مهند حبيب السماوي
الحوار المتمدن-العدد: 3367 - 2011 / 5 / 16 - 14:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في رسالتي التي قدمتها لنيل درجة الماجستير في الفلسفة في عام 2006 حول موقف الفيلسوف الالماني فردريك نيتشه من العلم في عصره ، تطرقت الى تعريف شخصية هذا الفيلسوف بطريقة اظنها جديدة اعتمدت على رؤية منهجية ميّزت بها بين ماقاله نيشته عن نفسه في كتبه المختلفة من جهة أولى، فضلا عما قاله عنه الباحثين والعلماء سواء من كانوا من المعاصرين له او من الباحثين ممن كتبوا عنه بعد موته من جهة ثانية.
وفي الحقيقة لم يكن هدفي من وراء ملاحقة ماقاله نيتشه عن نفسه في كتبه المختلفة هو الخروج بشيء مشترك يمكن أن يؤطر هذه الاوصاف التي وصف بها نفسه بشكل
عام، وإنما كان الغرض الأساسي منه يكمن في معرفة هل كان هذا الفيلسوف الالماني مدركاً، باحتراف، مبادىء العلوم الطبيعية بحيث يؤهله ذلك لكي يقول عن نفسه بأنه كان عالماً, أم لم يكن كذلك؟ ، وهو موضوع رسالتي الأساسي التي كنت أنقب فيها عن موقف هذا الفيلسوف من العلم وتمظهراته في عصره.
أن عملية طرح الأسئلة، سواء كانت على نفس الذات أو حتى على الأخر، سوف تؤدي حتماً إلى تفجير إمكانيات عديدة تتعلق بأجوبة وأسئلة جديدة ، إذ أن "من يتعلم طرح الأسئلة لابد أن يصيبه ما أصابني " كما يقول نيتشه، وهو " أن تُفتح أمامه أفاق جديدة وهائلة وتستحوذ عليه رؤية الاحتمالات الممكنة"(1 ).
وكان نيتشه في ذلك على صواب الى حد كبير ، إذ تراه، بعد أن عجز عن معرفة نفسه وأدرك أن المرء محصن ضد نفسه، وضد عملياته لأستعراف نفسه(2 )، يُسائل نفسه متعجبا " من نحن أذن؟ "( 3)
ولم يكن تساؤله هذا عبثاً ولا اعتباطيا, بل كان ينطلق من أيمانه بالألزامات الجسيمة التي سيضعها على البشرية، كما كان يعتقد في داخل نفسه، والتي كما يقول عنها "لم يسبق لها مثيل"(4 )، بحيث تفترض منه، في الواقع، أن يعرفنا من هو صاحب هذه المهمة الخطيرة التي ستضع الزامات معينة على البشرية !.
هذا من جهة، ثم انه ينطلق أيضاً، من أجل تعريف نفسه, من جهة أخرى, تكمن في تخوفه وهاجسه المرير من أن يُخلط بينه وبين شخص آخر(5 ), أو بينه وبين كتاباته باعتباره "شيئاً وكتاباته شيئاً آخر" (6 ) على حد تعبيره، خصوصاً وهو يحمل مزارع وحدائق سرية(7 ), ولديه خلف كل كهف كهف آخر وأعمق(8 ), ويمتلك, فضلاً عن ذلك, أكثر من وجه, كما أشار هو نفسه في اعترافاته الأخيرة(9 ).
ونتيجة لذلك نجد نيتشه يصف نفسه عدة أوصاف, بلغت من الكثرة والتناقص حداً عجيباً، فهو من ناحية الأصل, وكما يقول, "نبيل بولندي لا تشوبه قطرة واحدة من الدم الفاسد الألماني على الأقل"(10 )،كما أنه في نفس الآن "أوربي طيب"(11 ) أو من الشماليين(12 )* بالإضافة إلى أنه يقر-برغم حقده على الألمان- أنه "من الألمان"(13 ).
ويعتبر نيتشه نفسه من الفلاسفة الذين ليس من السهولة أن نفهمهم ونصل إلى مدارك تفكيرهم*، فهو يعيش غربة زمانية, لأنه كما يقول قد جاء بعد فوات الأوان(14 ), أو لأنه سابق لأوانه( 15), في أشارة صريحة إلى أنه لا يعيش مع زمانه الحاضر، بل أن نيتشه يعيش, إلى جانب غربته الزمانية, غربة مكانية, عبر عنها في عبارة كررها أكثر من مرة, حينما قال: "نحن من لا وطن لنا"( 16).
