أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد نعمان - حركة النهضة التونسيّة والأدب: ذهنية التحريم















المزيد.....


حركة النهضة التونسيّة والأدب: ذهنية التحريم


محمد نعمان

الحوار المتمدن-العدد: 3370 - 2011 / 5 / 19 - 12:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


«فصل ما بين الدين والرأي أن الدين يسلم بالإيمان، وأن الرأي يثبت بالخصومة. فمن جعل الدين خصومة فقد جعل الدين رأيا، ومن جعل الدين رأيا فقد صار شارعا، ومن كان يشرّع لنفسه الدين فلا دين له» ابن المقفّع

الفضاء الأدبي ليس بالمدى الذي يمكن سبره بمأمن عن الالتباس، فأي محاولة لتقديم مفهوم يشمل معناه يعدّ تدبّرا نحو محاصرته وشطبه. مساحة الأدب تحتفل بغموضها، تتشبّث بفتنة انفلاتها عن التحديد، تأبى التقيّد بالصراط المستقيم، تجنح نحو التمرّد والتبدّل، ديدنها الحريّة. من يعتقد أنه يعرف الأدب فهو لا يعرف، في الحقيقة، غير ماضي الأدب؛ فتحولاته وعبقرية كينونته المارقة تفاجئنا دوما بتمظهرات جديدة للأدب، تخرج عن مدار العادة والفهم. ممّا يعني أن البرنامج الحزبي في المجال الثقافي، وخاصة في ما يتعلّق بالأدب والفن، سيواجه صعوبات على صعيد الرؤيا والاتجاه والتفكير؛ فالمجال الإبداعي الأدبي لا يحتمل منطق علوية الاعتدال أو التقويم السلوكي أو الاعتراف بخط نموذجي أو تمجيد قاعدة أدبيّة ما. الإبداع الأدبى يتسع لكلّ سخط أو احتجاج أو رفض أو طاعة. لا مجال للفكر الحزبي إذن، أن يبشّر بخطّ أحادي ما، كامل مكتمل مطلق، عليه الاعتراف بأنه قاصر عن الإلمام بجميع مقومات تنمية الإبداع الأدبي. ربما، قد تبقى الخطّة الأساسيّة التي يمكن أن تسلكها الأحزاب وتستأمن عواقب الإضرار بالأدب هي:
* التبشير بانفتاح المخطط الثقافي على جميع الرؤى المخالفة.
* أن تقتصر في نزعتها نحو تحريك الفعاليات الأدبية إلى شغل موقع الطرف ضمن فضاء يحتفل بالمتعدّد.
* أن لا تتدخّل عن طريق التشريع في لجم أي اتجاه أدبي مهما كان منبعه أو اتجاهه.

وبطبيعة الحال، لم تر حركة النهضة التونسيّة في هذا الفهم للأدبي عموما مصدرا ملهما، بل سعت إلى استثمار تصوّر ديني يحصر الأدب، ويقدّم تصنيفات قاسية تحتكر المعنى الأدبي، وتدين أيّ مخالف باسم الشريعة. تعبئ أتباعها وتشحنهم لكره الواقع الأدبي الإنساني الراهن، وتقدّم بديلا ينضوي تحت ظلال الدين والأخلاق. سأعرض في سياق هذا النص إلى الإطار المرجعي النقدي العام للحركة في المجال الأدبي، ثم موقفها من الأدب والفنون وقراءتها للمشهد الأدبي الراهن، بعدها سأبحر في متون النصوص النقديّة المعاصرة لعلي أكتشف بعضا من ملامح الأدب التي تحاول الحركة إقصاءه.

