أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء الثامن)















المزيد.....

المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء الثامن)


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 3354 - 2011 / 5 / 3 - 01:24
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


8- من الدعوة الى اضمحلال الدولة الى إعلاء شأن الدولة القمعية
بعد أن نستبعد من هذا النص ألفاظه وتعابيره اللغوية الكبيرة الفارغة، نعثر على كومة كبيرة من الخواء الخطابي. إن تدمير اللغة صورة جوهرية من صور تدمير العقل. يقول الفواز:" ... هل يعني الانتماء هو فرض اكراهي لنسق معين من الافكار ولاشخاص معينين دون غيرهم ولانماط تصوراتهم وبرامجهم التي اثبتت فشلها في اكثر من موقع؟ وهل يعني الانسان الجديد هو النموذج الذي يشبه(بجماليون) المصنوع بقياسات معينة والمخصص لتجارب معينة يتوهم هذا البعض انها المجال الوحيد الذي يمكن ان تشخصن به الاشياء والناس والولاءات والافكار؟ وهل يعني الامن الثقافي اعادة انتاج مراكز جديدة وبمواصفات جديدة، والتي لاشأن لها سوى انتاج(ممالك) جديدة نعرف جيدا مساراتها وما تملكه من طرق لاتؤدي للحرير حتما؟"
"البعض"، "أشخاص معينين"، "قياسات معينة"، "تجارب معينة"" مراكز جديدة "، "مواصفات جديدة"، " ممالك جديدة" "إنسان جديد". كلمات ممزقة، متذاكية بتصنع فج، تائهة، تتلوها كلمات عمياء شاكية، لا أحد يعرف وجهتها. معركة حياة أو موت بين"البعض مع البعض"، و"بين المواصفات المعينة مع التجارب المعينة"، من أجل "ممالك جديدة" و"مراكز جديدة" بـ"قياسات معينة". عقل أخرس يجعل من فوضى اللغة قانونا حاكما، ناظما للمنطق وللثقافة الوطنية. إن الصحيفة التي نشرت هذه المقالة ووضعتها تحت عنوان "حوار"، لم تسأل نفسها: حوار من مع من؟ وحول ماذا؟ ربما يكون الكاتب وبعض مريديه القريبين يعرفون مغازي تلك الإشارات اللغوية، بيد أن القارئ المحايد يجد فيها لغزا محيرا، وربما وجد فيها ما هو أبعد من ذلك. فهذا النص يمكن أن يسّوق شجاعته المضمرة، الكاتمة للصوت، لكل مشتر، في كل الأزمنة والأمكنة. ففي زمن سيادة كاتم الصوت تسود لدى البعض لغة كاتمة للمعنى.
وفي ظل فوضى الحرية، وما يصاحبها من فوضى العقل وفوضى اللغة تصبح الأسئلة والمعاني شيئا زائدا، لا ضرورة لها، ولانفع فيها.
الصدمة التي تلقاها الشيوعي الفرد نفسيا وسياسيا وعقليا كانت مضاعفة قياسا بغيرها من صدمات العقائديين الآخرين، وكانت أكثر من مضاعفة لدى المثقفين. كانت صدمة السني، باختلاف مرجعياته السياسية، عنيفة جدا، بسبب تبدل الدور السياسي للكتل الحاكمة تبدلا جذريا. وكان الموقف عند الشيعي مماثلا، وإن كان معكوسا في اتجاهه. وعند الطرفين حمل التغيير الجديد تعارضات قاتلة تتصادم مع شعارات العروبة التي رافقت مركزية الدولة لدى السني، وشعارت مقاومة الوجود الأجنبي والتمدد الغربي والشيطان الأكبر في منظومة الفكر السياسي الشيعي المعارض. أمّا الشيوعيون فكانت محنتهم مركـّبة، فهم شاركوا الشعب كله في اضطرابات فوضى الحرية، التي دمرت المهارات والخبرات المكتسبة تاريخيا من مرحلة التعامل مع