جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3365 - 2011 / 5 / 14 - 23:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا أستطيع القول أن لي أولاد على عدد شعر رأسي بل على عدد ما كتبتُ أو ما ولدته من حروف وكلمات فالمرأة تحمل الجنين في رحمها وأنا أحمل الكلمات في صدري وفي رأسي ومن ثم ألدها ولادة طبيعية من شفتي ومن قلبي ومن صدري ومن لساني ومن كل جرح في جسمي, فأنا كاتبٌ أتكاثرُ وأتناسلُ بالبيض وبالولادة لأنني أبيض كلماتي من رأسي ومن فؤادي وألدها ولادة من داخل أعماقي, وأنا كلي على بعضي إنسان متكونٌ من المفردات ومن الجمل ومخلوق من سائل منوي تتواجد بداخله كل كروموسومات الفلاسفة والكتاب والمبدعين والمثقفين من نحاتين ورسامين وشعراء وكُتّاب روايات وقصص ومسرح, فجميعهم لهم مني موصول الشكر على ما بذلوه من جهد في سبيل صقل روحي.
وحين أضع أصابع يدي على الكيبورد للكتابة أشعرُ بأنني لست أنا هذا الشخص الذي يضع اسمه على المقال أو القصيدة ودائما ما أفكر بكتابة مقالات دون أن أضع عليها اسمي لأنني أشعرُ بأن ملكيتها لا تعود إلى اسمي وجسمي ورسمي بل تعود إلى مخلوق آخر فيه كل المواصفات التي تشبهني ولكنه ليس أنا, إنني أشعر بأن الذي يكتب شخصٌ آخر ليس أنا وما أنا إلا ناقل أو (فقاصة كلمات) أو ناسخ لِما يمليه هو على يدي فليس من المعقول أن أكون أنا, إنه من عاشر المستحيلات أن يكون(أنا) صاحب أو كاتب المقالات الموضوع عليها اسمي , وعندي دليل 100% أن الذي يكتب مقالاتي كلها ليس أنا وعندي احتمال أنني شخص غشاش يغش كل كتاباته عن شخص آخر يعشش في مخي ويقوم هو بتلقيحي,والدليل أنني حين أقرأ المقال بعد كتابته أشعرُ بأنني لأول مرة قد قرأته في حياتي وأقسم بأنني لم ألاحظه من ذي قبل بيدي أو بلساني أو بقلبي, ولا أعرف ما الذي سأحمله في رأسي بعد ساعة أو ساعتين ولا أدري متى سيأتينني مخاض ولادة الكلمات ففترة حملي أو فتراتُ حملي بالكلمات تطول وتقصر فأحيانا ساعة وأحيانا يوما وأحيانا يومين وكثيرا ما كنتُ أتوقف عن الكتابة ليوم أو يومين أو عشرة أيام بالحد الأقصى وذلك أنني أكون في حالة انتظار لِما سأضعه فلا أعرف إن كنت اليوم سأضع أو سألد أو سأبيض قصةً قصيرة أم قصيدة تفعيلة أم قصيدة حرة أم قصيدة عمودية أو مقالا من هنا وهناك أم نقدا دينيا, فلا أدري مثلا ما سيضعه في قلبي ملهم كلماتي ومعلمي الذي يعلمني كيف أكتب وكيف أصنع من البذرة الصغيرة شجرة كبيرة لها أفرع وأغصان وسيقان جميلة باللون البرونزي, فأحيانا أشعر (بالطلقة الأولى) وأنا أمشي في السوق فأدخل مقهى انترنت لكي أضع كلماتي على الكيبورد, وأحيانا يأتيني (الطلق) وأنا نائم فأنهض من النوم مباشرة إلى غرفة الولادة, صحيح أن الناس يسمونها غرفة المكتب أو الكتابة إلا أنا أسميها غرفة الولادة فلقد ولدت فيها كثيرا من المقالات وأحيانا ولادتي غير طبيعية تتم عبر طريقة فتح الرأس وفتح الجمجمة أو كسرها أو فتح الجرح من جديد, وأحيانا تتمُ عملية الولادة من خلال سحب ومد وجذب وشد وصراخ ومن ثم أضع مقالي بين يدي أو الكلمة التي ولدتها بين يدي وأنظر فيها لأبحث لها عن شبه يشبه أحد أقربائي فلا أجد لكلماتي أي شبه بأي إنسان من أقربائي, فكلماتي لا تشبه أعمامي ولا أخوالي ولا تشبه جيراني ولا تشبه أولادي إنها لا تشبه إلا الكاتب الذي خلقها.
