|
أسس الحرية في الذهنية الفلسطينية
ناجح شاهين
الحوار المتمدن-العدد: 1000 - 2004 / 10 / 28 - 09:39
المحور:
القضية الفلسطينية
الحرية مصطلح مزعج. وهو من هذه الناحية يلتقي مع المصطلحات التي تتجول بين الحقول المختلفة وتغير جلدها أثناء انتقالها من مجال إلى آخر. ومن ذلك على سبيل الأمثلة المجال الفلسفي والمجال السياسي والمجال الديني..الخ ولا بد أن نظرة تاريخية تكشف أن المصطلح لاقى رواجاً استثنائيا في العصور الحديثة، وخصوصا بعد الثورة الفرنسية. كما أنه شهد توسعاً في محتواه إلى درجة أن المرء صار مضطراً للبحث في امتدادات المفهوم التي بدا أنها ستشمل مختلف جوانب الحياة الإنسانية بما فيها الحياة الجوانية للكائن البشري. وهنا يبدو أننا نتحدث عما يمكن تسميته بالحرية الميتافيزيقية. ولكن دون أن نقحم أنفسنا في مثل هذه المقالة المتعجلة في مضامين ومعاني المفهوم المتعددة نود أن نشير إلى أن المصطلح قد خضع لصيرورة في محتواه ومعناه جعلته يتعرض لتغيرات عميقة بحيث بدا أنه كان يفقد معناه الأصلي تقريبا في كل مفترق طرق جديد. لنتذكر في هذا السياق الحالة اليونانية؛ فاليونان بلد ديمقراطي، وغني عن البيان أن كثيرا من السامعين يقومون بعملية مماهاة بين الحاضر والماضي، فيتخيلون أن اليونان كان ديمقراطيا على الطريقة الليبرالية الحديثة. وذلك بالطبع غير صحيح. فاليونان في الواقع كانوا أبعد ما يكونون عن الديمقراطية بالمعنى العصري، لأنهم كانوا مجتمعا يعيش النظام العبودي، بمعنى أن معظم الناس عبيد لا حقوق لهم من أي نوع. وحتى المرأة لم تكن أفضل حالا من العبيد. وعلينا أن نتذكر أرسطو في كتاب السياسة المدنية عندما يوضح أن "الإنسان " بعد أن ينتهي من بناء البيت فعليه إحضار المرأة والعبد وثور الفلاحة. هكذا جميعهم على قدم المساواة. وحتى المواطنون الأحرار لم تكن حريتهم تشبه الحريات المعاصرة أبداً. ونذكر هنا الرجل الصالح سقراط الذي عانى أشد المعاناة من زوجة تتدخل في حياته الثقافية والاجتماعية طوال الوقت لينتهي به الحال في قبضة جمهور حشري ومحكمة ظالمة تنهي حياته بالإعدام بتناول السم لأنه كان يهاجم الآلهة، مع العلم أن تلك الآلهة هي مجموعات حمقاء تتصارع لأتفه الأسباب. اليوم من الغريب بالفعل أن يحاكم أي شخص لأسباب من هذا النوع في الدول التي تتبنى التقاليد الليبرالية في الديمقراطية. وفقط في بلاد تحكمها أنظمة تعسفية في الشرق والجنوب يمكن أن نشاهد مطاردة قانونية أو سلطوية لحرية الاعتقاد وحتى حرية التعبير. وعلى النموذج اليوناني يمكن أن نقيس. فالعرب مثلاً كانوا متحمسين لفكرة الحرية. ومن ذلكم مثلا صرخة عمر بن الخطاب الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً." ولكن علينا أن نحدد المعنى الفعلي لهذه الحرية. وهو على الأرجح معنى مرتبط بعدم إساءة استخدام السلطة كأساس لتحقيق نفوذ على حياة الأفراد الشخصية. وهو بهذا المعنى يقترب في اتجاهه من الفكر الليبرالي الحديث. لكن طبعا لا مناص من التفطن إلى الاختلافات الجوهرية بين معنيي الحرية هنا وهناك: فمثلاً لا مجال للحديث عن حرية فكر وتعبير عندما يكون المجتمع دينياً من حيث الأساس، وهي حالة المجتمع العربي الإسلامي. ونذكر هنا مثلاً طريفاً هو أن المفكرين الدينيين ظلوا حتى أواخر العصر الأموي يعتبرون أن من يعطي الكائن الإنساني القدرة على الفعل الحر شخص مهرطق، لأن الله يفعل الأفعال جميعاً. وواضح هنا أن لا مكان للكلام عن الحرية. ولعل الوصول إلى فهم أعمق للحرية ومنها حريات الفكر والتعبير له شرط أساس هو على الأرجح العلمنة التي ُيصب اليوم جام الغضب عليها من قبل العديد من التيارات الأصولية. في المجتمعات المعاصرة يتم التركيز من قبل النظرية الليبرالية على الحريات الاقتصادية والسياسية وكذلك حريات الأفراد الشخصية. وعلى الرغم من درجة هائلة من التوسع في معاني الحرية فإن حدوداً معينة ظلت قائمة بحبر أحمر دامغ يمنع انتهاكها ولا يجيز تعديها. ومن ذلك جاءت فكرة انتهاء حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين. وكذلك