|
الاحتجاجات الجماهيرية في العراق : الجسم المدني، البرنامج، السيناريوهات
سعد سلوم
الحوار المتمدن-العدد: 3377 - 2011 / 5 / 26 - 09:54
المحور:
المجتمع المدني
ملخص
يتبنى المقال منهج النظر الى الحركات الاحتجاجية في العراق من خلال تقاطع ديناميتين : "التغيير من الداخل" ازاء "التغيير من الخارج" "التغيير من الاسفل" ازاء "التغيير من اعلى". ويركز على التحديات الجوهرية للحركات الاحتجاجية وتراهن عليها بمخرجاتها، فما لم تتمخض الاحتجاجات عن تسريع مشروع "بناء الدولة" او دفع التيارات السياسية الحالية باتجاه هذا المشروع سوف لن تثمر عن نتائج اصلاحية معقولة او تغيير فعلي منشود. و اذا لم تسفر عن "رؤية" تتجاوز سلبيات النموذج التوافقي، وتدفع النخب السياسية باتجاه طرح بديل عن هذا النموذج سنجد انفسنا ازاء سيرورات منتجة لاصلاحات شكلية تجميلية. لذا فأن اهم تحد يعرضه المقال يرتبط بقدرة الاحتجاجات الجماهيرية على الضغط على النظام السياسي الحالي بما يجعله يتطور "وعيا وممارسة" ليكون اكثر انفتاحا على الاصلاح الذي يمكن اختصاره بعبارة واحدة : الخروج من اسار ثقافة المحاصصة الى ثقافة بناء الدولة. ومن دون ذلك قد تدفع حالة الانسداد (السياسي- الثقافي) بالجماهير للانتقال بالمطالبة من الإصلاح الى التغيير.
وفي النهاية يعرض المقال سيناريوهات لمخرجات الحركات الاحتجاجية : سيناريو الاستغلاق في حال فشل الحركات في تحقيق تغيير او اصلاح حقيقي، وسيناريو الاستهلاك في حال تحقيقها اصلاحات شكلية لا تغير من جوهر النظام وسيناريو الاستكمال في حال نجاحها في استكمال مشروع التحول الديمقراطي وبناء دولة مدنية.
ينظر بعض المراقبون الى تاريخ 25 شباط 2011 بوصفه تاريخا مفصليا في العراق مع انطلاق تعبير الجماهير عن مطالبها، وربط البعض ايضا بين ما يحصل في العراق وما يحصل في المنطقة من تحولات ما يسمى بـ"ربيع عربي" غير الصورة النمطية عن العالم العربي بوصفه منطقة راكدة سياسيا وخاملة ثقافيا. لكننا نرى إن ما حدث من احتجاجات جماهيرية في العراق لم ينطلق من فراغ، فقد كانت هناك شعلة متقدة وجدت لها متنفسا للتعبير بين الحين والأخر، لكن غالبا ما كان يتم كبحها عبر سياسية تفسير تعسفية للقانون لا سيما تفسير االمادة 38 من الدستور التي تكفل بموجبها الدولة حرية التظاهر، اذ جرى التحايل على هذا الحق الدستوري بأشتراط الحصول على ترخيص قانوني للتظاهرات، ومنعت بموجب ذلك الكثير من التظاهرات التي ارادت الاحتجاج على مظاهر الفساد المستشرية في جميع مفاصل الدولة. كما لا يغيب عن البال صورة الاحتجاجات الجماهيرية الموسومة بـ "انتفاضات الكهرباء" التي انطلقت في عدة مدن عراقية احتجاجا على السياسة التي يدار بها ملف الكهرباء ( وهو واحد من اهم الملفات التي ستحكم اتجاه الاحتجاجات الجماهيرية خلال موسم الصيف الحالي)، وعلى صعيد النشاط المدني يمكن الاشارة الى التظاهرات النوعية التي حملت مشروعا متكاملا وبرنامجا متماسكا في اطار المبادرة المدنية للحفاظ على الدستور، كما يمكن رسم خط موصول في التظاهرات المدافعة عن حرية التعبير منذ تظاهرة شارع المتنبي التي انطلقت بعد التهديد الذي تعرض له الصحفي احمد عبد الحسين عندما كتب مقالا نقديا حول سرقة مصرف الزوية والذي راح ضحيته عراقيون ابرياء فضلا عن سرقة مبلغ مالي كبير، فكان رد الفعل من جماهير المثقفين ما وصف حينذاك بكونه "التظاهرة الاكبر حول حرية التعبير في تاريخ العراق المعاصر"، مرورا بـ "تظاهرة الشموع" في ساحة الفردوس بعد محاولة اغتيال الصحفي عماد العبادي الذي نشر مجموعة مقالات نقدية حول المنافع البرلمانية، فضلا عن التظاهرات التي اعقبت اغتيال الصحفي سردشت عثمان" والتي انطلقت في كردستان العراق واستجاب لها مثقفون وإعلاميون عراقيون بتظاهرة نوعية في شارع ابو نؤاس.
