أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي الشبيبي - 3- عودة ومصائب وعواصف / 13















المزيد.....


3- عودة ومصائب وعواصف / 13


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3356 - 2011 / 5 / 5 - 09:17
المحور: سيرة ذاتية
    


من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)
مدرسة الحسين/2
كل عام بعد منتصف السنة الدراسية، تكون المدارس الابتدائية قد تهيأت وأعدت نفسها لأمرين. المعارض الفنية من أشغال يدوية، ورسم، واستعراض عام للألعاب الرياضية. ومباراة بين المدارس في الخطابة. وبكتاب من المديرية يعين معلم العربية واحدا من طلاب الصف السادس ويؤلف له كلمة مناسبة. ثم يدربه على الإلقاء بما يناسب موضوع الكلمة. وباعتباري معلما للغة العربية، فقد هيأت كلمة بهذا العنوان "بيتنا والشارع والمدرسة" ودربت لإلقائها أحد طلبة الصف السادس "غني الطيار" كان تلميذا مهذباً ومجتهداً.
كنت أهدف في هذه الكلمة، إلى أن هذه الثلاثة، هي التي تصوغ الطفل، وتتعامل مع تكوينه النفسي. خصوصا إذا كان ذووه فقراء، من ناحية الدخل، وفهم الواجب لتربية أبنائهم. فغالبا ما تجد عوائلنا بعيدة كل البعد عن توجيه الطفل التوجيه الذي يكون أساسا طيبا لمستقبله.
هم يقذفون به إلى الشارع ليتخلصوا من عبثه ولعبه. وهو قد يتلقى كل فكرة مغلوطة من جدته العجوز أو جده أو حتى والده، في حشر الخرافات، والمخيف من الأساطير من قصص وحكايات الجن والسعالي، والغول و الطنطل. ثم يتناوله الشارع وأقرانه الذين تختلف حياة بيوتهم، بين ابن تاجر متمول، وآخر فقره مدقع، وثالث مغرق بالسفالة والضعة. وحين يؤتى به إلى المدرسة، يقولون: إنه عجينة بيد المعلم!؟
أية عجينة؟ إنه عجينة ملوثة، مزيجة بشتى المواد القذرة، وقد أخلّت بالبراءة التي يوصف بها الطفل الذي يحرص ذووه المدركون أن يظل متمتعا بها، لتجده المدرسة صفحة نقيه. ولا ننس إن المعلم نفسه، قد نشأ أيضا بهذا المجتمع، ونال من العجائز والشيوخ السذج والشارع نصيبه.
كانت الكلمة وافية في استعراض حياة الطفل بين هذه الثلاثة، ومدى وتنوع تأثيرها في نفسه، صعوبة وإمكانية تهذيبها مما علق بها من شوائب وعقد. لا أحد ينكر ما لأثر الفوارق الطبقية، ومستوى العيش، على نفسيات الأطفال، وما ينمو لهذا السبب أو ذاك في نفوسهم من حقد أو حسد لزملائهم.
