أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام ابراهيم عطوف كبة - المجتمع المدني في كردستان العراق















المزيد.....



المجتمع المدني في كردستان العراق


سلام ابراهيم عطوف كبة

الحوار المتمدن-العدد: 1002 - 2004 / 10 / 30 - 04:58
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


ليست مكتسبات شعب كردستان وقضيته العادلة خلال العقد الأخير ملكا لأي حزب أو طرف بمفرده ... بل إنها ملك لجميع مواطني كردستان ، ولعموم الشعب العراقي . وأثبتت التجارب السابقة فشل محاولات فصل القضية الكردية عن الديمقراطية لعموم العراق وسط خارطة الظروف الموضوعية المعقدة التي تحيط بالقضية الكردية بشكل عام . فمقومات المجتمع المدني الكردستاني يمكن تلمسها في رحم المجتمع المدني العراقي تتأثر به وتؤثر فيه منذ انبثاق الدولة العراقية الحديثة بداية هذا القرن واثر توقيع اتفاقية (سايكس بيكو ) عام 1916 التي قسمت كردستان الى شمالية غربية وضعت تحت حماية فرنسا ، وجنوبية وضعت تحت الانتداب البريطاني ، بينما ترك القسم المتبقي من كردستان لرعاية عصبة الامم .وقد خلقت الحرب الأهلية الكردية بجولاتها وصولاتها بعد تقويضها ثمار انتفاضة آذار 1991 المعوقات والعراقيل أمام الرأي العام الكردستاني وتأسيس المجتمع المدني الكردستاني .. ومع الجروح الاجتماعية لفوضى الاقتتال الكردي _ الكردي اواخر القرن العشرين تصاعدت سلبيات السياسة العشائرية ومظاهرها كالثأر ، ونهب المؤسسات الإنتاجية والخدمية ، وتشويه القيم والعلاقات الاجتماعية ، وتعميق الهوة بين شرائح المجتمع … بينما نخر الحصار الاقتصادي المزدوج على كردستان في المجتمع الكردي ليشوه معالمه وينشر المظاهر الضارة من غلاء وبطالة وسرقات ورشوة وجريمة منظمة . ولم تستطع حيثيات تطبيق القرار (986) وتعديلاته في القرار (1153)إنقاذ الموقف . ومنذ حرب الخليج الثانية حتى الاحتلال الاميركي عانى شعب كردستان من الحصار المعروف المزدوج . وقد قامت الحكومة العراقية بتخفيض تدفق الحصص المقدمة للشعب العراقي سنة 1992 وفرضت قيودا مماثلة على سكان الاهوار في الجنوب العراقي . وحظرت قرارات (666) لعام 1990 و(687) لعام 1991 استيراد قطع الغيار والمعدات اللازمة للإصلاح والصيانة لمعالجة أضرار المؤسسات الإنتاجية والخدمية الأساسية في البلاد كالكهرباء مثلا .

 مفهوم المجتمع المدني

ليس المجتمع المدني حلا ناجزا لكل القضايا والمشكلات التي تعيشها المجتمعات المعاصرة لانه ليس مفهوما خلاصيا او وصفة يمكن تعاطيها وتداولها بل هو حقل للتنافس والصراع وميدان لعمل القوى الاجتماعية ذات المصالح والرؤى والمواقف المتباينة ، جوهره الخيار الديمقراطي . وان ما يوازي المجتمع المدني الحديث من حيث دلالة استقلالية المجتمع عن الدولة عبر مؤسسات ومنظمات مستقلة او شبه مستقلة او وسيطة هو ما يمكن ان نسميه اصطلاحا (المجتمع الأهلي) في التاريخ السياسي والاجتماعي العراقي .
ان المجتمع المدني مصطلح أوربي قديم تمت صياغته خلال النصف الثاني للقرن الثامن عشر الميلادي لابراز تحول أوربا الغربية من الاستبداد الى الديمقراطية البورجوازية ، ألا ان المفهوم قد اختفى منذ النصف لثاني للقرن التاسع عشر … ثم ظهر من جديد بعد الحرب العالمية الأولى وانتصار ثورة أكتوبر عام 1917 لتمييز دور ونشاط الحزب الشيوعي في المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية البورجوازية .ففي هذه المجتمعات تستحوذ الدولة او السلطات على كل شئ وتبقي المجتمع المدني تابعا لها أو غير مكتمل وحتى بدائي النمط أحيانا … بينما يشترط التقدم الاجتماعي علاقة جادة وحقيقية بين الدولة والمجتمع … وفي حالة اهتزاز الدولة والسلطات القائمة فان ظهيرها هو البنية الصلبة للمجتمع المدني .
كان نظام الحزب الواحد نموذجا يجرد مواطنيه من كل حقوق الحرية التي تشكل جوهر أي مجتمع ديمقراطي حقيقي او مجتمع مدني حديث .ثم جاء الانهيار والتغييرات الدرامية في الخارطة السياسية للعالم أواخر القرن العشرين ليؤكد عدم جدوى بناء الاشتراكية بالأساليب البيروقراطية وفي غياب الحركة الجماهيرية الديمقراطية ذات المصلحة في هذا البناء . والتساؤل المشروع الذي ظهر اليوم مع ولادة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد هو : هل حد هذا النظام من تعقيد واضطراب عالمنا المعاصر ، ومن خطر الحروب النووية التي تهدد البشرية ، وسباق التسلح على الأرض وفي الفضاء ، ومن مخاطر الحروب الأهلية والإقليمية !؟
لقد ساعد ظهور ونمو المدن على إرساء الأرضية الواقعية لتفتح الذهنية والعملية الديمقراطية وكانت مرآة عكست التحولات الاجتماعية الديموغرافية الجديدة . فالعصر الحديث بدأ مع المدينة التي أتاحت رسم أفق جديد ارحب للإنسان فيها . وكنست المدينة عفوية التأهب الثوري عند الريفي النازح باتجاهها وعند مداخل المعامل أو أثناء العمل في تنظيم شوارعها الجديدة او ساحاتها الواسعة وحدائقها الجميلة وفي أسواقها السلعية الصغيرة والكبيرة والتي بدأت تكون منها نمط الشخصية الاستهلاكية الحديثة والمعاصرة . وقد جلبت التحولات الاجتماعية _ الاقتصادية ما بعد عهود الاستقلال الوطني الى الحواضر في منطقة الشرق الأوسط اما أبناء الريف او أبناء العشائر والبادية . وهم جميعا لم يقفزوا على السلطة بالطريقة التقليدية التي أشار لها (ابن خلدون ) بالعصبية القبلية . وقد كتب العلامة (ابن خلدون) في مقدمته الشهيرة فصلا من (39) صفحة ( في البلدان والأمصار والمدن وسائر العمران الحضري وما يعرض في ذلك من الأحوال ) تحدث فيه عن ارتباط النمو الحضري وما نسميه اليوم بالمجتمع المدني بانتشار الصنائع والأعمال وانتقال المهاجرين إليها ، وما ينجم عن ذلك من غلاء الأسعار وارتفاع ثمن الأراضي والعقارات . وقد استولى المهاجرون الجدد على السلطة من خلال المؤسسات الحديثة كالجيش والأحزاب التي جمعتهم لاسباب اقتصادية وعشائرية . فظهرت المدن المريفة والمبدونة أي المجتمعات الريفية البدوية التي لم ترتق بعد الى مصاف المجتمعات الزراعية والمدنية المعاصرة . ولو كان (ابن خلدون) حيا اليوم لاذهله – الى حد ما – العدد الهائل من انواع الترف الحضري ولكنه لن يستغرب ملاحظة ما اختبره بنفسه في القرن الرابع عشر من : المنافسات ، والمؤامرات ، والثورات كخصائص للحياة السياسية . ان ترسخ بدونة المدينة وتريفها تكمن في البحث عن الديمقراطية من غير الحاجة الى ديمقراطيين ، أي نبذ جوهر الديمقراطية الحق وابقائها نصوصا مكتوبة كي لا تتحول الى ثقافة وممارسة وقبل ذلك كانت القبيلة ، العشيرة ، الغنيمة والعقيدة … هي المقدمات الأساسية للإجهاض الداخلي للتركيبة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للخلافة الإسلامية وضعفها . فالقبيلة لم تتحول الى مجتمع مدني قادر على تجاوز الدولة _ العشيرة او القبيلة او الطائفة بسبب طبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة . بينما لم تتحول الغنيمة القائمة على الاقتصاد الريعي / الضريبي/ الى اقتصاد إنتاجي / اقتصاد سوق/ . اما العقيدة فلم تستطع ان تنتقل من حيز التفكير المذهبي والطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة الكلية الى حيز الحرية في التفكير واحترام الرأي المغاير ، والتحرر من سلطة الجماعة المغلقة . وهذه المقومات ساهمت جميعها في تفعيل الصراعات والتناقضات والحركات الانفصالية والهبات الجماعية الجماهيرية واختراق بنية الدولة . وفي ظل الخلافة الإسلامية رأى أصحاب رؤوس الأموال يلجأون في أول بادرة للاضطراب الى سحب أموالهم من التداول لاكتنازها فيعطل ذلك ويتلف مقومات المدينة والازدهار ويضعف الدولة الإسلامية ويخلق لها كل مقومات الاختراق داخليا وخارجيا . وهذا القانون لا زال سائدا حتى يومنا هذا . فالطريقة الوحيدة في ظل أنظمة الحكم الاستبدادية والدولة والسلطات الاستبدادية وسيادة فوضى اللاسلطات التي ينعدم فيها الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والامان ومقومات المجتمع المدني … أمام الفرد والتاجر خاصة كي يحافظ على أمواله من سرقة الدولة نفسها وسلطاتها لم تكن إلا تحويلها الى كنوز ، أي سحبها من التداول . وهذا بحد ذاته يعرقل التفاعل بين السلطات والمجتمع المدني وبجعلهما على طرفي نقيض من جهة ويسهم في تآكلهما ذاتيا من جهة أخرى .