تغيير من الداخل ازاء تغيير من الخارج
هناك جدل حول الاحتجاجات الجماهيرية في العراق بوصفها نتاجا لتفاعل متسلسل لما حدث من حراك جماهيري عربي في تونس ومصر واليمن والسعودية والبحرين وسوريا، وهو جدل يتأمل في كيمياء التأثر العابر للحدود وسايكولوجية المحاكاة الجماهيرية عن طريق تـأثير صور الميديا، فيصور انتقال فايروس حرية التعبير الجماعي الى العراق من ضمن موجة كبرى اجتاحت العالم العربي وكأنه حتمية تاريخية، غير انه لا يشرح سوى جزء من الصورة، ولا ينطلق من منظور اعم يتأمل تحولات المنطقة في اعقاب احداث 11 ايلول 2001 وما تبعها من رغبة "غرب ما بعد الحداثة" تغيير مجتمعاتنا التقليدية بالقوة، ووفقا لهذه الرؤية لم يكن الربيع العربي في محصلته سوى تداعيا من تداعيات ما حدث من تغيير في العراق في نيسان 2003. فبرغم ان دينامية "التغيير من الخارج" في العراق منحت العراقيين "حرية مشروطة بقوة خارجية"، الا انها حركت موجة إصلاحات عربية استدعت المزيد من الإصلاحات وصولا الى ما شهدناه من تحول يمكنه وصفه بـ"موجة رابعة للديمقراطية". واذا كانت تجربة التحول الديمقراطي في العراق محكومة بكونها نتاجا لتغيير من الخارج، فإنها منذ انطلاق احتجاجات ساحة التحرير، أضحت تعبيرا واضحا عن الرغبة بـ"التغيير من الداخل" وتعبيرا صريحا عن رغبة العراقيين بعدم التفريط بالحرية التي نالوها ومصادرتها من قبل سلطات او نخب سياسية مبطئة ومعيقة للتحول الديمقراطي، لذا كانت لحظة إسقاط تمثال الرئيس السابق في ساحة الفردوس لحظة غير مكتملة في دائرة التحول الديمقراطي، وعند نصب الراحل جواد سليم في ساحة التحرير، بدأت ملامح مدرسة ميدانية للديمقراطية بالتشكل من خلال بعد داخلي حي (واضح في ابتكار طرق جديدة للتواصل وصياغة ذكية للشعارات وتجليات ابداعية للخيال السياسي النقدي من اشكال ورسوم وتعبيرات فنية وشعبية واساليب على خلفية من تنوع فئات المشاركين و حيويتهم المنتمية الى عصر القوة الافتراضية) حيث يتحد الوعي مع الرغبة في التغيير، لينتج قدرة تحيل هذه الرغبة الى قوة للإصلاح من قبل الاجيال الجديدة. وهنا نجد الخيال التظاهري او الاحتجاجي قد عمل نقلة جغرافية تحمل شيفرات على درجة عالية من الرمزية، ذلك ان نقل التظاهرات من ساحة الفردوس حيث سقط تمثال الرئيس المخلوع على يد الآلة الحربية الاميركية الى ساحة التحرير حيث ينتصب منذ عقود نصب الحرية الذي شيد في العهد الجمهوري الاول، وقريبا من المنطقة الخضراء التي تعد