وكان للتلميذ أثره في حسن الإلقاء، وتجسيد القصد، فنال ونالت المدرسة الدرجة الأولى والجائزة. وتأفف نفر من معلمي العربية في المدارس المشاركة، ودار لغط مضحك. لقد اتهموا اللجنة بالتحيز، وليس بين أعضاء اللجنة غير مدرس نجفي واحد!؟ ثم أن المدرسة كربلائية، والطالب كربلائي. فأي تحيز هذا؟ ولم ينل المعلم شيء، كل شيء للمدرسة والطالب. أما أنا فلم أحضر الحفل مطلقاً. وقد اخترت هذا الطالب، مع أن أبني "محمد" زميله على رحلة واحدة!؟ لكن الغريب الذي ما أزال الاحظه هو جفوة هذا التلميذ منذ انتهى من الابتدائية حتى تخرج مهندسا، وكذلك أبوه، يعرضون عني ويتجاهلونني حتى كأني أسأت إليهم!؟
نماذج متنوعة مرت عليّ في حياتي التعليمية. وجدت أطفالا متعالين كآبائهم على زملائهم يحلو لهم أن يضطهدوهم، أو يماشوهم ليضحكوهم، أو لتنفيذ شرورهم ضد إخوانهم، وهم يغرونهم بما يشركونهم فيه من مأكل أو لعب. وبعضهم لا يتحرج عن أن يستميله بل يوقعه في مزالق التفسخ، خصوصا من تلاميذ سنهم أكثر من أربعة عشر عاما، وفي بداية تأسيس المدارس ما كانوا يعبأون ولا يهمهم سن التلميذ سواء في بداية دخوله، أو خلال سني الدراسة بسبب ما يحصل من رسوب. وجدت مثل هذا في مستويات الأطفال العائلية المختلفة في المدن. ونادرا جدا في مدارس الأرياف. ذلك بحكم أن التلاميذ ينحدرون من الطبقة ألفلاحيه، وأبناء الشيوخ أقلية في المدرسة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فالغالب أن الفريقين ينتمون إلى عشيرة واحدة. وتقاليد حكم العشيرة سارية في الأبناء كالآباء. والملفت للنظر إنهم أكثر احتراما للمعلم، وأكثر إقبالا على الدرس، واشد صبرا على الفقر. أما آباؤهم فغالبا ما ينسجمون مع المعلمين يحترمونهم ويكرمونهم، وفي كل فئة من الناس شاذون، وهذا ليس بالأمر الغريب.
* * * *
وبمناسبة قرب الامتحان النهائي لهذا العام -1957/1958- أخذ مدير المدرسة يستدعي المعلمين لغرض النظر في درجات طلبة الصف السادس، وتسجيلها، ومن ثم إرسال أسمائهم مع معدلاتهم النهائية إلى المديرية.
عادتي دائما أن أبذل الجهد في بداية السنة الدراسية مع الطلاب الضعفاء. وعند وضع الدرجات الشهرية لا أضع الدرجة الحقيقية التي استحقها الطالب الضعيف. إني أضع له في الدفتر الخاص "فقط" درجة نجاح حتى إذا اقترب امتحان نصف السنة، دون أن يبدو منه تحسن ملحوظ، عند هذا لا اثبت غير الدرجة الحقيقة. هذا الأسلوب ألتزمته بعد تجربة، وكانت حصيلته أن كثير من الضعفاء يتمكن اللحاق بزملائه، إلا القليل منهم. حيث كان الضعف ملازما له منذ البداية.
جاء دوري فاستدعاني المدير. بدأت أملي عليه حسب التسلسل. توقف، وبلهجة التماس مؤدب عند درجات طالب أبوه من وجهاء البلد. قال: لو ساعدته؟ أبوه رجل محترم، وهو كما أعلم مؤدب. قلت: هذا صحيح، ولكن الدرجة المثبتة كانت فوق ما يستحق. لاحظ جيدا أن درجاته الشهرية قبل امتحان نصف السنة، وهاك دفتر الامتحانات الشهرية وانظر إلى درجته الحقيقية، إني أبقيها في دفتره كما هي، بينما أضع له درجة نجاح، حتى إذا استقام زدت المساعدة. فلما أستمر على ضعفه، صرت أثبتها كما هي.
كرر الطلب. فقلت: كان يجب عليك أن تنبهني منذ بداية السنة كيلا أتعب نفسي بالامتحانات الشهرية، واضع درجات نجاح بدون امتحان!؟
أجاب: دعه الآن وتابع ما بعده.
وبعد نقل درجات عدد من الطلبة جاء أسم طالب أخوه زميل لنا في المدرسة نفسها. كان أشد ضعفا من أمثاله. توقف أيضا، وقال: إنه أخو زميلنا، ومن حقه علينا أن نساعده!
- يا أخي لست بقالا فأزيد الكيل، كما أفكر بمصلحة الطالب أفكر أيضا بسمعتي، لقد ساعدت إلى حد، ولن أساوي بين الكسول والمجتهد أبدا.
