أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - محمد علي زيني - خارطة طريق اقتصادية (الحلقة السابعة، وهي الأخيرة) (1)















المزيد.....


خارطة طريق اقتصادية (الحلقة السابعة، وهي الأخيرة) (1)


محمد علي زيني

الحوار المتمدن-العدد: 3366 - 2011 / 5 / 15 - 17:46
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


«لا يمكن أن تكون هناك حرية فردية
حقيقية مع غياب الأمن الأقتصادي»
«جستر باولز»

إن العراق بحالته الحاضرة، ولمدة عشرين سنة قادمة على الأقل، سيحتاج إلى الاستثمار الخاص المكثف في مختلف قطاعاته الاقتصادية غير النفطية، وبالأخص في قطاعي الزراعة والصناعات التحويلية. والاستثمار الخاص هذا لا بد له أن يأتي من الخارج نظراً لحاجة العراق إلى استثمارات هائلة وعدم كفاية ما سيتوفر له من الداخل. أن هذا النوع من الأستثمار – وهو ما يسمى بالأستثمار الأجنبي المباشر – سوف لن يدخل العراق ما لم تتوفر له البيئة المؤاتية. أن أول الشروط الواجب توفرها لخلق البيئة المؤاتية هو توفر الأمن والأستقرار داخل البلاد. ذلك أن الأمن والاستقرار يمثلان صخرة الأساس أو الأرضية التحتية الصلبة التي يستند عليها البناء، وبانعدام الأمن والاستقرار تنعدم القدرة على توفير البيئة المؤاتية للاستثمار. أن الهدف المنشود من الأستثمار هو ليس فقط أعادة أعمار البلاد، وإنما يشمل أيضاً – وهذا هو المهم – بناء أقتصاد مزدهر ذو نمو مستدام، وبقطاعات أنتاجية قوية ونشطة، وقاعدة واسعة ومتنوعة تدر على الحكومة ضرائب مختلفة تكون بذاتها هي المموّل الأساسي للميزانية الحكومية كل سنة – وليس النفط.

ذكرنا في الحلقات الثلاث الأخيرة - إضافة الى ضرورة وأولوية توفر الأمن والأستقرار – سبعة شروط يجب استيفائها لتحقيق حالة مناسبة من النمو الأقتصادي المستدام، وتلك الشروط هي (1) التخطيط بالأشتراك مع الشعب، (2) الشفافية، (3) تطوير الموارد البشرية، (4) البيئة المؤاتية لعمل السوق، (5) إقتصاد كلي مستقر، (6) أسواق مالية واسعة، (7) الأنفتاح على التجارة الخارجية. إن هذه الشروط، وخصوصاً الشروط الخاصة بتشجيع الاستثمار، يتحتم توفرها للمساعدة في النمو الاقتصادي، وأن ضعفها أو عدم وجود البعض منها سيحد من درجة النمو المنشود. على أن هذه الشروط لا تكفي لوحدها إذا أُريد للنمو أن يكون سريعاً، كما اتفق على ذلك العديد من اقتصاديي التنمية(2)، إذ أن هناك شروط أخرى يجب توفرها إذا توخينا السرعة في النمو المنشود. وتلك هي عوامل دايناميكية تكمن أهميتها في كونها تعمل كقاطرة للنمو السريع. أنها، باختصار، كما يلي:
سهولة في بدء الأعمال الجديدة
إن ذلك يعني تسهيل الأمور للمستثمرين وذوي الأعمال والأفكار للانطلاق من أجل إنشاء أعمال ومشاريع جديدة بأقصر مدة زمنية ممكنة. إن توفير السهولة المطلوبة من خلال اختزال الروتين وإزالة المصاعب يشجع الاستثمارات الجديدة، ويقود بالتالي إلى توسيع وتنويع القاعدة الاقتصادية.