مطبخ العملية السياسية يؤشر على ان مشروع التحول الديمقراطي تعثر في طور الانتقال، وانه لا بد من حصاره وتحديد مواطن خلله، فكان الحصار الجغرافي المدني يحمل مداليل مفاهيمية بالغة العمق والوضوح في الوقت نفسه. في مقابل محاولات سلطوية للتحكم بجغرافيا اماكن التظاهرات (محاولة نقلها من ساحة التحرير الى منطقة ملعب الشعب) حيث يمكن ان تخاض مباراة اخرى بين جماهير الشعب والحكومة بعيدا عن دماغ النظام القائم في المنطقة الخضراء. ان سطوة المكان في ساحة التحرير حملت طاقة اعادة تفسير المكان بوحي من التحول الزمني، وبذلك فإن قطار الديمقراطية الذي انطلق بالعراق بعد 9 نيسان 2003 والذي سار في اتجاه اخر، عادت به الاحتجاجات الجماهيرية الى السكة الصحيحة، وباختصار فإننا ننظر الى الاحتجاجات الجماهيرية بكونها تدشينا بالرغبة في التغيير من الداخل ازاء دينامية التغيير من الخارج عن طريق القوة العسكرية العظمى.
تغيير من اسفل ازاء تغيير من اعلى
كما ان الحركات الاحتجاجية دشنت آلية لـ"التغير من اسفل" ازاء "التغيير من اعلى"، ومعروف ان الاخيرة كانت نتاجا للتغيير الذي حصل في العراق بارادة اميركية، اذ عن طريق الهندسة الفوقية لبناء عراق ما بعد نيسان 2003 خلق نموذج فاشل للتغيير احبط امل العراقيين بالانتقال من تركة الاستبداد والدكتاتورية الى فضاء من التعددية والحرية، ذلك ان إحدى التحفظات على اسلوب بناء الدولة الذي تم من خلال التغيير من الخارج انه ارسى "هندسة فوقية" مفصولة عن المجتمع بكل محمولاتها من المحاصصة وتقاسم المغانم بين نخب سياسية استخدمت استراتيجيات تعبئة عرقية ودينية وطائفية فتت النسيج الاجتماعي للبلاد. وما دمت قد اشرت الى هذه الآلية التي وضعتها ازاء الية "التغيير من اعلى" فلن اجد طريقة لرسم لوحة عن ميكانزيماتها السايكولوجية والسوسيولوجية سوى الاشارة الى مشاهدات عيانية للاحتجاجات، وسأقدم مجموعة من صور في غاية العفوية والاهمية، وهي صور لا يمكن تخيلها في سياق الحياة العادية في العراق منذ 2003، فكأنها مثلت واقعا مدنيا نافيا او سالبا للواقع السياسي القائم (اذا ما استخدمت لغة المفكر الالماني هربرت ماركوز).
الصورة الاولى : شباب وشابات يحملون اكياسا للنفايات ثم يجمعون قناني الماء البلاستيكية من الشارع ويضعونها في سلة الازبال، وهذه صورة لا يمكن تخيلها في سياق الحياة العادية في مقابل صورة نمطية عن شخص يدفع يده من زجاح نافذة السيارة ليلقى قنينة الماء الفارغة في الشارع.
