|
سبحان اللّه، إنّها نفس المظاهر و نفس العلامات...فحذار يا تونس...؟!
باهي صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3355 - 2011 / 5 / 4 - 14:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أجدّد و أكرّر مرّة أخرى تحذيري لإخواننا و أشقّائنا التّوانسة من مآلات الأوضاع في بلدهم بعدما تحرّرهم من جبروت بن علي...أُي نعم حرّرتهم ثورتهم و أشرعت أمامهم أبواب الانعتاق و الدّيمقراطيّة، لكنّها في الوقت نفسه حرّرت و أطلقت كلّ عفاريت الجحيم من سجونها و قماقمها و أخطر أولئك العفاريت هم المشايخ و المتطرّفون و الجهاديون و تجّار السّياسة بمطيّة الدّين...!
أي نعم قد أبدو متشائما أو سوداويّا، أو ربّما قد أظهر للقارئ بمظهر المعقّد و المريض نفسيّا بسبب ما رأيته و ما عشته و ما مرّ عليّ و على أهل بلدي من محن و مصائب بسبب غلطة ارتكبها نظام الحكم عندنا، و ذلك عندما تعجّل بالانفتاح على الحرّية و الدّيمقراطيّة في بلد لا زال أمامه الكثير حتّى يصبح في مستوى كاف من النّضج الثّقافي و السّياسي و الفكري يؤهّله لتلقّي و تطبيق أنظمة و قيم و مفاهيم هي في الأساس غربيّة المنشأ، و قد أكون مصدوما و محبطا غاية الإحباط لأنّي عِشت بنفسي أنا و أبناء وطني المآلات الكارثيّة من خلطة الدّين و السّياسة، و كذا المآسي و الويلات الّتي جرّها تحوّل الشّيخ أو الإمام أو رجل الدّين في وطني عن مهمّته الأساسيّة المتمثّلة في الوعظ و الإرشاد و تذكير الحاكم و المحكوم إلى ممارسة السّياسة و طلب الحكم...!
أي نعم قد تكون المقارنة بين تونس و الجزائر خاطئة (وهذا ما أتمنّاه) لأنّ الاختلافات واردة في كثير من التّفاصيل على الأقلّ، و لأنّ الجزائر تختلف عن تونس من ناحية نظام الحكم و من ناحية الزّخم و الحجم الجغرافي و السكّاني، لكن مع ذلك يبقى التّشابه صارخا بين البلدين على الأقلّ في جانب مكوّنات الشّخصيّة المغاربيّة الفكريّة و الثّقافيّة عموما و كذلك من جانب مظاهر و أحداث الولوج الفجائي إلى عصر الحرّية و الدّيمقراطيّة الّتي تكاد تتطابق في البلدين...!
أي نعم قد يكون للثّورة التّونسيّة ثمن يدفعه التّونسيّون شاءوا أم أبوا كما يحصل عادة في كلّ ثورة، و لكن هل يلزم بالضّرورة دفع ثمن باهض كما حصل للجزائريين...؟!، و عليه فقد يقول قائل أو يسأل و هو محقّ في ذلك: إذا ما هو الدّاعي إذا إلى تهويل الأحداث في تونس أو تخويف التّونسيّين من بعض الانفلاتات هنا و هناك الّذي لا يعدو كونها مجرّد هزّات ارتداديّة طبيعيّة و بسيطة لموجة التّغيير الكبرى سرعان ما ستخبو و ستتلاشى شيئا فشيئا مع الوقت...!
لكن مع ذلك فالخوف و التوجّس يبقيان...فحذار من الإغراق في الزّهو و المبالغة في الفرحة لأنّ معالم مآلات ثورتكم المباركة و نتائجها سواء أكانت سلبيّة أو إيجابيّة لن تبدأ في التّبلور و الاتّضاح قبل مرور عدّة أشهر و ربّما عدّة سنوات، عليكم أن تتريّثوا و تصبروا...عندنا في الجزائر بدأت التّظاهرات و المسيرات الشبّانيّة في أكتوبر سنة 1988 و لم تتشكّل معالم و ملامح تلك الثّورة إلاّ في أواخر سنة 1992 أي عندما فُعّلت فريضة الجهاد بين أفراد الشّعب الواحد...!
أخاف عليكم أيّها التّونسيّون من ضياع الانضباط و من تسارع و تزايد وتيرة الانفلاتات الأمنية والسياسيّة و الإعلاميّة، ممّا قد يؤدّي في النّهاية إلى لغم يفجّر الوضع برمّته و يعيد البلد من جديد إلى نقطة الصّفر و بحصيلة ثقيلة من الخسائر المادّية و المعنويّة و ربّما حتّى البشريّة بلا نتيجة أو بلا طائل...!
لماذا أخاف عليكم...؟!
لأنّ هناك بعض الأعراض و بعض العلامات المطابقة و المشابهة في الشّكل و المضمون قد بدأت بالفعل تتجلّى وتظهر عندكم...فماذا يا تُرى حصل عندنا في زمن سابق لكي نترك الفرصة لمن أراد أن يقارن و يستفيد و يتّعظ...و هذا مجرّد ملخّص صغير جدّا، إذ أنّ أحداث الجزائر في سنوات التّسعينات لا يستوفي حقّها حتّى عشر مجلّدات...!
أدّت مظاهرات شبّانيّة غاضبة في أكتوبر 1988 ضدّ الفقر و البطالة و ضدّ ظلم و تسلّط الحزب الأوحد (حزب جبهة التّحرير) إلى أعمال حرق و تخريب للممتلكات العامّة و الخاصّة و سقوط المئات من المتظاهرين كضحايا و جرحى و معتقلين قبل أن يضطرّ الرّئيس الأسبق الشّاذلي بن جديد إلى تحرير الإعلام و السّياسة و فتح أبوابهما لجميع فئات و أطياف الشّعب دون استثناء أو إقصاء لأحد...
بعد أن فُكّت القيود و الأغلال عن الكلمة تحرّرت مكبوتاتنا و صحفنا و إعلامنا و تشكّلت الآلاف المؤلّفة من الجمعيّات و النّقابات النّفعيّة و الاستغلاليّة المتسلّقة، و في غضون شهرين أو ثلاثة حازت العشرات من الأحزاب السّياسيّة تجاوزت الستّون حزبا بما فيهم أحزاب دينيّة على التّرخيص و انطلقت ألسنتنا تلهج ليل نهار في أجواء محمومة بما كنّا نظنّه حرّية وديمقراطيّة حتّى ملأنا العالم صخبا و ضجيجا، كان مدّا عنيفا جرف كلّ شيء تقريبا في طريقه...