ونظراً لأهمية هذا الشرط فقد أصبحت دول العالم تتنافس فيما بينها لتسهيل بدء الأعمال الجديدة، ومنها دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فبموجب المسح السنوي الذي يقوم به البنك الدولي وشركة التمويل العالمية، والذي شمل 183 دولة في سنة 2010، حازت السعودية على المرتبة 13 عالمياً والأولى بين دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في سهولة بدء الأعمال الجديدة.
وأشار التقرير إلى أن مصر والأمارات ظهرتا في مسح 2010 بين أفضل عشر دول بالعالم في توخي السرعة في الإصلاح. فمصر تجاوزت عشر دول مرة واحدة لتحرز المرتبة 106 بينما تجاوزت الأمارات 14 دولة لتحرز المرتبة 33، فيما أحرزت سنغافورة المرتبة الأولى، وللمرة الثانية على التوالي، كما استمرت جمهورية إفريقيا الوسطى بمكانها في أسفل القائمة.
أما العراق، فإنه يجري عكس التيار مع الأسف، رغم كونه في أمس الحاجة للاستثمار وإقامة المشاريع الجديدة. فمرتبته بين دول العالم مستمرة بالتدهور، كما يشير التقرير(3). فبينما قامت الأمارات بالتخلص من شرط الحد الأدنى لرأس المال وتبسيط إجراءات التسجيل، وقامت مصر بتقليل كلفة بدء الأعمال الجديدة والإسراع بمنح رُخص البناء وتوسيع حجم المعلومات التي توفرها دائرة الائتمان الخاص وإنشاء محاكم تجارية للإسراع بالفصل في النزاعات التعاقدية، وقامت السعودية بإنشاء مركز الموقف الواحد (One-stop Centre) لتسجيل الأعمال وتسريع عمليات منح رُخص البناء، نجد أن العراق يتراجع في هذا المضمار من سنة لأخرى، حيث انخفضت مرتبته العالمية من 145 للسنة 2007 إلى 153 للسنة 2010، بالرغم من وجود الهيئة الوطنية للأستثمار يرأسها موظف بدرجة وزير، كما يتوفر لكل محافظة هيئة أستثمار خاصة بها.
ضرائب أقل وحكومة أصغر
إن الضرائب غير العالية ستزيد من هامش الربح وتشجع على الاستثمار. أما الحكومة الصغيرة فهي تقود إلى مصروفات أقل وكفاءة عالية في العمل، وهذا هو الآن موضوع الساعة بالنسبة للعراق في الوقت الحاظر، بعد أن أصبحت الرواتب والأجور والمخصصات وما يدور في فلكها تلتهم حصة الأسد من الميزانية الحكومية التي انتهت بالأعتماد شبه الكامل على ما تدره صادرات العراق النفطية.
على أن ترشيد حجم الحكومة لا يعني سد أبواب التوظيف أمام طلاب العمل ونشر البطالة بين السكان، وإنما يعني أن حكومة ضامرة وكفوءة وخالية من البيروقراطية والفساد هي الأقدر على جذب القطاع الخاص (العراقي والعربي والأجنبي) وتشجيعه على الاستثمار من خلال توفير التسهلات اللازمة. وكنتيجة لتلك الجهود سينتهي القطاع الخاص كونه هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي الحقيقي وهو الجانب الأهم في خلق فرص العمل وتوظيف العمالة في البلد، أما المجال الحكومي فسيكون هو الأصغر في معادلة التوظيف. إن ذلك سينطوي على القضاء تدريجياً على البطالة المقنعة والضاربة أطنابها لدى الحكومة في الوقت الحاضر. ذلك أن العراق أصبح يعاني من ترهل حكومي رهيب تتلازم معه بيروقراطية مستحكمة تغذي وتتغذى على الفساد الذي استشرى بجميع مفاصل الدولة، وهذه الحالة تقف بالوقت الحاظر عقبة كأداء أمام الأستثمار.