يؤدي تكثيف تقسيم العمل الاجتماعي والزيادة السكانية والتمايز والصراع الطبقي وقيام الدول القومية المركزية والإدارات المحلية والتغير اللاحق في أسس الضمان الاجتماعي الى تدهور الأحياء والمناطق المدينية التقليدية وتوزع سكانها على أساس الطبقة والمكانة . والمعروف ان المدينة الحديثة منقسمة مكانيا حسب الطبقة والمكانة وتفاوت إمكانية التمتع بالخدمات العامة . كما تكتسب بعض الأحياء المدينية أهمية سياسية متجددة في الظروف الجديدة تستند أساسا الى عناصر من وظائفها التاريخية في الأمن والحماية … واحيانا من خلال كونها ساحات للسياسة المعارضة خارج سيطرة الدولة المباشرة وخاصة الدولة الشمولية القمعية .... وعليه تحاول هذه الأنظمة الشمولية ان تقضي على كل ما ليس تحت سيطرتها من دوائر مرشحة للعمل الاجتماعي والسياسي فيها … فتلجأ الى التخطيط المديني أسلوبا لكبح جماحها كما هو حاصل في العراق وكردستان بالتعريب السيئ الصيت وبناء المجمعات السكنية وهدم الأحياء السكنية الكاملة بحجج واهية مثل شق الشوارع وبناء الساحات وحتى تشييد المجمعات العسكرية الضخمة .
ان المجتمع المدني هو مجموع التنظيمات المجتمعية من مؤسسات وجمعيات وهيئات ومجالس ونقابات وأحزاب ووسائل أعلام وشرائح اجتماعية لها تعبير تنظيمي في المجتمع . ويؤكد الدكتور ( سامي خالد) انه مجموعة التنظيمات المجتمعية التي لها مصلحة فعلية في التحول الديمقراطي للمجتمع ويضمن الحد من السلطة القسرية للدولة … بينما يعرف ( محمد عابد الجابري ) هذا المجتمع بأنه الإطار الذي تنتظم فيه العلاقات بين أفراده على أساس الديمقراطية ويمارس فيه الحكم على أساس أغلبية سياسية حزبية وتحترم فيه حقوق المواطن وتقوم فيه دولة المؤسسات بالمعنى الحديث للمؤسسات : البرلمان والقضاء المستقل والأحزاب والنقابات والجمعيات … الخ . فالديمقراطية شرط قيام المجتمع المدني والضمانة الفعلية للأمن والرخاء فيه والإطار المستوعب للتعددية الاجتماعية ومدخلها الأساس الى تداول الحكم عبر الانتخابات والبرلمانية . والبرلمانية هي طريق السلام والنجاة والاستمرارية لكل الأحزاب والأفكار والأفراد والضمانة الأساسية لقهر الدكتاتورية والفاشية . وعليه يرتقي تفعيل المجتمع المدني الى مصاف المهمات ذات الأولوية الأساسية الضرورية لنقل المجتمع من حالته المأزومة الى حالة الاستقرار والتقدم ، بينما يؤدي تواصل الأزمات الى الانتقال من عنف الى آخر ، ومن تطرف الى آخر ، ومن تمرد الى حرب أهلية .
لا تعتبر مقولة المجتمع المدني عبثاً أيا كانت الإشكاليات المحيطة بها . وتتجلى في هذا المجتمع العلاقة بين الثقافة والتغيير الاجتماعي في أدق مظاهرها . وفيه تكون الديمقراطية حاجة موضوعية وليست ترفاً ، فيجري الصراع مع التقاليد والموروث الذي يستصغر الديمقراطية من اجل تكريس وترسيخ مفاهيمها داخل الأحزاب السياسية وفيما بين الأحزاب نفسها وكبديل عن السلطات الحاكمة . فتتم نمذجة التفسيرات المتنوعة للديمقراطية والتغلب على زوايا الرؤية النموذجية لها والتي تعكس على الدوام وجهات النظر الطبقية التي خدمت جهود طبقة محددة ، لتثبيت الشرعية الدستورية ومقاومة فرض نماذج الآخرين في شرعية القوة .
يبشر المجتمع المدني بالدولة كحق جماعي يضمن المشاركة الجماعية في صياغة ارثها وتقاليدها والمحافظة عليها ، ويتعامل مع المتغيرات العصرية بعقل مفتوح واستعداد للتفاعل والاستجابة . ويقاوم الانغلاق واختيار العزلة ويحث على تطوير قيم الحياة المدنية ونبذ العنف والقسوة والغبن والتفرقة . ويقاوم ايضاً عقلية التخلف التي تبيح فرض السطوة وتسمح بالتسيد على القيم الراقية من الحياة المدنية . اما النموذج العام للحكم المدني فيتسم بسيادة نظام المؤسسات واستقلالية السلطات داخل مؤسسة الحكم ونبذ العنف وتحاشي الروح الانقلابية وتجاوز المراهقة في العمل السياسي . ويؤكد ذلك الأستاذ (عدنان الحلفي ) فيكتب " ان المجتمع المدني هو المجتمع الذي تحكمه مؤسسات ديمقراطية تتمثل في حرية تكوين الأحزاب وحرية الصحافة . ويتمتع أفراده بكامل الحقوق الشرعية في الانتخاب والترشيح . ويؤمن بالتعددية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان ويقاوم الشعاراتية والميكافيلية (التمظهرية ) والعقلية الانقلابية المغامرة " .

 الديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان

المكونات الأساسية للديمقراطية السياسية … هي حرية الرأي والتعبير عنه وحرية الضمير والانتماء والتنظيم السياسي والنقابي والاجتماعي والثقافي وحرية الاجتماع . كل ذلك يقع ضمن حقوق الإنسان المنصوص عليها في إعلان الامم المتحدة الصادر في 10/12/1948 والمواثيق الدولية الصادرة عام 1966 والخاصة بالحقوق المدنية والسياسية واقامة دولة القانون ومؤسساتها المنبثقة عن إرادة الشعب بالانتخابات الحرة الدورية ومراقبة المجتمع الدولي عبر الامم المتحدة لتنفيذ ذلك حسبما جاء في قرار 23/3/1976 . وقد نص إعلان الامم المتحدة في العاشر من كانون الأول عام 1948 والمؤلف من ديباجة وثلاثين مادة على مجموعة الحقوق المدنية والسياسية من المادة الثالثة حتى المادة الحادية والعشرين ومجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من المادة الثانية والعشرين وحتى المادة السابعة والعشرين .