وفي بعض الأحيان أشعر بألم في بطني بعد عملية الولادة وأحياناً أشعرُ بنزيف داخلي يأتيني بعد ولادة كل فكرة, وأكثر الأفكار المولودة من رأسي تتسببُ لي بنزيف داخلي يؤلمني لأيامٍ أو لساعات, وكثيرا ما يتوقف النزيف لوحده دون أن أأخذ أي مانع للنزيف, وفي بعض الأحيان أستلذ على نزيف جراحي حين يكون النزيف من اللسان أو من القلب أو من الجرح الكبير.
إن الكتابة حين يأتيني وقتها أخرج عن طوري وأخرج عن وعيي الذي أنا به, وأشعرُ بأنني ارتقيت من مستوى الإنسان الطبيعي إلى مستوى إنسان آخر غير طبيعي, إنه ليس أنا ذلك الذي يكتب كل هذه الكلمات إنه شخص آخر يشبهني في كل التفاصيل ويسكن جسدي معي وأشعرُ حين أكتبُ بأنني ألد الكلمات ولادة بعد أن حبلت بها بواسطة الهموم والأحزان ومشاكل الطفر والفقر المدقع التي تلاحقني بسبب ما ألده من حروف وكلمات, أنا أكتب حزني, أنا أكتبُ عن نزيفي, وأنا أكتبُ عن حياتي والتي هي حياة غالبية الأردنيين والعرب أجمعين, وأكتب همي وصراخي وأعصر من حبري ألمي, أنا ألد الكلمات ولادة ولا أدري متى يأتيني المخاض أو (طلق الولادة) أنا أنسخ اسمي في نهاية المقال أو القصيدة وأنا عندي الشك 100% بأنني لست الكاتب ذلك أنني حين أقرأ ما أكتبه وحين أشاهد ما ألده من كلمات أقول بكل صدق(لستُ أنا), وغالباً ما أتأثرُ بأسلوب الكاتب أيما تأثير وكأن الكاتب ليس أنا وأبكي عليه وعلى آلامه, فهل تشعرون معي بآلام الكاتب التي تؤلمه وتؤلمني كلماته؟ وهل تشعرون بصعوبة (طلق الولادة) أنا ألد كل يوم وأحياناً ألدُ في اليوم مرتين وأحيانا ألِدُ مرة وأبيض مرتين, وأتفاجأ جدا بكلماتي وبأسلوبي وأقول: هل من المعقول أن هذا أنا!!فهل من المعقول أن هذا الذي كتب هذا المقال أنا أم أنني نسخته نسخاً! ليس معقولا أن يطلع مني كل هذا الكلام وليس من المعقول أن يفيض مني كل هذا التعبير وأقول إنه لا بد وأنه شخص آخر ليس أنا فهنالك شخص آخر في داخلي يكتبُ باسمي ويفكر بدلا عني, فمتى كتبتُ هذه الكلمات ومتى؟ووصفت كل هذا الوصف؟! ومتى دخلت هذا العالم!الكتابة تأتيني ولا آتيها, تلاحقني ولا ألاحقها, إنها معجبة بي وتحب تعذيبي بل وتتألق كثيرا في عذابي وتتفنن كثيرا في ابتداع أساليب جديدة للقهر وللتعذيب, إنها تفتح في رأسي شوارع وحارات ومدن وعوالم ليست موجودة على أرض الواقع, وإنها تستفزني حتى وأنا نائم, وتفتح قلبي وتحرك لساني وتضم شفتيي وتفتحهما دون أن أستطيع التحكم بشفاهي أو لساني أو باب قلبي وحين أصحو أجد نفسي قد انتهيت من الكتابة وارتحت أو وضعت رأسي لأرتاح والكلمات والسطور ممددة