تكوين أو تراكم رأس المال (Capital Formation)
إن هذا المبدأ معروف وقد تعرضنا له في الحلقة الأولى من هذه السلسلة. فتكوين رأس المال هو عبارة عن تراكم الاستثمارات لبناء وتوسيع قاعدة البلد الإنتاجية. إن تراكم رأس المال هو الأساس الذي يستند إليه نمو الناتج المحلي، وبتراكم رأس المال تتحسن باستمرار إنتاجية القوة العاملة. ولا ينبغي لتكوين رأس المال في العراق أن تقل مساهمته عن40% في الناتج المحلي الإجمالي، كمعدل، في فترة العقدين القادمين، بل من الأحرى أن لا يقل تكوين رأس المال في الناتج المحلي الإجمالي عن 48% خلال العقد الأول من فترة العشرين سنة القادمة، وهي فترة نهوض الاقتصاد العراقي. وقد أوضحنا هذا الأمر في الحلقة الأولى عند كلامنا عن تخمين الاستثمارات المطلوبة أو الحاجة الى المال.
الابتكار ونقل التكنولوجيا إلى داخل البلد
إن الابتكار، مقارنة بالتقليد، وكذلك نقل التكنولوجيا يعتبران من المحركات الأساسية لعملية التنمية. ومن أجل دعم الابتكار تقوم الحكومة بالمشاركة مع القطاع الخاص والجامعات في تمويل عمليات البحوث والتطوير وتشجيعها. أما نقل التكنولوجيا إلى داخل البلد فيتم بواسطة الاستثمار الأجنبي وكذلك شراء تراخيص المنتجات الأجنبية والابتكارات لإنشاء الصناعات على أساسها في داخل البلد.
التصدير
لقد تجاوزت نسبة قيمة الصادرات النفطية إلى قيمة الصادرات الكلية في العراق 95 بالمائة خلال فترة الخمس سنوات 2005 - 2009(4). إن ذلك يعني أن نسبة قيمة الصادرات العراقية غير النفطية هي أقل من خمسة بالمائة من قيمة صادراته الكلية، وأن هذه النسبة تبدو قليلة جداً خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الصادرات غير النفطية يتكون أغلبها من منتجات أولية وليست مصنعة.
إن هذا الخلل الكبير المهدِّد لأمن العراق تستره عادة العوائد النفطية الكبيرة، إذ هي تمكّن العراق من استيراد كل شيء يحتاجه من الخارج. غير أن هذا الخلل تكشفت خطورته وآثاره الرهيبه خلال الحصار الاقتصادي، حين لم يعد بإمكان العراق استيراد حتى الغذاء والدواء اللذين لم يمنعهما الحصار. وحتى لو كان فُرض في بادئ الأمر حصار جزئي يقضي بمقاطعة العراق «نفطيا» فقط، لما تغيرت حالة العراق كثيراً عمّا أصبحت عليه تحت الحصار الكلي، ذلك أن العراق بطبيعة قاعدته الإنتاجية التي رأيناها لا يتمكن من تصدير أي شيء مهم عدا النفط، وبالمقابل لن يتمكن من استيراد أي شيء مهم في غياب العملات الصعبة ومصدرها العوائد النفطية. لذلك انهارت قيمة الدينار العراقي وعمّ الغلاء الفاحش في البلاد بعد فترة وجيزة من الحصار تبخّرت خلالها أغلب موجودات العراق من العملات الصعبة.
إن أي بلد بالعالم لا يتمكن من الاستيراد ما لم يتمكن من التصدير، لأنّ الصادرات هي التي تدفع ثمن الواردات. وهذا ينطبق على العراق، بالطبع، فقدرته على الاستيراد مقيدة بقدرته على التصدير. ورب وطني مخلص من العراق يقول: دعونا، إذن، نتوجه نحو الاكتفاء الذاتي ولتذهب التجارة الخارجية في هذه الحالة إلى الجحيم! إن هذا غير ممكن في بلد صغير، وحتى إذا كان ذلك ممكناً ـ على نطاق الوطن العربي مثلاً أو على نطاق دولة كبيرة غنية بمختلف الموارد كالولايات المتحدة الأمريكية ـ فإنّ ذلك توجه غير اقتصادي.