وهو - بسبب هذا أو من اجل هذا- أصبح يردد في أكثر من مرة "نحن الآخرين الذين ندين بغير دين"( 17) أو "من لدينا دين مختلف"(18 )، بحيث يطمح أن يقول في عشر جمل ما يقوله الآخرون في كتاب أو ما لا يقوله الآخرون في كتاب(20 ).
ونلاحظ أن فريدريك نيتشه يحاول أن يصف نفسه بعدة أوصاف, أبتداءاً من كتابه الأول "مولد المأساة من روح الموسيقى" وحتى كتابه الأخير "أرادة القوة", حيث تعبر كل واحدة من هذه الأوصاف التي أطلقها على نفسه - فيما اعتقد - على توجه معين من توجهاته الفكرية التي حملها في فترات مختلفة من حياته.
فهو من القساة( 21), وتلميذ ديونيوس(22 )، بل وديونيوس نفسه( 23), وعالم النفس الحاوي( 24)، ومن الأرواح الحرة(25 )، والفلاسفة(26 )، بل هو من الفلاسفة الجدد(27 ), وهو أيضاً, كولمبوس(28 )، ومن الكفرة الجاحدين( 29)، والفنانين(30 )، وهو نقيض المسيح( 31)، ومن اللااخلاقيين(32 )، والأبيقوريين(33) ومن غير الفنانين(34).
كما أن نيتشه يعد نفسه من اليونانيين(35 )، وتلاميذ مدرسة الشك( 36)، وهو أيضاً من الحيوانات المدجنة(37 ), ومن العارفين بالفطرة, فاكي الألغاز( 38), وآخر الرواقيين(39 )، وهو المستقبل والهدف(40 )، والأحمق( 41), الذي يعد نوع من الفوضى(42 ) بسبب جمعه, فيما اعتقد, بين كونه فجاً ولطيفاً، فظاً ومرهقاً، غريباً وأليفاً, نتناً وطاهراً ملتقى المجانين والحكماء*.
وقد تجمعت كل هذه الأوصاف في مخيال نيتشه, بحيث أطلق, في مذكراته الموسومة بـ"هذا هو الإنسان", صرخته التي قرر من خلالها بأنه "ليس إنساناً بل عبوة ديناميت"( 43) على حد تعبيره.
وبالإضافة إلى ذلك نلاحظ - وهو أمر هام وجوهري بالنسبة لبحثنا - أن نيتشه يتمنى لو كان عالماً، فنراه يقول بأنه "كان عليه أن يكون لفترة من الزمن عالماً"( 44) لأنه كما, قال أيضاً في موضع آخر, شيء آخر غير العلماء (45 ) مما يعني أن نيتشه، بالرغم من كل ما استقرأنا من أوصاف أطلقها على نفسه في كتبه التي أطلعت عليها, وعلى الرغم من كل ادعاءات الأصالة, "وافتخاره المتكرر بأنه كان الأول والمدشن فيما يخص العديد من الأمور الجوهرية " كما يقول الفيلسوف الألماني المعاصر بيتر سلوتردايك، لم يتجرأ نيتشه مطلقاً أن يزعم أنه عالم متخصص في مجال علوم الطبيعة، أو حتى أن يصف نفسه بهذا الوصف.
وقد أصبح الجواب واضحاً, إذ أن نيتشه لم يكن مدركاً لهذه المبادئ, ولذلك لم يقل أنه عالم, مع العلم أنه ربما يملك بعض المعلومات الضئيلة عن العلوم*.