صار مجموع الراسبين الذين سوف لن يشتركوا في الامتحان العام خمسة، ولم ينقل درجاتهم. عرفت إنه سيحاول إقناعي بواسطة زملائي الآخرين. لكني امتنعت عليهم أيضا. خصوصا إن ثلاثة منهم كانوا قد عاهدوني إننا لن ندفع من لا يستحق. لكنهم تنازلوا لرجائه وتوسلاته.
أتصل بمدير المعارف: بأن مجلس المعلمين وافق على رفع درجة بعض التلاميذ أما "علي الشبيبي" فرفض. مدير المعارف أجاب: إذا كان هو صاحب الدرس فلا حق لهم قبل أن يوافق هو!؟
وأغميَ على الرجل، واستدعي الطبيب له فمنحه إجازة لثلاثة أيام! لماذا؟ لأنه تورط بأخذ تواقيعهم، ورفع درجات من رفضت تعديلها لهم في السجل الخاص بالدرجات. فماذا يفعل؟ إنه على جديته في كل أعماله، يتجاوزها أحيانا من أجل وجيه يعرفه، أو يتصرف أحيانا تصرفات لو كانت على حسابه لهان أمرها ولكنها على حساب الآخرين.
بعد أيام جاء لي معاون المدرسة طالبا أن أوقع على خلاصة حساب الوارد والصادر لحانوت المدرسة، الذي هو أسهم من الطلبة. وقد علمت أنه يقتطع من الأرباح يوميا لما يصرفه في الإدارة، من شاي زعفران وسجاير أجنبية، وشكولاته ممتازة لزواره في الإدارة.
رفضت ولم أوقع. معتذرا: إني لا علم لي مطلقا لا بالمشتريات ولا بالمبيعات، فلا علم لي إذن بالوارد والصادر. هذا يجب أن يكون مقتصرا على لجنة إدارة الحانوت، من معلمين وطلبة؟ باءت كل محاولاته لإقناعي بالفشل. بل جازفت وهذا -ما ندمت عليه فيما بعد- فكتبت تعليقة -اللهم إنا لا نعلم عنه إلا خيرا وأنت به منا!-. وكانت النتيجة أن انهار وأصابه إعياء. فستدعي الطبيب وعولج، وأجيز للاستراحة ثلاثة أيام أيضا. ولم أعلم كيف انتهى أمر السجل الرسمي المعرض للتدقيق.
وكان قد ابتكر عملا لا مبرر له. فقد أشرك فيه المعلمين، واستجابوا حياءً. لقد ألف كراسا عن تأريخ المدرسة والمعلمين الأُول الذين عينوا فيها، والطلبة الذين نجحوا في حياتهم، فكان منهم المحامي والطبيب والمهندس والإداري. وطبعا لم يدرج عدد الفاشلين. كما ثبت أسماء الذين زاروا المدرسة، وما كتبوا في سجل الزيارات، من متصرفين، ومدراء معارف، ورجال تربية. وشفعها بصورهم، وصور المعلمين، ولم تفته صور الطلبة وهم يؤدون الصلاة. ووزع منها هدايا إلى الذوات "وزير المعارف، مدير المعارف، والمتصرف". وزين مقدمتها بصورة الملك، وخاله عبد الإله والمتصرف ومدير المعارف.