وسبب ذلك أن محاولة الاكتفاء الذاتي (Autarky)، أو الانغلاق الاقتصادي، ستقود البلد إلى مجالات في الإنتاج عالية الكلفة، وهذا من شأنه أن يقلل من كفاءة تخصيص الموارد (Efficient Allocation of Resources) وبالتالي يؤدي إلى تبديد موارد البلد وإفقاره. وبعكس ذلك فإن الانفتاح الاقـتـصادي يزيد من كفاءة تخصيص موارد البلد ويدفعه إلى التصدير في المجالات التي تـتـمـتـع بها صادراته بأفضلية نسبية (Comparative Advantage) والاستيراد في المجالات التي يكون فيها الإنتاج محلياً ذو كلفة عالية. وبذلك تزدهر التجارة الخارجية ومعها يزدهر الاقتصاد العالمي، وما يستتبع ذلك من ازدهار الاقتصادات المنفردة المكونة له.
إن دور النفط قد لا يدوم طويلاً، ليس لأنه سينفد – فإن احتياطياته كبيرة في العراق وفي بلدان عربية أخرى – بل لأنّ الحاجة له، كمصدر للطاقة، ربما ستقل كثيرا في المستقبل بسبب الجهود المتزايدة لحماية البيئة، وبسبب البحوث المحمومة عن طاقات بديلة قد تتوفر بصورة اقتصادية لربما في المستقبل المنظور. فالتحول نحو الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة وبالأخص كوقود لتوليد الطاقة الكهربائية يتزايد زخمه بمر الزمن نظرا لنظافة الغاز الطبيعي وعلوّ كفاءته ورخص أسعاره نسبياً مقارنة مع النفط. كما أن البحوث تجري الآن على قدم وساق لاستعمال الكهرباء والهيدروجين كمصدر للطاقة في وسائط النقل، علما أن النفط يحتكر الآن قطاع النقل دون منازع مهم وأن ما يقارب من نصف الطلب العالمي على النفط مصدره قطاع النقل. إن تحول الاقتصاد العالمي من الاعتماد على النفط إلى الاعتماد على الهيدروجين والطاقة الكهربائية المتولدة من مصادر طاقة أولية غير النفط (كالغاز والفحم النظيف والطاقة الشمسية والذرية) قد لا يكون بعيدا، وقد يتحقق في أوائل النصف الثاني من هذا القرن.
لذلك يتحتم على العراق – كما يتحتم على الدول العربية الأخرى – التوجه نحو بناء قاعدة إنتاجية عريضة وتنويع الصادرات وتوسيعها بدلا من الاعتماد الرئيسي على صادرات النفط الخام إن هو أراد الحفاظ على قدرة معقولة على الاستيراد. إن أول ما يجب أن يتوجه له العراق هو إنشاء صناعات كثيفة العمالة، فهذه لها فائدتان: الأولى توفير فرص العمل للمواطنين، وهذا أحد الأهداف الرئيسية لعملية التنمية، والثانية هي أن الصناعات كثيفة العمالة (الرخيصة) قادرة على المنافسة واختراق أسواق الدول الصناعية، وهذه بداية جيدة للدول المبتدئة التي تحاول ارتقاء سلم التصدير الصناعي من الأسفل للّحاق بدول نامية أخرى سبقتها على ذلك السلم.
إن الانفتاح على التجارة الخارجية يساعد في زيادة المنافسة ويجبر المنتجين على تخفيض كلفة الإنتاج من خلال نقل التكنولوجيا وتطوير منتجات جديدة وبنوعية أفضل. فالمنافسة الداخلية التي تثيرها البضائع الأجنبية المستوردة، وكذلك المنافسة الخارجية التي تواجهها البضائع الوطنية المصدرة، تساهم كثيراً في تحسين الكفاية الإنتاجية للبلدان ذات الاقتصاد المنفتح على الخارج.