في البدء، يجب أن نميّز بشكل دقيق بين خطين ضمن النزعة التقليديّة في واقع الأدب العربي المعاصرة، الأول يمثل الخط المحافظ: وهو الذي يسعى نحو إعادة إنتاج الماضي الأدبي، والثاني يمثله الخط الأصولي: وهو الذي يسعى نحو العودة إلى الماضي الأصل أي الفترة النبوية باعتبارها المشهد الإيماني الصحيح، واستخلاص الأبعاد الأخلاقية والرمزية منها، ومن ثمّة ترسيخها في الأدب. عادة ما نخلط بين الاتجاهين، فنحشرهما معا، بشكل قسري، ونغضّ الطرف عن اختلافهما في مسائل جوهرية. بل قد تسعى فئة الخط الأصولي إلى ترسيخ هذا الالتباس لاكتساب شرعية وجود عبر الانتساب المزيف إلى الشقّ المحافظ.
ولتفصيل هذا التمييز، يلاحظ أن الخطّ المحافظ، مثلا، يحتفل بعمود الشعر(1) ويعدّه سنّة أدبيّة ثابتة ومقياسا نقديّا فاصلا يحدّد أدبية النص الشعري. إلّا أنه، مع ذلك، لا يجنح إلى تغليب الجانب الديني في خضم فهمه للأدبي قديما أو راهنا. قد ينتمي دينيّا، لكنه يعرف بأن المجال الشعري فضاء استثنائي، لا يحتفي بالمعيار الديني، فتاريخ الأدب العربي القديم يزخر بأسماء شعرية لامعة لم تباركها الفئة الدينية المتعصّبة. ولعلّ أبلغ الأصوات تأثيرا في المحافظين، صوت القاضي الجرجاني وهو يعلن صراحة: «فلو كانت الديانة عارا على الشعر وكان الاعتقاد سبب لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية ومن تشهد الأمّة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزبعري وأضرابهما ممن تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بكما خرسا وبكاء معجمين ولكن الأمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر»(2).
في حين، يرى أصحاب الخطّ الأصولي بأنّنا نعايش واقعا يفتقد لصفة الوفاء لدّين، وعليه فهو واقع الجهالة والكفر، وكلّ ما ينتجه من فكر أو خيال هو صنيع الإلحاد فـ«اتجاهات الفلسفة بجملتها..، واتجاهات علم النفس بجملتها...، ومباحث الأخلاق بجملتها..، واتجاهات التفسيرات والمذاهب الاجتماعية بجملتها..، من الفكر الجاهلي»(3). وعليه، لا ثقافة إنسانيّة يمكن أن يعوّل عليها في إنشاء فن أو جمال في واقعنا المعاصر، فكلّها مصطنعة من طرف أعداء الإسلام فـ «حكاية أن "الثقافة تراث إنساني" لا وطن له ولا جنس ولا دين..، حكاية صحيحة عندما تتعلّق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العملية دون أن تتجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية، ولا إلى الفنّ والأدب..، ولكنّها فيما عدا ذلك إحدى مصايد اليهود العالمية التي يهمّها تمييع الحواجز كلّها ..، لكي ينفذ اليهود إلى جسم العالم كلّه. وإذن، فينبغي نبذ كلّ من ليس إسلاميّا، لأنّه دليل على "الثقافة الجاهليّة المناهضة للثقافة الإسلامية"»(3) وباعتبار الكفر هو القسمة العادلة بين البشر، فعلينا أن لا ننسى تاريخنا العربي من شرف التكفير، إذ «تدفق خليط متكوّن من الفلسفة والأدب والعلوم من اليونان وإيران والهند... وبذلك بدأ الخلاف النظري بين المسلمين، بدأت عقائد المعتزلة ونزعات الشكّ والإلحاد، وبدأ الاتجاه إلى الفرقة والخلاف في مجال العقائد... ووجدت فنون الرقص والموسيقى والرسم وهي فنون غير إسلامية تشجيعا من إولئك الذين كان محرما عليهم أن يقترفوا هذه الفنون القبيحة» (4) أمّا المنجاة فهي العودة إلى الأصول عبر مسلكين الأول يتجه نحو ترسيخ واقع أخلاقي طاهر استخلصوه من فهمهم للإسلام المبكر، والثاني محاولة قراءة تأويليّة للإعجاز البياني والأسلوبي للقرآن واعتبار أي فاعل جمالي له مطلق الحريّة في الإبداع لكن ضمن مقومات فهمهم لإعجاز النص القرآني. في النهاية، اتسع عدد أنصار هذا الاتجاه من السيد قطب إلى محمد قطب إلى نجيب الكيلاني... إلى أن غدا ملمحا نقديّا بيّنا(5)، كما تأسّس على ضوء نهجها منظمة تطلق على نفسها رابطة الأدب الإسلامي العالمية منذ سنة 1984 تبعا لدعوة من أبي الحسن الندوي(6). والغريب، أن هذا الاتجاه وامتداداته الأدبية المتعدّدة لم يسفر عن أي صوت أدبي يعدّ له شأن، لا في الماضي ولا راهنا. لغط نقدي، اتخذ لنفسه صفة الفئة الناجية، وأدى إلى القحط. كما تجدر الإشارة إلى أن خطاب هذه الفئة يحرص على علوية الدين دون اهتمام يذكر بالمادة الأدبية؛ فلا يعنيها جمالية النص، أو وفاء النص لقيم المحافظة على عمود الشعر، ما دام النص يفي بمعيارية الجماعة الديني، ويمارس تأثيره الانفعالي المباشر.