الصورة الثانية : فتيات يتنقلن بين المتظاهرين بكامل الحرية دون خوف من ان يتحرش بهن احد او يتعرضن لمضايقات من قبل الذكور، وهذه صور تعكس تسامي رغبات المحتجين وسط ثقافة تتعرض فيها المرأة لمختلف صنوف الامتهان والهيمنة الذكورية.
الصورة الثالثة : رجال (سنة وشيعة) يُصَلَونَ معا تحت نصب جواد سليم دون ان يكون ذلك استجابة لدعوة سياسية او فتوى دينية، اذ لم يجتمع الناس للصلاة معا بناء على مشروع مصالحة وطنية ولا بناء على دعوة اخاء دينية، بل جمعتهم الرغبة في الإصلاح على ارض واحدة تتكسر عليها الاختلافات الطائفية.
الصورة الرابعة : متظاهرون منعوا من الدخول الى ساحة التحرير للمشاركة بالتظاهرة وحين سمح لهم بذلك استقبلهم بقية المتظاهرين (المتواجدين في الساحة) بجيشان من العاطفة التي كنا نتصور انها اختفت في العلاقة بين العراقيين بعد سنوات دموية من الكراهية والجدران الوهمية.
هذه الصور عكست نمطا للتغيير من اسفل يفصح عن وعي مدني ناشىء عابر لخطوط الانقسام العرقية والدينية والطائفية، هو تغيير من اسفل يثبت "وحدة" عابرة لخطوط التقسيم ازاء ثقافة سياسية فوقية توظف الانقسام وتستثمره سياسيا. كما مثلت هذه الصور اشكالا عفوية ونواتية من التعبير عن "هوية وطنية" ناشئة ازاء تعبيرات جهوية ومناطقية وطائفية سادت بعد نيسان 2003.
الجسم المدني للحركات الاحتجاجية تتعلق احدى المخاوف التي يطرحها المشاركون بالاحتجاجات بقيادة التظاهرات، ويحاجج مشتركون في الاحتجاجات ومراقبون قلقون على مصيرها من ان افتقارها لقيادة مركزية او لجنة تنسيقة عليا يجعل امكانيات توظيفها من قبل بعض الجهات واردا، او يصبح الانحراف بها عن اهدافها محتملا (كما حدث في توظيف بعض الفضائيات المحلية)، لا سيما وان هناك محاولات محمومة لركوب الاحتجاجات او محاولة سرقتها من قبل قوى مضادة للعملية السياسية في العراق (واخرى مشاركة في العملية السياسية) في مقابل استخفاف سلطوي بعفويتها وخطاب تخويني مثير للشفقة من قبل نخب السلطة.، واجراءات منتهكة لحقوق الانسان من ملاحقات امنية الى اعتقالات تعسفية الى ممارسة التهديد والتعذيب للمحتجين. غير ان الطابع العفوي لهذه الاحتجاجات والوعي المدني الجنيني والناشىء لدى كثير من المشاركين جعل ركوبها من قبل هذه الجهات صعبا، فكانت في عنفوان انطلاقها بعيدة عن اي توظيف سياسي او ديني، وفرض تاليا الحديث عن تنسيق بين المتظاهرين بحكم الضرورة الملحة وهو ما لمسناه من الاجتماعات التنسيقية بين المشاركين الذين يشكلون "تحالفا عفويا" اخذ يبلور آاليات حشد وتعبئة وتنسيق تدريجيا، ويمكن في هذا السياق من الحديث عن التحالف العفوي ان نتحدث عن الفئات التالية تحديدا : مثقفون، اعلاميون مستقلون، منظمات المجتمع المدني، شباب الفيس بوك "الاغلبية الصامتة".