إن الإنتاج بكفاءة عالية وبنوعية قادرة على المنافسة العالمية يساعد على كسر القيود التي تفرضها السوق المحلية الضيقة. فدولة صغيرة كسنغافورة لم يتجاوز تعداد سكانها أربعة ملايين نسمة في سنة 2000 بلغت صادراتها حوالي 140 مليار دولار في تلك السنة في حين لم تتجاوز صادرات البرازيل 55 مليار دولار وهي دولة بلغ تعداد سكانها في نفس السنة حوالي 168 مليون نسمة(5).
إن السوق العراقية هي، بحد ذاتها، سوق ضيقة لا تقوى على الاستيعاب الكامل لإنتاج المنشآت الكبيرة ذات الكلفة التنافيسة المستندة بجانب كبير منها على استغلال وفورات الحجم. ويتعين على العراق في هذه الحالة الانضمام إلى تكتل اقتصادي إقليمي أو تكتلات اقتصادية إقليمية تفتح أسواقها أمام الصادرات العراقية وتعينه على الاستغلال الأمثل لطاقاته الإنتاجية. فعالم اليوم هو عالم التكتلات الاقتصادية الكبيرة التي تسمح بانسياب السلع والخدمات بحرية فيما بين أسواقها، والتي تتمكن من التعامل مع الظروف والمستجدات الاقتصادية على الساحة الدولية. ولعل الثورات العربية المباركة التي يستعر أوارها الآن للتخلص من الأنظمة المستبدة الفاسدة ستمهد الطريق لقيام تكتل أقتصادي عربي ناجح بعد الفشل المستمر الذي لاقته الجهود في هذا المضمار والتي بدأت منذ منتصف القرن الماضي. أضافة لهذا وذاك،ً يتحتم على العراق الانضمام لمنظمة التجارة العالمية بعد إعادة بناء اقتصاده من أجل الإنتاج بمستوى يساعده على اختراق الأسواق العالمية.
إن ما نريد قوله من كل ما ذكرناه هنا هو أن على العراق أن يتبع طريق التحرر الاقتصادي والانفتاح على التجارة الخارجية والتوجه نحو التصدير. إن تحقيق ما نقوله ليس بالشيء الهين، فهذا الأمر تواجهه صعوبات جمة، داخلياً وخارجياً. ولكن ما هو البديل؟ البديل هو أن تبقى قاعدة الإنتاج العراقية ضيقة ومتخلفة وعالية الكلفة. إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وأن على العراق أن يغذّ الخطى في طريق التحرر الاقتصادي والانفتاح على الاقتصاد العالمي، وإلاّ فإنّ البديل ليس مرغوباً به أبداً.
خاتمة: ولكن ماذا عن الفساد؟
لا يمكن أن تكون هناك دولة على وجه الأرض دون أن يكون فيها فساد، إلا أذا كان سكانها كلهم أنبياء أو ملائكة. على أن الفساد تتفاوت درجاته فيما بين الدول. فهناك دول في قمة النزاهة، مثل الدنمارك ونيوزيلندا وسنغافورة والسويد، ولكنها ليست نزيهة بالكامل لاستحالة هذا الأمر. فمثلاً نجد أن الدنمارك ونيوزيلندا وسنغافورة حصلت كل منها على 9.3 من 10.0 في المسح العالمي لمؤشر الفساد لسنة 2010، وحازت هذه الدول الثلاث على تسلسل رقم واحد، أي كانت في قمة النزاهة لذلك العام. ولكن تلك الدول لم تكن نزيهة بالكامل، وإلا لحصلت كل منها على 10 من 10 - إنها النفس الأمارة بالسوء! ثم هناك دول مثل الصومال وميانمار وأفغانستان والعراق أصبح تسلسلها الأعتيادي في أسفل السُلّم، وهو موقع الحضيض بمقياس النزاهة.