يقول ماركس : " ان خطر الموت بالنسبة لأي كائن بشري يكمن في فقدانه لنفسه . من هنا فان غياب الحرية يعني خطر الموت الحقيقي للبشرية " . فالحرية شمولية متعددة الجوانب . أنها وحدة جوانب متعددة يكون كل منها تعبيراً ضرورياً عن كينونتنا كبشر . وكتب ماركس عام 1842 : " حرية التجارة ، حرية التملك ، حرية الضمير ، حرية الصحافة ، حرية القضاء … هذه كلها أنواع لاصل واحد متشابه هو الحرية بدون أي اسم محدد " . كما كتب ماركس في مكان آخر : " في منظومة الحرية … يكون دوران أي من عوالمها حول محاورة الذاتية الخاصة لا يعني سوى دورانها حول الشمس المركزية للحرية " .
اما الديمقراطية فلا تعني الحقوق الإنسانية والسياسية للحرية فقط . أنها تعني اكثر من ذلك بكثير … أي تنظيم المؤسسات والمقاييس الضرورية لتأكيد الحقوق والتي تنطوي على التقييدات كذلك . فالديمقراطية مقولة اكثر شمولية من الحرية بالمعنى السياسي لأنها "ميدان سياسي محدد للنشاط يمكن توسيعه او تضييقه ، تناضل مختلف الطبقات فيه من اجل توسيع او تقييد الإجراءات الديمقراطية اليومية ") .
في عام 1920 قال ( اوتو باور ) : " ان الديمقراطية شكل للدولة . ويتقرر توزيع السلطة في الدولة في ظله حصراً بالعوامل الاجتماعية للقوى وليس بالقوة . اما العوامل الاجتماعية فهي : (1) عدد الأعضاء (2) مستوى التنظيم (3) الموقع في الإنتاج والتوزيع (4) النشاط (5) التعليم ." .
لكن من أهم مقومات انبعاث المجتمع المدني هو الفصل بين الدولة والمجتمع . وكذلك دمقرطة أجهزة الدولة وسلطاتها كي تضمن عدم تحول التعددية الضرورية للديمقراطية الى تفكيك لمكونات المجتمع .فالهدف هو تمتين وحدة المجتمع على أسس ديمقراطية حيث لا مكان فيها للديكتاتوريـة ومتاهة اللا سلطات او فوضى واقعية اللا دولة . وكل ذلك تشترطه دمقرطة هياكل الدولة وبنيان المجتمع المدني في آن واحد وضمن ميثاق عهد وطني يقر بالديمقراطية ويدافع عن الحريات الديمقراطية ويقاوم غياب المؤسسات الدستورية وتمذهب الدولة ويفعل مشاركة الفرد الإيجابية في حياة الجماعة السياسية . كما يشترط ذلك اعتماد مبدأ الحوار والمصالحة والتطور السلمي لنبذ الخلافات وحلها بالتسوية والتفاهم .وكل ذلك تربية وكفاح أساسه أسلوب الانتخاب ، عماد السلطات الديمقراطية لترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي . فالتحول الديمقراطي ليس سوق منافسة سياسية وامر بعيد المنال عن حياة الفرد لان الممارسة الديمقراطية عملية نقدية الطابع متواصلة وقائمة على الحوار والعمل . ويبدأ صنع التاريخ من الأعمال اليومية المتواضعة . ألا ان أهم أساس في بنيان المجتمع المدني هو القانون او السلطات القضائية او دولة وإدارات وسلطة القانون . فالمعايير القانونية صمام أمان الحريات والتعددية السياسية والفكرية والحزبية والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع وآليات النظام السياسي الشرعية وبضمان الدستور . ولا يكفي ان يجري الإقرار بالديمقراطية في المواثيق والبرامج بالتحالفات السياسية ، وانما يجب تجسيد ذلك في الصحافة والممارسة اليومية وعلاقات القوى السياسية بعضها ببعض وتطور مختلف أشكال العمل المشترك الذي يلتقي فيه منتسبوا هذه المنظمات والأحزاب .
من الأسس الأخرى فصل الدين عن الدولة ، والحل الديمقراطي للقضايا العقدية القومية ، وتحديث الوعي الاجتماعي بالوعي العقلاني العلمي القادر على مجابهة التحديات ، ومضاعفة الوسائل العصرية التي تسهم في تحريك القناعان والقيم والمثل والمشاعر لدى المواطنين في اتجاهات التطور الديمقراطي ، والربط السليم بين الديمقراطية السياسية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
لا معنى للتنمية الاقتصاديـة والاجتماعيـة ان كانت تصب في النهاية في مجتمع يسوده الاستغلال والظلم الاجتماعي . فالمجتمع المدني وحده يضمن رعاية الدولة وحمايتها للحقوق المدنية والسياسية . وتامين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحق التنمية . ان التقدم الاجتماعي والتنمية يجب ان يقوما على أساس من قيمة وكرامة الإنسان . وان يؤديا الى مزيد من احترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية . ويسهم ترسيخ المجتمع المدني في إرساء الأسس الاجتماعية والحضارية للتصنيع ، الأساس المادي للتنمية الوطنية والقومية .
يتضح بجلاء ان الديمقراطية الصحيحة معادلة إنسانية لها طرفان لا تحقق إلا بهما مجتمعين . أ- حرية اجتماعية سياسية عبر مؤسسات مجتمع مدني حقيقي . ب- مستوى لائق من العدالة الاجتماعية لقطاعات وطبقات المجتمع كافة يفسح في المجال لظهور ودعم المبادرات الفردية والجماعية المبدعة في المجالات كافة . وتتجسد الديمقراطية الحق في نهوض المجتمع المدني بأنظمته ومؤسساته التي تحترم المواطن وحرية القول والرأي له ، وفي توافق هذا المجتمع مع المجتمع السياسي عبر الدولة ومؤسساتها توافقاً لا يعني إدماجا للمجتمع المدني وتهميشاً له بقدر ما يعني وجود حالة حوار نقدي بينهما من اجل مصلحة المجتمع الواحد بشقيه المدني والسياسي . وهذا يستدعي مشروعية التعددية في المواقف والآراء وتكوين الأحزاب والجمعيات والمنار الإعلامية والصحفية والمؤسسات التمثيلية التي يشكل البرلمان ذروتها عبر الانتخاب الحر النزيه .
ان أهم معلم في المجتمع المدني هو الشرعية الدستورية ومقاومة فرض نماذج عن طريق شرعية القوة ومنطقها الفج في العمل السياسي نتاج عصر الانقلابات العسكرية . فالعقلية الانقلابية تبيح استخدام القوة لإزاحة الخصوم وصولا الى السلطة … وتنفي حق الرأي الآخر حيث تستسهل القوة وسيلة لبلوغ الأهداف في اقصر وقت افتراضي بدلا من استخدام أساليب العمل السياسي الاخرى . وما دامت أصوات السيوف او الرصاص تحل محل أصوات الانتخابات فان رجال الحكم يندر ان يتخلوا عن مناصبهم او مراكزهم الى غيرهم طوعاً . فالمجتمع المدني خال من الرعب المحلي والرعب المصدر الى الآخرين . ويتيح للجميع الشروع بتكوين نماذجهم في التعاون والتنافس اللائق غير المسلح . وهو مجتمع المؤسسات الذي يقوم الأنظمة لشمولية والفردية والعسكرية ، ويتيح استعادة السلم الاجتماعي بتدرجاته المختلفة ليقترب من المستوى الممكن من العدل والتوزيع المنصف للأدوار في الحياة ، وليحل الولاء للمجتمع الذي يضم الجميع بدل الولاء للأحزاب والمذاهب والأفراد والقبائل وهو مجتمع يحد من سلطة الدولة ويمنع تلقائياً من ان تقفز شرائح غريبة عن النمو الطبيعي للمجتمعات الى سدة الحكم لتحرر عقل المغامرة وتبقي باب الاحتراب مفتوحاً . وهو مجتمع يقاوم المنطق التجريبي في العمل السياسي الذي يخل بثبات المنهج او ما نصطلح عليه بالتجريبية وما تفرزها من تراكم يعرقل استقرار المجتمع وثبات قيمه وقوانينه وروح العمل الجماعي وترسيخ المرجعية الدستورية .
