في الحادي عشر من نيسان (ابريل) 2002 اكتمل النصاب اللازم لدخول المحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ، وذلك ببلوغ عدد الدول المصدقة على النظام الأساسي للمحكمة 66 دولة، وكان النظام الأساسي للمحكمة لحظة اعتماده في السابع عشر من تموز عام 1998، قد اشترط توقيع 60 دولة ليصبح نافذاً. وبتوقيع ست وستين دولة على النظام الأساسي للمحكمة يدخل العالم مرحلة قانونية جديدة، بحيث لم يعد من الضروري تشكيل محاكم استثنائية لمحاكمة مجرمي الحرب المرتكبين لإحدى الجرائم الأربعة التي تدخل ضمن اختصاص هذه المحكمة.
ورغم ان المحكمة قد دخلت حيز التنفيذ في الأول من تموز (يوليو) 2002، حسب النظام الأساسي للمحكمة التي ينص على ان المحكمة تدخل حيز التنفيذ بانقضاء ستين يومًا على تصديق ستون دولة على نظامها الأساسي، الا ان تشكيل أعضاء المحكمة وانتخاب المدعي العام لن يتم قبل شهر ايلول (سبتمبر) 2002، حسب الموعد الذي حدد لانعقاد الجمعية العمومية للدول الأطراف المصدقة على النظام الأساسي لاتفاقية روما التي انشأت المحكمة بموجبها. أما صلاحية المحكمة فتبدأ بعد 7 سنوات من التصديق على نظامها الأساسي أي في العام 2009، وستكون المعاقبة مستقبلية بمعنى ان ليس للمعاهدة التي انتجت المحكمة أي مفعول رجعي بالنسبة للجرائم المرتكبة قبل التصديق عليها، وهذا يعني ان الجرائم المرتكبة قبل تموز (يوليو) 2002، ستبقى دون عقاب، وهذا التعديل على النظام الأساسي لجهة عدم منح المحكمة صلاحية "المعاقبة بمفعول رجعي" عن الجرائم التي تدخل ضمن صلاحيتها داخلته الحكومة الأميركية لأسباب لا نظن انها تخفى على أحد؟ وقد عبرت عنها الإدارة الأمريكية أثناء المناقشات التي جرت لإنشائها بشكل واضح وصريح، كما عبرت في مناسبات عدة عن معارضتها الشديدة لفكرة انشاء محكمة جنائية دولية، كما اشار الرئيس الأميركي بيل كلينتون الى ذلك بشكل شديد الوضوح في خطابه ليلة التوقيع على المعاهدة في 31/12/2000، وهو الموعد النهائي لقبول التواقيع بالقول "ان التوقيع الأميركي يسمح بالبقاء في اللعبة للتأثير على طريقة المحكمة المقبلة، وان هذا التوقيع لا يعني التخلي عن تحفظات واشنطن".
وأضاف "ان التزام الولايات المتحدة الأميركية لجهة مبدأ المسؤولية هي قصة طويلة ونابعة من اشتراكنا في محاكمة نورمبورغ التي قادت مجرمي الحرب النازية أمام العدالة، الى دورنا القيادي في الجهود المبذولة لإنشاء المحاكم الجنائية الدولية كيوغسلافيا السابقة ورواندا. وقرارنا اليوم يحافظ على "القيادة المعنوية".
والجدير ذكره ان الإدارة الأميركية عادت فانسحبت من المحكمة الجنائية الدولية قبل دخول نظامها الأساسي حيز النفاذ، فقد وجهت وزارة الخارجية رسالة للأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان تبلغه فيها انها "لا تنوي الانضمام الى معاهدة 17 تموز (يوليو) لعام 1998، وبالتالي فهي لا تلتزم بأية موجبات قانــونية تترتب على توقيعـــها المعاهدة في 31/12/2000".
وكانت إدارة الرئيس كلينتون قد رفضت عرض المعاهدة على مجلس الشيوخ لتصديقها الأمر الذي جعل من انضمامها مجرد خطوة رمزية، وكانت أعربت عن تخوفها من ان تستخدم المحكمة لإقامة "دعاوى ذات دوافع سياسية" ضد دبلوماسييها وجنودها العاملين خارج الحدود الأميركية. وقال كولن باول وزير الخارجية "ان المحكمة الجنائية الدولية ليست مكانًا ملائمًا لرجالنا ونسائنا من الدبلوماسيين والجنود". وتجب الملاحظة هنا الى ان المحكمة تتمتع بصلاحيات واسعة لملاحقة الجنود المشاركين في الوحدات الخاصة للمحافظة على السلام.