والأكيد أن الخيار الأدبي عبر منهله الأصولي جذب حركة النهضة التونسيّة، فراشد الغنوشي يصرّح في مقال طريف، بعد رفضه الكليّ للفلسفة الغربية، بأن الحلّ يكمن في فلسفة إسلامية تحتفي بـ: «المفكرين الإسلاميين المحدثين أمثال... أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي والشيخ حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب...»(7). ولعلّ النزعة الجمالية ستستتبع هذا الزخم المرجعي الهائل! فتفضي إلى عصارة فذّة تنبت من هذه الطينة المتشدّدة، إذ يقول راشد الغنوشي في سياق دعوته لتلافي قصور الحركة في المجال الجمالي: «فكم هي حاجة الدعوة الإسلاميّة ماسة إلى روّاد عظماء يستوعبون التجربة الفنية المعاصرة، كلّ في ميدانه، ويعملون على ترويضها وتحريرها وتجذيرها وتسخيرها في إبداع فن إسلامي أصيل ومعاصر. إنه لامناصة من ذلك إذا أردنا لنور الإسلام أن يتسلّل إلى القلوب ينيرها ويحركها ويحرّرها مما ران عليها غشاوة الجاهليّة المعاصرة»(8) ها أننا إذن، في عالمنا هذا ننوء تحت وطأة جاهلية معاصرة، فيغدو الفن دعويّا يلتمس هدايتنا، وكي يمارس هذا الدور، عليه أن يتأسس مجدّدا عبر «التنظير وبيان الحدّ الفاصل بين ما يحلّ ويحرم من الفنون، وتحريرها من المضامين الإلحاديّة المائعة»(9) هي الفنون المضادة للإلحاد إذن، تقوم على أسّ ديني قويم، كما تتمثّله الحركة، وتضطلع بسلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكيف، لا؟ والواقع الأدبي المعاصر، كما تراه الحركة، يتطلّب دعوة إيمانية صادقة تخرجه من صورته الكارثيّة الراهنة، فالمشهد الأدبي عند راشد الغنوشي قاتم لا يترك سبيلا لأي تفاؤل، يقول: «رجال أدب وفن يبيعون أعراضهم في سوق الدعارة ويشغلون عمرهم بالتهريج والنفاق فما منهم إلّا متزلّف للطغيان يتمسّح على أعتابه لينال فتاتا من موائده وعارض شرفه وسمعته حيث تروج هذه البضاعة في أسواق البغاء»(10) والفنّ والأدب من هذا المنظور قد يتحوّل إلى مصدر تدمير وتخريب، ما لم تكن يد الأخلاق أعلى، وأشدّ قسوة «إنّ الأدب أو أيّ فن من الفنون يصبح أداة تخريب وتدمير في النفس والمجتمع والإنسانية إذا انقطعت الصلة بينه وبين المثل العليا والأخلاق الكريمة وهو عندئذ المِعول الذي يرفعه الشيطان ليُجهز على كلّ فضيلة في الأمّة ويسوقها إلى المنحدرات... إلا إذا جاز أن نسمّي الدعارة فنّا والاتجار بالأعراض نبلا والفجور ظرفا وتأدّبا» (11) فالأدباء إخوان الشياطين، يمكرون لينهار المجتمع. وكي لا يمرّ اعتراض آخر سدى، لا تهملوا كون الفن مصدر إهدار للمال العام، فمن أقام نصب ابن خلدون وسط العاصمة التونسيّة، غاب عنه احتجاج أحد قياديي الحركة، وهو ينادي ساخطا: «إن إقامة النصب والتماثيل بالإضافة إلى كونها تخالف توجيهات الشرع الحكيم فهي تعتبر في الميزان الاقتصادي تبذيرا» (12).
على أيّ منّا أن يدرك حتما التالي: أن تدلف ساحة الأدب والفنون معناه أن تنضوي تحت قيم الجماعة الإسلامية وتكون جنديّا من جنود الرحمان نحو تحقيق النص الإيماني الأمثل، ثم تسلك طريق المعنى فتتخيّر اللفظ البيّن الطاهر، ويكون مقصدك الوحيد الدعوة إلى الحقّ الإلهي. ما تسعى إليه الحركة إذن، انبلاج أفق جديد عنوانه اصطناع نصّ أدبيّ ملائكي. وفي صورة عدم إدراكك للمقاصد السامية تلك، لعي فيك أو غباء أو مسّ أو جنون، فأنت فاجر، أنت شيطان، أنت مخرب، أنت ملحد، أنت عبد للجاهلية المعاصرة، أنت متزلّف للطغيان، أنت مهرّج، أنت داعر، أنت عاهر، أنت مبذر...