اما معوقات المجتمع المدني فيدرجها الدكتور ( سامي خالد ) بالدولة التسلطية لأنها تحد وتمنع التجديد الحقيقي لهيئات المجتمع وتدمر الحرية الشخصية والاجتماعية فيه ، وبالنخب الحاكمة التي تعمل على فرض مشاريعها التنموية الزائفة ، وبالطبقات الوسطى الحديثة وهي استهلاكية الطابع لا تفهم دينامية التحولات الاجتماعية وضعيفة الإرادة أمام الأزمات السياسية والاجتماعية ، وبالتخلف الموروث المتعدد الجوانب ، وبهيمنة الريف والبدونة والعصبية القبلية ، وبالنهج الأحادي الجانب للأعلام والاتصالات من القمة الى القاعدة ، وبالنفط الذي تبدده الأنظمة الاستبدادية في ثرائها الفاحش وإفقار شعوبها ، حيث اتسعت ظاهرة القمع في الحقبة النفطية وتوسع التسلح وازدادت فرص العسكرة وحجوم الترسانات المسلحة ، وبالدور الرجعي للأفكار السلفية والمحافظة ، وبنظام الحزب الواحد السيئ الصيت . وكذلك بتراجع دور الأحزاب والحركات لمطابقتها النخب الحاكمة بالبنية الذهنية والسلوكية والنمطية .
ان الديمقراطية هي واحدة من المهام الملموسة الملقاة على عاتق القوى الثورية طالما انه واضح _ حتى للأعمى _ أنها مكون أساسي من مكونات العالم المعاصر . ومنها لا بد من اشتقاق ليس فقط الأشكال الملموسة لمواجهة الدكتاتورية والفاشية والطائفية والعنصرية بل أولا الشكل التنظيمي الديمقراطي القادر على جعل الديمقراطية واقعا ً ملموساً فيه قبل أن تصبح كذلك في المجتمع ، وهذا هو شرط لا غنى عنه في مقارعة النخب الحاكمة وسياساتها الرعناء .

 أسس المجتمع المدني في كردستان العراق

الصراع في كردستان العراق اواخر القرن العشرين ليس صراعاً عشائرياً او إقليمياً ، فسببه أساساً هو السلطة وما يتبعها من مغانم . وعندما يتعود رجال السياسة في كردستان على قبول الطرف المقابل ويقرون بمبدأ تدول السلطة عبر صناديق لاقتراع ، عندئذ تسكت البنادق ويتوقف الاحتراب … لكن السلام لن يحل … الا بالأنشطة المدنية الموحدة التي تسمح للفعاليات الاجتماعية والمؤسسات المدنية بان تلعب دورها وتعمل على إنهاء حالة التشرذم وقلع جذور الماضي البغيض وإنشاء المجتمع المدني الكردستاني الذي يكون نموذجاً للأجزاء الأخرى من كردستان وللمنطقة بأجملها . فجل ما تحتاجه كردستان هو الهدوء العميق بعد سني الاحتراب والخراب والحصار والاستماع الى طبول الحرب وطبول المهرجين . فالاقتتال الكردي _ الكردي كان عبثي الطابع والمسببات ، ولا يزال إلا باقتلاع أرحام المسببات . وسيصل المجتمع المدني الكردستاني الى الحل لان طبقات المجتمع وفئاته وقواه السياسية والاجتماعية ستتعرف على بعضها البعض ليس بهدف الصراع التناحري ولكن بهدف البحث عن الأرضية المشتركة في رحم المجتمع المدني العراقي والاقتناع بان الجمال والثراء هو في التنوع الذي يبعث على الإبداع والتجديد ويقضي على البلادة الخالية من الإلهام وصولا الى مجتمع افضل يقصر الحقبة الحرجة الحالية والقادمة ويوفق بين الهوية الثقافية " الوطنية والقومية والدينية " دون تعارض مع العالمية .
بدأ نضال الشعب الكردي في سبيل تحرره الوطني أوائل القرن التاسع عشر . وكان الإقطاع ورؤساء العشائر ورجال الدين في قيـادة الثورة والهبات الكرديـة أعوام 1826 ، 1842 ، 1853- 1855 ،1880-1881) (ثورة (1826) بقيادة الأمير (محمد باشا يكوره ) من إمارة راوندوز .وهي فاتحة الثورات الكردية ضد السيطرة العثمانية . وقد اغتيل الأمير المذكور في طريق عودته من استنبول الى موطنـه ، وفشلت ثورته التحررية . اما ثورة عام (1842) فقادها الأمير (بدرخان باشا) في جزيرة بوتان . وقامت الحكومة العثمانية بعمليات عسكرية لإنهاء الحكم البدرخاني المستقل . وفي أعوام (1853-1855) قامت ثورة كردية بقيادة (يزدان شير) ضد السيطرة العثمانية لاقامة دولة كردية مستقلة . وقد أودع (شير ) في سجن اسطنبول بعد خديعة القنصل الروسي ، ومات فيه . بينما اندلعت ثورة ( شمزينان) في عامي ( 1880-1881) على الحدود التركية _ الإيرانية بقيادة الشيخ (عبيد الله النهري ) الذي ترأس جمعية العشائر المنتخبة . وقد أودع (النهري) في سجن اسطنبول وانتهت ثورة شمزينان .) . وفي بداية القرن العشرين برزت على ساحة حركة التحرر الوطني الكردستانيـة فئات التجار الكرد ( وهم جنين البورجوازية الكردية الصاعدة ) والطلاب والمثقفون والضباط الكرد . وأسهمت جميعها في إقامة الجمعيات السياسية الكردية التي مارست النشاط السياسي السري والعلني مثل جمعية ( التعالي والترقي) الكردية عام 1908 ، وجمعية (هيوا) عام 1910 ، وجمعية المعارف الكردية سنة 1908 ، وحزب (الأمة) الكردي ومنظمة (جيهاندني) سنة 1913 . وكان الصراع بين النهج الإصلاحي المساوم الذي يقوده الإقطاعيون ورؤساء العشائر ورجال الدين الشيوخ والنهج الجديد الذي يقوده التجار والضباط والكسبة والطلبة المثقفون صراعاً هشاً لم يرتق الى مقدمة التناقضات بسبب الحرب العالمية الأولى ونهوض الحركة الكردية ضد الحرب .