المصادر
)1) فردريك نيتشه،أصل الأخلاق وفصلها، ت حسن قبيسي، الموسوعة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت, ط1, 1981 , ص14
(2) فردريك نيتشه، أنساني مفرط في إنسانيته، ت محمد الناجي،أفريقيا الشرق،الدار البيضاء, ط1 , 1998 , ص216
(3) فردريك نيتشه، العلم الجذل، ت سعاد حرب، دار المنتخب العربي، بيروت, ط1, 2000, ص198
(4) فردريك نيتشه، هذا هو الأنسان، ت علي مصباح، منشورات دار الجمل ، كولونيا , ط2001,1, ص198
(5) فردريك نيتشه، ما وراء الخير والشر، ت جيزيلا فالور حجار، غروب حي، بيروت, ط1، 1995, ص 199
(6) فردريك نيتشه، هذا هو الأنسان، ص65
(7) فردريك نيتشه، العلم الجذل، ص38
(8) فردريك نيتشه، ما وراء الخير والشر، ص286
(9) يراجع فردريك نيتشه، هذا هو الأنسان، ص22-23
(10) فردريك نيتشه، هذا هو الأنسان، ص21
(11)
Nietzsche , Fried rich , The Will to power , tr Walter Kaufmann, Vintage books , Newyork , 1st edition , 1967 , p72
(12) فردريك نيتشه، عدو المسيح، ت جورج ميخائيل ديب, دار الحوار، اللاذقية, ط1, 2004 ص23
* الشماليون هم الجنس الذي يعيش في دول شمال أوربا
(13) فردريك نيتشه، ما وراء الخير والشر,.ص250
* سنأتي على شرح هذه السمة في خصائص الخطاب النيتشوي في هذا الفصل
(14) فردريك نيتشه، العلم الجذل ، ص24
(15) فردريك نيتشه، هذا هو الأنسان، ص65
(16) فردريك نيتشه،العلم الجذل,ص238 , يكررها في فقرة(377 ) ثلاث مرات
(17) فردريك نيتشه، ما وراء الخير والشر, ص155, ويراجع ايضاً , فردريك نيتشه، افول الأصنام، ت حسان بورقية و محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء, ط1 ،1996 ص42
(18)
Nietzsche, Friedrich, Beyond good and evil prelude to philosophy of the future, tr.R. J. Hollingdola, penguin classics, London ,6th edition, 1978, p23
(19)
Nietzsche, Friedrich, Twilight of the idols, The anti- Christ, t.R.J. Holingdolale ,penguin classics, London, 4th edition,1972,p104
(20)
Nietzsche, Friedrich, The Will to power, p73.
(21) فردريك نيتشه، هذا هو الإنسان، ص164
(22)
Nietzsche, Friedrich, Twilight of the idol, p111.
(23) فردريك نيتشه، افول الأصنام , ص6
(24) فريدريك نيتشه , ما وراء الخير والشر , ص76
(25) فريدريك العلم الجذل , ص8
(26)
Nietzsche , Friedrich , The Will to power , p516
(27) عبد الغفار مكاوي، مدرسة الحكمة ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة, ط1 ، بلا تاريخ , ص189, وهو ينقل النص من كتاب نيتشه" الفجر" الذي لم أحصل عليه
(28) فردريك نيتشه، العلم الجذل ، ص198
(29) المصدر نفسه، ص230
(30) فردريك نيتشه، هذا هو الإنسان، ص70، أفول الأصنام ص38 , أما في النص الأنكليزي للكتاب, فهو "anti Christ" أي ضد المسيح, راجع ص43
(31) فردريك نيتشه، أفول الأصنام, ص54
(32) فردريك نيتشه، العلم الجزل ، ص237
(33) فردريك نيتشه، انساني مفرط في أنسانيته، ص134
(34) فريدريك نيتشه,العلم الجذل , ص12
(35) المصدر نفسه , ص116
(36) فريدريك نيتشه , أصل الأخلاق وفصلها , ص61
(37) فريدريك نيتشه,العلم الجذل, ص149
(38) فريدريك نيتشه,ما وراء الخير والشر, ص199
(39) فردريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت , ت فليكس فارس ، المكتبة الأهلية، بيروت,ط1 ,
بلا تاريخ ، ص143
(40) فردريك نيتشه، أنساني مفرط في أنسانيته، ص177
(41) فردريك نيتشه، ما وراء الخير والشر، ص194
* هذه من ضمن الأشعار التي وصف بها فريدريك نيتشه نفسه, يُراجع مقدمة " العلم الجذل" , ص15-16
(42) فردريك نيتشه، هذا هو الأنسان، ص153
(43) فريدريك نيتشه, هذا هو الإنسان, ص 93
(44) فريدريدك نيتشه, العلم الجذل, ص 243
(45) يراجع بيتر سلوتردايك, الإنجيل الخامس لنيتشه , منشورات دار الجمل, كولونيا, ط1, 2003, ص 89
* سنلاحظ في فقرة الكتب المؤثرة مصادر معلومات نيتشه الضئيلة عن العلوم
#مهند_حبيب_السماوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