أدّت مفاجأة الحرّية و الانفتاح على الديمقراطيّة إلى عودة النّزعة الدّينيّة و استيقاظ الحنين إلى التبتّل رافقه بالضّرورة تبدّل و تغيّر موازي في أحوال و تصرّفات النّاس و هذا أدّى إلى تزايد الحماس العام، الكلّ يريد أن ينهل من منبع الحريّة المزعوم ،الكلّ يريد أن يعبّر عن نفسه و يجهر بميولاته السياسيّة و الفكرية دون رقيب أو حسيب، أكثريّة النّاس شبّان متشبّعون بالعاطفة الدينيّة الجيّاشة ممّن تعاظمت لديهم الرّغبة في العودة إلى الأصل و إلى السّلف الصّالح في ظلّ الصّحوة الإسلاميّة، كانوا كالدّاعين إلى دين جديد... مظاهر أصبحت في تلك الأيّام تميّز يوم المواطن و تلهيه عن جزء هامّ من همومه و مشاكله الحقيقيّة، اعتصامات، مسيرات ، تظاهرات شعبيّة في الشوارع و الطّرقات، تجمّعات استعراضيّة و استفزازيّة أمام البنايات الحكوميّة، أداء للصّلوات في الهواء الطّلق و في الطّرق متعمّدين تعطيل حركة مرور الأشخاص و السيّارات قصد التّحدي أو الإثارة..، لقاءات ، تجمّعات ، ندوات احتفاليّة في السّاحات العامّة و المساجد و الملاعب و حتّى داخل البيوت، خطب و دروس و مهرجانات لتلاوة القرآن و الأناشيد الإسلاميّة...!!
سعى حزب الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ إلى استيعاب أو تحييد ليس باقي الأحزاب فقط بل و أطياف التّوجّه الدّيني الأخرى أيضا و الّتي تتطابق معها في نفس المرجعيّة و الأهداف و دخلوا جميعا في تنافس محموم من أجل السّيطرة على المساجد بهدف التّرويج و الدّعاية لكسب ما أمكن من المؤيّدين و المناصرين، و هكذا تحوّلت الجوامع و دور العبادة إلى ساحات للتّصادم و المعارك استخدمت فيها الأيدي و الهراوات و الأحذية. مرّة يعترض نشطاء في جبهة الإنقاذ عناصر من النّهضويّين ( جماعة إسلاميّة أخرى منافسة ) ومرّة أخرى يحدث العكس، و مرّة تمنع هذه الجماعة أو تلك الأخرى من الدّخول و قد يشتبك أو تنشب معارك بين الفريقين يتدخّل خلالها جموع من المصلّين و السّكان، أو يُمنع إمام منصّب من قبل الدّولة من إمامة المصلّين من طرف شبّان متحمّسين أو يشتموه و يلعنوه و يتّهمونه علنا بالتّواطؤ و التّبعيّة للسّلطة الظّالمة و تكريس حكم الطّاغوت..!
بمرور الأيّام تصاعدت وتيرة الاعتداءات و العنف ضدّ مواطنين و منتمين و مناضلين في أحزاب أو منظّمات، الأسوأ، إقدام عناصر متطرّفة على تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر باليد من خلال معاكسة و إزعاج الأزواج المختلطة و التّعدّي بالضّرب على بعضهم و السّعي لوقف الحفلات و السّهرات الغنائيّة و منع استخدام الآلات الموسيقيّة و الغناء و تهديد أصحابها و القائمين عليها، كما أجبر الكثير منهم نساءهم و بناتهم على لبس الحجاب الشّّرعي و التزام البيوت و لاحقوا الممتنعات و أزعجوا المتلكّئين من الرّجال و المتهاونين منهم و المتساهلين ..!
و هذه أعراض و مظاهر بدأ بعضها يظهر عندكم و يزيد كمّها و كيفها بمرور الأيّام...أليس كذلك..؟!
تدعّمت صفوف الجبهة الإسلاميّة (في بداية سنوات التّسعينات عندنا في الجزائر) بانضمام المزيد من عناصر إسلاميّة أخرى من بينها جماعة الهجرة و التّكفير، جماعة الجزأرة و العائدين من أفغانستان و الإخوان المسلمون و مؤمنون تقليديّون و حركيّون منبوذون،أضف إليهم أصحاب الحاجات و الأغراض و الأهداف الخفيّة و مريدي التّسلية وقتل الوقت و المغرّر بهم و الانتهازيّون و حتّى أصحاب النّيات الصّادقة و مَن هدفهم التّوبة و الاستقامة على الدّين الصّحيح..! و الملفت التحاق عدد من الأطبّاء و المهندسين و الإطارات و المعلّمين و أصحاب الشّهادات الأخرى إلى جانب المنحرفين و المتبطّلين الّذين كانوا يملئون الأزقّة و الأحياء، أضف إليهم حشود من المتسكّعين و الهائمين على وجوههم و أولئك الّذين سئموا من حياتهم و من سنوات البطالة و الفراغ و الاتكاء على الحوائط و الّذين ملّوا و تعبوا من الوقوف عند نواصي و في مداخل و مخارج الشّوارع و الطّرقات، أخيرا وجدوا ملاذا لهم و وجدوا ما يشغلون به أنفسهم و أوقات فراغهم.. سرعان ما طرأت على مظاهرهم و تصرّفاتهم تحوّلات و تغيّرات تناسب الانتماء الجديد، كالاهتمام بلبس القمصان و الجلابيب و إطالة اللّحى و ارتياد المساجد و إحياء واجب الدّعوة و النّصح للّه، و كثير آخرين كنّا نعرفهم بالأمس سفهاء القوم و وضعاءه من سرّاق و منحرفين و شاربي الخمور و من معاكسي الفتيات و المزعجين و أصحاب المشاكل، تحوّلوا فجأة و بين عشيّة و ضحاها إلى صفوة القوم و أتقياءه و أصبح من بينهم دعاة و ناصحون بل و متفقّهون و مُفتون و دارسون و مُدرِّسون و حافظون للقرآن و الحديث..؟!