في خلال أيام إنجاز الكراس وتوزيع بعضه، حدثت ثورة 14 تموز، فسارع واقتلع منه صورة الملك وخاله ومتصرف اللواء ومدير المعارف!؟ ووضع صور رجال الثورة، ومتصرف كربلاء الجديد "فؤاد عارف" وفي مقدمة الكراس "عبد الكريم قاسم". والزم التلاميذ جميعا بشراء نسخها، حتى الصفوف الأولى. فكان بعض أولياء الطلبة يتوسلون به لإعفائهم، لكنه يصر مع شرح ما يعود على الطالب من فائدة منها. جاءت عجوز يصحبها طفلان من الصف الأول والثاني، كلمتني -وكنت واقفا قريبا من باب المدرسة- بلهجة الحزين إن والد الطفلين متوفى وهي المعيل الوحيد لهما، وإنها فقيرة. فقُدتُها إليه. وشرحت ما أوضحت لي. فشدد وأخذ يشرح لها القصد: غدا يكبر ابنك وهو محتفظ بنسخته التي تضم صورته فيفخر بماضيه، ومستقبله الذي رسمته هذه المدرسة .....!؟ ردت العجوز: ثق إني عاجزة عن إعالتهم ....!؟ وتدخلت في الأمر وصرفت العجوز دون أن تدفع الثمن، ولا أنا أيضا!؟
هو لم يكتف بإلزام التلاميذ بالصلاة عصرا بين الدرسين الأخيرين. بل نشر على أعمدة المدرسة لوحات تتضمن آيات من القرآن الكريم. أما الطلبة فكان معظمهم يُعِد للعبث خلال الصلاة عدته. بعضهم يشتري سكريات يتناولها أثناء السجود، وبعضهم يغني أغاني يختلقها هازلا بصلاته، ولم تخل من فحش وشتائم، وبعضهم يؤذي من أمامه فيخزه بدبوس أو يقرصه. ويتناهى بعضهم بالعبث فيمد أصابعه بين فخذي من أمامه!؟
أما الآيات والأحاديث النبوية، فتهان من قبل التلاميذ عن غير عمد. فكثيرا ما ينالها رشاش الماء الذي يتبادلونه بلعبهم، أو ضربات من نعالهم حين يرمي بعضهم بعضا بها.
كل هذا كنت اطلعت عليه قاصدا، فقصة الصلاة، كنت أعرف موقف الصغار منها حين كنت طفلا، وكانت إذ ذاك إلزامية. ووجدت تلاميذ اليوم كغيرهم بالأمس تماما. ففاتحتهُ، إن أمر تعويد الأطفال على الصلاة، يجب أن يكون من قبل الآباء، وبطبيعة الحال إن الطفل الذي لا يشاهد ذويه يقيمون الصلاة لا يتعودها. ثم هم هنا يؤدون صلاة الظهر والعصر فقط، فما هي أهمية أن أهمل الباقي؟ وثم أمر آخر، هذه مدرسة وليست جامعا. ولاحظ أن الآيات والأحاديث الشريف على الجدران مهانة من لعب الطلبة وذرق الطيور. ولا تنس يا صاحبي إن المسألة تربية وقناعة، أما الإجبار فلا يولد إلا التمرد والنفور! ثم أن المدارس الأخرى لم تفعل مثل هذا. لكنه أجاب: إذا تعودها واحد من كل عشرين –فتحٌ-.
على الرغم من بعض أعماله هذه، فإنه رجل جدي ونشط، ومطالع، ولكني أيضا واثق أنه يتحصن بتدينه، فهو ليس من بيت معدود، صحيح إن أغلب مدراء مدارس كربلاء هم من عوائل فارسية الأصل إلا أنهم عوائل ذات كيان ومركز وقدم. وما تزال صلاتهم بذويهم -الأصل- الإيرانيين قائمة. وهنا لهم صلات قوية مع رجال الحكم، وبعضهم في وظائف محترمة. من العوائل ذات المركز الاجتماعي في كربلاء، آل الشهرستاني، آل الستربادي، والطباطبائي. ويمكن التمييز بين العوائل العربية والفارسية الأصل عن طريق الألقاب، فالعوائل الفارسية تسمي باسم البلد الإيراني الذي وفدت منه، بينما العرب يسمون بالعشيرة أو الجد الأعلى. وبعض العرب غلبت عليهم عادة الفرس فنحا نحوهم فاتخذ لقبه من المهنة "خطيب" أو "حداد" أو غيرها.
مهما يكن من أمر فإنه أهل للإدارة، لو أنه أخلص النية وابتعد عن النعرة.
الدين غير غريب على الناس، هم يقدسونه ويحترمونه ويفخرون أنهم يدينون به حتى مع إهمالهم مثلا للصلاة اليومية. ولكني أستطيع أن أقول، إن أهم جانبين من الدين، الناس بعيدون عنها كل البعد، الأخلاق والمعاملات.