المثقفون "انتلجنسيا الواقع المتحرك" : فالمثقفون الذين يمكن عدهم اقلية في المجتمع اصبحوا اكثر ثقة بقدرتهم على التغيير، وادركوا ان من المهم تغيير العالم وليس تفسيره فحسب (اذا ما اقتبسنا هذه العبارة الشهيرة التي تلخص الحس الثوري للتغيير) وهم الان اكثر وعيا بأن من يصنع التغيير هم الاقلية الفاعلة النشطة وليس الاغلبية الصامتة، ولا نقصد بالمثقفين هنا من يتعاطون مع ثقافة النوع الادبي بل المقصود بذلك كل من يطور وعيا نقديا لعالمه وينغمس تبعا لذلك بالِشأن العام.
الاعلاميون المستقلون : الذين يمثلون سلطة رابعة حقا، مارست نقدها للفساد ودافعت عن حرية الحق في الوصول الى المعلومة من اجل تفعيل حق الجمهور في المعرفة و كشف مواطن الخلل في بنية الدولة. فالنضال من اجل الحصول على المعلومة يجري في بيئة عرفت بسيادة ثقافة السرية واخفاء المعلومة او توظيفها ضد الخصم السياسي او عدها جزءً من عناصر التحكم السلطوي بالجماهير. غير انه من دون حق الحصول على المعلومة لا يمكن تقييم عمل الحكومات ولا مواجهة الفساد، وبعمل الصحافة الاستقصائية خلال السنوات السابقة شكل الجسم الاعلامي جزءً من جماعة ضغط فاعلة من خلال تصديهم للفساد في وقت فشلت فيه بعض الهيئات الرقابية الحكومية عن اداء هذا الدور بسبب الثقافة السياسية السائدة وصفقة تقاسم السلطة.
منظمات المجتمع المدني والناشطون المدنيون : فضلا عن منظمات المجتمع المدني التي اثبتت انها تطور وعيها المدني في مقابل تكلس الثقافة السياسية، وارست تقاليداً جديدة في عمل منظمات المجتمع المدني نقلها من جانب السياسات الاجتماعية والعمل الخيري الى سياسات "بناء الدولة" وذلك من خلال التحشيد ورفع الوعي بالعملية الانتخابية وما تبعها من اقتراح مشاريع قوانين مفصلية في بناء الدولة في وقت وقفت فيها اللجان البرلمانية عاجزة بسبب افتقارها لمتطلبات العمل البرلماني، بل وافتقارها لمستشار واحد ذي اختصاص، وهو ما نسجله كنقطة تميز ايجابية للعمل المدني في العراق من خلال تتبع مقارن للعمل المدني عربيا ودوليا.
شباب الفيس بوك : فضلا عن شباب الفيس بوك الذين وجدو متنفسا للتعبير في الواقع الافتراضي بعد ان قيدت حريته في الواقع، وهم يشلون اغلبية صامتة انتقلت من عالم الواقع الافتراضي الى ميدان واقع يفرض تحديات عميقة. واعتقد ان الفئات التي تكون هذا التحالف الواعي تمثل "الجسم المدني للطبقة الوسطى" التي انقرضت في العراق، فاسحة المجال امام طبقة غنية متنعمة بكل الثروة والسلطة وطبقة فقيرة معدمة لا تشكل من اهمية سوى كونها صوتا في المواسم الانتخابية، واهمية بناء الطبقة الوسطى كما هو معلوم انها تشكل الحامل الاجتماعي لاي تحول ديمقراطي ولاي مشروع لبناء دولة مدنية، وانها اذا افرزت تعبيرات سياسية سوف تشكل خيارا انتخابيا بديلا لكل التيارات السياسية التي تتلاعب بالهويات الفرعية وتوظف الحس الديني او الطائفي او الجهوي لجني مكاسب شخصية.
