|
دور المجتمع المدني بعد انتفاضات الشباب
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3355 - 2011 / 5 / 4 - 21:28
المحور:
المجتمع المدني
يمكن القول إن فكرة المجتمع المدني ولدت معها مشكلتها، خصوصاً علاقتها المشتبكة، المتفاعلة، المؤتلفة والمختلفة مع الدولة وسياساتها . ولعل هذا التناقض بين الدولة والمجتمع المدني أوجد فضاءين يتم البحث فيهما والعمل على أساسهما للتفاعل والتواصل . أما الفضاء الأول فهو يتعلق بالجانب التصادمي، وهناك من يعتقد أن وظيفة المجتمع المدني لن تتحقق الاّ بالتصادم مع الدولة، عن طريق الاعتراض والاحتجاج والممانعة وممارسة شتى أنواع الضغوط، لكي تستجيب الدولة لمطالب المجتمع المدني، في حين أن الفضاء الثاني يعتقد أن التناقض بين المجتمع المدني والدولة لن يُحلّ عبر التصادم والتعارض، بل بالتصالح والتفاهم وصولاً للتكامل، عبر تحوّل المجتمع المدني إلى قوة اقتراح لا تستطيع الدولة أن تتجاوزه، كما أنه لا يمكن أن يقوم بوظيفته على أكمل وجه ويحقق أهدافه من دون استجابة الدولة لمطالبه .
الوظيفة التصادمية - الاحتجاجية الاعتراضية ومعها الوظيفة التصالحية الاقتراحية - التكاملية يمكن أن تشكّلا منظومة حركية ديناميكية تواصلية، لاسيما إذا استطاع المجتمع المدني اختيار اللحظة المناسبة لاستبدال تكتيك الاحتجاج بوصله بتكتيك التكامل، وذلك في إطار فلسفة خاصة بالمجتمع المدني واستراتيجياته التي ينبغي أن تكون واضحة، أما أساليب عمله ووسائل تحقيق أهدافه، فيمكن استبدالها تبعاً لكل حالة، إضافة إلى مواقف الحكومات ذاتها ومدى استجابتها لمطالب المجتمع المدني وحقوق مكوّناته المختلفة، ولكن في كل الأحوال والظروف فإن حل التناقض بين الدولة والمجتمع المدني سيكون عبر استخدام الضغوط السلمية، المدنية، ومن خلال التراكم والتطور التدريجي، وصولاً إلى استكمال الشرط التاريخي لعملية التغيير موضوعياً وذاتياً .
ولعل الحركات الشعبية الشبابية الاحتجاجية والانتفاضات السلمية، كانت قد وصلت إلى ذروتها بعد عقود من التراكم حين طفح الكيل أو فاض الكأس كما يُقال، الأمر الذي يتطلب الوقوف جدياً أمام مساهمة المجتمع المدني ودوره، إضافة إلى دور الفاعليات والأنشطة الفكرية والثقافية والسياسية، طيلة عقود من الزمان، فلكل عملية تغيير هناك أساسات ثقافية ساهمت من خلال التراكم والتطور التدريجي، مهما كان بطيئاً حتى الوصول إلى التغيير المنشود، وقد ساهمت كتابات فولتير، ولاسيما حول التسامح، ومونتسكيو وخصوصاً كتابه “روح الشرائع” وجان جاك روسو وكتابه “ العقد الاجتماعي” في تهيئة الأرضية المناسبة للثورة الفرنسية التي رفعت شعارات الإخاء والحرية والمساواة .
وقد أسهمت حركة المجتمع المدني مع حركات وتيارات أخرى في التمهيد لانتفاضات الشباب الذين قادوها ببراعة لم يسبق لها مثيل مستثمرين البذور التي وجدت تربة صالحة مع المستلزمات الأخرى لكي تورق شجرة الحياة والحرية والتغيير .