بعد استعراض هذا المشهد الكارثي للأدب المعاصر، من خلال نصوص حركة النهضة التونسيّة، سوف أتطرّق إلى مفهومين أساسين تلحّ الحركة على اعتمادهما في تشويه صورة الأدب الراهن، لا دفاعا عن الأدب، وإنما تبيانا لاستثنائيّة المعنى الأدبي، وخصوصية مقاربته للأشياء. فالحقل الأدبي له نزعته الخاصة في إضفاء المعنى على الأشياء، بحيث تنزع عنها رداء السلبيّة المعتادة وتجنح بها إلى معنى حيوي فاعل وإيجابيّ. المفهومان هما: الدمار والمتعة الجنسيّة.
1. الدمار والأدب:
إن الفضاء الثقافي يحتفي بلغته، بصوره، بطقوسه، برقابته، يسعى إلى خلق حالة من الطمأنينة والاستقرار. يبقى أن الأدب دستوره التمرّد والتحرّر، يخترق هذا الواقع الثابت ليحدث فيه ضوضاء التبدّل، فـ«الكتابة هذيان الحلم وتجليه في آن، نواجه المعقول بالغرابة، بهذه الطريقة نفضح لا معقوليّة الشارع التي كانت تستر نفسها بالمنطق والوعظ والخطب...الكتابة-إذن- تدمير لعناصر الواقع بعناصر الحلم. شحذ للأنصال لمحو المسلمات»(13). وينتهك الأدب اللغة، ويبثّ فيها البلبلة، كي تعكس أضداد السكون. بسبب هذا، قد ينعتها البعض، بالبلاغة الشيطانية، لأنها تقدّم«طرقا أخرى مختلفة في تصريف الكلام ووجوها مهملة غير مستعملة من طرائق استعمال اللغة فإنّ "أضداد البيان" إنما هي تشفير آخر للغة يستعيد فيها الكلام فوضاه الأصلية فينقال بتلك الفوضى ما كان ممنوعا قوله أو ما كان في حكم المحظور. ولا نعدم بالضرورة في الكلام الشيطاني الموسوم بالفوضى مقولات الصحّة النحويّة وإنّما نعدم فيه مقولات المقبوليّة»(14).
من ناحية أخرى، لن يرضى الأدب بآيات المنع، سيختلق من رحم الموت حياة، ويجعل من المستحيل ممكنا. لن يقبل بسرد الحكايات على منوال السلف، سيجنح إلى الخيال ليولّد روايات جديدة لسير أصولنا الثقافية، فتلك الحكايات، وإن شيدت على فراغ، فهي تمارس دورا مخياليّا يقهر أي حركة أو تبدّل، إنها مترسخة على نحو مكثف داخل أقوالنا وصورنا وتدفعنا إمّا وعيا وإمّا بدون وعي إلى اتخاذ مواقف رجعية، فـ«لا أدلّ على هذا التدمير من التصرّف في قصّة الأصول لأنّ مثل هذه القصّة إظهار دائما للسيادة باعتبارها سيادة اللاشيء وقد أضحت بفضل قصّة الأصول شيئا ما. والحال أننا نحتاج لتناولها إلى أن نستند بالضرورة إلى سيادة جديدة أقدم وأغرب أو يفترض فيها أنّها أعلى من الأولى التي نروم الإطاحة بها أو إرجاعها إلى اللاشيء الذي تخفيه»(15).
إنهم يعرفون جيدا أن الأدب غير محايد ولا هو بالبريء، إنه يوغل في مدى غامض ليولد روحا جديدة لن تقبل بالصمت ولا السكون ولا الطمأنينة. فيعمدون إلى تشويه وتحريم كلّ أدب يخرج عن دائرتهم الضيقة.
2. المتعة الجنسانيّة والأدب:
ليس بالأمر الهين التطرق إلى موضوع بمثل هذه الخطورة، فإن كان من باب الفقه معرفة آداب النكاح، فإنه من باب المحظور النظر في ما يمكن وصفه بأدب المتعة، فـ« لا تكتفي المجموعة المرتابة من العشق بالتشريعات المميزة بين الحلال والحرام، بل تنتج التصورات التي تزيد في حصار المتعة وتحذير طالبيها، والتي تخترق النصوص الأدبيّة ذاتها، أي النصوص الخياليّة التي من شأنها إنتاج المتعة»(16) إنّ الجماعات الدينية تحاول منع أي طرح جمالي يتعلّق بمسألة المتعة الجنسانيّة، لإدراكها بأنّ «المتعة كالشوق، لها قدرة عجيبة على التحوّل الكنائي أو الاستعاري، فالكلام نفسه قد يكون مصدر متعة، والحديث عن المتعة يولّد المتعة، والنظر إلى موضوع المتعة يولّد المتعة... لذلك