تسارعت الأحداث بعد الانتخابات المحلّية الّتي جرت في شهر حزيران ( يونيو ) من العام 1990 الّتي سطع فيها نجم الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ إذ بعد إحكام سيطرتها على المساجد باشرت امتدادها و مدّ أذرعها الأخطبوطيّة إلى ما بقي منها، و هذا طبقا لخطّة موضوعة و مدروسة بالتّنسيق بين كلّ الولايات و المدن، إلى أن غطّت و استولت على الخمسين ألفا مسجدا أو يزيد عبر طول البلاد و عرضها و ضمنت بذلك سيطرة فعليّة و شبه كاملة عليها، ثمّ التفتت و استهدفت فضاء اجتماعيّا لا يقلّ أهمّية و هو الأحياء الشّعبيّة منتهزة الظّروف المواتية و كثافة شبّانية مقهورة يائسة و محرومة تعيش تدنّي معيشي مهين و العديد من المشاكل المستعصية عجزت الدّولة عن التّكفّل بها أو التّخفيف من آثارها حتّى لم يبقى أمامهم سوى خيارات و اطروحات الجبهة الإسلاميّة المتواجدة لوحدها في السّاحة مبرهنة على قدرتها في التّغيير و التّأثير و في ظلّ غياب دور مفترض للحكومة أو النّظام الحاكم إفتكّت الجبهة زمام المبادرة و استطاعت أن تتجاوب مع مشاعر الغضب المتفجّر ضدّ النّظام و كلّ بدائله حتّى و إن كانت الدّيمقراطيّة نفسها! كما نجحت في استخدام البلديّات و تسخيرها لصالح أعضائها و مؤيّديها و كثير منهم استفادوا بوظائف و محلاّت و أمكنة عرض تجاريّة و قطع أرضيّة و غيرها.. سياسة المحاباة هذه تركت في الأذهان انطباعا حسنا لدى المستفيدين الطّامعين و مكّنتها من تدعيم مكانتها لدى الجماهير و أبرز ابتكاراتها " أسواق الرّحمة " و هي أسواق مصطنعة ظرفيّة موازية، الهدف منها جلب الجمهور و كسبه عن طريق عرض و بيع السّلع و المواد الواسعة الاستهلاك كالخضر و الفواكه و الألبسة و غيرها بأسعار مخفّضة مغرية... و لا ننسى المطاعم الشّعبيّة خلال شهر الصّيام، مطاعم و متطوّعون و متبرّعون على مستوى العديد من الولايات و المدن يعملون على تقديم آلاف الوجبات المجّانيّة يوميّا، بعض المطاعم واصلوا تقديم الوجبات للفقراء حتّى بعد انقضاء الشّهر الفضيل.. استفادت عائلات و عائلات بمساعدات ماليّة و غذائية طيلة الشّهر و في مناسبات مختلفة، كلّ ذلك الاهتمام الّذي أبدته الجبهة الإسلاميّة كان مجرّد استعراض و دعاية وترويج لمشروع الخلافة الإسلاميّة الّتي تحكم بما أنزل اللّه.. ختمته بالسّيطرة و الاستيلاء على الأحياء الشّعبيّة و تنصيب لجان تشرف عليها و تسيّرها و تميّز سكّانها و تفرزهم استعدادا و احتسابا لاحتمالات التّعبئة و الاستنفار و انتظارا لأيّام الحسم و المعارك الانتخابيّة القادمة...!
و عندكم أيضا في تونس أعداد هائلة من الشّباب بلا عمل و بلا أمل يغمرهم الحزن و يخيّم عليهم اليأس الأسود بسبب عجزالحكومة السّابقة و حتّى الحالية عن تلبية طلباتهم المشروعة أو حتّى التّخفيف من مشاكلهم و معاناتهم المزمنة...بعضهم يحرقون نحو إيطاليا أو غيرها و لكن الغرب ماض في تسوير بلدانه و التّضييق على كلّ هارب إليه، فماذا يبقى لديهم غير الارتماء في أحضان الأحزاب و الجماعات الإسلاميّة فهي وحدها قادرة على استيعابهم و تقديم البديل لهم و ملأ أوقات فراغهم بما ينفعهم في الدّنيا و الآخرة...أليس كذلك...؟!
نعود إلى أحداث الجزائر في سنوات التّسعينات...
تفاقمت الأوضاع آن ذاك إثر بدء الحكومة في تنفيذ خطّتها في الإصلاح و التّحوّل من نظام الإشتراكيّة المفلس إلى نظام الرّأسماليّة و اقتصاد السّوق الواعد و كان انسلاخا مؤلما أنيط بالمواطنين البسطاء تحمّل أعبائه و تبعاته كما قرّرت التخلّي عن دعم الشّركات العموميّة العاجزة و الغارقة في الفساد و الرّازخة تحت الخسائر و الدّيون، حديث عن حلّها أو بيعها و تسريح عمّالها و بدا دور ما يسمّى بالاتّحاد العام للعمّال الجزائريّين باهتا محرجا و دقيقا و خاليا من المعنى و المحتوى ممّا سهّل للجبهة الإسلاميّة للإنقاذ انفرادها بالسّاحة العمّاليّة و مكّنها مرّة أخرى من اقتناص فرصة ذهبيّة لاستيعاب شريحة عريضة من المجتمع و هم العمّال الّذين لا يقلّ عددهم عن أربعة ملايين و عليه فقد سارعت النّقابات الإسلاميّة لاحتوائهم و استيعابهم و خلال بضعة أشهر استطاعت إفتكاك زمام المبادرة و التّغلغل في أغلب القطاعات ، كقطاع التّربية و التّعليم، مؤسّسة نفطال، البريد و المواصلات، النّقل، الصّحة و أوّلها المؤسّسات المحليّة التّابعة للولاية و البلديّة، النّقابات المشكّلة الّتي لم تكن تملك خطّة أو برنامجا واضحا لفائدة العامل، كلّ ما لديها هي فلسفة تقوم على الحفاظ على حقوق العامل و ربّ العمل على حدّ سواء في إطار الإسلام و الصّالح العامّ، في المقابل لم تحقّق الأحزاب الإسلاميّة الأخرى المتواجدة في السّاحة سوى نجاحات هزيلة لا تقارن بما حقّقته الجبهة الإسلاميّة.