في هذه الأثناء وقعت اتفاقية (سايكس بيكو) عام 1916 التي قسمت كردستان الى شمالية غربية تحت حماية فرنسا وجنوبية تحت الانتداب البريطاني ، وعهد الى عصبة الامم البت في رعاية ومصير كردستان الوسطى التي تشكل القسم الأكبر من كردستان .وفي آب 1920 اعلن عن نصوص معاهدة (سيفر) في باريس من قبل الحلفاء وهي تكتسب أهمية تاريخية خاصة بالنسبة للشعب الكردي إذ تعتبر أول وثيقة دولية رسمية تتعهد بموجبها الحكومة التركية أمام المجتمع الدولي بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره والانفصال عنها كما جاء في المواد (62، 63، 64) من القسم الثالث في المعاهدة . وقد كانت جميع مناطق كردستان آنذاك ممثلة في المجلس الوطني التركي حيث أعلن (72) نائباً كردياً في المجلس تأييده لسياسة ( مصطفى كمال اتاتورك ) ألا ان السياسة الكمالية تغيرت بمجرد وصولها الى الحكم فدخلت طرفاً أساسيا في معاهدة (لوزان) مع الحلفاء في 14/7/1923 وألغيت معاهدة (سيفر) وجرى التخلي عن دعم الحركة الكردية . ومن جديد اندلعت الانتفاضات الوطنية الكردية في عامي 1919 ،1920 والتي أسفرت عن تشكيل حكومة كردية بقيادة الشيخ (محمود الحفيد) عام 1922 عاصمتها السليمانية . واعترفت كل من الحكومة العراقية والحكومة البريطانية بها بموجب البيان البريطاني _ العراقي المشترك الصادر في 22/1/1922 . وقد أسقطت الحكومة الحفيدية لتعارض سياستها مع السياسة البريطانية ولتوددها للاتحاد السوفييتي والحكومة التركية الكمالية . واستمر الشعب الكردي في هباته الوطنية في أعوام 1925 ،1937 ، 1945 ، ... (في عام (1925) اندلعت ثورة الشيخ (سعيد بيزان) في ارضروم بالتنسيق مع الهيئات الكردية في حلب ، ألا ان القوات التركية التفت على الثوار من الخلف وسحقت الثورة . وبعد عامين فقط أقام الأكراد حزب (خوبيون) او (الاستقلال) بناء على توصيات مؤتمر بحمدون في لبنان وفجر الضابط (إحسان نوري باشا) على أثرها ثورة في جبل (ثاكري داغ) في آرارات وفشلت أيضا. في عام (1937) قامت ثورة كردية في درسيم بقيادة السيد (رضا الدرسيمي) وفشلت أيضا.). كما ذبحت حكومة مهاباد في كردستان الشرقية (الإيرانية) بقيادة (القاضي محمد) . وقمعت ثورات القائد ( مصطفى البارزاني) في شمال العراق . وكان اتفاق 11/3/1970 للحكم الذاتي الكردي في شمال العراق خطوة مهمة على طريق التحرر الوطني الكردستاني ألا ان الشعب الكردي تعرض بعدها للإبادة والقمع في حملات للحكومة المركزية في بغداد لم يشهد لها مثيل في تاريخه . وشنت سلطات النظام العراقي هجمات كيماوية مكثفة على آلاف القرى الكردية خلال الحرب العراقية _ الإيرانية وبعد وقف إطلاق النار . واستهدف استخدام السلاح الكيماوي في حرب الإبادة الشاملة ضد الشعب الكردي تحطيم الروح الثورية الكردية والقلاع الكردية التي قاومت المد المغولي على بغداد ، والتي كانت القوة الضاربة في الجيش الأيوبي في طرد الصليبيين من الأرض العربية والانتقام من الطاقة الثورية الكامنة التي يكتنزها الشعب الكردي .
توفرت للعراقيين خلال الأعوام (1908-1911) في ظل المرحلة الدستورية العثمانية فرصة للتعبير عن آرائهم ومطاليبهم السياسية في الصحافة ومن خلال النواب العراقيين في البرلمان العثماني الذي تأسس سنة 1908 ، وتكون من مجلس الشيوخ ( الأعيان) المعين من قبل السلطان ومجلس النواب ( المبعوثان) الذي يتم اختيار الأعضاء فيه بانتخاب غير مباشر ( بدرجتين حيث تتمثل الدرجة الاولى بانتخاب ناخبين ثانويين ، اما الدرجة الثانية فبانتخاب النواب من قبل الناخبين الثانويين ) .
بعد دمج العراق في السوق العالمية ارتباطا بمجيء النظام الاستعماري البريطاني في القرن التاسع عشر تميزت الطبقات وظهر التضامن الطبقي في بلادنا . وقبل ذلك كانت الملكية الخاصة رصيدا مهزوزا وعرضة للتدخل والمصادرة على أيدي الحكام . وتمثلت أسس التضامن في حينها ( بالمنزلة الاجتماعية Status Factor ) التي تحددها القوة العسكرية والسياسية (باشا /شيخ/ آغا…الخ) . والمرتبة الدينية عبر ( السيد /الشريف/ الشيخ الصوفي) والنسب عبر ( القبيلة والدين والأرستقراطيات التجارية ) مع بقاء المرتبة الدينية مرتبطة بالنسب ارتباطا متبادلا فيما بينهما . وأسهمت المركزية والإصلاحات القانونية العثمانية في القرن التاسع عشر وزحف السوق الرأسمالية العالمية المتزايد على الأراضي العثمانية في تمهيد الطريق لخلق وحيازة الملكيات الخاصة في الأرض . وسجل زعماء القبائل أراضى القبائل بأسمائهم بينما حول السادة اوقافهم ومصادر دخلهم الى حيازات خاصة . ثم تجمع هذا الخليط الفئوي ( المتباين سابقا) في القرن العشرين تحت راية الدولة العراقية الحديثة في طبقات من ملاك الأرض موحدين سياسيا بحكم المواقع الطبقية المشتركة . وبرزت طبقات جديدة ولدت مشاعر طبقية لدى الفئات الفقيرة القديمة مثل الفلاحين . كما برز في هذه الفترة جنين الطبقة العاملة العراقية ومعه جذور مشاعر التضامن الطبقي والاممي . اما الوضع الطبقي والاجتماعي في كردستان العراق والأوضاع الاستثنائية التي عاشتها طيلة عقود من الزمن فتميز بالطابع الهش للتمايز الطبقي والنشوء الفتي الصاعد للطبقة العاملة وضعف البروليتاريا الصناعية وبقاء الفلاحين في تبعية إقطاعية وبالنشوء الاجتماعي العام بسبب سياسات الحكومات المتعاقبة في مواصلة القضاء على البنى التحتية للمجتمع الكردستاني ، وبقيت البرجوازية ولا سيما الصغيرة منها قوة محركة للتحرر الوطني الديمقراطي وللتطور الرأسمالي .
تأسس أول برلمان عراقي في 16/7/1925 ضم نوابا كردا من بينهم الشاعر العراقي الكردي الأصل ( جميل صدقي الزهاوي). وكانت نقاشات البرلمان تنقل وتنشر في الصحف أثناء الجلسات البرلمانية بانتظام لإكساب النقاشات والحوار حيوية متصاعدة بين الطلائع الواعية في البلاد . اما التقارير الصحفية عن مجريات البرلمان فكانت مصدرا لانبثاق المجتمع المدني العراقي . وحتى ثورة 14 تموز 1958 تالف (16) مجلسا نيابيا و(53) وزارة . ولم تقر مجالس النواب ، مرة واحدة ، حجب الثقة عن وزارة ما او وزير واحد من الوزراء . ومنذ الأربعينيات كان جليا للعيان تحالف السلطة مع جهاز السفارة البريطانية وبعثاتها العسكرية وشركاتها الاحتكارية باعتراف نوري السعيد نفسه . كما اتخذت السلطة من سياسة الأحلاف والعزلة القومية ومناهضة حركة التحرر الوطنية العربية والكردستانية والعالمية منهجا لها ، وعليه لم تكن في السلطة إبان الحكم الملكي بعد الحرب العالمية الثانية مؤسسة واحدة يمكن اعتبارها من مؤسسات الدولة الديمقراطية . أما الانتخاب النيابي فاقتصر على درجتين حتى عام 1952 بينما كان يجري تعيين النواب الى المجلس ... وعندما تفاخر أحد النواب بأنه نجح بتأييد الناخبين له ، تحداه نوري السعيد مؤكدا ان جميع النواب نجحوا بالدعم الحكومي لهم . وهذا ما يفسر لماذا اشترط نوري السعيد على البلاط الملكي حل المجلس النيابي في عام 1954 بعد إلقاء خطاب العرش ، ذلك المجلس الذي استطاع الشعب العراقي وجمهور الناخبين ان يوصلوا إليه أحد عشر نائبا من ممثلي جبهة المعارضة ومن بينهم الزعيم الوطني الديمقراطي كامل الجادرجي . وهذه هي حال رؤساء البلديات وأعضاء المجالس الإدارية والبلدية . وقد انعكس كل ذلك على المعارضة التي لم ترتق الى مستوى المسؤولية رغم تضمين دساتيرها المطالبة بالحقوق والحريات . وفي عام 1957 توصلت المعارضة الوطنية الى ميثاق وطني يطالب بحل المجلس النيابي واطلاق الحريات الديمقراطية .
