|
محنة المادية اليوم
هشام غصيب
الحوار المتمدن-العدد: 3357 - 2011 / 5 / 6 - 09:05
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
نشأت المادية مع نشؤ الفلسفة والعلم في جزر أيونيا اليونانية؛ تلك الجزر المبعثرة قبالة الساحل الغربي لتركيا الآسيوية. فكانت شكل ظهور فلسفة الطبيعة الإغريقية. وتلازمت منذ نشوئها مع التفكير المنهجي المنظم (الفلسفي والعلمي) في الطبيعة. وفي الفكر القديم وصلت أوجها في ديموقريطس وأبيقور ولوكريشس، أي في النظرية الذرية القديمة. لكن هذا الأوج همش في العالم القديم على يدي أرسطو، وإن كانت عناصر مادية أخرى تسربت إلى نظام أرسطو في الطبيعة وترسخت فيه. لكن الذي يؤكد أن المادية ظاهرة علمية، بمعنى أنها مرتبطة بنشوء العلم ووجوده وازدهاره، أن التفجر الحقيقي للمادية وقع فعلا في مطلع الحقبة الحديثة وتزامن مع نشوء العلم الحديث على يد كوبرنيكوس وكبلر وغاليليو ونيوتن. إذ تم إحياء النظرية الذرية القديمة المهمشة في القرن السادس عشر الميلادي في سياق الثورة العلمية الكبرى، وتبناها فلاسفة أمثال غاسندي الفرنسي وديكارت الفرنسي وبرونو الإيطالي (شهيد المادية؟!). وتبناها العلماء أمثال غاليليو ونيوتن. وشقت المادية طريقها بزخم في فلسفة الحقبة الحديثة. وتجلت بشمولها في الفلسفة الإنجليزية في القرن السابع عشر، في فرانسيس بيكون وهوبز ولوك. ثم تجلت بصورة أوضح وأكثر حدة في الماديين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، في كوندرسيه ولامتري وهولباخ وديدرو. ووصلت أوجها في القرن التاسع عشر في ألمانيا تحديداً، في فويرباخ وماركس وإنغلز، ثم في بيشنر وموليشوت وفويغت وهيكل، بل وفي روسيا أيضا، في بليخانوف ولينين. ولكن، وبرغم صعود الماركسية البركاني في القرن العشرين، إلا أنه يمكن القول إن القرن العشرين شهد انحساراً ملحوظا في المادية مقارنة مع القرون الأربعة التي سبقته. وارتبط هذا الانحسار مع المحنة التي وقعت فيها المادية في القرن العشرين. والسؤالان اللذان سنعالجهما هنا هما: لماذا ترتبط المادية بعلم الطبيعة هذا الارتباط العضوي العميق ؟ أي لماذا نعتبر المادية ظاهرة علمية؟ ولماذا دخلت المادية في محنة في القرن العشرين، فانحسرت؟ أي ما التطورات العلمية التي حدثت في القرن العشرين فأدخلت المادية في محنة؟ إذا درسنا الممارسة العلمية دراسة عيانية، أي عبر دراسة تاريخ العلم، لا عبر تفكيك مفهوم الممارسة العلمية فلسفيا، اتضح لنا أن هذه الممارسة تنطوي على أسس إيبستمولوجية وأنطولوجية وأخلاقية وسوسيولوجية. وقد عالجت الأسس الإيبستمولوجية في المقالة السابقة. أما الأسس الأنطولوجية، فيمكن القول إنها المنظومة الفكرية المادية. ومعنى ذلك أن الممارسة العلمية تفترض المادية أساساً أنطولوجيا لها. وهذا يفسر هذا التلازم الدائم بين المادية والعلم عبر التاريخ. ولندقق النظر في هذه المقولة. يمكن إجمال الأسس الأنطولوجية للممارسة العلمية على النحو الآتي: أولاً، إن هناك عالما موضوعيا مستقلا عن مشاهدته ومعرفته، أي عن الوعي، أي وعي، ومستقل عن الذات العارفة، أي ذات عارفة. وهذا الأساس هو جوهر المادية. فنحن لا نغير العالم بمشاهدتنا أو معرفتنا إياه. لا بل إن هذا العالم الموضوعي المستقل هو أساس وعينا، وأي وعي، وأساس ما نعرفه عنه. إن الوعي نفسه ينبثق من قلبه بوصفه قوة من قواه وملكة من ملكات بعض مكوناته. ثانيا، إن الطبيعة كيان مستقل قائم في ذاته وتحكمه قوانين متشعبة ومتنوعة لكن محددة. وسنوضح لاحقا ما