تتسع دائرة منعها، من المتعة الحرام، إلى المتعة بالحديث عن المتعة، إلى المتعة بالحديث، إلى المتعة بالنظر، إلى المتعة بنظرة الغير إلى موضوع المتعة... ويتخذ المنع صورا مختلفة كمجرّد النهي، أو إهدار الدّم، أو العقاب، أو العقاب الذاتيّ الذي يسلطه المتأثّم على جسده»(17). هذا المنع من شأنه إخفاء عناصر أساسية في الخطاب السلفي. هي إذن، محاولة من هذه الجماعات نحو التستّر داخل ثوب التوقّر والأخلاق في الأدب قصد السكوت عن ثوابت اصطنعوها داخل التراث ويخشون تبدّلها، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
* خشية افتضاح استعباد المرأة جنسانيّا، فـ« لئن كانت المباضعة بالنسبة إلى الرجل فعلا تحرريا دالا على الانفلات من الضغوط والقهر والكبت أو الانفعالات والتوترات، فإن وضع المرأة كان مختلفا، إذ ظلّت في الغالب مستجيبة للأوامر متقبّلة للوضع مسلّمة جسدها فضاء للكتابة الذكوريّة. وتمّ اختزال دورها في التلقّي، تلقي فرج الرجل شاءت ذلك أو أبت وتلقّي منيّه فيستبين لقاحها رغبت في ذلك أم لم ترغب، وتلقّي أوامره. ومتى أطاعت تلقت النفقة. وبدا هذا العنف المسلّط على جسد المرأة بمثابة قانون ولأنّ القوم اعتبروه مكتوبا ومقدّرا فقد كان تغييره عسيرا.»(18)
* خشية الانقلاب على البنية الأسطورية التي اصطنعها السلف ليسم المرأة بالدونية والعهر، فمثلا بمراجعة أسطورة الزهرة(19)، نكتشف أنها امرأة فاجرة قد أغرت هاروت وماروت لممارسة شهوة الجنس، بعد ذلك تابت، وجعلها الله كوكب الزهرة. أسطورة تسكن التفاسير وقصص الأنبياء لتثبت «أن من كان ملكا إن اتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة، ومن كان امرأة ذات شهوة إذا كسرت شهوتها وغلبت عليها صعدت إلى درج الملك واتصلت إلى أسمى المنازل والرواتب»(20). ليس المهم في هذا هو تبادل المواقع تبعا للالتزام بالمنع، المهم أن هذا الكوكب الذي يرمز إلى النقاء والصفاء، حتى أن اسم الكوكب يقرن بأسماء نساء عرفن بحسن الأخلاق والفضيلة، كان في حقيقته الأسطورية من أصل عاهر. إن الخشية من المرأة، والحذر منها، حتى وهي تتصف بمكارم الأخلاق، باد في هذه البنية الأسطوريّة الأصلية؛ فلا سبيل إلى استئمان المرأة، يتوجب دوما متابعتها ومراقبتها، فهي لا تخرج عن كونها عاهرة بالطبع، حتى و إن اتصفت بالطهر والعفّة. هذه الأسطورة وغيرها تتحرّك بفاعلية في الخطاب الثقافي الإسلامي، عبر رصيد مخيالي، و تساهم في تغليب خيارات معينة تجاه المرأة، لهذا فإن دخول الجانب الأدبي هذا المعترك قد ينقلب على اطمئنان الصور فيها ويحدث تغييرا لصالح المرأة.
* صونا للقواعد والقوانين عامة التي تضمن سيادة خطاب الجماعة، فافتضاح الركن الجنساني المعتم وما يخفيه من ضيم تجاه المرأة يمكن أن يولد سلسلة مقارنات مع بنى سلطوية أخرى. فقد تنهار أمامك قواعد اللغة ذاتها، موضوع الأدب الرئيسي، وأنت تتاخم متعة الحديث عن المتعة، إذ «هكذا يلعب الجنس (النحوي) دورا نحويا مماثلا للدور الذي يلعبه الجنس في الحياة الملموسة. لكن مع التأكيد على أن الجنس (النحوي) يملك استقلاله الذاتي. فهو أسمى أو أدنى بذاته. وبهذا المعنى فإن النحو العربي- وهو نحو معياري و"منطقي"- يميل إلى إبراز تفوّق الذكر. وإذا صدّقنا "الأغاني" فإن الصدفة شاءت أن يكون أول كتاب عربي في النحو قد أوحت به غلطة نحوية صدرت من أنثى هي بنت أبي الأسود الدؤلي، كما شاءت أن يخصص الباب الأول منه للتعجب وعلاقته بأفعال التفضيل»(21)...