الدين أدب وخلق ومعاملة، أهم من جانب العبادة. العبادة ليست إلا ترويض للنفس. هناك حكاية مشهورة عن النبي، وان آية (وإنك لعلى خلق عظيم) نزلت بمناسبتها. تلك هي حكاية بدوي جاهل، لحق النبي وهو يمشي مع بعض جماعته، أخذ يناديه: يا محمد! ثم جذبه من عباءته بحيث أثرت في رقبته. لكنه هش للبدوي وابتسم مرحبا، حين أعلن البدوي مطالبا بما عوده عليه من مساعدة! وهو الذي يقول: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وسئل الإمام علي. ما الدين يا أبا الحسن؟ أجاب: الدين معاملة؟ والقرآن يزخر بالآيات التي تندد بمن يسئ التعامل بعيدا عن الخلق أو سوء التعامل، في الغش والاستغلال والاحتكار.
ولئن تظاهر بعضهم بمظهر التدين وأهمل الجوانب المهمة الأخرى، فإنه لن يخفى ولن يخفي غشه وتدليسه على الآخرين.
وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة. وسيلتي إلى ذلك ما أختاره من مواضيع كتاب "القراءة" المخصص لهم، وما أضفي عليه عند الشرح من استشهادات من الحكايات والقصص. ونماذج من حياة الرجال الأفذاذ والعلماء والنوابغ. وحتى الكسالى والمنحرفين في سلوكهم، مطعما كل ذلك بالنكتة المضحكة ذات المغزى وليضحكوا بملء أفواههم. وكما إني أختار مواضيع معينة من درس "القراءة" ولن أكترث لما تقتضيه التعليمات التي بموجبها ندرج جميع مواضيع القراءة في الخطة، وبذا يكون الوقت كافيا جدا لاستيعاب مادة الموضوع مع ما أضفيه إليها مما ذكرت، ومضافا إلى هذا معاني الكلمات ومرادفاتها وأضدادها. على إني لم أنس أن أصنف طلبتي، إلى ثلاث فئات، المتفوقين النابهين، والوسط، والقاصرين. فابذل الجهد في بداية السنة مع الفئتين الثانية والثالثة، وخلالها أكتشف من يجدي جهدي معه، ومن هو كحجر ثقيل.
في كتاب "القراءة" المخصص إذ ذاك للسادس مواضيع كنت أعتبرها رائعة وهامة فيما تهدف إليه وهي مطولة أيضا، منها بعنوان "بذلة العاهل الجديدة" ومنها "بلبل" و "الحرية" و "علي بن أبي طالب" وأخرى لا أتذكرها. وطالبت بكتاب رسمي حذف موضوع من قراءة الصف الرابع "الحلاق الثرثار" لما رأيت فيه من سخرية التلاميذ بزملائهم الذين آباؤهم حلاقين. وتحدثت إليهم كثيرا عن أهمية الحلاق لنا جميعا، وأفهمتهم سبب كثرة كلامه بأنه إلهاء للزبون عن الضجر خلال الانتظار والحلاقة.
ودرس "الإنشاء" هو وسيلتي الثانية. واعتمادي على حكايات قصيرة من كليلة ودمنة والحكايات الشعبية ذات المغزى العميق، عن مختلف جوانب حياتنا حتى السياسية. ومنهاجي هذا قد يتوسع، وقد يقصر تبعا لظروفي أنا في المدرسة، أو المحيط، أو التقلبات السياسية والاجتماعية. وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لِمَ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد ....! ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه "عبد الرحمن مجيد الربيعي" كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا. (أشرت إلى ما ذكره تلامذته في مقدمة "عودة ومصائب وعواصف"/ الناشر)
أمثال هذا كثيرون، لست بحاجة إلى ذكر أسمائهم. وإني لفخور بهم وباعتزاز. وحتى بعض الذين كانوا مستهترين وفشلوا أخيرا في الدراسة، وبعضهم اعتدى عليّ، التقيت بهم رجالا قد أدركوا خطأهم. وكفروا عن تقصيرهم فانخرطوا في صفوف العمال المناضلين. فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان. إن بعضهم يقول: إنهم شموع تحترق لتنير الطريق للآخرين. هذا لطف من صاحب الكلمة، ولعله معلم أيضا.