أمامي كأنها مولود جديد ولدته من بين شفتي, الكتابةُ تغزوني بجيوشها وبأسلحتها وبأدواتها وليس عندي جيش لأغزوها أو لأجند ضدها الجيوش والآلات, الكتابة ترفعني من الأرض إلى السماء تجعلني أشعر بأنني شخص آخر إنها مرض فصامي تفصلني عن آدميتي وعن جنسي وعن لوني وعن أهلي وناسي, الكتابةُ تحملني بين يديها إلى السماء حين تزورني وحين تأتيني بكل الحروف وبكل الأبجديات ومن ثم تعيدني إنسانا آدميا إلى الأرض حاملا في عقلي وقلبي ولساني كتاب ألله الأخير الذي يؤلفه على لساني, وغالبا ما أشك بأنني نبي مرسل من الرب وأشعرُ بأن كل كلماتي تأتيني وحيا منه نزل على لساني, إن الكتابة تجعلني أشعر بأنني أنتج نصا مقدسا وشيئا ليس من صنع البشر وتأخذني معها إلى أبعد العوالم تلك العوالم التي لا يصلُ إليها إلا أمثالي من السحرة ومن الملهمين, الكتابة تخلق بي حسا داخليا وتخلق بي شخصا آخر يختلف عني وأقسم لكم بأنني حين أكتب أشعر بأنني لستُ أنا.
حين أكتبُ أنسى من أنا,حين أكتبُ أضيع ولا أعرف بيتي أو عنواني أو رقم موبايلي وأنسى نفسي وأنسى تاريخي ولا أفكرُ في شيء ما عدى الكتابة نفسها,وأشعرُ بأن شخصاً آخر في رأسي يملي بكلماته على كيبوردي وأصابع يدي, حين أكتبُ أتوه وأنسى اسمي وحين تناديني أمي لا أسمع صوتها, وحين يناديني أي إنسان لا استجيب إلا لصوت النداء الذي في داخلي,إنني اشعر بعد الكتابة بأنني قد وضعتُ مولودا جديدا لا يشبه أي مولود ولا أي جنس ولا أي نوع, حين أكتبُ أشعرُ بأنني قد طرتُ في الهواء وفوق الغيوم وفوق رذاذ المطر,أشعرُ حين أكتب بأنني مخلوق يتكاثر ويتناسل بالكلمات وليس بالبيض, ولكن أحيانا أرقدُ على مقالي ساعة وكأنني دجاجة ترقد على بيضها حتى يفقص من تحتي حين ترتفع حرارتي إلى مستوى التفقيص.
حين أكتب مقالي ألتصق في النص الذي أكتبه وألتحمُ به التحاما, وأحتضنه كما تحتضن الأم طفلها, وأخاف عليه كما تخاف الأمهات على ما يلدنه من أطفال, حين أكتب أقطع كل الأسلاك التي توصلني بالناس وبالمكان الذي أنا به, وأشعرُ بأنني غادرت المكان والزمان إلى مكانٍ آخرْ وزمانٍ آخر وعالم آخر غير مرئي لا يمكن رؤيته بالعين المجردة, وحين تأتيني الكتابة أشعر بالذوبان وبالاحتراق وأشعرُ بأن الكتابة كائن مفترس يفترسُ مشاعري وأحاسيسي ويحفر في أعماق وجداني, والكتابة التي تأتيني أشعرُ بأنها منزلة على قلبي وعقلي ولساني إنزالا واليوم الذي لا أكتب به أشعر بأنني أصبحت عاقرا لا ألد ولا أتكاثر ولا أتناسل لا بالبيضِ ولا بالولادة.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