للفوارق الاجتماعية الفاحشة ! كوارث متلاحقة في البيئة وعلى رؤوس الفقراء، اضطرابات المناخ واستباحة تنوع الحياة، إبادة أنواع كثيرة من الحيوانات والنباتات إلى الأبد، حروب من أجل السيطرة على النفط وقريبا من أجل السيطرة على الماء، أضحى الماء العذب ثروة تقِلّ يوما بعد يوم بشكل خطير ومتواصل نتيجة تحويل وجهة الأنهار والاستهلاك المهول للمياه في غير الأساسيات، وتزايد الفوارق الفاحشة بين الشمال والجنوب، وبين حفنة من الأغنياء وملايين الفقراء في كل بلاد، المساس بشكل خطير بمقومات الحياة : الهواء والماء والشجر، صناعة الأوبئة كأنفلونزا الطيور والخنازير... والقادم أخطر، والاحتباس الحراري والغازات السامة، والقضاء على التوازن البيئي وتهديد تنوّع الحياة. إنّ أيّ مشكلة أو مأساة في أي مكان تأثّر في كل البلدان فعالمنا تحوّل، أكثر من أي وقت مضى، إلى "سفينة" بكل ما تعنيه هذه الكلمة من خطورة وحميمة وشعور بالكارثة، إذا استمر هذا الإفساد المنظّم للشركات المجرمة المتعددة الجنسية والتي لا يهمّها إلا زيادة أرباحها المالية ! نرى في بلادنا اليوم ضعف القطاعات الإنتاجية، التفاوت الحاد بين المدينة والريف وبين الجهات، تصحّر الأرياف وترييف المدن، الفساد الإداري المعمّم، الدعارة كظاهرة اجتماعية تتوسع بشكل مهول، الأولوية المطلقة في "الموارد والتنظيم" للأمن البوليسي، ضعف وفقر العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الأفقية مع البلاد العربية والإسلامية ومع بلاد الجنوب، اقتصاد الربح السريع، الخضوع للبنك الدولي والاستثمار السياحي، الخلل في النظام الاقتصادي العالمي ونتائجه الكارثية على اقتصادياتنا الضعيفة أو"المفقّرة" بفعل فاعل، ضعف القطاع الخاص لنشوئه في حضن الدولة العائلية، ضعف القدرة على تحديث الاقتصاد الذي يمكّن من الدخول في اقتصاديات المعرفة المتقدّمة، ضعف الإصلاحات التنظيمية سواء في الاستثمار أو في التعليم. إنّ الدولة الاقتصادية الناجحة هي الدولة السياسية الناجحة، الدولة التي عندها القدرة على اتخاذ القرار، وتبنّي خيارات اقتصادية علمية والسّير فيها، وليس الدولة ـ المسخ التي كل همّها الاستهلاك وأمن النظام المباشر وتهريب الأموال ! ! ! ضرورة تعميق الجهود في جهتين، جهة الإعداد الأفقي للمجتمع الأهلي والمدني، وجهة بناء الديمقراطية والإرادة السياسية، حتى لا تكون مجتمعاتنا مجرّد مستهلكة جاهلة خانعة غافلة متهافتة ومبدّدة لأوقاتها وثرواتها، ومنع نهب ثروات المجتمع وتبديد أمواله، والخروج من الربا المحلي والعالمي المخرّب للاقتصاد، والقضاء على الفوارق الفاحشة في الرزق بين الأغنياء ووكلائهم والفقراء وعائلاتهم، والتصدّي لأكل مال اليتامى والمعوّقين. رفض سرقة ما بباطن الأرض واقتسام العمولات مع الشركات المتعددة الجنسية، والاستنكار القاطع لقتل النفس بغير حق، أيّا كانت، أو تعذيبها وإيذائها (إنّ "القتال" الذي يُحلّ ضرب أي شيء بأي شيء ليس موجوداً في الإسلام، وليس له أي سند في أي كتاب فقه مهما كانت المبررات)، مع الإقرار بواجب رفض السكوت عن الظلم الواقع في فلسطين وفي بلاد الجنوب. إنّ عدم المشاركة السياسية أو السّلبيّة تصبح في لحظات الضّعف "الحضاري" خيانة لله ولرسوله وللمجتمع الأهلي، فالعمل السياسي والمدني واجب على كلّ مواطن ومواطنة بما تتطلّبه الأمانة والمسؤوليّة، ولا يخلو إنسان من "قدرة" معيّنة، والقدرة كما هو معلوم تُتعلّم وتُكتسب.