إنها المرآة النقديّة الحداثية والعاكسة لفهم مختلف ومغاير للأدب، تبين على نحو واضح أنه يتوجب عدم التسرّع في الحكم متى تعلّقت المسألة بالفنون والآداب، فلا اللغة الأدبية لغة منطق ولا ميزانها يتبع العادة، هي مجال حي نحو خلق الاختلاف. والمغزى الذي يحرّك حركة النهضة التونسيّة في تقييد الأدب، وإقصاء جزء كبير منه. حتى وإن تبدى ذلك ضمن كلام سوقيّ مبتذل، فهو في حقيقته يضمر رهابا ثقافيا شديدا تجاه الأدب، إذ أنّ قاعدتهم المرجعيّة التي ضمنوا بها السيطرة على فئة من المجتمع التونسي تهدّدها مغامرات الأدب. منهج حركة النهضة التونسيّة هو خلق بنية ثابتة لأي فعل أدبي، واغتيال الإبداع والتحوّل ضمن نسيجه. هي تسعى إلى خلق ذهنيات أدبية تشتغل ضمن أطر التحريم، وتدّعي الإبداع. ليس غريبا إذن، فشل الحركة وأمثالها من أرباب النقد الأصولي في تقديم نموذجهم الأدبي المتفوّق، فالمجال الوحيد الذي يمكن أن تنجح فيه هذه المجموعات هو التقليد والإتباع وإقصاء الآخر(22).