الطغيان، من دون أن تصنع أو تخلق مهارات أو تدريبات تعويضية للأفراد والجماعات، تساعدهم على اكتساب مقدرات جديدة تطابق المواقف الجديدة المتحققة أوالمحتملة الوقوع. لكن صدمة الشيوعيين تجاوزت ذلك. فقد وجدوا أنفسهم، "فجأة"، أمام صيغة للحكم ومعادلة سياسية قاتلوا منذ نشأتهم ضدها: الاحتلال والطائفية والعرقية. ولم يتوقف الأمر عند قبول وابتلاع هذا العظم السام، غير القابل للبلع والهضم، لكنهم وجدوا أنهم مقبولون ممن كانوا يرفضونه ويصنفونه على أنه العدو الأكبر، وتلك هي الصدمة المثيرة، ووجدوا أن قبولهم غير المتوقع وغير المنطقي ضمن تشكيلة الاحتلال الحاكمة والرسمية جاء بناء على أساس واحد: إخراجهم من جوهرهم الايديولوجي وصفتهم الأساسية التي تميزهم: علمانيتهم وأمميتهم وطبقيتهم، فقد قبلوا تحت واجهة طائفية وضمن سياسة المحاصصة ، باعتبارهم جزءا من مكون طائفي محدد. لقد استقبلت قيادات الشيوعيين، لحسابات نفعية، كل تلك الصدمات بارتياح، وابتلعت منغصاتها وتعارضاتها برحابة صدر وسعادة وهي تتمتع بأفضليات ونعم السلطة الجديدة: أفضل السيئات. لكن الشيوعي الفرد وقع في صدام عنيف مع ذاته، ومع تاريخه، وماضيه وشعاراته واقتناعاته. أما المثقف فقد وجد نفسه يواجه مواجهة سافرة، عدائية، كل حرف كتبه، وكل كلمة نطقها قبل لحظة الصدمة والترويع. ماذا سيفعل الشاعر بدواوينه الثورية؟ ماذا يفعل الباحث في شؤون السياسية بتنظيراته التقدمية؟ ماذا يفعل الروائي بأبطاله المعذبين؟ ماذا يفعلون بفهد وسلام عادل و"أبو كاطع" وغيرهم؟ في أي متحف سيتم وضعهم؟ هذا السؤال كان صدمة المثقف الشيوعي الكبرى الإضافية، في زمن صدم الجميع بواقعه العجائبي، العصيب.
كيف واجه المثقف االشيوعي هذه الصدمة؟ بالاحتيال على النفس، والاحتيال على التاريخ، والاحتيال على العقيدة والايدولوجيا. ذلك هو السبيل الوحيد الممكن المتاح، لكي تتمكن الذات من التأقلم مع واقع الصدمة وانقلاب مكونات الحياة، وابتلاع العظم السام.
نستطع أن نحصي عشرات، بل مثات الأمثلة الصغيرة والكبيرة، المتعلقة، بنتائج هذه الصدمة، وسبل التعبير عنها، بدءا من تمجيد هولاكو والحجاج والموساد وتشويه سمعه فهد وصولا الى تمجيد رامسفلد ونغروبونتي وعصابات (بلاك ووتر).
يعتبر موضوع الدولة والثورة العصب الأساسي في منظومة الفكر السياسي الشيوعي. لهذا خصها أنجلس بواحد من أهم مؤلفاته النظرية وأجملها " أصل العائلة"، وخصها قائد الشيوعية العملية، أو الشيوعية السياسية، لينين بأهم كتبه: "الدولة والثورة". الدولة باعتبارها هدفا للتحطيم وإعادة التأسيس وصولا الى الإلغاء، والثورة باعتبارها أداة التحطيم الطبقية الضرورية. لنتأمل كيف تعامل شيوعيو مرحلة الصدمة والترويع والاحتلال مع موضوع الثورة والدولة.
ولكن قبل هذا سنتوقف قليلا لإيضاح أمر جانبي يصلح أن يكون تمهيدا بحثيا إضافيا جيدا لموضوعنا.
في موضع سابق من الكتاب، في فصل "تحرك القبر" تمت معالجة الفكرة ذاتها سياسيا. وسيتم هنا الرجوع الى الفكرة وتوضيح بعض ملابسات الموضوع النفسية كنشاط بشري انفعالي، وملابساتها الفنية كإجراء كتابي دعائي. أي كمدونة كلامية خاصة بصرف النظر عن تأويلاتها السياسية.