نعنيه بقوانين الطبيعة. ثالثا، إن الطبيعة هي نظام فيزيائي لامتناهي من عدة أوجه، ويتكون من عدد لانهائي من الأنظمة الفيزيائية المحدودة. ويتكون النظام الفيزيائي من موجودات مادية (مثلا جسيمات ومجالات) تتفاعل معاً بتفاعلات متنوعة. ولهذه الأنظمة خصائص أولية تتحدد بالرياضيات والقياس الدقيق. لذلك نسميها الكميات الفيزيائية (مثال ذلك :الطول والزمن والكتلة والطاقة ودرجة الحرارة والسرعة والتسارع). وهذه الخصائص تحدد الوجود المادي وتوحده. وتربط هذه الخصائص معاً علائق متنوعة نسميها قوانين الطبيعة، التي تبين كيف تتغير خاصية أولية بتغير غيرها من الخصائص الأولية. بذلك يغدو هدف العلم البحث عن مزيد من مثل هذه الخصائص وعن العلائق المتنوعة بينها. وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم مشروع غاليليو، لأن غاليليو كان أول من أطلقة بصورة شاملة ومنهجية. وقد طوره نيوتن بضخ علم الحسبان ( التفاضل والتكامل)، الذي ابتكره هو نفسه جنبا إلى جنب مع الفيلسوف الألماني لايبنتز، في قلب قوانين الطبيعة، محولا إياها إلى ماكنة مذهلة لإنتاج المعرفة والتفسيرات والتنبؤات من عدد محدود جداً من القياسات والبيانات. وانطلق مشروع غاليليو- نيوتن محققا المعجزات. رابعاً، إن أسباب الظاهرات والتغيرات في الطبيعة لا تقع خارجها، وإنما في داخلها. أي إن الظاهرات والتغيرات الطبيعية تنتج سببيا أو عليّاً عن آليات طبيعية. وبالتحديد فإن مصدر الظاهرات والتغيرات الطبيعية هو التفاعلات بين الموجودات المادية (الجسيمات والمجالات). فالكون هو في أساسه نظام فيزيائي يتطور ويتغير بفعل التفاعلات المتنوعة بين الموجودات المادية المكونة إياه. خامساً،إن الظاهر لا يفهم بدلالة نفسه، وإنما بالباطن الذي ينتجه. لكن الباطن (المادي) غير شفيف. لذلك نحتاج إلى العلم. فالعقل العلمي يمكن الإنسان من النفاذ إلى الباطن المادي عبر الظاهر. فالعلماء يلجأون إلى تحديد الكميات الفيزيائية اللازمة لوصف الظاهر بالرياضيات والقياس الدقيق. ثم إنهم يبنون النماذج الفيزيائية والرياضية من أجل توحيد وصف الظاهر. وسرعان ما يكتشفون أن هذه النماذج تعاني من ثغرات وتناقضات وإشكالات. وهم ينفذون إلى باطن الآمور في سياق سد هذه الثغرات وحل هذه الإشكالات والتناقضات. إنهم يكتشفون أن الظاهر عاجز عن تقديم حلول مقنعة لهذه التناقضات، فينبرون إلى بناء نماذج للباطن المادي قادرة على تقديم حلول مناسبة. ثم يسعون إلى اختبار هذه النماذج بطرق شتى حتى ترسخ بوصفها صوراً دقيقة للباطن المادي. وهذا ما يبينه تطور علم الفلك مثلاً من بداياته الأولى في بابل (500 ق.م) وحتى كوبرنيكوس (1543م.). إذ تعمقت تناقضاته إذ تعمق وصف الظاهر الفلكي حتى اضطر كوبرنيكوس إلى تخطيه صوب الباطن المادي، فاتحاً المجال لحل هذه التناقضات على يد كبلر وغاليليو ونيوتن. لكن هذه الأسس والمنطويات الأنطولوجية هي المادية بعينها. إنها الصورة الأدق والآشمل للمادية. من ثم، يمكن القول إن المادية هي أساس أو شرط أنطولوجي للممارسة العلمية كما تتجلى في تاريخ العلم. لذلك ، لا عجب أن كانت المادية ملازمة للعلم الطبيعي منذ نشؤئه وعبر مراحل تطوره المختلفة. وجاءت التطورات العلمية البركانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والمتمثلة في اكتشاف قانون حفظ الطاقة والجدول الدوري للعناصر والقانون الثاني في الثيرموديناميكا وقوانين المجال الكهرمغناطيسي ومبدأ الانتقاء الطبيعي في البيولوجيا، لتعزز المادية وتعمقها وتفصل