الأعمال تعبّر عن النيّات و تكشفها و الأهداف تتبلور و تتّخذ شكلها و منحاها بمرور الزّمن، شيئا فشيئا اتّضح أنّ لدى الإسلاميّين النيّة و العزم و التّصميم من أجل الاستيلاء على المجتمع و من ثمّة أسلمته و إعادته إلى نهج السّلف و الإسلام الأوّل، و هذا يحقّق مطلبان أساسيّان أوّلهما سحب البساط من تحت النّظام و ثانيهما التّمهيد و وضع الأسس لتطبيق الشّريعة و إقامة الدّولة الإسلاميّة المأمولة، لذلك استمرّ التّوسّع و التّمدّد عبر كلّ الشّرائح و الطّبقات بوتيرة متسارعة عموديّا و أفقيّا ثمّ انتهوا بإنشاء ما أسموه "المصلحون " أو الشّرطة الإسلاميّة لدعم التّواجد و استكمال مشروع الاستحواذ و الاستيعاب بإحياء مبادئ الإسلام بين النّاس و الاستقواء و إبراز العضلات أمام السّلطة و المجتمع على حدّ سواء، في الانطلاقة كان اهتمام عناصر الشّرطة الإسلاميّة منصبّا على تنظيم الاجتماعات و المسيرات و التّجمّعات ثمّ تطوّر بعد الانتخابات إلى التّدخّل المباشر في مظاهر الحياة المختلفة للمواطنين و تعاظمت الحاجة إلى خدماتهم و أصبحوا الوسيلة المثلى لتقويم و أسلمت الشّعب ( دين الشّعب الإسلام؟! ) و من ثمّة إعداده و تهيئته للهدف الأكبر و هو الوصول إلى السّلطة و تطبيق حكم الله، و اعتمادا على وسائل و إمكانيّات البلديّات الّتي تحت أيديهم باشروا مهامّهم خلال محاور أساسيّة تمثّلت في ساحات عمل وسائل النّقل، حول الأسواق، داخل الأحياء الكبرى.. عملهم إرغام المدرّسين و مديري المؤسّسات و مالكي الباصات على الامتثال لإملاءاتهم إمّا ترغيبا أو ترهيبا أو حتّى تهديدا و أحيانا بالتّهجّم و الاعتداء الجسدي، ثمّ امتدّ نشاطهم إلى محيط الأحياء الجامعيّة للبنات فأزعجوا الطالبات و مارسوا عليهنّ استفزازاتهم و تهديداتهم بلبس الحجاب و منعهنّ من الاختلاط بالذّكور، و سجّلت عدّة حالات في عدد من الولايات تمّ فيها الاعتداء حتّى بالضّرب على بعضهنّ، كما أُرغم تجّارعلى تغيير نشاطاتهم التّجاريّة المنافية للشّرع كبيع أشرطة الغناء و الفيديو و أفسدوا على أصحاب الحفلات و النّشاطات الفنّية، و لوحق المتهاونون و المتكاسلون في أداء الصّلوات، و لم يتأخّروا في مهاجمة بيوت البغاء و الحانات و محلاّت بيع الخمور، و بدا موقف السّلطة إزاء فعلهم و نشاطهم هشّا ضعيفا متغاض متجاهل و غير مبال...!
ختطفت الجبهة الإسلاميّة زمام المبادرة على السّاحة السّياسيّة من يد النّظام الحاكم و بقيّة أحزاب المعارضة و بدوا أقزاما و مجهريّين أمامها و أصبحت في نظر الأغلبيّة السّبيل الوحيد للتّغيير و المخلّص الأوحد من حكم متعفّن محكوم عليه بالزّوال.
و رغم كلّ ما كان يجري إلاّ أنّ النّاس كانوا فرحون مبتهجون بخيار الدّيمقراطيّة و الحريّة حتّى و إن تشوّش مفهوم هذه الأخيرة و لم يتجاوز "قل ما تشاء" دون معرفة من أين تبدأ إلى أين تنتهي، لكنّ شوطا هامّا تمّ قطعه في رفع الحظر عن التّعبير و ترك الناّس يفكّرون بصوت عال و يقولون ما يشاءون دون خوف من رقيب أو حسيب و دون انتظار لسجن أو اعتقال أو تعذيب حتّى و إن انتقدوا أو تعرّضوا لرموز السّلطة أنفسهم و غدا الأمر مبهجا و ملفتا إثر رفع بعض الحواجز و فتح محطّة التّلفزة الوطنيّة أبوابها للفعّاليات السياسيّة و الاجتماعيّة دون استثناء أو إقصاء لأيّ توجّه و لكن ضمن حدود و خطوط حمراء غير معلنة و لا مرئيّة. اشتدّ التّجاذب و حميت المواجهات في السّاحة بين مناضلي و مناصري الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ و قوّات الأمن، تصاعد تذمّر المتديّنين و زاد اهتياجهم و أوشك صبرهم على النّفاذ فخرجوا إلى الشّوارع مهلّلين مكبّرين و متحدّين النّظام الكافر الفاسد بالتّظاهر و الاعتصام و سدّ الطّرق العامّة و خرق متكرّر لقانون حظر التّجوال المفروض، أقدم بعضهم على أعمال تخريبيّة طالت على الخصوص مؤسّسات الدّولة كما هاجموا دوريّات الأمن و الحواجز العسكريّة، بدت الأجواء مشحونة، داخلها يتبلور توجّه متزايد نحو العنف و الفوضى من طرف العناصر المتطرّفة التّواقة و المتلهّفة إلى صيغة تغيير المنكر باليد، و هكذا انتشر بين النّاس أخبار سعي بعض الجماعات للتّسلّح و التّدرّب على حمل السّلاح ممّا ضاعف قلقهم و مخاوفهم من انفلات أمني قد يصعب السّيطرة عليه و التّحكّم فيه و عليه، فقد أقدمت الحكومة على حزمة إجراءات ميدانيّة صارمة الهدف منها محاصرة و استيعاب مارد الجبهة الإسلاميّة و افتكاك زمام المبادرة من بين يديه و وقف توسّعه و تمدّده و أهمّها حملة مكثّفة من التّوقيفات و الاعتقالات الجماعيّة الغير مسبوقة للعناصر المتعاطفة و المساندة دون تمييز بين متطرّف و معتدل، تفاجأ النّاس بخبر اعتقال قادة و شيوخ الجبهة الإسلاميّة، سُحُب من التّخوّف و عدم الاطمئنان علقت بالأجواء من إقدام السّلطة على مثل هذه الخطوة، بعضهم رأى أنّها تُخرج العفاريت من قماقمها باستفزازها العناصر المتطرّفة و دفعهم للثّأر و الانتصار لقادتهم و شيوخهم كما تفقدهم أيّ مبرّر للتّمسّك بمبدأ التّعقّل و الانضباط..!
انتشرت أفكار و مفاهيم ثوريّة معادية لكلّ ما ألفه النّاس و اعتادوا عليه و أصبحت المساجد نقاط الاستقطاب و الانبعاث، فتحت أبوابها باللّيل و النّهار و اكتظّت ليس بالمصلّين فحسب و إنّما ببقيّة جماعات السّياسة و التّرويج و الدّعاية للحركات و الأحزاب الإسلاميّة يتجاذبون فيما بينهم النّاشطين و المتحمّسين و المتعاطفين و يتنافسون على احتوائهم و التّأثير على عقولهم و قد يتحوّل تنافسهم إلى تصادم و اشتباك بالأيدي و تراشق بالأحذية و رغم تشديد السّلطات على التّجمّعات و ملاحقة المتطرّفين إلاّ أنّ الجوامع بقيت بقبضة النّشطاء الإسلاميّين الّذين واصلوا استخدامها لتحقيق أغراضهم و الوصول إلى أهدافهم و رغم اغتياظهم و مشاعر الغضب و الاستياء من جرّاء سجن الشّيوخ و خيرة قادتهم و عناصرهم و تعرّض البقيّة للاضطهاد و الملاحقة إلاّ أنّهم تطلّعوا بأمل إلى موعد الإنتخابات التّشريعيّة القادمة بشغف و ترقّب لاعتقادهم أنّها السّبيل الوحيد و الوسيلة المتاحة لهم في الوقت الرّاهن للوصول للحكم و من ثمّة إقامة الخلافة الإسلاميّة المأمولة و تطبيق شرع اللّه في الأرض..