في 21-9-2004 نشر كادر شيوعي، حزبي متقدم هذه الكلمات. (الأقواس الموضوعة حول كلمة "حبل" تأكيد من قبل الكادر المذكور، أضافها الى نص الجواهري)
يقول النص : " فضيق (الحبل) واشدد من خناقهم فربما كان في ارخائه ضرر
هذه مقتطفات من قصيدة شاعرنا الكبير التي انشدها في عام 1936 وهي تحت عنوان "تحرك اللحد" وقد أضاف الشاعر اليها في ربيع عام 1959 وانشدها أمام الشهيد عبد الكريم قاسم ليحذره من تنامي التآمر المعادي للجمهورية" هنا ينتهي النص.
الأسئلة التي سنجيب عنها هي: لماذا تذكر الكاتب هذا البيت الشعري دون سواه؟ ولمن يوجهه؟ لماذا وضع تشديدا على كلمة "الحبل" دون سواها من الكلمات؟
الجواب على تلك الأسئلة واضح وسهل: يريد الكاتب أن يؤكد ولاءه للحاكم ، ورغبته الصادقة في طلب المزيد من العنف الحكومي، لأنه يؤمن بأن هذا العنف شرعي ومدعوم من قبل التاريخ، على لسان شاعر العرب الأكبر الجواهري، و أن العنف المطلق هو الوسيلة الواقعية لحل أزمة الواقع: العين بالعين والسن بالسن، والشاطر أسرع.
لماذا التشديد على كلمة حبل؟ إن نص الجواهري ناطق وصريح ولا يحتاج الى تأكيد، فلماذا رغب الكاتب في إضافة هذا التأكيد الزائد؟ ألكي يلفت نظر الحاكم الى ضرورة استخدام المزيد من العنف؟ ولكن لماذا "الحبل" تحديدا؟
هنا تكمن المعضلة الشيوعية كلها. إن "الحبل" مفردة خاصة، طبعت الشارع السياسي في زمن ما يعرف سياسيا بالمد الأحمر. استخدمت هذه المفردة لإثارة الذعر واقعا ودعاية على حد سواء. وقد أنكر الشيوعيون إنكارا تاما، على مدى عقود، أنهم كانوا خلف استخدامها - واقعا ودعاية- وأنها استخدمت من قبل مثيري الشغب، ضد إرادة الحزب وتوجيهاته! وهذا تبرير مقبول إنطلاقا من حسن النيات، ولكن.
إن إعادة التلويح بالحبال، بعد مرور أكثر من نصف قرن على وقوع مجازر الحبال، التي أنكرها الشيوعيون، لأنها عُدّت لطخة سوداء في تاريخهم، أمر محير حقا. كيف يعود كادر حزبي فيكتبها طوعا، بملء إرادته، في زمن الحرية السياسية، من دون خوف أو خشية من أحد، ثم يضعها بين قوسين زيادة في التأكيد؟ هنا نعود الى السؤال: لماذا نسي الكاتب كل تلك الاتهامات الخطيرة وهو يكتب في حضرة جنرال القوة والعنف؟
إن اضطراب الشخصية السياسية، وازدواج العنف والخصوع، والميل الى التحريض المرضي، والميل الى التحريض بالإنابة، في ظل غياب المد الجماهيري وضيق يد الحال، هو الذي دفع كادرا حزبيا كبيرا الى كتابة ذلك التأكيد العنفي، الذي سهر حزبه طويلا من أجل نسيانه أو تناسيه أو نفيه واعتباره تهمة باطلة صنعها الأعداء؟ ما الذي جعله ينسى ذلك؟
إن ما دفعه الى ذلك هو ذوبانه النفسي التام وتماهيه المطلق مع لحظة العنف الراهنة، التي سوغت له استعادة فعل مدفون في الذاكرة، استله فورا من دون تبصر، لكي يبين للحاكم الجديد أنه خبير سابق في هذا المجال، لا بد من الإفادة خبراته "الحبالية" على نحو عملي! المشكلة الكبرى هنا، تكمن في أن الخطاب الذي صاغه الجواهري كان في صيغته الأخيرة موجها الى عبدالكريم قاسم، أما عادل حبة، كاتب المقال المذكور، فيضعه أمام سلطة احتلال أجنبي.