معالمها . وقد بين إنغلز ذلك بصورة مفصلة وبارعة في كتابه، “جدل الطبيعة”. لكن هذه الاكتشافات لم تكن عنصر استقرار في الفيزياء، وإنما قادت إلى اندلاع ثورات عارمة في فيزياء القرن العشرين قوضت كثيراً من أركان الفيزياء الكلاسيكية المرتكزة إلى مبادئ ميكانيكا نيوتن. وفي مقدمة هذه الثورات : نظرية النسبية الخاصة (1905) ونظرية النسبية العامة (1915) وميكانيكا الكم (1900-1927). ويمكن القول إن نظرية النسبية الخاصة عززت المادية بإزالة الحاجز المطلق بين المادة (الكتلة) والطاقة، وجعل الطاقة مادة أو شكلا من أشكال المادة. كما إن نظرية النسبية العامة عززتها بجعل المكان والزمان مادة، أي بجعل الزمكان مجالاً ماديا يتفاعل على قدم وساق مع المجالات المادية الأخرى، بدلاً من أن يكون مجرد إطار مطلق للأحداث المادية، كما كان عليه الحال في الفيزياء الكلاسيكية. فبدت الأمور وكأن هذه التطورات الثورية ماضية في الاتجاه ذاته، أي اتجاه تعزيز المادية، انسجاما مع كون المادية قاعدة الممارسة العلمية. لكن الحياة لا ترحم ومكر التاريخ لا ينتهي. ففي عز نشوة المادية عقب نشر نظرية النسبية العامة إذا بالمثالية الذاتية، عدوتها اللدودة، تنبثق من قلب الحراك العلمي، من الثورة الثالثة التي اندلعت في فيزياء القرن العشرين، من ميكانيك الكم. لقد فاجأت ميكانيك الكم الوسط العلمي بنتائجها الغرائبية ودفعت نفراً من بناتها، مثل بور وهيزنبرغ وديراك وبورن وباولي وفغنر، إلى تبني تأويل لمعادلاتها أخذ يعرف بتأويل كوبنهاغن ومال نحو المثالية الذاتية في مجابهة صريحة للمادية. ويمكن القول إن تأويل كوبنهاغن تحدى وعارض كل أساس من الأسس الأنطولوجية المادية التي تفترضها الممارسة العلمية. لقد تحدى مقولة وجود عالم موضوعي مستقل عن معرفته وعن الوعي بصورة عامة. وتحدى مقولة استقلالية الطبيعة وفكرة أن هذا الكيان تحكمه قوانين محكمة في كل جانب من جوانبه. وعارض فكرة أن هناك خصائص أولية موضوعية ومحددة للأنظمة الفيزيائية. فالخصائص الأولية تتحدد بالمشاهدة. وهناك من يقول إن الجزء يتحدد بالكل مكانيا وزمانيا. كما إن تأويل كوبنهاغن نفى مبدأ السببية فيما يتعلق بالأحداث المنفردة واعتبره مبدأ إحصائيا ينطبق على حشود الأحداث، لا عليها منفردة . من ثم فهو ينفي أن الظاهر يتحدد بالباطن وينبع منه، وإنما يؤكد على أن الظاهر يدخل في تحديد الباطن. إذاً لقد قادت مسيرة العلم إلى تطورات ونتائج تنقض أسس الممارسة العلمية التي أوصلتنا إلى هذه التطورات والنتائج. ما الخطب؟ هل إننا نشهد انتحار علم؟ هل إننا نشهد العلم ينسف ذاته؟ من الواضح أن الأمر يحتاج إلى مزيد من التدقيق في هذه التطورات والنتائج. وهذا ما سنفعله في مقالات لاحقة.
#هشام_غصيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فجر العقل الجدلي
-
من فلسفة الثورة إلى علم الثورة
-
نحن وعقيدة التنوير
-
المكان بوصفه مادة
-
تميز العقلانية المادية
-
مشروعنا الفلسفي
-
هندسة ريمان
-
المعزى التاريخي للحضارة العربية الإسلامية
-
من الفلسفة إلى علم الإنسان
-
فلسفة ماركس
-
سمير أمين مستغرباً
-
هشام غصيب في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: من الثورة ا
...
-
جدل العلم والثورة
-
الفلسفة والجماهير
-
الشيوعية وفخ الوجودية
-
المغزى النهضوي للفلسفة
-
الاستغراب وتحدي الحداثة
-
تميز العقلانية الماركسية
-
علمنة الوعي
-
من الفلسفة إلى نقد الاقتصاد السياسي
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|