وعلق السناتور الأميركي عن الحزب الديمقراطي والعضو في لجنة الشؤون الخارجية رأس فينغولد على رسالة وزارة الخاجرية الى كوفي انان بالقول ان قرار الادارة الأميركية طرح "اشكالية التزام الولايات المتحدة بالعدالة والمحاكمة الدوليين"، وذلك يضع التزام واشنطن بكل الاتفاقات المتعددة الأطراف على المحك".
وقد استطاعت الولايات المتحدة الحصول على الحصانة لجنودها، وذلك من خلال الابتزاز الذي مارسه مندوبها في مجلس الأمن (نيغروبونتي) باستخدامه حق النقض ضد التجديد لقوات السلام في البوسنة مما اضطرّ مجلس الأمن لإعطاء الجنود الأميركيين هذه الحصانة وبالتالي دقّ المسمار الأول في نعش محكمة الجزاء الدولية.
وكما الولايات المتحدة كذلك اسرائيل التي وقعت في نفس الوقت مع الولايات المتحدة أي ليلة 31/12/2000 على المعاهدة الا انها لم تصادق عليها في الكنيست، وقد أصيب العديد من المسؤولين الإسرائيليين ورجال القضاء والأمن بالهلع الشديد من دخول المحكمة حيّز التنفيذ، فقد ذكرة صحيفة "هآرتس" (ان القمة القضائية والأنية في الدولة العبرية اصيبت بالذعر من احتمال تعرض مسؤولين سواء رجال أمن او سياسة للمحاكمة خارج اسرائيل في المستقبل القريب بتهمة ارتكاب جرائم حرب).
وذكرت الصحيفة ان المستشار القضائي للحكومة الياكيم روبنشتاين حذر من ان الأسرة الدولية تتجه نحو "تدويل" الموضوع الجنائي" ولذلك فهو يخشى من ان يتم "تقديم زعمائنا للمحاكمة كمجرمي حرب". معتبرًا ان قيام المحكمة الجنائية الدولية "بات يشغل اضواء حمراء في اسرائيل". وقال رئيس المحكمة العليا القاضي أهرون باراك "انه ينبغي ان تتذكروا ان المحكمة الجنائية الدولية الدائمة قد تشكلت، وانها سوف تبدآ النظر في القضايا في تموز 2002، وان كل اسرائيلي يخضع لصلاحيات هذه المحكمة رغم اننا لم نصدق معاهدة تشكيلها".
واعترف المدعي العام العسكري بـ"اننا نجلس على العتبة" وأبدت هيئة اركان الجيش تقديرها بأن هناك خطرًا فعليًا من تعرض "كبار المسؤولين للمحاكمة". وكذلك بدت المخاوف في جهاز الاستخبارات الداخلية (الشاباك)، من "احتمال تقديم رجاله للمحاكمة"، لأن "القانون الدولي يمس ثلاثة أنواع من الجرائم الخطيرة: ابادة شعب، وجرائم ضد الانسانية، وجرائم الحرب، وفي اطار هذه الجرائم تندرج جريمة التعذيب".
وأوضح البروفسور دافيد كيرتسمار الخبير في القانون الدولي في الجامعة العبرية "ان عهدًا قضائيًا جديدًا بالنسبة لإسرائيل سوف يبدأ في الأول من تموز 2002، وان احداث جنين لو جرت بعد الأول من تموز لكان بوسعها ان تشكل حالة اختبار اولى، لأنه حسب تقارير منظمات حقوق الانسان الدولية التي اقرأها فإن ثمة شكوك بأن هناك افعال تقع في دائرة تخضع لصلاحيات المحكمة". ولعله من الضرورة بمكان التعريف باختصاصات هذه المحكمة التي سوف يكون لدخولها حيز التنفيذ صدى كبيرًا في المجتمع الدولي الذي سيخضع لقوانينها وأنظمتها وطرق المراجعة الخاصة بها، كونها محكمة مختصة بعدد من الجرائم اللاإنسانية التي اقضت مضاجع الكثير بسبب إفلات المعتدي من العقاب، وعليه فإن إنشاؤها سيخلق أملاً في المساعدة على وضع حد "لثقافة اللاعقاب" التي شجعت الكثير من الدول والأفراد وخاصة المسوؤلين على ارتكاب الجرائم.