هل توجد فوضى نفسية وسياسية وعقلية أعنف من هذه؟
عوارض الاضطراب النفسي، وما يرافقها من اضطرابات سياسية وفكرية، لا تظهر دائما بنفس الوضوح الذي قدمه مثال الحبال السابق. لأن ذلك الخطاب سياسي مباشر، يسهل على الجميع ملاحظته وتفسير مغازيه. لكن محترفي الدعاية السياسية، الذين امتهنوا طويلا صناعة وصياغة مقالات الدعاية الايديولوجية، لا تسهل مهمة كشف تناقضاتهم واضطراباتهم النفسية والعقلية. لأنّ إجادة إخفاء هذه الاضطرابات جزء عضوي من بناء وتكوين شخصياتهم، وجزء أساسي من أولاتهم المرضية وعوارضها في عين الوقت: المهارة في تسويق ما لا يسوّق. حينما وقف باحث شيوعي، من منظري مرحلة الاحتلال، أمام الموضوعة الرئيسية للشيوعية والماركسية: الدولة والثورة، قام بالطريقة نفسها، التي أوّل بها الكادر السابق خبرات الحبال والسحل لصالح المحتل، بتأويل الماركسية، تأويلا مخصصا لتضليل صغار الحزبيين، وتجييرها لصالح سلطة قمعية، ظلامية. في مقالة «الميليشيات مرة أخرى» (الحياة، 13/4/2008) لفالح عبد الجبار، يستخدم الكاتب موضوع الدولة واحتكار السلاح، أي احتكار العنف، بالطريقة الفنية ذاتها، التي استخم فيها رفيقه مصطلح "حبل"، ويقدمها بالطريقة عينها الى مشتر جديد. إن الدولة، وفق التعريف اللينيني المعروف باعتبارها "تعبير عن مصالح طبقية معينة أو مصالح تحالف طبقي معين ضد طبقة أخرى أو تحالف طبقي آخر"، هي جوهر مفهوم الشيوعية المتعلق بسبل إدارة الحياة الاجتماعية ومنظوماتها، بدءا من ظهور الدولة حتى إلغائها أو اضمحلالها. وهذا مبدأ لا خلاف على مضمونه على الإطلاق، على الرغم من وجود خلافات تتعلق بسبل تنفيذه. إن العودة، الدعائية، الى ماكس فيبر، التي تبهر صغار المتعلمين الحزبيين الكسالى، هي مثل العودة الى الجواهري وموضوع الحبال تماما، الذي أنكره الشيوعيون طويلا. إنها عودة تجارية مفضوحة، لكنها عودة تعكس حجم الاضطراب النفسي والعقلي والأخلاقي الذي يعانيه المثقف الحزبي، وحجم الكسور التي أوقعها التغيير العالمي، الذي كشف "فجأة" كساد العقل البحثي، المتشبث زورا بنوع من العلمية، لم تعد سوى بضاعة بائرة في صناديق التسويق الصحافي السريع، التجميلي. إن محنة العقل الشيوعي السلطوي نفسية أكثر منها سياسية، لأن هذا العقل لم يتمكن بعد من استيعاب شدة الصدمات المتتالية التي نزلت عليه وزلزلت كيانه. لذلك نراه يفتش في جميع الحاويات لكي يجد تطميناته النفسية أولا، ولكي يسوّق أفكاره ثانيا. لكن ذلك كله لا ينتج فكرا، ولا يصنع منظومة بديلة من الأفكار، بل يراكم التجارب الفاشلة ويصنع منها جبالا جديدة من تجارب الحبال والسحل بالتمني، وتلفيق النظريات القديمة. إن المثقف الشيوعي يندفع أكثر من غيره نحو واقع عصابي، عظيم الاختلال عاطفيا وشعوريا، حتى يكاد رهط المثقفين الشيوعيين أن يكون ردهة مهملة من ردهات مشفى الأمراض العقلية الحكومي.