سادت المجتمع حمّى الرّغبة في التّغيير بأسرع ما يمكن، قليلون هم الّذين كانوا يتمعّنون في المشهد و يفكّرون بموضوعيّة و يتوخّون الحكمة و التّبصّر، الغالبيّة تتوق إلى البديل و لا يهم ّالثّمن، قلّة من يسألون أو يتساءلون عن جدوى التّغيير، عن توقيته، عن مآله و عواقبه و نتائجه، عمّا إذا كان هذا الطّريق أو ذاك أنسب و أصلح؟ الحاصل هو الاندفاع بقوّة و بسرعة، في أيّ اتّجاه لم يكن أحد يدري؟! النّاس يشغلهم في ذلك الوقت الحديث عن الحرّية و الدّيموقراطيّة، يذمّون و ينتقدون نظام الحزب الواحد، يتّهمونه بأبشع التّهم و يحمّلون جبهة التّحرير كلّ المفاسد و الأضرار الّتي لحقت بالبلاد؟! و الآن حان الوقت بالنّسبة لهم لتترك مكانها لغيرها، لكي تنزل عن عرشها و تتيح الفرصة لمن لديهم القدرة و الكفاءة، و طبعا فإنّ البديل الوحيد و الأكفأ و الأقدر في أعين الغالبيّة العظمى من المقهورين و اليائسين و المظلومين و النّاقمين و متصيّدي الفرص و العاطلين و المتبطّلين و الطّامحين و أصحاب الحاجات و حتّى بعض الصّادقين و المخلصين و كل ّ من يبحث عن عكس الاتّجاه و التّغيير الشّامل و الجذري مهما كان لونه أو طعمه أو شكله هي: الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، المهمّ التّخلّص من حكم الحزب الواحد الأحد؟
امتدّت اذرع أخطبوط الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ إلى كلّ مدن و مناطق البلاد و حازت على تعاطف جماهيري واسع و منقطع النّظير، كان واضحا أنّها الوحيدة في الميدان و المؤهّلة لتسلّم مقاليد الحكم و القيادة، لا ريب أنّ الشّعب سيصوّت من أجلها و ستكتسح صناديق الانتخاب إن هي قرّرت المشاركة في الانتخابات التّشريعيّة القادمة و إن كان اعتقال الشّيوخ يلقي بضلاله على هذه الإمكانيّة؟ التّوتّر و الاحتقان سمات المتعاطفين و المتلهّفين و الحاقدين على الحكومة، الخلافة الإسلاميّة غايتهم و مطلبهم، وضعوها نصب أعينهم، هاهي ذي تتراءى لهم على بعد خطوات، لن يوقفهم إجحاف و تجبّر السّلطة، إنّها مسألة وقت فقط، أعمدة الظّلم و الفساد تتهاوى الواحد تلو الآخر، لكلّ ظالم يومه، حان الوقت لبعث دين اللّه من جديد، لن تستطيع قوّة في الأرض منعهم و لا وقفهم، اللّه ناصرهم لا محالة و مُظهر دينه و لو كره الكافرون و المنافقون، مشاعر عمرت القلوب و ملأتها لهفة و نشوة، و نفوس يحدوها الأمل و الشّوق إلى إحياء مآثر و مناقب السّلف الصّالح و تمثّل نهجهم في حبّ اللّه و تطبيق أحكامه، في الامتثال لأوامره و الابتعاد عن نواهيه، في اتّباع أسلوبهم و المشي على طريقتهم و هداهم، في الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر ليس باللّسان فحسب و إنّما بالتّدخّل المباشر، الدّين يؤخذ كلّه أو يترك كلّه ( هذا ما شاع و راج من شعارات في أوساط النّاس و العامّة ) و الإسلام هو الحلّ...!
قرّرت الجبهة الإسلاميّة دخول الانتخابات التّشريعيّة دون شيوخها باعتبارها الوسيلة الوحيدة المتاحة لتحقيق إرادة و اختيار الشّعب المتمثّل في تطبيق الشّريعة و إقامة الدّولة الإسلاميّة، في آخر السّنة أفرزت إعلانات نتائج الدّور الأوّل تقدّم ساحق و فوز مشهود للجبهة الإسلاميّة حيث حصلت على 188 مقعدا تلاها حزب القوى الإشتراكيّة بـِ 25 مقعدا ثمّ حزب جبهة التّحرير بـِ 16 مقعدا، نتائج استدلّ بها على الحقائق التّالية: البعد الدّيني و حجمه في أوساط الجماهير و رغبتهم الواضحة في التّغيير من خلال اختيار الحكم الربّاني و تحمّسهم لتطبيق شريعته، ثانيا إثبات أنّ حزب القبائل المشارك له تواجد حقيقي خاصّة في المدن و المناطق الجهويّة، ثالثا بيّنت الانتخابات و كشفت أنّ الحزب العتيد ما زال حيّا و أنّه لا زال لديه متعاطفون و مناصرون لا سيّما في أوساط العائلة الثّوريّة و المناطق الرّيفيّة، رابعا تبخّر الأحزاب المجهريّة و اختفاءها كفقاعات الصّابون! هاجت البلاد و ماجت و قامت و لم تقعد، غصّت الشّوارع و الطّرقات بالسّيارات و الشّاحنات و الحافلات و من داخلها خرجت الرؤوس و الأعلام الوطنيّة و غيرها، شباب تهزّه الفرحة و الحماس ينادون بأعلى أصواتهم:" اللّه اكبر.. اللّه أكبر.. عليها نحيا و عليها نموت من فوق السكنى و من تحت الحانوت.. يا طاغوت.. يا طاغوت نحن قادمون يا طاغوت! " كانت نداءاتهم و صراخهم المحموم و الشّعارات الّتي يحملونها شديدة و قاسية تبرز مقدار لهفتهم و غضبهم في آن. تصاعدت مظاهر الابتهاج بالنّصر و أيقن الجميع أنّ البلاد مقبلة على مرحلة جديدة مختلفة، مرحلة تتميّز بمسح الماضي و رمي غثّه و سمينه في مزبلة التّاريخ ثمّ التّفرّغ لتطبيق الشّريعة و إقامة حكم اللّه، حلم و مطلب الأمّة كلّها.
