|
اسحقوهم بتناسب، وحطموهم برفق، واقتلوهم بلطف!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1002 - 2004 / 10 / 30 - 12:48
المحور:
القضية الفلسطينية
بل إن الرد الإسرائيلي على الاعتداءات الفلسطينية متناسب تماما! متناسب مع قوة إسرائيل، ومتناسب مع ما تناله من تغطية قانونية وأخلاقية، إعلامية أميركية وغربية. واللوم الذي يوجه إلى إسرائيل متناسب تماما مع هذه التغطية الأخيرة، بقدر ما إن ردها على مقاومين فلسطينيين يرفضون رد شعبهم إلى حشرات متناسب مع قوتها وعنصريتها. وليس إلا نفاقا ذميما ومعدوم الضمير مطالبة المعتدين بأن يكون ردهم متناسبا مع حجم الخطر الذي يتعرضون له حسب عبارة كولن باول في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، العبارة التي لم يلبث مجمع وزراء الخارجية الأوربيين أن كررها بعده بأسبوع. نفاق لأنه يصدر عن الجهة التي زودت وتزود إسرائيل بقوة تغري على العدوان والقتل والتحقير، وحماية تقلل من كلفة العدوان والقتل والتحقير. ونفاق لأنه يتحدث عن رد إسرائيل على خطر تتعرض إليه، فيما هناك شعب كامل تحت الاحتلال يتعرض لسحق يومي، مادي ومعنوي، يجعل حياته جحيما متماديا. وبالطبع لا يدخل في التناسب أن ارض الفلطسينيين محتلة. فقياس التناسب يبدا في اللحظة التي يضع فيها فدائي فلسطيني يده على زناد إطلاق الصاروخ العابر للجدران، المسمى قسام، اي في اللحظة التي يبدأ فيها العدوان الفلسطيني. أما ما قبل ذلك فقد سقط في ما قبل التاريخ، كما أسقط الرئيس بوش حدود 1949 بوصف عودة إسرائيل إليها غير واقعية لأنها تضم تجمعات سكنية إسرائيلية. إذا لم تكن هذه مكافأة المعتدي، فماذا تكون؟ وإنما بفضل هذا "الخلق المستمر" للتاريخ، إسرائيل لا تتفاوض. أو بالأحرى التفاوض الوحيد الذي تعترف به هو الذي يقوم بين قدرتها وعقيدتها، بين كلفة سحقها للفلسطينيين وبين رغبتها في سحقهم. ومن الواضح أن اعتبارات الكلفة والقدرة هي الطرف المعتدل في هذا التفاوض، وإنه لا ينظر إلى حياة الفلسطينيين إلا من خلالها. من الواضح كذلك ان عقيدة اللاتناسب الاميركية الأوربية لا تلعب غير دور فرعي في حساب الكلفة دون أي تأثير على العقيدة والرغبة. ما تقوله عقيدة التناسب هو التالي: إن رصاصتين في جسد إيمان الهمص، التلميذة ذات الثلاثة عشر عاما، رد متناسب تماما مع حجم الخطر الذي يتعرض له الجيش الإسرائيلي على يد حقيبتها المدرسية. أما 22 رصاصة فهو رد غير متناسب. والولايات المتحدة تعترض على الرصاصات العشرين الزائدة، فيما تعتبر الرصاصتين الأوليين دفاعا مشروعا عن النفس. وما يؤرق ضمير كولن باول ووزراء الخارجية الأوربيين ليس احتلال أراضي الفلسطينيين، ولا إبادتهم سياسيا وأخلاقيا، ولا تحطيم حياتهم وإغراقهم في بؤس لا مخرج منه؛ ما يؤرقهم هو اللاتناسب في الاحتلال والإبادة والتحطيم. ولكانت ضمائر وزراء الخارجية مرتاحة تماما لو تقبلت إسرائيل هذا "الأمر المطلق" السلمي: احتلوهم بلطف، واسرقوهم بإنصاف، واقتلوهم برقة، وحطموا حياتهم برفق، وأذلوهم بتجرد؛ وإذا ابتليتم باللاتناسب فاستتروا عن عيون وسائل الإعلام. آمين. والواقع أن هناك منظومة ثقافية وإعلامية تسهر على ان يكون الفلسطيني والعربي معتديا دائما، والإسرائيلي والأميركي في موقع المعرض للأخطار. فالبي بي سي، وهي جهة علامية محترمة على العموم، تصوغ اخبارها العربية والانكليزية على منوال ثابت لا يتبدل: قتل كذا فلسطيني حين قام الجيش الإسرائيلي بالرد على كذا وكذا مما قام به مسلحون فلسطينيون. ويبدو أن كون الفلسطينيين مسلحين مسألة تعريف قبْلي وليس معلومة