نواة برنامج الاحتجاجات الجماهيرية
كانت الاحتجاجات الجماهيرية في العالم العربي رد فعل جماهيري غاضب على فشل مشروع الدولة الوطنية في الشرق الأوسط : أنظمة استبدادية تعيد انتاج أشكالها السلطوية المتزمتة وحكم يمكن وصفه بحكم "العوائل السياسية" من بن علي تونس وقذافي ليبيا مرورا بصالح اليمن ومبارك مصر وانتهاء بأسد سوريا. لكن برغم ذلك فإن هذه الاحتجاجات انطلقت في ظل أنظمة سياسية تلتف حول نواة مشروع دولة، وهذا فرق كبير عن الوضع في العراق الذي يفتقر الى مشروع دولة وطنية، ويكاد توصيف مشروع نخبه السياسية بكونه مشروع اللادولة او لامشروع الدولة. ومن ثم فأن اي تفكير في مخرجات الاحتجاجات الجماهيرية لا تتمخض عن تسريع مشروع بناء الدولة او دفع التيارات السياسية الحالية باتجاه هذا المشروع سوف لن تثمر عن نتائج حقيقة. فالاصلاح المنشود هو اصلاح في الرؤية قبل كل شيء. وهو اصلاح يتمحور حول مشروع بناء دولة مدنية غائبة عن سلوك النخب السياسية وان كانت حاضرة حبرا على ورق في برامجهم السياسية وخطبهم الاعلامية. واذا كنا نتحدث عن تغيير ايضا، فهو تغيير يعكس "ثورة في الوعي السياسي" الذي يختزل المفاهيم بألاليات والاشكال دون النفاذ الى حقيقة مدلولات هذه المفاهيم وتطبيقاتها، اذ تجادل بعض النخب السياسية الحاكمة في العراق بأنها قد جاءت عن طريق الانتخابات، ومن ثم فأنها لا يمكن ان تقارن بالانظمة الوراثية العربية التي تفتقر الى تطبيق الآليات الديمقراطية. ونجد ان الثورة على ضيق الأفق السياسي يعد من متضمنات الوعي المدني للحركات الاحتجاجية، فلا يمكن ان نختصر الديمقراطية بوصفها اليات فحسب بل هي: أليات وقيم ومؤسسات. فالآليات ليست سوى وسيلة لتحقيق غاية وهي لا يمكن ان تنجح في الوصول الى هذه الغاية من دون ترسخ القيم الديمقراطية، فالمقدس في الديمقراطية هو القيم وليس الآليات على حد تعبير امين معلوف. وقد لمسنا توسل العديد من الحركات السياسية بالانتخابات كألية للوصول للسلطة دون ان تتعدى ذلك. وراقبنا احزابا تشبه القبائل وكيانات سياسية تماثل العوائل وشخصنة للحياة الحزبية واختصارها بمحض رموز لا تتعدى الاصابع. حتى ان الوصف الشائع "ديمقراطية بدون ديمقراطيين" لم يعد تعبيرا حرفيا بل هو واقع عراقي عياني . كما ان القيم لا يمكن انتضامها في نسق ثقافة سائدة وتحولها من ثم الى سلوك يومي من دون المؤسسات، فالديمقراطية في ابسط تعاريفها ليست سوى "مأسسة الحرية". وقد كان احد محفزت الحركات الاحتجاجية تلك المتقابلات الصراعية التي جعلت تجربة الديمقراطية في العراق ديمقراطية غير مؤكدة : نريد دولة مؤسسات وليس دولة زعماء وقادة وأحزاب. نريد ثقافة ديمقراطية ترسخ الديمقراطية كقيمة سلوكية بمواجهة ثقافة محاصصة سائدة. نريد برامج سياسية بمواجهة سياسات ارتجالية وشعارات انتخابية جوفاء. نريد دولة تفكر لان الدولة لدينا بلا دماغ... نريد شراكة حقيقة للدولة مع المجتمع المدني لا نظرة تنطلق الى الشريك كمنافس
الخروج من حالة الانسداد السياسي- الثقافي