تسارعت الأحداث خلال الأيّام الأولى من العام الجديد و البلاد تستعدّ لانطلاق الدّور الثّاني من الانتخابات التّشريعيّة بشكل مربك، ساد القلق و التّململ، نجاح الجبهة الإسلاميّة في الدّور الثّاني مؤكّد و لا شكّ فيه، أطراف في السّلطة و المجتمع متشائمة و مرتعبة و غير راضية بهذه النّتيجة، منظّمات و جمعيّات طالبت بالحفاظ على المكسب الدّيموقراطي، بعضها ناشد الجيش بالتّدخّل لمنع الإسلاميّين من الوصول إلى الحكم، أمّا موقف الجبهة الإسلاميّة المستقوية برصيدها الجماهيري السّاحق فقد تراوح بين دعوة مناضليها إلى الحذر و التّرقّب و تشديد لهجتها و خطابها في المساجد و الصّحف ضدّ كلّ من يفكّر في تشجيع و مساندة أعداء الأمّة و معارضي اختيارها، الأبرز تنظيم جبهة القوى الاشتراكيّة لمسيرة في منطقة القبائل ضدّ ما أسمتها مؤامرة على مستقبل البلاد و الدّيموقراطيّة.. و هكذا بلغ الاحتقان حدّا أفرز في النّهاية سلسلة من التّحوّلات أهمّها: حلّ المجلس الوطني بمرسوم رئاسي،استقالة الرّئيس الشّاذلي بن جديد ، إلغاء الدّور الثّاني من الانتخابات ثمّ العمليّة الانتخابيّة كلّها، رفض تولّي رئيس المجلس الدّستوري لمهام الرّئاسة ، تنصيب المجلس الأعلى للدّولة برئاسة محمّد بوضياف لتسيير الدّولة لفترة انتقاليّة حدّدت بثلاث سنوات..؟! مخاض طويل و عسير منذ أحداث أكتوبر عام 1988 أسفر في النّهاية عن إجهاض المشروع الدّيموقراطي بأكمله بعد أن استبشر النّاس و فرحوا به، انتكاس و نكوص عن إرادة التّحوّل و التّغيير المأمولة، الجيش يلملم الخيوط و يغلق الأبواب و يخلط الأوراق و يعيد الأوضاع إلى نقطة الصّفر؟! و لكن ماذا عن الأخطبوط الّذي اعتقد أنّه على شفا الاستيعاب و الإحاطة؟! أتراه يسحب أذرعه و يستسلم للأمر الواقع؟ أم سينفث سمّه و يفجّر غضبه؟!
أكيد أنّ إخواننا التّوانسة سمعوا بما حصل بعد ذلك، لكنّهم لم يعيشوا الحرب الأهليّة الّتي عشنا، و لم يكتووا بنار العنف الأعمى كما اكتوينا...كانوا مثلهم مثل غيرهم من الدّول الشّقيقة و الصّديقة وحتّى العدوّة يسمعون فقط، و كانت الصّحف و المحطّات و وكالات الأخبار تطالعهم وتزوّدهم ببعض ما كان يجري من ويلات و أحداث دمويّة مؤلمة غاية في العنف و البشاعة طحنت وهرست روح وكرامة و معنويات الإنسان الجزائري و كسّرت آماله في التّغيير، و قضت على أيّ رغبة كانت عنده في الولوج إلى عصر الحرّية و الدّيمقراطيّة...!
لم تعيشوا و لم تجرّبوا أيّها التّونسيّون (ستركم اللّه و أبعد عنكم كلّ همّ و شرّ) منظر الرّؤوس المقطوعة الّتي كنّا نجدها كلّ يوم ملقاة في الشّوارع و في الأحياء و على قارعات الطّرق، لم تجرّبوا أو تعيشوا منظر الأشلاء البشريّة و لا منظر الأجسام المقطّعة و المتفحّمة من جرّاء التّفجيرات و السيّارات المفخّخة داخل المدن الكبرى و الصّغرى و داخل المساجد و الأسواق و على أبواب ومشارف المؤسّسات و المباني الحكوميّة، لم تجرّبوا النّهوض كلّ صباح على ملصقاتهم و بياناتهم على حوائط المساجد و المباني و على جدران البيوت وأعمدة الإنارة و هي تحمل التّهديد و الوعيد للمواطنين و قوائم الأشخاص المغضوب عليهم و المحكوم عليهم بالموت من طرف الجماعات الدّمويّة، و لم تجرّبوا شعور من يجد إسمه في تلك القوائم، لم تجرّبوا منظر اصطياد شباب الشّرطة و الجيش و الدّرك و ذبحهم مثل الخراف أمام أعين مسافري الطّرقات، لم تجرّبوا جزّ رؤوس الرّجال و النّساء داخل البيوت و في الأحياء و على عتبات المنازل، لم تجرّبوا منظر اختطاف الفتيات و النّساء و أخذهنّ سبايا و مغانم حرب لأمراء و قادة الجماعات الإسلاميّة لتوزيعهنّ بينهم كزوجات أو كإماء للخدمة و المتعة الجنسيّة، لم تجرّبوا منظر اغتصابهنّ أمام أعين أهاليهم و أطفالهم، لم تجرّبوا كلّ مشاهد الحرق و القلي للعباد كبارا و صغارا، نساء و رجالا، و لم تجرّبوا منظر الخلائق و هم يُجرّون و يُسحلون بلا رحمة في كلّ مكان و أقدامهم و أيديهم مربوطة و مكبّلة بالأسلاك الشّائكة، و لم تجرّبوا مشاهد الجماعات المسلّحة و هي تؤدّي فريضة الجهاد في سكّان الأحياء و القرى النّائية فتعمل فيهم تقتيلا و تذبيحا بالقنابل و السّواطير و السّيوف و الفؤوس فلا يتركوها إلاّ بعد أن يُقطّعوا و يدقّوا عظام كبيرها و صغيرها و يفنوها عن بكرة أبيها و أمّها، لم تجرّبوا بلدا تعمّ فيه الفوضى و يضيع فيه الأمن و الأمان و يخيّم على مواطنيه اليأس و الرّعب، لم تجرّبوا العيش في بلد هرب جلّ أثريائه ونخبه و سياسيوه و حتّى مطربوه و كلّ قادر على الهجرة و الهرب إلى فرنسا أو غيرها ناجيا بجلده و بجلد أهله، لم تجرّبوا الحياة داخل قرى و مدن إحتلّها أو بالأحرى فتحتها الجماعات الإسلاميّة و حوّلتها غصبا و عنوة إلى إمارات إسلاميّة (على شاكلة أفغانستان في عهد طالبان) تُحكّم الشّريعة و تطبّق حدود اللّه بين مواطنيها....لم تجرّبوا و لم تعيشوا أهوال و فواجع و آلام و فظائع الحرب الأهليّة الّتي دارت رحاها الطّاحنة في بلدنا...و نتيجة ما عشناه و لمسناه و شهدناه و ذقناه و شربناه و تعذّبناه أثناء هذه الحرب الأهليّة هي مئات الآلاف من الضّحايا و مثلها من الثّكالى و اليتامى و المخطوفين و المعاقين و المجانين...إلخ
و طبعا ليس من سمع كمن رأى و عاش بنفسه..!