5
واجب على الجميع التعاون في تدريب من نستطيع على المهارات المختلفة، وتشجيع المبادرة والابتكار، خاصّة و"الدّولة المسخ"، دولة نخبة الفساد والظلم، متغوّلة على المواطن وعاجزة في نفس الوقت عن أداء واجباتها داخليّا وخارجيّا، ممّا جعل مجتمعاتنا في أوضاع سياسيّة تعيسة ومزرية مع حالة اقتصادية متردّية وتفكّـك اجتماعي. العمل مع الجيران، أو الأصحاب، لمواجهة "طوفان" الفقر والظلم والمرض، فريضة لازمة على كلّ مواطن ومواطنة، لتنظيم جهدهم وكفاءاتهم، سواء كان ما يواجهونه تخريبا ثقافيا أو تسميما سياسيا أو سلعا وأنواع سلوك للتّخريب الاقتصادي والتّعطيل الاجتماعي المخطّط. وجب التّدريب على الدّفاع المدني للكافّة، حتّى يكون كلّ فرد رجلا أو امرأة مؤهّلا ومستعدّا، إذا ما جابهتنا كارثة سواء بيئية أو اقتصادية، عدوانا أو وباءا... والوعي اللاّزم بأنّ هذا التّأهيل ليس نافلة بل واجب، جهاد حقيقي لا "حديث النّفس". والفرد "العادي" لا يُسأل فقط عن عمله الشّخصي، بل سيحاسَب أيضا عن مجتمعه، بناء على الوحدة، بين الفرد ومجتمعه، المستمدّة من معنى "التّوحيد"، فلكلّ أمّة حسابا جماعيّا عند الله إلى جانب الحساب الفردي لكلّ إنسان، ممّا يجعل مسؤوليّة المجتمع تقع على كلّ فرد من أبناءه... شعور كلّ فرد بأنّه سيحاسب على مجتمعه وسلوكيّاته وأوضاعه كما سيُحاسب عن نفسه، يبيّن رسالة الاستخلاف ويربط العبادة والتّوحيد، بما يحقّق الحياة الطيّبة في الدّنيا للمجتمع الأهلي وفي الآخرة لكلّ فرد من أفراد المكلّفين بعينه. تجديد الصّلة بالله سبحانه وتعالى، والمؤاخاة كفكرة دافعة يوميّا، للتأليف بين أعضاء المجتمع تأليفا يحمل معنى المشاركة في الأفكار والأموال... وفي هكذا رؤية قرآنيّة مفتوحة للنّاس بالخير والمؤاخاة، لا يشذّ إلى العدوّ إلاّ قليل ولا يشذّ إلى الزّاوية إلاّ "الخوالف". مقاومة الفقر، والظلم، والجهل، تحتاجُ كل مبادرات المجتمع وفعالياته. كيف نبني عقدا اجتماعيا أساسه فكرة الاستقامة والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كواجب مشروط بالعلم وبالقدرة ؟ عقد اجتماعي يجعل المدينة فضاء مفتوحا غير مغلق يستطيع أن يندمج فيه أيّ إنسان يسعى للخير، وحيث التفاضل هو التّقوى والتعاون أي الإحسان وتحقيق الاستقامة في السّلوك، فيحقّق الفرد العمل الصّالح المرتبط بالآخرة والدّنيا. استعادة الكتاب الإلهي وقراءته بين النّاس "ليُحييهم"، فالقرآن لم يغادر شيئا من الموجّهات لفهم القوانين والسّنن التي تجعل المجتمع الأهلي ممسكا على الدّوام بعناصر القوّة المعنويّة والمادية إن هو تمسّك بالعروة الوثقى و"حضارة اقرأ". (والأمّة الشّاهدة حُمّلت أمانة الاختيار بين الاعتصام بالكتاب أو هجره والتفريط فيه، وللاعتصام شروطه وللتّفريط دركاته !) مفهوم "الواجب" أساس تعبوي لنهضة حضاريّة يعضد مفهوم "الحقّ" ويصوّبه، خاصّة وأنّ الاستعمار قام ويقوم بمحاولات دائمة للقضاء على الوحدات الاجتماعية وتمزيق "مكوّنات المجتمع الذاتيّة" كالأسرة الممتدّة، الجامع، الجماعات الحرفية، مؤسّسات الوقف، المستشفيات الأهليّة، الجمعيّات الخيريّة، والنّقابات الوطنيّة المهنيّة. قيمة العمل