لم يطور قادة ثورة 14 تموز 1958 الأجهزة والمؤسسات التي ورثوها من الحكم الملكي لتعميق محتواها الديمقراطي والدستوري المشوه ، وتوسيع صلاحياتها ، والحد من تجاوزاتها المعروفة قبل الثورة ، ولم يستلزم العراق آنذاك سوى إصلاح البرلمان والدستور والمؤسسات بما يخدم مصلحة الشعب والجماهير الواسعة ويحد من نفوذ تسلط القوى التي كانت تتلاعب بها . فولدت ثورة 14 تموز مجالا سياسيا ديمقراطيا متخلفا في الفهم السياسي السليم لمجريات الأحداث وأسلوب إدارة المجتمع . وانحسرت قواعد المعارضة التقليدية بينما تصرفت القيادات السياسية بغرور وايمانية عجيبة فغرقت الزعامات في بيروقراطيتها رغم نزاهتها ووطنيتها . لكن النزاهة والوطنية وحدهما غير كافيين لبناء مجتمع مدني متطور ديمقراطي تعددي تداولي "يواكب ركب الحضارة " حسب تعبير الزعيم عبد الكريم قاسم نفسه . فتآكل المجتمع المدني وتحول الى ركام يتندر به الجميع حيث سادت مظاهر الطائفية السياسية ، الحقوق المغيبة، الاحتراب والصراعات الداخلية ، غياب المنهجية والبرامج والأهداف لدى السلطات والمعارضـة والأحزاب وبروز انفصام واضح في كياناتها وشخصياتها وبروز الشعاراتيـة والنشاطات الاستعراضية ( الميكافيلية) والابتعاد التدريجي عن الموضوعية والواقع السياسي … وباختصار غاب الوعي السياسي وتدنى .
في 28/10/1965 رفع الشيخ( محمد رضا الشبيبي ) مذكرة الى الحكومة تعرض فيها لغياب المؤسسات الدستورية وانتقد تمذهب الدولة وطالب بالحكم الذاتي للأكراد . وفي 11/11/1965اجتمع ( كامل الجادرجي) بالشبيبي وتدارسا ما آلت أليه المذكرة السابقة . واقترح (الجادرجي) إصدار ميثاق وطني يقتصر فقط على الدفاع عن الحريات الديمقراطية توقع عليه الكتل والأحزاب السياسية آنذاك ... وبذلك سجلت هاتان الشخصيتان مواقف آخر دعاة التأسيس المدني في العراق . في ايلول 1966 رفع ابراهيم كبة ومحمد سلمان حسن ومصطفى علي وعبد الوهاب محمود مذكرة الى ناجي طالب ( رئيس الوزراء ) ابرزت حقيقة الحقائق... وهي ان المسألة الأساسية في الوضع العام في العراق بعد نجاح ثورة 14 تموز في دك النظام الملكي الاستعماري وإزالة قشرته السياسية ، تمحورت حول المسألة الاجتماعية ، أي مسألة الثورة الاجتماعية التي نضجت مستلزماتها الموضوعية اي ديناميكية الصراع الطبقي الاجتماعي ، وبالتالي ، السياسي ، بعد ان كان المحور قبل تموز يدور حول المسألة الوطنية . وفي 3/8/1968 اي بعد ايام قلائل من الانقلابات البعثية عرج كبة في مذكرة بعنوان (نصيحة للحكام الجدد _ من اجل حل سلمي لأزمة الحكم في العراق) الى حكم البعث الثاني ومسألة الشرعية وعرض مهام الحكومة الجديدة والاخطاء التي يجب تجنبها وفكرة المراحل الثلاث . مرحلة الحكم الانقلابي ، مرحلة الحكومة الائتلافية المؤقتة ، ثم أخيرا مرحلة حكومة الاتحاد التقدمي ، وان يباشر الحكام الجدد على الفور ومن دون تلكؤ بأداء مهام المرحلة الأولى وذلك بإطلاق الحريات الديمقراطية وعلى رأسها حرية النشاط الحزبي للقوى السياسية الفعالة في المجتمع ، والإقلاع نهائياً عن مفهوم الحزب الواحد او الحزب القائد ، والتخلي عن أسطورة الوصاية على الجماهير او الانفتاح الصوري على بعض القوى الأخرى ، وذلك تمهيداً لعقد حوار حقيقي ومفتوح مع جميع القوى المعادية للاستعمار والإقطاع والاستغلال ،من اجل صياغة منهاج عام مشترك يكون أساسا لتأليف ( جبهة اتحاد تقدمي ) تنبثق عنها عن الانتخابات العامة (حكومة اتحاد تقدمي ) تتصدى لحل المشاكل الأساسية للبلاد وتقود عملية التطور الاجتماعي والسياسي وفق المراحل العلمية المعروفة في علوم السياسة والاجتماع . وختم كبة مذكرته ب( هذه نصيحة خالصة أقدمها للحكام الجدد ليثبتوا جدارتهم بتحمل المسؤولية وليقدموا ربما الفرصة الأخيرة لانصار الحل السلمي والمصالحة الوطنية والجبهات العريضة ، بعد أن بلغت التناقضات الاجتماعية في قلب المجتمع حدود الانفجار الثوري . إن الفرصة مؤاتية فاغتنموها قبل فوات الأوان و( قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين).) وبذلك سجلت هذه الشخصيات مواقف آخر دعاة التأسيس المدني في العراق .
لقد ولدت الدولة العراقية الحديثة مجموعة كاملة مركبة من النماذج والمفردات والتنظيمات والتقنيات التي أوجدت مجالا سياسيا محددا للتنظيم والتعبئة والتحريض والنضال . ومن مفرداته الشعب، الأمة ، القومية ، الانتماء القومي ، الجنسية ، السيادة الوطنية ، الحرية، الديمقراطية ، الشرعية ، المساواة ، التمثيل ، الأحزاب السياسية ، البرلمان ، القانون ، الدستور الخ.والاتجاهات الإيديولوجية المختلفة من القومية والدين والإسلام والاشتراكية . ورافقت هذه الولادة التمدن الحديث ، وتفكيك وتفتيت الكثير من الجماعات الأساسية المدينية والريفية ، وظهور واتساع سوق العمل لا سيما وان الدولة هي رب العمل الأكبر ، واتساع التربية والتعليم ، وتطور رأسمالية الطباعة (Print Capitalism) . فانتقل العراق بعد تأسيس الدولة الحديثة من النظام الثقافي الميثولوجي _ الشفاهي والمقدس _ الأبجدي إلى النظام المعرفي الحديث القائم على المعرفة التجريبية والكلمة المطبوعة . وانتقل إلى عالم المعلوماتية بالمعدات والإعلام الحديث . وقد طبعت كل هذه السمات المجتمع العراقي بخصائصها .
دخلت المشاعر الطائفية والو لاءات العشائرية المجال العراقي السياسي مجددا بقوة في ربع القرن الأخير وأدت في نهاية المطاف إلى هيمنة زمرة تستند إلى عوائل معينة من المدن( الريفية) للشمال الغربي العراقي على حزب البعث والحكومة العراقية ... هيمنة أساسها السياسة التآمرية والعصبية لتصفية المنافسين وبدل أن تتطور الدولة لتوسع في دائرة المحاصصة لجماعات وقطاعات أوسع ... تحولت من تحالف جماعات إلى جماعة واحدة ثم أسرة واحدة ثم فخذ واحد فشخص حاكم واحد تجسدت فيه مصالح الدولة والمجتمع والأمة سوية ! إما أساس الصورة التقليدية للسياسة الطائفية فهو إبقاء الهيمنة السنية العربية على الدولة العراقية حيث إن دوائر البعث الحاكمة تنتمي في الغالب إلى المدن والمناطق السنية العراقية . ويتضح بجلاء إن سنة العراق العرب أقلية كان موقعها المهيمن تقليديا مهددا ولا يزال بدخول الشيعة والأكراد معترك السياسة الوطنية .