* * * *
وأخيرا وليس آخرا، وقد طال حديثي عن مدرسة الحسين. أنا ممن يحمل العصا معه إلى الصفوف. وقل أن لا تراها معي. ولكن صدق إني لن أعاقب بها كثيرا. ذلك نادر مني. وإذا عاقبت فإني أضرب كف التلميذ من الباطن بحذر، وبدرجة تختلف من واحد إلى آخر. ولا تستقر العصا بيدي، ففي فترة وأخرى يأتي طالب من صف آخر بأمر معلم صفه: استاذ المعلم "...." يريد العصا وهسَه يرجعهه!؟
ودخل ذات مرة المفتش محمد علي هادي المدرسة. كنت أتجول بين الطلبة في الساحة أثناء الفرصة، والعصا بيدي. بعد أن أستقر في الإدارة طلبني، وسأل باستغراب: وتحمل العصا جهرا!؟
- أجل. ولكن حين يأتيك من يشكو مني، أتخذ أي إجراء تشاء. أنا يا أستاذ لا أماري، كغيري ممن يستعملها ويقسو. ثم لم العجب؟ آباؤهم يضربونهم بالعصا، ويضربون أمهاتهم بالعصا والنعال أيضا. وكلنا يعلم أن الشرطة تهين من يوقف وتضرب الموقوف، خصوصا إذا كان مغضوب عليه سياسيا!
وفي التاريخ إذا كان المغضوب عليه، منافسا لذوي السلطان، أو محتجا على بذخ الملوك، أو ممن يسمون "خلفاء" فيشنق من يد ورجل، أو تسمل عيناه، ويدس له في النهاية سم، أو يحرق. وهي أساليب لم ترد في الشريعة الإسلامية، ولا أي دين آخر.
لذا لابد من العصا فهي الرمز المهاب، وأتذكر أن المربي الوحيد، الذي نشر رأيه حول العصا بجرأة، هو الأستاذ رشيد سلبي بعنوان "العودة إلى العصا" العصا مذلة ومهينة، ولكن بدونها -وقد وضحنا الأمثال- لا يمكن ضبط الصبية العابثين.
وقفت ذات مرة أمام سبورة الإعلان، وقد سبقني "معلم الرياضة" يقرأ إعلانا عن عقوبة طالب بحسم ثلاث درجات من سلوكه، مع طرده يوما واحدا! وهز معلم الرياضة يده هازئا بهذا الإجراء. قلت: وما العمل إذن؟ أجاب: أضع أصبعي في "....." وأسوي نصفين!!؟
وأثناء مروري إلى صف يخصني، وجدت معلم الصف الرابع -بعض الأسماء لم أسجلها مع إني أتذكرها، إذ بعضهم تافه وخامل-، وهو يقف قريبا من الباب من الداخل وكأنه يحاضر. لكن بالشتائم الكريهة والفحش! وكان قد تجاوز الأربعين. وصديقا ودود لمدير المدرسة، والمعروف أنه ورث أملاكا واسعة وأموال طائلة، بددها على الخمر والميسر. ومازال كذلك يعيش أعزب في بيت مستأجر ويبدو كشيخ بلغ من الكبر عتيا، لكنه لا يتردد في كلامه البذيء.
بعد هذا أليست العصا أزكى وسائل التأديب، شرط أن يكون بنية طاهرة؟
الناشر: محمد علي الشبيبي



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 12
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 11
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 10
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 9
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 8
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 7
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 6
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 5
- 3- عودة ومصائب وعواصف/ 4
- نداء إلى رواد التيار الديمقراطي أينما كان
- 3- عودة ومصائب وعواصف/ 3
- 3- عودة ومصائب وعواصف/ 2
- 3- عودة ومصائب وعواصف
- 2- الدرب الطويل/ 21
- حتى لا تضيع دماء الضحايا المصريين
- 2- الدرب الطويل/ 20
- 2- الدرب الطويل/ 19
- تونس إلى أين!؟
- 2- الدرب الطويل/ 18
- 2- الدرب الطويل/ 17


المزيد.....




- السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
- الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
- معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
- طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
- أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا ...
- في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
- طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس ...
- السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا ...
- قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
- لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي الشبيبي - 3- عودة ومصائب وعواصف / 13