الصّالح، من أهمّ القيم الإسلاميّة التي تجعل النّاس يصنعون ما يحتاجونه من طعام وشراب ومسكن، وكلّ متطلّباتهم الصحيّة والدّفاعيّة والتّرفيهيّة في إطار من الحرّيات والاستمتاع بالطيّبات... إنّ مشاركة المجتمع الأهلي في إنتاج ما يحتاجه، من طعام وشراب ومسكن ودواء وخدمات وأسلحة وترفيه، برغم انقطاع التّواصل في التّجربة الإسلاميّة وبرغم الحصار الأجنبي المنظّم، هو واجب أصلا وهو أيضا ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به. (فـ "المستعمر" وشركاته، هو الذي يوفّر لنا اليوم السلع والخدمات، مع قليل ما زال يوفّره ما تبقّى من العمّال والفلاحين، الذين أخطأهم النظام التعليمي لـ"الدّولة-المسخ"، فحافظوا على بعض الإنتاج). الأوبة إلى القصد والاقتصاد، وإلى ما ننتجه بأيدينا وبأيدي الذين يشاركوننا نوع الحياة التي نحياها. ضدّ "الإستراتيجيّات المضادّة" العدائية التي تخنق المشاريع الوطنيّة في مهدها لتأبّد الهوان وتحبط النّاس، ولتنشر اليأس من أيّ أمل، بل لتجعلنا "عالة" ننتظر ونمدّ أيدينا للتّسوّل... في كلّ شيء، ممّا أوقع الأفراد والعائلات والمجتمع في عنت كبير ومهانة. انتفاضة الناس في نظام رأسمالي عالمي ظالم وهمجي، يستلزم منّا "إدارة الصراع" بتعاون كل القوى الاجتماعية والسياسية، ودعم الاقتصاد الوطني لبلادنا، وتشجيع الادخار ومحاربة الإسراف والترف، وتشجيع ثقافة مقاوِمة تنتقي وتختار أو تقاطع المنتجات الثقافية والسلع بما يناسب هويتنا أو مصالحنا. كيف ننظم جهودنا في البحث عن المعلومات الموثّقة المتعلقة بحاجاتنا الفعلية وأنواع تنظيم الطاقات والخبرات ؟ كيف نعرّف بأنفسنا على بصيرة بما يخدم المجتمع الأهلي... والإفادة من الخبرات المحلية والعالمية... وتفعيل وتطوير آليات التظاهر ؟ التنقّل، لغة وأدوات، من النخبة إلى الناس ومن الناس إلى النخبة، واحتضان وتفعيل ودعم وتشبيك واستثمار كل خبرات ومهارات العاملين، والحوار الهادئ... لأنّ معركتنا مع الشرّ طويلة ومريرة ! والصّبر على الانتظام في جبهة واحدة تتوحّد ولا تتفرّق "فتذهب ريحها"، بحيث يتم التوفيق الذكي بين المشاركة والتدعيم وبين المقاطعة والضغط. تنمية خبرة الانتقاء... في كل موقف حسب المصالح الاجتماعية والوطنية العليا. كيف نطوّر وندعم القطاعات "الوطنية" أو "الجنوبية" أو "العادلة، أينما وجدت" ونبتكر أشكال جديدة مجتمعية موازية، ليُحقق المجتمع الأهلي تماسكه، وقدرته على الاستمرار في حماية نفسه وأفراده وهيئاته، والاستعداد حتى لا تكون فوضى شاملة حين تبتزّنا الدولة بمقايضة الحريات والكرامة بالأمن ! عمل الخير في دار الشهادة والتعاون على البرّ والتقوى والإحسان والعدل، ضد الفحشاء والمنكر واليأس والبغي. اعتبار العمل قيمة ثقافية كبرى بها يتحقّق الإنسان، والجهد الذي لا يعرف الكلل ولا الإحباط، وتنمية روح الإيمان الحي في الفرد والأسرة والقرية والمدينة، وتأهيل الأفراد والجماعات لإدارة المجتمع الأهلي المعرفية والغذائية والصناعية والعلمية، وواجب التعلم والخبرة والأمانة، وتشجيع نشر الخلق الكريم وحمل همّ الفقراء والمحرومين... وردّ الاعتبار لمسألة الوقت وعدم هدره وإضاعته. إنّه لا