قد يتم التحقق منها بصورة تجريبية. كوفي انان ذاته وجد من واجبه ان يذكر في تقريره حول القرار 1559 أنه "بعد هجوم فلسطيني في شمال اسرائيل ادى الى مقتل اكثر من 30 مدنياً، نفذت اسرائيل عملية عسكرية واسعة النطاق في جنوب لبنان في آذار 1978". من لا يعرف يظن أن هناك دولة فلسطينية "مارقة" تهاجم إسرائيل وتقتل مدنييها. لقد شعر أنان بوجوب التذكير بأن الاجتياح الإسرائيلي نجم عن هجوم أدى إلى قتل مدنيين إسرائيليين، ولم يشعر بالحاجة إلى قول شيء عن الاحتلال الإسرائيلي لأرض الفلسطينيين، وعن أن من قاموا بالعملية هم لاجئون مطرودون من أراضيهم إلى لبنان والدول الماجورة لفلسطين، وأن الشرعية الدولية التي يفترض انه ينطق باسمها تطالب بإزالة الاحتلال وبعودة اللاجئين إلى أراضيهم، وأن إسرائيل ترفض ذلك. في التقرير نفسه يقول انان: " في حزيران 1982، شنّت اسرائيل غارة عسكرية واسعة النطاق في لبنان بعد محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في المملكة المتحدة". كالعادة يبدأ قياس التناسب لحظة يشرع الوحش الفلسطيني في الاعتداء على إسرائيلي لا يحتل غير موقع الطرف المعرض للأخطار. تعرض اسرائيل للأخطار هو مسألة تعريف لها أيضا. وهكذا فإن نفاق وزراء خارجية "العالم الحر والمتحضر" يحيل على نفاق منظومي مدون في بنى ثقافية وسياسية واعية وغير واعية، وفي ممارسات ثقافية وإعلامية مطردة، وفي انحيازات قيمية بالغة الرسوخ والاستقرار. بيد أن الأهم من النفاق، بنيويا أو سائلا، هو العنصرية الأصيلة الكامنة تحته، والتي عادت لتطفو على السطح بفضل فجوة القوة الهائلة التي عادت تفصل الغرب الأوسط (الأوربي) والغرب الأقصى (الأميركي) عن ما يسمونه الشرق الأوسط.
أما نحن فلم يعد قتل الفلسطينيين يؤرقنا. إنه عنصر من عناصر هويتهم. حين يتوقف قتل الفلسطينيين يكفون عن كونهم فلسطينيين. ثابروا على موتكم ايها الشجعان! هذا ما نحتاجه منكم. إنه مناسب لنا تماما ومتناسب مع قدرتنا. لا تسيئوا فهمنا! فنحن نريد الهوية الفلسطينية هوية موت بدافع نبيل: عجزنا ان نفعل لهم شيئا. هذا العجز جزء من هويتنا. حين ينتهي عجزنا نكف عن كوننا "شرق أوسطيين" يحكمنا "إسرائيليونا" الخاصون. لأننا عاجزون، نريد رؤية الموت عادة يومية للفلسطينيين؛ نريده جوهر حياتهم كي نخفف صدمته علينا. كثير علينا الصدمة والعجز و"إسرائيليينا" معا! دمشق 16/10/2004
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاستقطاب والاختيار: حول مفهوم السياسة 2 من 2
-
الاستقطاب والضعف : حول الخط الثالث مجددا 1 من 2
-
ماضي الخط الثالث ومستقبله في سوريا
-
مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي
-
فليستقل مدير عام مؤسسة الاتصالات!
-
الجامعات الأسيرة صورة عامة للحال الجامعية السورية
-
على أثر العاديين ...في شاتيلا
-
في ذكرى اعتقال رياض سيف: احتجاج على شركتي الخليوي
-
ما العمل إن لم يكن لمفاوضة الطالبان ومقاتلي الشيشان بديل؟
-
نظام الهيمنة وإصلاح العلاقة السورية اللبنانية
-
السوريون والمسالة اللبنانية: أسرار الصمت
-
الرغبة في تقديس حكامنا؟!
-
أدونيس يهدر فرصة أن يبقى ساكتا
-
الجفاف السياسي يجعل المجتمع سهل الاحتراق
-
حوار حول بعض قضايا الحاضر السوري
-
شكوى من فخري كريم وتوضيح من ياسين الحاج صالح
-
سنوات الأسد الثاني الأربعة وتحدي -الاستقلال الثاني- لسوريا
-
عرب وأميركيون وديمقراطية
-
إعادة هيكلة الوعي القومي الكردي
-
حظر الأحزاب الكردية ونزع مدنية المجتمع السوري
المزيد.....
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|