إن ماكس فيبر، لم يكن معنيا هنا بفكرة الدولة باعتبارها تفسيرا سياسيا. كان معنيا بطبيعتها الإجرائية، أي بمهامها الوظيفية، كصيغة بحثية ضمن إطار تطور مفهوم الفرد والمجتمع التاريخي. وعلى الرغم من اختلافه مع الماركسية، أو لنقل خروجه عليها، في هذا الموضوع وموضوع السلعة والسوق وغيرها، إلا أنه كان الحلقة المرجعية المتأخرة نسبيا، وليس الأولى في منظومة بحث بنية الدولة وعلاقتها بموضوع الحرية والحق الاجتماعي العام. وهذا يعني أن العودة اليها تتضمن جهلا تاما بتسلسل تطورها في الفكر السياسي والاجتماعي الأوروبي. إن الدعاية المستخلصة من تلك الدعوة، حالها كحال نظرية الحبال- لا تأبه بما ستفضي اليه الفكرة، ولا تأبه بتبعياتها السياسية والعقلية والاجتماعية عند التطبيق العياني: لمن نوجه خطابنا؟ وعن أية دولة نتحدث؟ ومن نعني على وجه الدقة؟ أهي دولة المحاصصة؟ دولة الميليشيات؟ دولة ملوك الطوائف والعرقيين؟ مؤسسة الاحتلال؟ دولة العراق الإسلامية؟ دولة فيشي؟ دولة موسيلني؟ دولة الديكتاتور؟ دولة طالبان؟ دولة طالباني؟ أية دولة؟ دولة إطلاق النار على متظاهرين عزل يطالبون بساعة كهرباء إضافية؟ أم الى الدولة البرجوازية الصاعدة، المحطمة لحدود السوق القومية وحواجز تعطيل استغلال الثروة العامة والقوة المجتمعية؟
الاضطراب القيمي والنفسي والأخلاقي الذي يعيشه المثقف الشيوعي هو أكبر بكثير من اضطراب ممارسات الحزب السياسية، لكنه للاسف هو من يصنع غطاء تلك الممارسات وينظّر لها. تلك هي الكارثة الكبرى.
لماذا أضحى الشيوعيون ضحية لهذا الانقلاب بدلا من أن يكونوا ذاتا فاعلة قادرة على الأمساك بزمام أنفسهم، حتى لو ضعفت مقدرتهم على الامساك بزمام الوقع الصعب والمعقد الماثل أمامهم؟
السبب في ذلك يعود الى المحتوى التلفيقي لمنظومة بنائهم السياسي أولا، والى بنيتهم المتعددة دينيا وعرقيا (أعظم ايجابيات الحركة الشيوعية العراقية الاجتماعية السياسية، التي تشظت بحكم الاصطفاف العرقي والطائفي الجديد)، والى شمولية مفاهيمهم وتحجر فكر قياداتهم، واغترابهم فكرا ووجودا. لذلك بدت أعراض الصدمة عليهم مضاعفة، على الرغم من أنهم يعيشون الواقع النفسي والاجتماعي التاريخي ذاته، الذي يعيشه العراقيون كافة. فهم ضحايا للمرض الاجتماعي المزمن: ثقافة العنف والخضوع، الملازمة لفكرة مركزية إدارة الحياة.
إن الدولة هي مركز الثقل في توازن العنف والخصوع. وعلاقة الفرد، المعقدة والمضطربة، بالدولة قائمة على عنصري الطاعة والإكراه، أي العنف والخصوع. فالدولة هي التجسيد الأكبر لوحدة المتناقضات النفسية الناظمة لمحتوى المواطنين كأفراد. أمّا تناقضات الأفراد النفسية فهي المكون الأول لشرعية الدولة اللاشرعية. من هنا جاء صدام حسين وسيأتي غيره، طالما أن العلاقة القائمة بين الفرد والدولة لم تحطم تحطيما ثوريا، ولم تزل، من حيث الجوهر، تؤدي دورها العنفي كما كانت تفعل من قبل.