تتّصف بعض التّنظيمات الإسلاميّة بفضل مراجعاتها و تصحيحاتها و بحكم طول تجربتها بقدرة متميّزة على تنظيم صفوفها و بقدرة مماثلة على استقطاب الفعاليات و الأنصار و المتعاطفين خاصّة الشبّان الّذين يعانون الفراغ المستدام و ليس لديهم عمل أو حتّى أمل، و أنا شخصيّا أشهد لهم بإتقانهم للّعبة السّياسة، من حيث أنّ السّياسة تعني فنّ الكذب و التّضليل، و لكن عندما تتقولب السّياسة بقالب الدّين، و عندما يترك الشّيخ منبره و مسجده و حلقة درسه و يهجر مهمّته الأساسيّة المتمثّلة في التّذكير و الوعظ و النّصح و الإرشاد و يتحوّل إلى سياسي فإنّ السّياسة هنا تتحوّل مقابل الدّين إلى البارود مقابل النّار...!
في البداية عوّدنا خاصّة ممثّلي و قادة الأحزاب الإسلاميّة على ازدواجيّة الخطاب لا بل على تعدّده (كما يحدث عندكم هذه الأيّام من طرف ممثّلي الأحزاب الدّينيّة) ، لم نعرف لهم خطابا واحدا بل عدّة خطابات مختلفة و متنوّعة على مدى تجربتنا معهم، كلّ خطاب يكيّفونه و يعّدلونه و يغيّرونه حسب الحاجة و حسب عقليّة و شخصيّة المتلقّي وحسب ما تتطلّبه و تستدعيه السّياسة و شؤونها، لكّل مقام مقال و لكلّ خطاب هباب...و استطاعوا (عن حذق و جدارة) بطريقة سحريّة موالفة و مجانسة كلّ التّناقضات و المتضادّات في عقول الأغلبيّة منّا، فكنّا نجد خطابات حسب الطّلب، خطاب للمجتمع و خطاب للأنصار و المتعاطفين، و خطاب للتّلفزيون و خطاب للجوامع و المساجد، و خطب أخرى خاصّة باجتماعاتهم و ندواتهم الخاصّة الّتي لا تجري إلاّ بينهم.. و هكذا....!!
فتارة يكون الخطاب مراوغا مداريا ملتويا غامزا لامزا، و تارة و هو الأغلب يعتمد قادة و ممثّلي الأحزاب الإسلاميّة في برامجهم الحواريّة المتلفزة مع بقيّة الأحزاب و المشاهدين خطابا مهادنا و داعما و مسايرا و منافقا و كاذبا (لزوم السّياسة) لا يتورّع فيه قائله عن الزّعم من أنّ قيم الدّيمقراطيّة و الحرّية هي في الأصل قيم إسلاميّة مستدلاّ على زعمه بمنتهى الوقاحة و مستنبطا من الكتاب و السنّة و من تاريخ الأوائل و يبرهن على أنّ السّلف و الصّحابة و التّابعين كانوا يمارسون الدّيمقراطيّة فيما بينهم (!!)، رغم أنّ الدّيمقراطيّة هي نظام غربي بامتياز يجعل الشّعوب مصدر السّيادة و التّشريع في بلدانها و الحكّام عند الشّعوب الدّيمقراطيّة يُعيّنون بالانتخابات، و التعدّديّة الحزبيّة عندهم مسموحة و مشاعة، والتّداول على السّلطة تنافسيّا و سلميّا، كما أنّهم يطبّقون بدرجات متفاوتة و مقبولة مبدأ فصل السّلطات، و تضمن قوانينهم و دساتيرهم المنبثقة عن الدّيقراطيّة حرّية المعتقد والتّعبير والعمل النقابي وحقوق الأقلّيات، وتُحترم حقوق الإنسان و حقّ النّاس في التمايز و الإختلاف، و الأهمّ أنّ تحقيق ديمقراطيّة حقيقيّة نسبيّا لا يمكن أن يتمّ إلاّ في بيئة علمانيّة صرفة ممّا يستلزم فصل الدّين عن السّياسة و شؤون الحكم و عدم إجبار أيّ كان على اعتناق أو تبنّي معتقد أو دين معيّن....
أمّا في الإسلام فجميعنا يعرف أنّ الحاكميّة للّه وحده و لرسوله، القرآن و السنّة هما مصدرا التّشريع، و الحاكم لا يُنتخب من الشّعب إنّما يختاره أهل الحلّ و العقد و طاعته واجبة ما لم يخالف نصّا دينيّا صريحا، و ليس لديه برنامج أو سياسة خاصّة لتسيير البلاد إنّما مهمّته لا تتخطّى كونه منفّذا لأحكام و قوانين اللّه لا أكثر و لا أقلّ...
و عليه فالتعدّديّة الحزبيّة محظورة، و التّداول وراثي أو شبه وراثي، و الحكم الدّيني لا يضمن و لا يعترف بحرّية المعتقد و لا بحقوق الأقلّيات إلاّ في الإطار الّذي يفرضه و يشترطه عليهم الدّين، مثل إخضاعهم لتصنيفات متدنّية و التّضييق عليهم (على الأقلّيات الدّينيّة الأخرى) في ممارسة طقوسهم و فرض إتاوات و ضرائب عليهم مقابل حمايتهم و حقن دمائهم كأنّهم دخلاء أو مواطنون من درجة ثانية أو ثالثة...و إمعانا في التّمييز بينهم و بين المسلمين رغم أنّ الجميع على درجة واحدة من المواطنة بحكم انتمائهم إلى وطن واحد، فإنّهم يطلقون عليهم إسم أهل الذمّة...!
أمّا في المفهوم الإسلامي أي النّسخة الأصليّة الحقيقيّة غير المحرّفة و غير المعدّلة، فإنّ اللّه وحده يعلم ما يَصلح للنّاس و للشّعوب من أحكام و قوانين تنظّمهم و تضبط حياتهم السّياسيّة و العامّة، أمّا العقل البشري فهو قاصر عاجز عن فهم ما يصلح و ما يضرّ و ما ينفع...و هذا المفهوم يتجلّى بوضوح في السلفيّة الوهّابيّة و هي النّسخة الأقرب إلى النّسخة الإسلاميّة الأصليّة من حيث أنّها تَعتبر بل لا تشكّك إطلاقا في أنّ الدّيمقراطيّة كفر و زندقة و تُحرّم على المسلمين ممارستها أو تبنّيها شكلا و مضمونا...!
