|
المعدان وبابا نوئيل ......!
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 3368 - 2011 / 5 / 17 - 11:30
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
المعدان وبابا نوئيل ......! نعيم عبد مهلهل
على خريطة العالم تتناثر المدن مثل دموع المطر على نوافذ العوز بقيت تقاوم حتى حرمانها من سبل الحياة الكريمة ، فأكثر أرياف العالم تمثل المناطق الغنية في بلدانها إلا أرياف الأهوار ومدنه فقد كان الفقر ينخر في أزمنتها مثلما تنخر دودة ( الأرضة ) الخشب وجذوع النخيل والقصب الذي يتألم من شح الماء ونضوبه ، فلم تعد تحتفي بعيد كما في بقية أنحاء أخرى من العالم ، ويمكننا أن نضع حزن واحدة من هذه المدن العطشانة والمسماة مدينة ( الحَمارْ ) نموذجا لقراءة حزنها في اللحظة التي كان العالم يحتفل بأعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة . هكذا كنت أقرا عطش تلك المدن التي كنت أعيش في فردوسها القديم وامارس هواية صناعة الحلم ، وحين حطت راحلتي في مدن النيون والأمن والهدوء وفي ليلة راس السنة تذكرت ناحية ( الحَمارْ ) وقراها المائية وحزنت لبلاد تمتلك اكبر مخزون للنفط في الأرض ولم تستطع أن توفر لمدنها حلم شجرة الميلاد ومصابيحها الملونة برغبة الأطفال والآباء في حياة هادئة وكريمة ، حياة لا يموت فيها البشر من الشظايا والعطش والرصاص الملثم وأقبية الزنازين ، فكانت قراءتي عن حلم مدينة تريد أن تتخلص من عطشها وحزنها كما يريد الطفل الأوربي هنا أن يتخلص من سعادته الطافحة بالنيونات والألعاب النارية لدورة سنة جديدة: هنا في أوربا ، وفي خلسة من النجمة المستيقظة سينسل ( سانت كروز ) أو الأب ( نيكلاوس ) أو كما يسميه أبناء الأهوار العراقية ( بابا نوئيل ) عبر النوافذ العلوية لغرف الأطفال ، بدلته الحمراء ولحيته البيضاء وكيسه المليء بالهدايا ، ويضعها قرب وسائد النوم وهو يتمنى لهم ميلاداً مجيداً ليوم ولد فيه السيد المسيح ع ، فقط لينثر بذرة الخير على الأرض وتنمو وردة السلام .. من بيت لحم في فلسطين إلى وسادة مريم أصغر بناتي ( 5 ) أعوام يمضي هذا الشيخ الطيب في طرق كلها ثلوج وسرف دبابات وألغام مصائد المغفلين وشوارع لم تزفت بعد واحياء صفيح لجياع وقرى من القصب والطين وفيلات فارهة في منتجعات أثرياء الرحمة ليصل إلى هذه المدينة الهادئة في الريف الألماني ويسأل عن سومرية بريئة هجرها مزاج الزمن المتحاصص وغياب الشعور بالراحة وأنت ترتدي القميص الملون ليهديها قطعا من حلواه الشهيرة ودبهُ القطني السمين وقبلة إنسانية ليس فيها شهوة ، هؤلاء الذين يختطفون الطالبات الجامعيات في بغداد ويفعلون ما يفعلون ببأس البرابرة وبراءة المغول وتشريع ما شرعه الله في نفوسهم المريضة وبالتالي يطلبون الفدية من ذويهن ، وربما إذا كانت المختطفة غير مسلمة يجبرونها على نطق الشهادتين ، فيصير العرس نورانيا والمختطف الطيب يصير مثل فاتح ومبشر وقديس. تقع ناحية الحَمارّْ في منطقة هور الحَمارْ ضمن الحدود الإدارية لمحافظة ذي قار ــ جنوب العراق ( 360 كم بغداد ) ، وهو واحد من اكبر الأهوار العراقية يلتقي شمالا بمسطح مائي مع هور الحويزة في الجانب الإيراني عبر امتداد هور الجبايش ، وعاش هذا المكان تاريخاً مضطرباً منذ اقدم العصور بسبب التكوين المجتمعي المنعزل لسكان الأهوار ، ولهذا كانوا ومنذ الأزل بعيدا عن أي خدمة حضارية ومدنية ، ولكن هذه العزلة صنعت شعباً عنيداً احب حياته وطقوسها ونال القناعة الأزلية بأن ما يأتي به الله هو ما تقدره قناعة الروح ولهذا كانت تفتك بهم الأمراض ويموتون بصمت وقناعة ، وحتى شظايا المدافع منذ ( الدان ) العثماني إلى مدافع النمساوي لم ترهب فيهم لحظة الوجود ،لكن وجودهم اهتز مرة واحدة عندما صدر الأمر الرئاسي ( الموقر ) بتجفيف هور الحَمارْ ، وهو أعلان رسميا وعلنيا في اغتيال طبيعة والذهاب بها قسرياً إلى الانقراض حتى صار في قناعة أحدهم أن تصبح الأهوار مثل الديناصورات منقرضة ولا تعود