إن شخصية الخصوع وشخصية العنف ليستا منفصلتين عن بعضهما. إذ لا توجد هنا شخصيتان متناقضتان، متعاديتان في كيانين مستقلين، بل هما شخص واحد. ثقافة العنف والخضوع ثقافة واحدة، متلازمة. إن العنف يشترط وجود الخضوع، أي الاستسلام السلبي. لذلك هو المظهر المكمّل والمحفّز للعنف، وليس النتيجة أو المحصلة المترتبة على العنف. فكل هيمنة عنفيّة تتطلب خضوع الطرف المقهور. وهذا أمر طبيعي. بيد أن ما نعنيه هنا بالخضوع ، في الحالة العراقية، هو تحول الخضوع الى سبب من أسباب ولادة موجات جديدة من العنف. أي إن العنف والخضوع متلازمان، ينجب أحدهما الآخر ويغذيه. فهما لا يوجدان في "فردين" منفصلين، كما يظن الناس سهوا، بل في "فرد" واحد. وتلك هي المعضلة. إن السياسي العراقي الذي بالغ في عزف انشودة التحرير، ابتزّ حتى المحتل نفسه. فوثائق الأمم المتحدة تقرّ كلمة احتلال. وحتى الحاكم الأجنبي، الديكتاتور بول بريمر، أورد غير مرة في مذكراته " عامي في العراق" صفة احتلال ومحتلين وهو يتحدث عن الوجود الأميركي في العراق. لكن السياسيين العراقيين، والإعلام المرافق لهم، يتطرفون في تنزيه الاحتلال من صيغته الاحتلالية. وبذلك فهم لا يعتدون لغويا وأخلاقيا على شعبهم فحسب، بل يقومون أيضا بتجريد المحتل من مسؤولياته القانونية، المقرّة دوليا، تجاه المجتمع الذي يحتله. من المسؤول قانونيا، ماليا وسياسيا، عن تشريد أربعة ملايين عراقي، ومقتل واعتقال وايذاء مئات الآلاف؟ من المسؤول عن تخريب البني التحتية وايقاف عجلة دوران الحياة ونهب الثروة؟ لماذا نُخلي المحتلين من مسؤولياتهم؟ إن الخضوع هنا، لا يحمل معنى القهر فحسب، وإنما يحمل أيضا معنى المبالغة المتطرفة في القبول بالقوي وتبرير ظلمه. إنه نوع من الرّق الاختياري، الذي يجبر القوي (العنف ) نفسه على الظهور بمظهر المعتدل جراء تطرف المستسلم في خضوعه وتقبله للعنف. وهو السبب المباشر لظهور التبريرية الكاذبة وإخفاء الحقائق، والاستهانة بالمجتمع والمنطق. ففي العراق لا يوجد منطق للحقائق، ولا توجد قواعد عقلية للمقايسة والمحاججة. إنها فوضى لا أول لها ولا آخر. لأنها انعكاس لفوضى الداخل المضطرب، الممزق، قبل أن تكون تطبيقا لفوضى الحرية الأميركية.
إن علاقة السياسي القائمة على الخضوع نجدها تنعكس على الأدب، فتأخذ شكلها الفردي وتجسيدها الحسي في المقالة والنص الشعري أو النثري والصحافي.
تناقضات الشخصية من التطرف العنفي الى الخضوع السلبي، نجدها في صيغ سياسية جماعية وفي صيغ فردية: نجدها في تصعيد قضية غير أساسية كقضية العلم الى مستوى الصراع الوطني، وتصغير صراع يهدد مصالح الوطن حاضرا ومستقبلا، كالاحتلال والمحاصصة الطائفية والعرقية، أو إيواء الإرهاب والأحزاب المسلحة الاجنبية والمحلية وتحويلها الى أخبار سريعة مبتورة، أو الى شأن جغرافي وخرائطي.
سيتم التوقف مؤقتا عن نشر ما تبقى من الفصل الثامن من الباب الرابع من كتاب (المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال)، بسبب تدخل غير شرعي تسبب في ايقاف محركات البحث والتصفح.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء السابع)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء السادس)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الخامس)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الرابع)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال ( الجزء الثالث)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الثاني)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (التجربة العراقية)
- الأسرار النفسية لهزائم صدام العسكرية
- ظاهرة العراقيّ الصغير: حقيقة أم خيال!
- المستبد عاريا
- إسقاط نظام المحاصصة الطائفيّة العرقيّة الحزبيّة هو الهدف الأ ...
- حطّموا متاريس دولة اللاقانون!
- نعم يا طغاة الفساد العراقي: نحن متضرّرون!
- ثورة المواطنة وديكتاتورية الرئيس المنتخب!
- ثورة عراقية كبرى، ولكن...!
- انطباعات أميركية عن أميركا عراقية
- ممرات العبور من الحرية الفردية الى الحريات العامة وبالعكس
- أخيرا، حصل الإعلام السويدي على إنتحاريّه الخاص
- تدنيس المقدس (قراءة سلفية تهين الرسول محمد: حديث أم حرام)
- حكومة من تنك، وقَتَلة من ذهب، وإعلام خردة!


المزيد.....




- السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
- الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
- معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
- طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
- أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا ...
- في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
- طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس ...
- السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا ...
- قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
- لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء الثامن)