وإذا كان دور المجتمع المدني مهماً في عملية التغيير، لاسيما تحضير بعض مستلزماته فإن عليه دعم عملية التغيير والحفاظ على روحها من خلال بث التمسك الشديد باحترام القوانين والحقوق ورعايتها بعد التغيير، وذلك أمر في غاية الأهمية، خصوصاً أن الكثير من الثورات ولأسباب موضوعية، لاسيما لما قبلها، بدّدت وقتاً وجهداً وضيّعت إمكانات هائلة بسبب احترابات وأعمال عنف وانفلات أعقبتها، الأمر الذي يتطلب من المجتمع المدني ومثلما قام به من دور توعوي وتنويري، خصوصاً في نشر الوعي الحقوقي والقانوني وثقافة اللاعنف المدنية والسلمية، أن يواصل هذا الدور من دون الاستغراق في الحصول على بعض مكاسب التغيير، لأن ذلك سيحجّم وظيفته ويجعلها سياسية، في حين أنها مدنية حقوقية، مهنية، فهو لا يسعى للوصول إلى السلطة أو قهر الآخر وإلغائه، وإلاّ بماذا سيختلف عن دور الأحزاب والمنظمات السياسية الطامعة في كل عملها للوصول إلى السلطة وتحقيق برامجها؟
إن بقاء المجتمع المدني ورموزه وشخصياته بعيدين عن السلطة مهم من زاوية الوظيفة الاعتراضية التكاملية السلمية للمجتمع المدني، الذي يمكن أن يفتح باباً لدخول شركاء جدد في الحياة العامة من دون أن يكونوا منافسين للسلطات أو لمعارضاتها . وأعتقد أن الشباب الطامح إلى التغيير والحرية والعدالة، وقبل كل شيء إلى الكرامة سيكون متفهماً لمثل هذا الدور، حيث سيكون مُعيناً ومُساعداً وداعماً له في القيام بمهماته الكبرى وتحقيق طموحاته وصولاً لعملية التغيير ليس من خلال الهدم حسب، بل من خلال البناء وتلك هي الأساس في عملية التغيير، بل هي جوهر التغيير ومضمونه ومحتواه ورسالته الأساسية .
إن وجود مجتمع مدني قوي ومستقل ومهني، يضع مسافة بين السلطة ومعارضتها من دون أن يعني اتخاذه موقفاً حيادياً إزاء الحقوق والحريات، سيطمئن جميع الفرقاء، لاسيما السياسيين منهم، بأن المجتمع المدني ورموزه لا تشكل خطراً عليهم أو على السياسة بإقحام أنفسهم في اللحظات الأخيرة للحصول على بعض المكاسب أو المناصب . وبذلك يكون المجتمع المدني قد تمسك بوظيفته في الرصد والمراقبة والاحتجاج والاعتراض والاقتراح لبدائل عمّا هو قائم، وكلما نأى بنفسه عن الاصطفافات والانحيازات الآيديولوجية والسياسية وتمسّك بأطروحاته المهنية والحقوقية فإنه في نهاية المطاف سيكون مفهوماً لجهة دوره وموقفه المستقل والناقد والشريك والضامن في الآن ذاته لديمومة عملية التغيير، على الرغم من التباس مثل هذا الدور وصعوبته .
ولا شك في أن بعض الحكومات كانت تتصرف بذكاء أحياناً مع بعض قيادات المجتمع المدني ورموزه، فهي تصفق لها بحرارة في فنادق الدرجة الأولى حتى وإن كانت تختلف معها، لأنها شعرت بالاطمئنان من أن المجتمع المدني لا يريد إزاحتها أو إلغاء دورها والحلول محلها . وإذا ما تجاوزنا هذا المفهوم الذاتي، فهناك تصوّرات موضوعية يتعلق بعضها بالوصول إلى فهم مشترك بين الحكومات والمجتمع المدني، وإنْ كان لم يتبلور بعد، لاسيما في بلداننا، من أن المجتمع المدني هو موجّه في إطار ما هو قائم ولا يريد التدخل في السياسة أو إحداث تغييرات بالقوة، ولهذا تحاول بعض الحكومات تطويعه أو ترويضه أو تدجينه أو إغراء بعض رموزه، الأمر الذي يستوجب إظهار الجانب الآخر من خلال تأكيد حرصه وإصراره على الإصلاح والتغيير بما يؤدي إلى احترام الحقوق والحريات، خصوصاً من خلال فضاء الحوار والعلاقة مع الآخر .