من الملاحَظ أن الدول التي تتمتع بدرجة عالية من النزاهة هي دول مؤسات، تنفصل فيها السلطات الثلاث تماماً الواحدة عن الأخرى، قضائها يتمتع بأقصى درجات الأستقلال، قوانينها تُحترم وتطبق على كافة الناس دون تمييز، بتعبير آخر أن ماسح الأحذية ومعلم المدرسة ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية كلهم متساوون أمام القانون، وسلطتها الرابعة (وسائل الأعلام) تتمتع بحرية غير منقوصة. في بيئة كهذة يتراجع الفساد بشدة، ويسقط السياسي، مهما كانت مرتبته فيها سقوطاً مُدوياً، حال افتضاح أمره بارتكاب هَنة من فساد. على العكس من ذلك نجد أن الدول الساقطة في وحل الفساد تتغول فيها السلطة التنفيذية ولها السيطرة – زادت أم نقصت - على بقية السلطات والمؤسسات، لايُحترم فيها القانون ولايتساوى المواطنون أمامه، حرية وسائل الأعلام فيها مُقيدة، وفيها يمارس كبراء السلطة الفساد دون وجل أو خجل، ثم على خُطاهم يمشى صغراء السلطة، يمارسون الفساد بنفس الهمّة، على سليقة "إذا كان ربّ البيت بالدف ناقراً..". ولربما هكذا سينتهي العراق – إن بقيت الأمور على هذه الشاكلة لا سمح الله!
الخوف، كل الخوف، على مصير البلاد، حين تأخذ السلطة على عاتقها شرعنة الفساد، وهذا ما بدأه الحكام العراقيون بعد رحيل الحاكم المدني الأمريكي بريمر. فالرواتب والمخصصات الفلكية للرؤساء ونوابهم والوزراء وأعضاء الجمعية الوطنية وأعضاء مجلس النواب وأصحاب الدرجات الخاصة وأصحاب الرتب العليا من العسكريين وقوى الأمن الداخلي، كل ذلك فساد. ومنح الرواتب التقاعدية العالية لهؤلاء حتى ولو بعد فترة خدمة وجيزة، خلافاً لقوانين الخدمة المدنية المعمول بها لموظفي الدولة، فساد. ومنع ملاحقة الموظف المتهم بالفساد من دون إذن الوزير فساد. وعدم إلزام مسؤولي الدولة، بضمنهم أعضاء مجلس النواب، بتقديم جرد كامل عن أموالهم فساد. وتشكيل حكومة أخطبوطية من 42 وزير أو أكثر، وما يستتبع ذلك من أرهاق لخزينة الدولة، لمجرد إرضاء الكتل السياسية المختلفة فساد، ثم القيام بعد ذلك بتعيين نصف أولئك الوزراء كوزراء دولة لا عمل حقيقي لهم فساد، وتعيين ثلاثة نوّاب لكل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء فساد. وقيام رئيس الوزراء بالعفو عن الآلاف من حالات الفساد بحجة مقتضيات المصالحة الوطنية فساد، والتستر على الفساد فساد.
تلك أمثلة على قيام السلطة العراقية بممارسة الفساد بصورة شرعية، أي بموجب القانون، أما ممارسة الفساد داخل العراق خلافاً للقانون فحدث عن ذلك ولا حرج! فالفساد بتلاوينه المختلفة قد استشرى في عامة البلاد طولاً وعرضاً وتغلغل بكافة مرافق الدولة ومفاصلها وانتشر بين موظفي الحكومة العراقية من كبيرها الى صغيرها(6). فالموظفون الكبار، ومن بينهم وزراء، يسرقون مئات ملايين الدولارات ويهربون الى خارج العراق، ولم نسمع أن أحداً من الهاربين قُبض عليه وقُدّم للمحاكمة. حتى أولائك الساسة المشبوهين داخل العراق، لاخوف عليهم ولا هم يحزنون، فلن يمسهم أحد بسوء لكونهم أما تحت حماية حصاناتهم التي يوفرها لهم القانون أو هم آمنون في حماية كتلهم السياسية. ويبقى الشعب العراقي المستلب يسمع بين الفينة والفينة عن حالات من الفساد تثير العجب العجاب، ولكنه مجرد سماع، إذ كالعادة، يتقدم الناطق بأسم الحكومة – بعد العجز عن "طمطمة" الفضيحة – ليعلن على الملأ إن القضية قيد التحقيق والمشتبه بهم سيحاسبون، ثم ينسى الناس بسرعة عن تلك الفضيحة لأن ذاكرة المجتمع قصيرة كما هو معروف - وكفى الله المؤمنين القتال!