إلى الحياة أبدا ، وصار الحنين إلى صورة سمكة الشبوط مثل ذلك الذي يحن إلى أغاني الشباب وذكريات عشق الصبا. أهل ناحية الحَمارّْ بسبب شمول عالمهم برحمة الموبايل والصحون اللاقطة التي علت سطوح بيوت الطين والقصب في منظر لا يخلو من المفارقة أن تدخل روتانا وأغنياتها الساخنة بيوت أولئك الفقراء صاروا يشاهدون العالم كله وهم ممددون على سوابيط القصب ، ولا يهمهم لسع البعوض ووخمة ( الشرجي ) الرطب عندما يحتدم الحوار حول العراق في برنامج صاخب كالأتجاه المعاكس. لقد فتح العالم لهم نوافذه ، ولكن هل استفادوا من محاسن العولمة وإشراقة ابتسامة المذيعات والإعلانات الخرافية عن تسويق عطر فرنسي أو فرشاة أسنان .؟ أظن انهم بسبب تراكم قرون الفطرة والعزلة مازالوا مشدودين إلى تلك البهرجة ، وبعضهم صار يترك علف جاموسته لأجل أن يكمل قصة الوسيم ( مهند ) في المسلسل التركي المدبلج ، وربما صاروا يحلمون كما خلق الله في العالم المتمدن بأن يأتي إليهم سانت كروز بهدايا الميلاد المجيد. لكن بابا نوئيل يخاف على نفسه من مخاطر الطريق والفتاوى ، وأشياء كثيرة قد يشك فيها مدير ناحية الحَمارْ مثلا أنها تفتح عيون أبناء المدينة فيكثر الطالب والمطالب ، وعليه أنا نفسي تمنيت لرجل الثلج أن يذهب هناك ، فكان رده : يتمنى قبل الهدايا أن تتحسن أوضاع الناس هناك ، يشربون الماء الصالح للشرب ، وتصلهم الكهرباء ، تعبد الطرق وتبنى المدارس والمراكز الصحية ، فليس من المعقول أن يملك ابن ناحية الحَمارْ احدث جهاز موبايل وهو يسعل في الصيف والشتاء ومازالت آثار البلهارزيا ظاهرة عليه ، ومازال طاعون الماشية يهدد جواميسهم وما يقتاتون عليه. ومازال العطش ينهش في أمكنتهم التي ما تعودت يوما على فراق الماء. ربما الدولة مثل بابا نوئيل تفكر بإنقاذ هكذا عالم وضعته اليونسكو ضمن محمياتها الدولية ، وعليه ينبغي أن تصير هي المعمر لهذه الناحية وغيرها من مدن الأهوار ويصبح السيد وزير الدولة لشؤون الأهوار هو بابا نوئيل ، لتكون هداياه بدلاً من النساتل والدببة والعصافير ، مدارس حديثة ومرافق سياحية ومشاريع أعمار ، أهمها مجمعات سكن لا يدخل من نوافذ بيوتها البعوض والحرمس ورائحة روث الجواميس. هذا الشعب الأزلي ، والذي صمد مع حضارته كل هذه العصور ، يحتاج مني أنا وسانت كروز والأمين العام للأمم المتحدة التقدير والثناء. هكذا كنت أحلم من أجل تلك المدن التي فقدت عذريتها وسحرها بسبب قدر البلاد وطموح ولاتها واحزانها التي صنعها براءة وفطرة الولاء للمرجع والمذهب وحسن النية تلك التي تزامن وجودها في الذات العراقية منذ أن وطئت أقدام آدم ع هذه الأرض ومنحها من بعده لذريته الفاضلة نوح وإبراهيم ولوط وأيوب ويونس والخضر ( عليهم السلام ) وغيرهم من أنبياء وقديسي بلاد الرافدين ، من ولدوا على ترابها ومن وفدوا إليها مبشرين ومصلحين وأباطرة وملوك واصحاب صحائف شعر وفلسفة وحكمة وأساطير......!
دوسلدورف 2011
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأسكندر ومعدان سمرقند ...!
-
الناصرية ...مدينةٌ يليقُ الغرام لها..
-
المعدان ...عطش ودشاديش مقلمة .........!
-
حياتي التي أتخيلها ...
-
مدينة البصرة وزفاف الأمير وليام وكيتي...!
-
سورية حسين ...ياسمينة تذبح ذبح........!
-
المحظور في ممارسة الغرام.......!
-
البابلي قاسم عبد الأمير عجام ...!
-
الخبز وسذاجة البعض وثمالة الغرام...!
-
أنا أعرف قاضيا ووزيرا وامرأة.......!
-
خمر ونساء ......وتصوف ...........!
-
رجلُ قبرهُ البحر....!
-
الجغرافيا في غيبتها الكبرى...!
-
الثورة وشاكيرا …والقبلات.!
-
عراق رومي شنايدر ...!
-
قبلات وأساطير غرام وفتاوى....!
-
مديح إلى عبد الزهرة مناتي وشارل ازنافور.....!
-
يورانيوم أحمر الشفاه ... ( سلفادور دالي والدكتاتور )........
...
-
مهرجان المربد ونلسن الدنماركي………!
-
عولمة الديك والسعال الأبوي وهوشي منه ..........!
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|