لم تتحكم الدولة بالمجتمع المدني العراقي فقط ، بل وعملت على نفيه لأنها لا تطيقه وتحاول تولي كل وظائفه . ففي عراقنا كان اغتراب الدولة عن المجتمع وظلمها المتزايد نتاجا حديثا من صنع السوق الرأسمالية العالمية وليس امتدادا تاريخيا للاستبداد الآسيوي فقط . فالدولة العراقية قمعية بالضرورة بمنطق تبعيتها للسوق العالمية فأشاعت الفوضى واللانظام في التشكيلات الاجتماعية التي تحكمها وحسب تمفصلها في السوق العالمية نفسها . ولا تطيق الدولة أي تنظيم مستقل أو وظيفة مستقلة : الاقتصاد ، العمل الجماعي، الدين، العائلة ... جميعها مخترقة من قبل الدولة وبيروقراطيتها الثقيلة . وتحاول الدولة استيعاب المجتمع المدني في جسمها وهي تستمد سلطاتها أساسا من ارتباطها بقوى المركز وتبعيتها له ... وليس من قواعد سلطات محلية . فالإدارات المحلية والمجالس البلدية والمجلس الوطني والمجلس التشريعي في كردستان والتنظيمات الجماهيرية والمهنية والنقابات ...تبنيها الدولة ولا تكون سابقة عليها . وأختلقت الدولة العراقية بواقعها المأزوم كل الذرائع للقمع وانتهاك كل زوايا المجتمع المدني وأكثرها حرمة مستبعدة حرية الاختيار والاستقلالية الشخصية . إلا إن التقدم الاجتماعي والعامل الدولي المعاصر في نهاية القرن العشرين ضيقا هامش المناورة تدريجيا لدى النخبة الحاكمة العراقية للتوفيق بين التوجهات السياسية وضغط السوق تحت وطأة تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية . وتصاعد السخط الشعبي والجماهيري . وحجبت دكتاتورية صدام حسين نفسها بالستائر الدينية والقومية والأغلفة الإيديولوجية لأنها معادية أساسا لنهوض مجتمع مدني مهما كان نموذجه . وعليه إذا ما افلح نضال الشعب العراقي في التخلص من النخب الحاكمة فلن يتيسر لأية قيادة ولأية دكتاتورية أخرى أن تمارس هذا النهج، مهما حاولت ، أن تغفل مصالح الجماهير الشعبية الكادحة التي تحتاج أصلا إلى استراتيجية وبرامج عمل واقعية تتناسب مع مستجدات الأحداث والعصر .
في 19/5/1992 توجه شعب كردستان العراق لأول مرة في تاريخه وبأسلوب نضالي آخر ضد الدكتاتورية الشوفينية وفي عملية تاريخية قليلة المثال إلى صناديق الاقتراع لانتخاب مندوبيهم إلى أول برلمان كردستاني . ومنذ 4/6 من العام نفسه شرع البرلمان في تشريع القوانين اللازمة لملء الفراغ الإداري الذي أوجده النظام بسحب إداراته من المنطقة والانتقال إلى الشرعية البرلمانية القانونية . وظهرت حكومة إقليم كردستان الأداة التنفيذية للبرلمان . وتعتبر هذه الإجراءات رفضا قاطعا للسياسة الشوفينية والتآمرية للدكتاتورية وشروعا جادا في بناء المجتمع المدني في كردستان وترسيخ التعددية كمفهوم سياسي اجتماعي وممارسة حضارية في إدارة الحكم والصراع . واقر البرلمان الفيدرالية كتعبير حضاري متقدم للكيان السياسي المناسب في إطار النظام الديمقراطي الفيدرالي العراقي ... . ثم اندلع الاحتراب الكردي _ الكردي الذي الحق الأضرار بالمجتمع الكردستاني وتسبب في ازمة داخلية قسمت المجتمع وضخمت العراقيل التي تمنع تكوين الرأي العام الكردستاني وأسس المجتمع المدني لأنها ضيقت أطر الديمقراطية والحريات السياسية للفرد والمجتمع وهمشت دور المنظمات الجماهيرية والمهنية والنشاطات الديمقراطية لتسود العبثية والفوضى من جديد ولتدخل كردستان في متاهات هي اكثر بكثير من الفوضى التي تكلمت عنها الأحزاب السياسية الكردستانية لأنها خلقت أجواء تحتفظ بكل مسببات اندلاع الاقتتال مجددا وشجعت على مغازلة النظام المقبور مرارا . وسارت خطوات التطبيع ببطأ بعد عقد اتفاقية واشنطن أواخر عام 1998 واللقاءات المشتركة لقادة الأحزاب والاجتماعات الدورية المنتظمة بينها . ويبقى أدراك الأحزاب الكردستانية لأهمية المسيرة السلمية والمصالحة الوطنية شرط أي تفكير عقلاني ببناء مجتمع مدني في كردستان العراق .فاتفاق الأحزاب السياسية في كردستان العراق حول برامج واهداف التنمية الكردستانية وادواتها لا يتحقق الا بالممارسة الديمقراطية والحوار والإقناع والاقتناع . وهي أساليب تتطلب سلطات ديمقراطية تتقن الربط الفعال بين الديمقراطية السياسية والتنمية الاجتماعية ... لان الديمقراطية ليست مشروعا عقائديا فقط بل هي قاعدة إجرائية ضرورية للتوصل إلى التسويات الاجتماعية والمصالحة الوطنية والسلام والتراكم الحضاري بدل التدمير الذاتي والانتحار الجماعي ، وذلك شرط مسبق لقيام أي مشروع سياسي اجتماعي حي ، والضمانة لرسم برامج جدية مجسدة لآمال ومصالح عموم الشعب . وهذا يستلزم نبذ الرؤية الماضوية ومعاملة الزمن وحركة التغيير حضاريا بصورة ترتقي إلى روح العصر ، فالقوى العلمانية الكردستانية في سباق مع الزمن لإيجاد الحلول المناسبة للأزمات الداخلية وعكس الوجه المشرق لحركة التحرر الوطني الكردستانية .
كما أسلفنا يتسم التمايز الطبقي في كردستان العراق بالهشاشة وسيادة العلاقات شبه الإقطاعية وبالتشوه الاجتماعي العام بسبب النهج القمعي للحكومات المركزية المتعاقبة في بغداد لتطلعات الشعب الكردي وعملها المستمر للقضاء على الركائز الأساسية التحتية للمجتمع الكردستاني . وقد ساهمت حملات الإبادة الجماعية والتهجير القسري في تحقيق هذا الهدف . وتبرز اليوم في مجتمع كردستان العراق شريحة صغيرة عليا تكدس الموجودات والأموال وهي تشمل المتعاملين بالعملة والتجار والمهربين وبعض الكوادر والنخب السياسية والعسكرية في الأحزاب ، وشريحة سفلى ذات مستوى دخل ومستوى معيشة ينخفضان باستمرار مع الاحترابات الأهلية الكردية _ الكردية وتغلغل العلاقات الرأسمالية في المجتمع الكردي ، وتشمل الأغلبية الساحقة من السكان . اما الشريحة الوسطية فقد أرهقت وصفيت عمليا تقريبا . وعمل كل من النظام العراقي البائد والحكومة التركية جاهدين في زعزعة الاستقرار وتغذية مختلف النزاعات لابقاء النسيج الاجتماعي في كردستان مفككا ولجعل الشعب الكردي غير قادر على رسم سياساته المستقلة عبر التدخلات الإقليمية .
يستلزم بناء المجتمع المدني في كردستان العراق التفاعل الموضوعي مع واقع حال عموم الشعب العراقي والمجتمع المدني العراقي وشعوب المنطقة بتكريس الأساليب والممارسة الديمقراطية منهجا لعمل حضاري واسع يوحد كردستان العراق ومجتمعها المدني وجميع المؤسسات الإدارية على قواعد المصالحة الوطنية والسلام والحوار الديمقراطي ، ورفض " الهمجية ومتاهات الحروب الداخلية وأسلوب العنف المسلح " في حل التباينات الداخلية ، وتطبيع الأوضاع ، وتنقية الأجواء السياسية ، واعادة الثقة بين الأحزاب لسياسية في كردستان العراق ، والتمهيد لاحياء الجبهة الكردستانية كإطار ثوري منظم يوحد صفوف حركة التحرر الوطني في كردستان العراق . ويبقى الفضح المستمر لسياسات الدكتاتورية البائدة وفك الحصارات المركزية الظالمة على كردستان العراق حجر أساس أي تطور سلمي حضاري فيها .
توفر وحدة الإقليم إداريا من قبل الحكومة والبرلمان والمؤسسات ، وأجراء الانتخابات النزيهة الحرة تحت الأشراف الدولي ، الأساس المتين لخلق الرأي العام الفاعل الضاغط من اجل قضية الشعب الكردي العادلة . اما المؤسسات القانونية التي تتمسك بالقواعد الديمقراطية والشرعية الدستورية للإقليم فأنها سوف تضمن منع وصول سلطات مدنية دكتاتورية لا تحترم مبدأ فصل السلطات . وتحد من إمكانات التراجع عن المكتسبات الديمقراطية الشعبية في ظل احتدام التناقضات الاجتماعية والطبقية والاثنية والقومية . وبينما يتطلب الوضع من مؤسسات حكومة إقليم كردستان الموحدة تحديد حقوق الملكية وطبيعتها وحمايتها فان ذلك يسهم في حماية النشاط الاقتصادي للأفراد ويسهل مهمتهم ، وفي تكامل العملية الاقتصادية _ الاجتماعية في المجتمع المدني المنشود .