أمّا الحرّية حسب هذا الخطاب فدار الإسلام هي دارها و المسلمون هم أصحابها و أوّل روّادها...و هل كان هذا الدّين (الإسلام) سيُظهره اللّه على النّاس كافّة لولا ديمقراطيّة صحابته و ملوكه و سلاطينه و أمرائه، و هل كان سيصل أصقاع الدّنيا لولا الحرّية الّتي كان تنعم بها الخلائق في دولتهم بمختلف معتقداتهم و دياناتهم، اليهود و النّصارى و غيرهم...الرّسول و رعيله الأوّل و من جاء بعدهم، كانوا كلّهم ديمقراطيّون...أي نعم...كانوا يختارون و ينتخبون حكّامهم و أمراءهم و أولياء أمورهم ، و كانوا يُمكّنون النّاس من حقّهم في اختيار من يريدونه و من يناسبهم في حكمهم و قيادتهم بنظام الشّورى الدّيمقراطي، ثمّ كانوا لا يتنفّسون و لا يشربون و لا يأكلون إلاّ حرّية..حياتهم كلّها كانت حرّية في حرّية...!
الإسلام كلّه حرّية في حرّية...!
أمر يدعو حقّا إلى الاندهاش...؟!
أتساءل، هل خطاب إسلامي عنوانه "إسلام/حرّية" في أساسه صحيح أم خاطئ...؟!
ما معنى الحرّية إذا لم يكفل الإسلام حرّية التّفكير و حرّية المعتقد و حرّية اختيار الحاكم...؟! هل تصنيف المسيحيين و اليهود كمواطنين درجة ثانية أو ثالثة في بلدانهم و اضطهادهم و إجبارهم على دفع الجزية مقابل حمايتهم و حقن دمائهم من طرف الأغلبيّة المسلمة، أقصد في النّسخة الأصليّة لدين الإسلام، هل هذا شكل من أشكال الحرّية أم ماذا...؟!
هل أجواء يُقام فيها حدّ الردّة و يُلاحق و يُضيّق فيها على أقلّيات طائفيّة و دينيّة في عصور السّلف الصّالح (نحمد اللّه أنّ المسلمين اليوم لا يفعلون تلك الأشياء) يمكن أن يساعد حقّا على نشوء مناخ صالح للاستمتاع بقيمة الحرّية...؟!
الصّدمة عقّدتنا و روّعتنا و طوّحت بعيدا بأي ميل أو نزعة للثّورة أو الخروج ضدّ النّظام.. تشكّلت لدينا حساسيّة مفرطة تجاه الثّورات و المظاهرات، لذلك نرى أغلبيّة الشّعب الجزائري عازفة و زاهدة بل و متوجّسة من التّظاهر و الخروج إلى الشّوارع مخافة أن تعود بنا الأوضاع إلى سنوات التّسعينات، و قنعنا و رضينا ببعض الأمن و الاسقرار حتّى و إن كان تحت سيطرة نظام حكم شمولي عسكري أرعن فاسد و قمعي قلّ نظيره...؟!
أنا أقول هذا الكلام لأنّي أعرف أنّ التّاريخ و منذ بدء الخليقة يُكرّر نفسه دائما و أبدا، و لن يتوقّف هذا الفعل حتّى يتلاشى كوكب الأرض أو تباد أو تنقرض كائناته الحيّة بما فيهم الجنس البشري من على وجهه...و النّاس يأتون و يمضون و لكن قلّة منهم فقط من يتعلّم و يتّعض و يستلهم من هذا التّاريخ الّذي يبدو أنّه لا يتعب و لا يملّ من الدّوران في حلقة مغلقة من الأحداث و الحوادث المتشابهة خاصّة إذا تطابقت و تشابهت الأسباب و المعطيات الجغرافيّة و العِرقيّة و الثّقافيّة للحضارات و الشّعوب و المجتمعات...منذ كان يسكن الإنسان الكهوف و الإنسان هو الإنسان، دوافعه، رغباته، نزواته، طموحاته، جشعه كلّها هي هي، و إن أدخل تعديلات بعضها جيّد و بعضها سيّء على وسائله و أدواته و نمط عيشه...
استنادا لحقيقة دورة التّاريخ المتكرّرة تلك فإنّ المخاوف و الهواجس ما تنفكّ تراودني على مصير دولة تونس الجارة و الشّقيقة، خاصّة بعدما بدأت تظهر بوادر وعلامات غير مشجّعة على الإطلاق في شكل مظاهر و إرهاصات منذرة في المجتمع التّونسي في عهد الدّيمقراطيّة و الحرّيات الإعلاميّة و السّياسية الّتي أتت بها و أثمرتها ثورة المجتمع التّونسي ضدّ طغيان و حكم بن علي البائد...!
#باهي_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثّورة طريق خطيرة فيها مزالق كثيرة فحذار يا شعب ليبيا....؟!
-
ماذا بعد ثورة 25 يناير...؟!
-
أمّا الآن فأقول أسفي عليك يا تونس الخضراءُ...!
-
بعد الزّين إقرأ على تونس السلام...!
-
ثمرة الحبّ....!
-
طرح مفكّر إسلامي يدفع على التقيّؤ...؟!
-
كلمة أفاضتها انتخابات مصر البرلمانيّة...!
-
لماذا يخاف المسلمون من حملات التّنصير...؟!
-
تفنى الأجيال و لكن بعض الأديان تبقى في مواكبة الأزمان...!
-
هل الإسلام دين عنف أم سلام...؟!
-
صديق أدّى العمرة فعاد بدماغ مغسولة...؟!
-
عرس على نهج النبيّ والصّحابة...؟!
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
هل يمكن أن نرسم أكثر من خطّين مستقيمين بين نقطتين...؟!
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
-
الإسلام هو أحد أهمّ أسباب تخلّف المجتمعات الإسلاميّة...! (ال
...
المزيد.....
-
تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا ي
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب: خطوة جديدة لتعميق العلاقات الثنائ
...
-
بين الالتزام والرفض والتردد.. كيف تفاعلت أوروبا مع مذكرة توق
...
-
مأساة في لاوس: وفاة 6 سياح بعد تناول مشروبات ملوثة بالميثانو
...
-
ألمانيا: ندرس قرار -الجنائية الدولية- ولا تغير في موقف تسليم
...
-
إعلام إسرائيلي: دوي انفجارات في حيفا ونهاريا وانطلاق صفارات
...
-
هل تنهي مذكرة توقيف الجنائية الدولية مسيرة نتنياهو السياسية
...
-
مواجهة متصاعدة ومفتوحة بين إسرائيل وحزب الله.. ما مصير مفاوض
...
-
ألمانيا ضد إيطاليا وفرنسا تواجه كرواتيا... مواجهات من العيار
...
-
العنف ضد المرأة: -ابتزها رقميا فحاولت الانتحار-
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|