سيلاحظ القارئ الكريم أننا لم نذكر الفساد - أو بالأحرى غياب الفساد - بين الشروط الخمسة التي أتينا عليها في هذه الحلقة شرحاً ونقداً، وأنما أشرنا أليه عرضاً عند الكلام عن مقدار الضرائب وحجم الحكومة. أن عدم الحاجة لاشتراط النزاهة كعامل يجب توفره من أجل جذب الأستثمارات وتسريع عملية التنمية يصبح وارداً عندما تكون حالة البلاد أعتيادية، أي أن الفساد يمارس فيها بهذا القدر أو ذاك كما هي الحالة في غالبية بلدان المعمورة، ولا يسلم بلد من هذا الشر مهما بلغت الجهود فيه لمحق الفساد، كما بينّا أعلاه. ولكن الأمر يختلف تماماً عندما يتطور الفساد في بلد ما لأسباب تخص ذلك البلد ليصبح مرضاً كالسرطان في الجسم المعتل لا مناص من القضاء عليه، وإلاّ فالنتيجة معروفة. لذلك عندما يتطور الفساد الى مرض مستوطن، خصوصاً أذا أصبحت الحكومه تقوده وتحمل عَلمه، خلسة تارة وعلناً تارة أخرى، كما هي الحالة في العراق الآن، فأن الشعب في هذه الحالة لن يسلم ثرواته بأيادي الفاسدين فيصبح مثله كمثل من يسلّم قطيعاً من الغنم الى مجموعة من الذئاب لحراسته.
لذلك، وكما يشترط المستثمر ضرورة توفر الأمن في البلاد قبل كل شيئ آخر، وبغيابه يغيب الأستثمار(7)، حيث أن هذا الشرط يعتبر كالصلاة عند المسلم، إن فسدت فسد ما سواها، كذلك شرط النزاهة عند الشعب، فهو لن يسلم ثرواته، أرضاً أو مالاً، لحكومة فاسدة على أمل أستغلال تلك الثروات لأعمار البلاد، فالفاسد يخرّب ولا يعمّر. ومَن عنده أدنى شك في هذا القول عليه أن يسأل: مقابل المليارات التي دخلت العراق منذ 2003 ثم صُرفت، أين الكهرباء؟ أين الماء الصالح للشرب؟ أين الخدمات التعليمية؟ أين الخدمات الصحية؟ ماذا حلّ بمكونات البطاقة التموينية رغم صرف المليارات؟ لماذا تطفح المجاري عند أقل كمية من المطر؟ لماذا لا تُبلّط الشوارع والطرقات؟ لماذا لا تُرفع القمامة حتى أصبحت مدن العراق مزابل، وأصبحت بغداد أقذر مدينة بالعالم؟ لماذا أصبح نصف الشعب فقيراً وربعه يعيش تحت خط الفقر؟ لماذا تدهور القطاعان المهمان الصناعي والزراعي في العراق؟ أين هي فُرص العمل الواجب توفيرها للمواطنين؟ لماذا انتهت الحكومة كونها الملجأ الوحيد للباحثين عن العمل؟
تلك هي أسئلة جوابها واحد، وهو معروف لدى الشعب العراقي. إنه الفساد بنوعيه المالي والأداري. فالفساد المالي يبدد أموال الشعب. أما الفساد الأداري فهو يفتح الأبواب أمام عديمي الكفاءة والمزوّرين والمحتالين ويضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب. مثل هؤلاء لن يطوّروا اقتصاداً ولن يبنوا بلداً. أن خارطة طريق أقتصادية مثلما تم عرضها في هذه الحلقات السبع سوف لن تجدي نفعاً بوجود حكومة فاسدة. إن خطة أقتصادية طموحة، هدفها إعادة بناء العراق وتطوير أقتصاده والأرتقاء بحياة شعبه الى مستوى مقبول من الرفاهية والعيش الكريم لن يتمكن منها وينفذها إلاّ حكومة نزيهة ومقتدرة.