إسلام بدون محورية القرآن العظيم، وإنّ البعد عن القرآن وتركه مهجوراً... في المعرفة والسلوك، في التديّن وإنتاج المعارف، هو سبب رئيسي للإعاقة الذهنية الجماعية، فلا بُدّ من إعادة التواصل اليومي والعملي مع القرآن الكريم. التصوّر القرآني للوجود والتاريخ يقوم على أنه خَلقٌ متجدّد، يزداد ويرتقي بالتدرّج، ضد النظرية المشبوهة لـ "تدهور العصور" المتجاهلة قصدا لمبدأ العمل وتحمّل الأمانة. إنّ أعظم الخيانة هي خيانة المجتمع الأهلي، في حرّياته أو سلطاته السياسية أو أمواله أو أعراضه، ويبدأ الغدر والخيانة عندما يفصل بعضهم بين السلوك وبين الفكرة، فينهار جسر الحياة. مجتمع يقوم على فكرة الالتزامات المتبادلة والعهود، أي يُؤسّس لتصور واضح للعلاقة بين الحق والواجب والتراضي من جهة أولى، وتقبّل أسبقية القيام بالواجب على المطالبة بالحق من جهة ثانية. كيف نتقدّم من جديد نحو القرآن والديمقراطية، بلا وجلٍ ولا خوف ولا تردّد، فغيابهما في حياتنا السياسية واليومية هو أصل المشاكل وأساسها ؟ كيف نعيد المجتمع الأهلي إلى حركة طلب العلم والتعلّم، وتبادل الخبرات والتعارف في محيط العالمين ؟ الانتفاضة في لغة بلادنا، مشتقّة من فعل "نفض" مثل نفض الشيء أي حرّكه، ليزول عنه الغبار أو نحوه، وهي حركة تولّد الجديد من القديم (النّظافة) وتوحي في نفس الوقت بعدم تجذّر هذا الذي سيزول : الغبار، الاستبداد، أقلية النّهب والفساد، ويقال "نفض الطّريق" أي طهّره من اللصوص، "الانتفاضة الاجتماعيّة" تدعّم الثقافة الوطنية وثقافة التمكين الفردي والجماعي ونُصرة المظلومين، "الانتفاضة الاقتصاديّة" بالمقاطعات والتحرّكات والإضرابات، "الانتفاضة السياسية" بمقاطعة الوظائف الأمنيّة والاحتجاج ضدّ الفتنة المستحدثة، فلا يجد المستبدّ أو المحتلّ، إنسانا محترما يقبل التّعاون مع أمنه وإعلامه، ومواصلة الاحتجاجات والبيانات الإخبارية الموجّهة للقوى الوطنية و"للمجتمع المدني العالمي" المناهض للفساد العابر للقارّات، ويقال "نفض المكان" أي نظر جميع ما فيه حتّى يعرفه (كما يفعل الأهالي)، و"النّفضة" هي جماعة يُبعثون في الأرض لينظروا هل فيها عدوّ أو خوف، وتعني الانتفاضة الخصوبة فيقال "نفض العنب" أي تفتّحت عناقيده، ويقال "نفض عنه الكسل" و"نفض عنه الهمّ" و"انتفض واقفا" ويُبيّن هذا وجود قوّة كامنة كانت ساكنة ثمّ تحرّكت، وأنّه وصلٌ لِما انقطع، وأنّ مصدر الحركة ليس من الخارج وإنّما من الدّاخل. "إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم." الشعب يريد (...) مشروعية الشعب السياسية وإصلاح البلاد وتنمية العمران.
#رضا_السمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تونس : شعبٌ صنع شمسًا من جسد
-
إنتصارا آخر كهذا وتكون الكارثة !
-
الخرق
-
امرأة الليل
-
البراكين المهادنة -2- كنتِ لغة تساوق أسوار الصمت
-
البراكين المهادنة - لماذا أنزفكَ والأرضُ؟
-
زواج أزرق
-
هُناك حَيث لا هِي ولا أحدْ
-
ظهر الفساد في البرّ والبحر...
-
مهندس القيروان
-
ونَعَبَ الخبراء...
-
عيون لا تنام
-
الظلال أهمّ من كائناتها في الصحراء
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|