ومع هذه النظرة هناك من يعتقد أن دور المجتمع المدني لا ينبغي أن يتجاوز دور الهيئات الاجتماعية والخيرية في المجالات التطوعية غير الربحية مثل الأعمال الخيرية والتربوية والمهنية والنقابية وغير ذلك من الأعمال الإنسانية في قطاعات مختلفة، ومثل هذا الفهم سائد في العديد من البلدان التي تتضايق أو حتى تُحرج من استخدام مصطلح المجتمع المدني، وتحاول استبداله بمصطلح “ المجتمع الأهلي” طالما لحقت بمفهوم المجتمع المدني بعض التهم والاساءات التي حاولت تشويه دوره، أو أن بعض العاملين فيه على قلتهم، لم يحافظوا على صورته المنشودة .
يمكنني القول إن هناك معادلة تسير في طريق عكسي، فكلّما كانت الدولة شديدة المركزية والشمولية، فإن مقابلها الموضوعي سيكون غياب المجتمع المدني، لأن منظماته لا يمكنها النشوء والنمو والتطور من دون أجواء الحرية، ولذلك فإن غيابها أو تغييبها أمرٌ مرادف لتمركز السلطات، والعكس صحيح جداً فكلما قام النظام السياسي على التعددية وفصل السلطات، فإن المجتمع المدني سيكون قوة مؤثرة وفاعلة وتلعب أدواراً نشيطة في الرقابة والشراكة، لأنها جزء من الدولة وصيرورتها وكيانيتها .
إن البلدان العربية التي أنجزت التغيير، خصوصاً في تونس ومصر والبلدان التي تنتظر التغيير، ستكون حاجتها ماسة لدور مستقل لمنظمات غير حكومية للمجتمع المدني، وغير ربحية أو إرثية، بل منظمات طوعية وتعددية وديمقراطية .
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السمات العشر للانتفاضات العربية
-
المواطنة بضدها
-
الجنادرية والتويجري والأسئلة
-
جاذبية التغيير
-
الاستمرارية ميزت الجنادرية وهذه القضايا باتت ملحة
-
مفارقات غولدستون: لماذا تراجع وأين الحقيقة؟
-
روفائيل بطي.. إرهاص حداثي مبكّر!
-
دستور مصر ووصفة السنهوري
-
السياسة بوصفها علماً
-
الشباب والتنمية!
-
العراق من الاحتلال العسكري الى الاحتلال التعاهدي
-
النيل وحرب المياه
-
العرب وإسرائيل: أي جدل قانوني؟
-
حرية التعبير و-حرية- التشهير
-
جدلية الضعف والقوة
-
- النموذج- العراقي وعدوى التغيير!
-
سبع رسائل لاستهداف المسيحيين
-
الموجة الثالثة للتغيير
-
الانتفاضة العراقية: استعصاءٌ أم استثناء؟
-
تناقضات المجتمع المدني ومفارقاته
المزيد.....
-
صدمة النازحين اللبنانيين لدى عودتهم إلى قراهم المدمرة بمحافظ
...
-
رئيس البرلمان العربي يتلقى رسالة من البرلمان الأوروبي بشأن د
...
-
RT ترصد عودة النازحين من سوريا
-
المفوضية الأوروبية: دول الاتحاد ملزمة بتنفيذ أوامر اعتقال نت
...
-
بوريل يوجه نداء لجميع أعضاء المجتمع الدولي لاحترام قرارات ال
...
-
تغطية ميدانية: قوات الاحتلال تواصل قصف المربعات السكنية ومرا
...
-
الأونروا.. ظروف البقاء على قيد الحياة تتضاءل في غزة
-
خبير أممي يحذر من استغلال المهاجرين المؤقتين في أستراليا
-
اعتقال ومحاكمة.. هل ضاقت دائرة الحريات على الكتاب بالجزائر؟
...
-
بوريل: ما يجري في قطاع غزة انتهاك صارخ لحقوق الإنسان
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|