_______________________________________________________________________
(1) هذا المقال مقتبس – مع أجراء بعض الأضافات والتحويرات المناسبة – من كتاب الدكتور محمد علي زيني "ا لأقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل"، الطبعة الثالثة 2010. يمكن تنزيل الكتاب كاملاً من الموقع:
www.muhammadalizainy.com
كذلك يمكن الأطلاع على الحلقات السابقة من هذا المقال بالرجوع الى موقع الكاتب في الحوار المتمدن، وهو على الأنترنت بعنوان:
http://www.ahewar.org/m.asp?i=3340
Peter K. Cornelius and Andrew M. Warner, 2003, Engines of Growth for the Arab world, in The Arab (2)
World Competitiveness Report 2002 - 2003, PP. 2-14.
MEES, 14 September 2009, PP. 17-19. (3)
(4) النشرة الأحصائية السنوية لمنظمة أوبك (2009).
(5) استلت الأرقام من الكتاب الإحصائي لسنة 2001 الصادر عن صندوق النقد الدولي.
(6) أنظر في هذا الصدد: محمد علي زيني، "الفساد في العراق"، الحوار المتمدن، الموقع الفرعي للكاتب، بواسطة الرابط:
http://www.ahewar.org/m.asp?i=3340&st=0&ac=1
(7) راجع الحلقة الرابعة من هذه السلسلة.



#محمد_علي_زيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خارطة طريق اقتصادية (الحلقة السادسة) (1)
- خارطة طريق اقتصادية (الحلقة الخامسة) (1)
- خارطة طريق اقتصادية (الحلقة الرابعة) (1)
- خارطة طريق اقتصادية (الحلقة الثالثة) (1)
- خارطة طريق اقتصادية (الحلقة الثانية)
- خارطة طريق إقتصادية (الحلقة الأولى)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة السادسة، وهي الأخيرة)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الخامسة)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الرابعة)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الثالثة)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الثانية)(1)
- الفساد في العراق (الحلقة الأولى)*
- صفقة الغاز مع شل مُدمّرة للصناعات العراقيية
- نعم جولتي التراخيص النفطية هي تبديد لثروة الشعب العراقي، بل ...
- الغاز الطبيعي العراقي: هدرٌ أم استغلال لمصلحة الوطن ؟
- وزارة النفط وغاز العراق ومحنة الشعب العراقي
- الاقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل
- دولة القانون تبدد 75 مليار دولار من أموال الشعب العراقي وتعر ...


المزيد.....




- -خفض التكاليف وتسريح العمال-.. أزمات اقتصادية تضرب شركات الس ...
- أرامكو السعودية تتجه لزيادة الديون و توزيعات الأرباح
- أسعار النفط عند أعلى مستوى في نحو 10 أيام
- قطر تطلق مشروعا سياحيا بـ3 مليارات دولار
- السودان يعقد أول مؤتمر اقتصادي لزيادة الإيرادات في زمن الحرب ...
- نائبة رئيس وزراء بلجيكا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات ...
- اقتصادي: التعداد سيؤدي لزيادة حصة بعض المحافظات من تنمية الأ ...
- تركيا تضخ ملايين إضافية في الاقتصاد المصري
- للمرة الثانية في يوم واحد.. -البيتكوين- تواصل صعودها وتسجل م ...
- مصر تخسر 70% من إيرادات قناة السويس بسبب توترات البحر الأحمر ...


المزيد.....

- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - محمد علي زيني - خارطة طريق اقتصادية (الحلقة السابعة، وهي الأخيرة) (1)