والادهى ان نموذج الديمقراطية التوافقية فشل في العراق منتجا لنا تكرارا بليدا لفشل التجربة اللبنانية. فأي مستقبل للعراق اذا كان يشبه حاضر لبنان الحالي : بلد منقسم على ذاته، لم يغادر حتى هذه اللحظة المربع الاول (مربع بناء الدولة). واعتقد ان احتجاجات جماهيرية لا يمكن ان تسفر عن رؤية تتجاوز سلبيات النموذج التوافقي، وتدفع النخب السياسية باتجاه طرح بديل عن هذا النموذج سوف لا تسفر الا عن اعادة انتاج إصلاحات شكلية سوف تبقى بذور الوضع القائم فيها بما يحتويه من اخطار التصدع القائمة في كل حين. لذا يبدو لي ان اهم تحد يرتبط بقدرة الاحتجاجات الجماهيرية على الضغط على النظام السياسي الحالي وجعله يتطور "وعيا وممارسة" ليكون اكثر انفتاحا على مطالب الجماهير... ليخرج من اسار ثقافة المحاصة الى ثقافة بناء الدولة. ورفع الوعي بأنه حتى لو وصف بكونه ديمقراطيا فأنه مادام مكبلا بقيود ثقافة المحاصصة وطؤافة السياسية فلا يمكن ان يخرج من المربع الاول او المرحلة صفر. وحتى لو انسقنا مع بعض الجدال بأن الاحتجاجات ذات طابع اجتماعي يركز على الخدمات (وهي محاولة سلطوية واضحة لتمييع المطالب الجماهرية الجوهرية وحصرها بقضية الخدمات لا بقضية بناء الدولة)، فإن عدم تلبية المطالب الجماهيرية قد يحولها الى احتجاجات ذات طابع سياسي تطالب بتغيير النظام. لذا قد تدفع حالة الانسداد السياسي- الثقافي لانتقال الجماهير من الإصلاح الى التغيير. ان الموجه الحيوي لخط الاحتجاجات رهن بالمضي بدينامية التغيير من الاسفل الى الاعلى، اي بعبارة اخرى ان نجاحها رهن بقدرتها على تغيير المعادلة السياسية التي يمثل البعد الطائفي احد اركانها الاساسية بل الجوهرية. ومن دون لا يمكن الحديث عن تغيير من الأسفل الى الأعلى. ولا يمكن الخروج بالعراق من بصمة التغيير من الخارج (التي تحولت الى سبة على العراقيين) نحو تغيير حقيقي من الداخل يدشن مشروع بناء دولة مدنية. وعلى المدى الابعد وعند الحديث عن نخب جديد تجدد دماء النخب الحالية، اجد ان افراز رموز وتيارات جديدة معبرة عن روح التغيير(وهو امر لايمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها بل هو مشروع مفتوح الى افق زمني يمتد للدورة الانتخابية المقبلة) رهن بتحول الحركات الاحتجاجية الى حركات اجتماعية، اي بمعنى ادق تحولها من إشكال متنوعة من الاعتراض تستخدم أدوات يبتكرها المحتجون للتعبير عن الرفض والمقاومة الى جهود منظمة يقوم بها مجموعة من المواطنين (يمثلون قاعدة شعبية ليس لها تمثيل رسمي او فشل الأخير في التعبير عنها) بهدف تغيير الاوضاع والسياسات بما يتطابق مع قيم الحركة.
سيناريوهات مخرجات الحركات الاحتجاجية
بناء على ما تقدم يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات لمخرجات الحركات الاحتجاجية تدور ما بين فشل الحركات الاحتجاجية في تحقيق مطالبها او تحقيقها نجاحات شكلية او انجازها في طرح بديل حقيقي لما هو قائم وتدشين تغيير من الداخل ينتقل بنا الى بناء دولة مدنية ديمقراطية.