ان الهدف الأساسي الفاعل في مجتمع كردستان العراق هو، المواطن العراقي الذي يقطن كردستان ، فجوهر المجتمع المدني إنساني بالطبع . وقد أكد ماركس في حينه عندما درس الاقتصاد ورأى فيه علم التشريح للبنى التحتية للمجتمع المدني … أكد ان الموضوع والهدف هنا هو الإنسان _ الفرد في المجتمع المدني . وقد عاب كارل ماركس على المثاليين قلب الذات والموضوع .
يعجل العامل الدولي المعاصر والعولمة والإعلام المعلوماتي الحديث بناء وتطور أي مجتمع مدني في كردستان حيث يسهل من الانتشار الواسع للمعدات والتكنولوجيا الحديثة فيحد من آلية التنافس البيروقراطي الرتيب بين المؤسسات وداخل المؤسسة الواحدة ويجعل من إبراز مشكلات الجماهير الشعبية ومصالحها وحقوقها أمرا يسيرا. وقد حول التبادل المعلوماتي الحديث العالم الى قرية صغيرة فذلل من حل المعضلات بشكل سليم وحضاري ، ورسخ موضوعية توحيد جميع القوى من اجل إنقاذ البشرية جمعاء وسحق الفاشية واقامة السلام .
وهذا درس يؤكد على التعاون بين القوى الاجتماعية المتباينة … وهو تعاون ممكن بل وضروري عند حل القضايا العقدية العالمية التي تهم الإنسانية جمعاء .
لا يمكن تفعيل مشروع المجتمع المدني في كردستان العراق دون اختبار الاستعداد النفسي والفكري والذهني للقيادات السياسية فيها . وتشمل مقومات هذا الاستعداد … طرق التفكير والتربية والتثقيف السياسية ، ومبادئ استيعاب الرأي والرأي الآخر … والاعتراف بسيادة القانون وقدسيته وحرمته ، واحترام حقوق الإنسان التي جاءت بها المواثيق واللوائح الداخلية للقوى السياسية والمواثيق العالمية . ويسهم الإعلام والتدفق المعلوماتي الحديث كسلطة رابعة في مراقبة سلوكية الوحدات البيروقراطية في المؤسسات والنسغ الاجتماعي والثقافي والصحي للشعب الى جانب إرساء قواعد التعددية الحزبية واطلاق الحريات وبناء المؤسسات على اختلاف سماتها .
ليست الديمقراطية السياسية في كردستان مجرد اقتراع شعبي حر بصرف النظر عن الأطر القانونية والمؤسساتية لان ذلك يحول الديمقراطية الى مسخرة ومسرحية هزلية مصطنعة ثقيلة مقحمة لا معنى لها … ومجرد استفتاء على اختيار قيادات لن تجد نفسها مرغمة على إجراء مثل هذه الاستفتاءات لاحقا. بينما تتجسد أولى الخطوات على طريق الديمقراطية في إرساء الأطر القانونية التي تحدد الحقوق والواجبات والإجراءات اللازمة وتحميها بحيث لا يمكن حتى لهيئات منتخبة ان تتجاوز هذه الحقوق . وحينذاك تتبلور معايير أخلاقية جديدة تساعد على إضفاء الطابع الإنساني على الأنشطة الموضوعية وتحد من الغرائز التنافسية التي تخدم المصالح الذاتية للأفراد والجماعات فيتشرب المجتمع بالروح المشتركة التي تتعارض مع الأسلوب الميكافيلي.ولسوف تنصرف الأحزاب والمؤسسات لخدمة كردستان العراق لأنها ستعي ان وجودها ليس لخدمة التنظيمات ذاتها فقط … بل للدفاع عن المصالح الوطنية والقومية أساسا … كي تتجنب مآسي وحطام الماضي القريب والبعيد . ويوفر المجتمع المدني فرصا متكافئة للمجتمع فيذلل من مصاعب التخطيط لتنمية كردستان وأعمارها الى إجراءات جذرية حاسمة ترسم خطوط البناء الاجتما- اقتصادي فيها ( المهندس سلام إبراهيم كبة ، المجتمع المدني الكردستاني شرط ديمومة الكهرباء وانماء باقي القطاعات الاقتصادية ، طريق كردستان ، عدد (169) ، 1998 ) .
.
يؤكد الاحتراب الداخلي والاقتتال الأهلي على الدوام ان قادة الفصائل المتنازعة لم يتعلموا إلا القليل من دروس التاريخ وخبرات الشعوب وتجاربها . وقد تلجأ هذه الفصائل في تعصبها التام الى إشعال نار معارك جديدة تستخدم فيها الأسلحة الجديدة المتراكمة ولتزداد ثراء ولتبقى الضحايا من نصيب المقاتلين البسطاء وما يتبع ذلك من خسائر مادية على الأرض . من يغذي هذا العمى السياسي ؟ انه تدني الوعي السياسي مشفوعا بمطامع القوى الإقليمية والنظم الدكتاتورية والشمولية .
يتضح مما سبق أننا نقف أمام مفهوم حضاري له أسسه وقواعده ومستلزماته ليتحول من مشروع نظري إلى واقع موضوعي. فثقافة المجتمع المدني في كردستان العراق تنفي ثقافة العنف التي تسترخص الرأي والرأي الآخر والحوار الهادف البناء ... وتحول المواطن إلى دمية يمكن شطبها من اجل أوهام جماعات حالمة نافذة وتبيح قتله من اجل أحلام رخيصة . وثقافة المجتمع المدني تنفي ثقافة القتل والاقتتال غير القادرة على التحاور والقبول بالآخر والتعايش مع الرأي المغاير والتي تنفر من اللوحة الملونة " من ليس معي فهو عدوي " . وتنفي ثقافة المجتمع المدني ثقافة التآمر التي لا تقر بحق الاختلاف ولا تعترف للإنسان بحرية ، وتهدف إلى ان يكون الجميع على صورة واحدة وبنسخة واحدة ... لأنها ثقافة خائفة مرتجفة من كل تغيير .
ترك نهج دكتاتورية عقود ثلاثة وقمع الحكومات المتعاقبة آثار الاستبداد والتكتم في المجتمع العراقي . وما زالت قوى المعارضة العراقية والسلطات الفتية التي أعقبت التاسع من نيسان 2003 تعاني الأمرين من ذلك . وانعكس استبداد قطاع الطرق والعسكر في بغداد بأعلى درجاته في كردستان العراق بسبب عامل خطير رئيسي هو استخدام أسلحة الدمار الشامل الكيماوية ضد الشعب الكردي نهاية الثمانينيات . فكان رد هذا الشعب حازما لا هوادة فيه في أول فرصة سنحت له بعد انتفاضة آذار/مارس المجيدة عام 1991 ... وعلى هذا الشعب ومن اجل الحفاظ على مكتسباته الوطنية والقومية خوض غمار كل السبل الممكنة المؤدية إلى قيام مجتمع مدني حضاري في كردستان العراق بعيدا عن مخططات النظم الدكتاتورية والتدخلات الإقليمية وبذلك سيكون شعبنا الكردي قد أدى قسطه الموضوعي في إنقاذ العراق من التردي المستمر .
كبة مهندس استشاري في الطاقة الكهربائية وباحث وصحفي وكاتب.



#سلام_ابراهيم_عطوف_كبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كردستان العراق والمجتمع المدني الحديث
- كردستان العراق والمجتمع المدني الحديث
- الشبيبة العراقية …ما لها وما عليها !
- آليات العقلنة واللاعقلنة في المنظمات غير الحكومية


المزيد.....




- روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة. ...
- مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
- مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ ...
- من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا ...
- ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا ...
- قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم ...
- مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل ...
- وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب ...
- واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب ...
- مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام ابراهيم عطوف كبة - المجتمع المدني في كردستان العراق