1. توفيق الزيدي، عمود الشعر: في قراءة السنّة الشّعريّة عند العرب، الدار العربيّة للكتاب، 1993.
2. الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، دار القلم، بيروت، ص 64
3. سيد قطب، معالم في الطريق، دار دمشق للطباعة والنشر ص 127- 129. نصر حامد أبوزيد، نقد الخطاب الديني، دار سينا للنشر، الطبعة الثانية 1994، القاهرة ص 92.
4. محمد الشرفي، الإسلام والحرية: الالتباس التاريخي، منشورات الفنك، 2000، الدار البيضاء، ص47.
5. ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة 2005، الدار البيضاء، ص25-28.
6. موقع رابطة الأدب الإسلامي العالمية: http://www.Adabislami.org
7. راشد الغنوشي، مقالات، ضمن مقال: برامج الفلسفة وجيل الضياع، دت، ص 14.
8. راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية بتونس، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، ص 51
9. نفس المرجع، ص 50
10. راشد الغنوشي، مقالات، ضمن مقال: الأدب والأخلاق، ص 36
11. نفس المرجع، نفس الصفحة.
12. الحبيب المكني، ما هذه التماثيل؟، مجلة المعرفة، عدد 8، جوان 1978، ص 27.
13. أمين صالح وقاسم حدّاد، بيان مؤرخ في 1984 بعنوان: موت الكورس، ضمن كتاب البيانات، تحرير محمد لطفي اليوسفي، دار سرس للنشر، 1995، ص129
14. العادل خضر، الأدب عند العرب: مقاربة وسائطيّة، منشورات كلية الآدب منوبة ودار سحر للنشر، الطبعة الأولى 2004، ص440.
15. فتحي بن سلامة، تخييل الأصول: الإسلام وكتابة الحداثة، تعريب شكري مبخوت، دار الجنوب للنشر، تونس، 1995، ص40-41.
16. رجاء بن سلامة، العشق والكتابة، منشورات الجمل، كولونيا- المانيا، الطبعة الأولى 2003، ص 273.
17. نفس المرجع، نفس الصفحة.
18. آمال القرامي، الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: دراسة جندرية، دار المدى الإسلامي، بيروت، 2007، ص 708.
19. محمد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، دار الفارابي ودار محمد علي للنشر، طبعة 2005. أسطورة الزهرة، ص 205-218
20. نفس المرجع، ص 216، يوضح الأستاذ محمد عجينة هذا المعنى تبعا لهامش يتصل بمرجع تفسير الألوسي روح المعاني ويضيف «ويقول الجاحظ في كتاب الحيوان... وجعلوا الزهرة امرأة بغيّا مسخت نجما وكان اسمها أناهيد»
21. الطاهر لبيب، سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجا، ترجمة مصطفى المسناوي، عيون ودار الطليعة، الطبعة الأولى 1987، ص 14.
22. كنموذج لهذا النسق الجمالي الذي تبشر به الجماعة، قدمت جريدة الفجر لسان حركة النهضة التونسية الإعلامي، على صفحتها الأدبيّة، قصيدة لمحمد الجلّالي، مستقاة من ديوان "مرن الصمت" عنوان القصيدة "الحجاب"، أسوق في ما يلي مقتطفا منها: «مسألة الحجاب/ مسألة غريبة الأطوار/ مجهولة الأسباب/ إذا ارتدته سيّده/ من أمّة الكتاب/ فهي قدّيسة محترمة/ تذكّر الجميع/ بمريم العذراء/ سيّدة النساء/ نقيّة الجلباب/ وسلم الصّغير والكبير/ وانحنى البوّاب/ وتمنح الغفران/ لمن عصى وتاب/ وتدعو بالخلاص للجميع/ وتدعو بالثواب/..../ وإذا ارتدته سيّدة/ من أمّة الأعراب/ صدر القرار والمرسوم/ يطارد الحجاب...»جريدة الفجر، عدد6، 13 ماي 2011.



#محمد_نعمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حركة النهضة التونسية: مصادرة الممتلكات تأسيسا على الشريعة
- حركة النهضة التونسية: مؤشرات التمويل الأجنبي
- حركة النهضة التونسية: سفور المعنى


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد نعمان - حركة النهضة التونسيّة والأدب: ذهنية التحريم