سيناريو الاستغلاق : ويطرح في حال فشل الحركات الاحتجاجية في تغيير المعادلة السياسية القائمة وفشل الضغط في طرح بديل للثقافة السياسية السائدة بسبب التركيبة السياسية القائمة على احزاب عرقية ودينية وطائفية وشخصية وليست احزابا سياسيا ذات قواعد شعبية عابرة لخطوط التقسيم والانقسام، وبسبب التماهي المطلق بين النظام القائم وثقافته المحاصصية الطائفية. (وهو ما لاحظنا اولى بوادره في انتخاب ثلاثة نواب لرئيس الجمهورية برغم انف الاحتجاجات الجماهيرية)
سيناريو الاستهلاك : لا تنجح الحركات الاحتجاجية سوى في تحقيق تغييرات اجراءية شكلية لا تغير من جوهر النظام القائم فتتبدد الطاقات الاحتجاجية ويتم استيعاب حيويتها التغييرية في ضرب من اعادة تجميل وجه العملية السياسية دون المساس بمشاكلها البنيوية.
سيناريو الاستكمال : حين تنجح الاحتجاجات في استكمال عملية التحول الديمقراطي في عراق ما بعد الانسحاب الاميركي، واحدى المقتربات يتمثل في افرازها طبقة سياسية جديدة تجدد حيوية النظام، وبذلك تتحول بعض القوى الاحتجاجية الى حركة سياسية اصلاحية منطوية على رموز سياسية واحزاب ذات برامج سياسية بالمفهوم المعاصر مزودة بقواعد شعبية تمثل مواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية. (وهو امر مفتوح على تنسيق الحركات الاحتجاجية مع القوى الديمقراطية والليبرالية والعلمانية من جهة وعلى افرازها رموزها وتياراتها خلال الفترة المقبلة)
#سعد_سلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لكي لا يتحول المسيحيون الى متحف الذاكرة
-
حول مصير مسيحيي العراق والشرق الاوسط
-
امبراطورية أوباما الناعمة
-
فتوى القرضاوي أو خطاب أوباما
-
سيناريوهان لقراءة ثورة 14 تموز
-
بناء الدولة المدنية في العراق - صورة عن الواقع والتحديات
-
هل ستغير المذكرات الالكترونية وجه العالم؟
-
تجربة المجالس البلدية في العراق
-
سؤال التعايش وامكانيات المصالحة
-
في تحطيم الجدار
-
التحكم بالحدث من تدمير برجي نيويورك الى تدمير قبتي سامراء
-
المالكي ومعادلة الاستقرار السياسي : الامن هو التنمية-الفساد
...
-
عراق الدولة... حلم ام اسطورة؟
-
تسونامي عراقي لكل يوم
-
حكومة سرية لشعب علني:اسئلة قديمة على طاولة حكومة جديدة
-
عبد شاكر وقضية الحوار المتمدن
-
حين تسقط التاء عن الثورة
-
من نحن؟الهوية الضائعة بين العراق التاريخي والعراق الاميركي
-
عام مسارات
-
من يسرق النار هذه المرة؟
المزيد.....
-
صحيفة عبرية اعتبرته -فصلاً عنصرياً-.. ماذا يعني إلغاء الاعتق
...
-
أهل غزة في قلب المجاعة بسبب نقص حاد في الدقيق
-
كالكاليست: أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت خطر على اقتصاد إسرائ
...
-
مقتل واعتقال عناصر بداعش في عمليات مطاردة بكردستان العراق
-
ميلانو.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يطالبون بتنفيذ مذكرة المحكم
...
-
كاميرا العالم توثّق تفاقم معاناة النازحين جرّاء أمطار وبرد ا
...
-
أمستردام تحتفل بمرور 750 عاماً: فعاليات ثقافية تبرز دور المه
...
-
أوبزرفر: اعتقال نتنياهو وغالانت اختبار خطير للمجتمع الدولي
-
-وقف الاعتقال الإداري ضد المستوطنين: فصل عنصري رسمي- - هآرتس
...
-
الأردن.. مقتل شخص واعتقال 6 في إحباط محاولتي تسلل
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|