اختصاصات المحكمة:
يقتصر اختصاص المحكمة على أربعة انواع من الجرائم التي تعتبر الأكثر أهمية بنظر المجتمع الدولي، لأنها الأكثر خطورة على الشعوب، بل على المجتمع الدولي بأسره، وهذه الجرائم هي التالية:
1. جريمة الإبادة الجماعية
وتعني أي فعل يرتكب بقصد اهلاك جماعة قومية او اثنية او عرقية او دينية بصفتها هذه اهلاكًا كليًا او جزئيًا مثل:
أ) قتل افراد الجماعة
ب) الحاق ضرر جسدي أو عقلي بأفراد الجماعة.
ج) اخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يقصد بها اهلاكها الفعلي كليًا أو جزئيًا.
د) فرض تدابير تستهدف منع الانجاب داخل الجماعة.
هـ) نقل اطفال الجماعة عنوة الى جماعة أخرى.
2. الجرائم ضد الانسانية
وتعني ان فعل ارتكب في اطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد اية مجموعة من السكان المدنيين, وعن علم بالهجوم مثل: (أ) القتل العمد (ب) الابادة (ج) الاسترقاق (د) ابعاد السكان أو النقل القسري للسكان (هـ) السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي (و) التعذيب (ز) الاغتصاب، أو الاستبعاد الجنسي ، أو الاكره على البغاء، أو الحمل القسري، او التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من اشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة (ح) اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لاسباب سياسية او عرقية أو قومية أو اثنية او ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس، (ط) الاختفاء القسري للأشخاص (ي) جريمة الفصل العنصري (ك) الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدًا في معاناة شديدة أو في اذى خطير يلحق بالجسم او بالصحة العقلية او البدنية.
3. جرائم الحرب
تعني جرائم الحرب (أ)- الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 آب 1949، أي (أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم احكام اتفاقية جنيف ذات الصلة): 1. القتل العمد 2. التعذيب أو المعاملة اللاانسانية، بما في ذلك اجراء تجارب بيولوجية، 3. تعمد احداث معاناة شديدة او الحاق اذى خطير بالجسم او بالصحة، 4. الحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون ان تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة 5. ارغام أي اسير حرب أو أي شخص اخر مشمول بالحماية على الخدمة في صفوف قوات دولة معادية، 6. تعمد حرمان أي أسير حرب او أي شخص آخر مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة ونظامية، 7. الابعاد او النقل غير المشروعين او الحبس غير المشروع، 8. أخذ الرهائن، 9. توجيه هجمات ضد السكان أو منشآت مدنية، 10. تعمد شن هجمات ضد الموظفين او المنشآت الإنسانية، 11. قصف المدن والقرى المجردة من الأهداف العسكرية، 12. قتل أو جرح مقاتل القى سلاحه أو استسلم مختارًا، 13. تعمد توجيه الهجمات ضد المباني المختصة بالأغراض الدينية أو التعليمية أو الخيرية أو المستشفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى.. 14. تجنيد الأطفال دون الخامسة عشرة الزاميًا أو طوعيًا للمشاركة في الحرب.
4. جريمة العدوان
لم يتفق المؤتمرون في روما في 17 تموز (يوليو) وما تلاها من الاجتماعات، في استخلاص تعريف لجريمة العدوان، واكتفى بالتعريف الدولي حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر بتاريخ 14/12/1974، على النحو التالي: العدوان هو استعمال دولة ما, القوة المسلحة ضد دولة اخرى، ضد السيادة وسلامة الأرض والحرية السياسية أو بأية طريقة أخرى.
وتستعين المحكمة بأركان الجرائم في تفسير وتطبيق المواد 6 و7 و8 وتعتمد هذه الأركان بأغلبية ثلثي أعضاء جمعية الدول الأطراف.
وأشار النظام الأساسي الى امكانية اقتراح تعديلات على اركان الجرائم من جانب:
أ. أية دولة طرف.
ب. القضاة ، بأغلبية مطلقة.
ج. المدعي العام- على ان تعتمد هذه التعديلات بأغلبية ثلثي أعضاء جمعية الدول الأطراف.
د. تكون أركان الجرائم والتعديلات المدخلة عليها منسقة مع هذا النظام الأساسي.
المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية أو (القومية):
لا تتناقض المحكمة الجنائية الدولية مع المحاكم الوطنية او القومية وانما تتكامل معها، "وتكون المحكمة مكملة للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنية" (المادة 1 من الباب 1 انشاء المحكمة)، وبالتالي فإن عليها احترام نظام العدل الجنائي الوطني، انما لا يشترط استنفاذ كافة الوسائل الوطنية لكي تتمكن المحكمة الجنائية الدولية من النظر في القضايا المطروحة عليها لأنها ليست محكمة استئناف، ان اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يطبق على الأفراد (المادة 1،25 (1) الذين يرتكبون جريمة بعد بلوغ سن 18 (المادة 26) تدخل ضمن اختصاصها بقطع النظر عن موقع ومسؤولية مرتكب الجريمة، والمحكمة الدولية لا تعتد بالحصانة الفاشلة عن المراكز الرسمية لرئيس دولة أو حكومة أو وزير أو نائب أو قائد عسكري الذي قد تتضمنه بعض الدساتير الوطنية، وعليه فإن الدولة الطرف المصدقة على الاتفاقية يجب ان تعدل دستورها ليتواءم مع نظام المحكمة. والمسؤول بهذا المعنى لن يكون معفيًا عن المسؤولية الجنائية، وبالتالي لن يستفيد من الحصانة القائمة على المركز الرسمي للشخص أثناء المحاكمة، فقد نصت المادة 27 من النظام الأساسي الخاصة "بعدم الاعتداد بالصفة الرسمية" انه لا يجوز الاعتداد بالصفة الرسمية بأي حال من الأحوال للإعفاء من المسؤولية الجنائية أو جعلها سببًا لتخفيف العقوبة، كما ان الحصانة أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في اطار القانون الوطني او الدولي لا تحول دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص. ذلك ان الحصانة الدستورية يجب ان تقتصر على ممارسة الوظائف التي تتصل بالمنصب الذي لها علاقة به، لأن الحصانة تتجلى في تمكين صاحبها من اداء مهامه دون عائق ودون ضمان الافلات من العقاب فيما لو ارتكب جريمة الابادة الجماعية او ضد الإنسانية او جريمة حرب. أخيرًا لا بد من القول انه في ظل التطورات التي شهدتها وتشهدها ساحة العدالة الجنائية الدولية وبروز الحاجة الدولية الماسة لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة يقع على عاتقها تعقب ومحاكمة مرتكبي أفظع الجرائم وأخطرها على المجتمع الدولي الإنساني، لما تشكله من حماية قضائية للشعوب المستضعفة والمضطهدة، برز فجر قضائي جديد تمثل بوضع اتفاقية روما لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة حيز التنفيذ، وهذا التطور الرائع على الساحة الدولية يطرح بجدية اشكالية المشاركة العربية في هذه المحكمة والمساهمة في تشكيل هيئاتها وقضائها وابراز الكلمة العربية على الساحة القضائية الدولية، خاصة لجهة فرصة انزال القصاص بالإسرائيليين ومعاقبتهم على أفعالهم الجرمية التي ما زالت متواترة ضد الشعب الفلسطيني. وللأسف الشديد نجد انه حتى دخول المحكمة حيز التنفيذ فإن دولة عربية واحدة هي الأردن صدقت على الاتفاقية في الوقت الذي وقعت ثلاثة عشر دولة عربية على اتفاقية انشاء المحكمة انما لم تصادق حتى الآن على التوقيع.
ولعل الدول العربية الموقعة على الاتفاقية تبادر الى التصديق قبل حلول شهر ايلول (سبتمبر) القادم، وهو تاريخ انعقاد اجتماع الأطراف المصدقة على المعاهدة حيث سيجري تشكيل المحكمة واختيار اعضائها وقضائها والمدعي العام واقرار العديد من قواعد الإجراءات والأدلة والعناصر الجرمية، ولكي تتمكن ايضًا من المشاركة في التعيينات وتساهم في رسم خطة ومسار عمل المحكمة في الفترة المقبلة، ولضمان تواجد من يمثلنا في ادارة المحكمة سواء بين قضائها او جهاز الادعاء التابع لها.
ان حلم انشاء المحكمة الجنائية الدولية قد تحقق وهو يدخل حيز التنفيذ بينما العرب ما زالوا عنه غافلون فهل يستدركون الخطأ قبل فوات الأوان؟
|