جاءت فكرة أن الحرية هي فعل كل ما لا يحاسب عليه القانون. وذلك يعني بالضبط أن هناك تعليمات ولوائح وتقاليد، وبكلمة واحدة قوانين، يجب على الفرد اتباعها والالتزام بها وإلا فإنه يتعرض للعقوبة. ربما عند هذا الحد تبرز مشكلة الفهم الفلسطيني الشائع لمعنى الحرية. وهو فهم يسبق على الأرجح المجتمع الإنساني والدولة، لأنه ببساطة لا يعترف بهما. فهو فهم كفهم الغابة للحقوق والحريات: أي أنه يظن أن كل فرد يفعل ما يحلو له بغض النظر عن حاجات الآخرين. وهذا يذكر بمجتمع هوبز الذي يمكن تلخيص وضعه بأنه حرب الكل ضد الكل باعتبار أن أحداً لا يقيم وزنا لغيره اللهم إلا من باب الخوف من الانتقام المباشر الذي قد يصل حد الموت. والحقيقة أن هذه الحالة ليست سمة مميزة للمواطن الفلسطيني من الأزل إلى الأبد أي أنها بالطبع ليست خصيصة ماهوية موروثة جيلاً عن جيل، إنها كما لا يخفى نتاج سنوات طويلة من القهر والاحتلال وغياب المؤسسات، إضافة إلى عقلية قبلية قروسطية تشل قدرة الإنسان على النظر إلى نفسه بوصفه مواطناً مسؤولاً في مواجهة الدولة وانتماؤه للوطن والأمة وليس لجماعة طبيعية مثل العائلة أو الحمولة أو حتى الطائفة الدينية. ومن هذه الناحية يبدو جلياً التركيب الغريب لنوعين من المعتقدات: فمن ناحية هناك حرية الفرد المطلقة بمعنى أن يفعل كل ما يحلو له غير ناظر إلى وجود الآخر بوصفه الفرد أو الجماعة أو الدولة. فهو يعيش وحيداً في هذا الكون أو أنه بالأحرى يتصرف وكأنه لا يوجد غيره في العالم. ولذلك فهو ببساطة يرفع صوت المذيع في نشرة الأخبار وهو يرفع صوت الأغاني ويرفع صوت القرآن ويرفع صوت.. إنه يتصرف في الجو حامل الصوت دون ضوابط. وسوف يستغرب إذا ما وضحنا له أن آذاننا ملك لنا وليست ملكا له ليتصرف بها كما يشاء فهو يظن على العكس أن المجال الجوي لا مالك له وهو يمتلك الحق التام في استخدامه وذلك على الرغم أننا نعيش في زمن يحدد المجالات الجوية كما البرية والبحرية التي يحق أو لا يحق لبلد التحرك فيها وبما أن فلسطين لا حقوق لها من هذا النوع فقد خفي على الفلسطيني أن يميز الأمر برمته فبقي يعيش في الحالة الطبيعية. ومن ناحية أخرى وهنا المفارقة المضحكة يتدخل أيفرد في حرية الآخرين عندما يتعلق الأمر بتصويبهم دينيا أو أخلاقياً في طريقة اللباس أو التصرف ..الخ ولكن تلك قصة أخرى بالفعل وهي تؤشر على أن مواطننا دخل الحضارة من باب الجماعة الدينية فحسب وليس من باب الدولة أو الأمة التي قد تكون غائبة في الوعي الجمعي حتى اللحظة. وربما يجد ربما يجدر بنا أن نتذكر تدليلاً على عدم اقتراب الوعي من حالة الدولة كيف تعامل موظفو السلطة – أو نسبة منهم على الأقل- عندما بدأت تتأسس على الأرض بعد أسلو. لقد بدا وكأن كلا منهم يدير استثماراً عائليا يفعل فيه ما يعود بالنفع على الأسرة، ولم يكن هناك أي نوع من التحرج. وعلى الرغم من موجة النقد التي عمت المكان والزمان الفلسطينيين، فإن أحدا لم يبد عليه اكتراث إن كان في الحيز العام أو الخاص أو حيز السلطة. وهو ما يكشف أن الحالة الطبيعية هي اللحظة الفلسطينية بامتياز، وأن غيرها أو نقيضها هو المصطنع أوهو المطلوب بناؤه. لكن الساعة لذلك البناء لم تأزف على الأرجح، أو بلغة تقليدية في التحليل: إن الشروط الذاتية المنبثقة من شرط موضوعي كاف لم تنضج بعد. يقال أن أفضل طريقة لتبرئة الجميع هي إدانة الجميع. فما دام الجميع مخطئاً فإنك لا تلوم جدياً أي جهة. إذ يبدو كأن الموقف مطالبة بتغيير الشعب أو الأمة كلها، وهو كلام بين البطلان، ويذكر بإفلاس الفصائل السياسية التي تقول مثلا أن الجمهور لا يفهم. ولكن إذا كان الجمهور حقاً لا يفهم فما العمل؟ الجواب المنطقي الوحيد هو تغيير اللغة إلى لغة يفهمها الجمهور أو تركه لمصيره، ولا داعي لغير ذلك. كلا في حالتنا لا يهدف التعميم إلى تبرئة الفرقاء جميعاً. ومن الواضح أن الجهات التي تقف على القانون وتطبيقه هي من يتحمل المسؤولية في استشراء الداء حتى أعيا النطاسي والحكيم أن يكشفا علته ودواءه. ربما أن المرء لن يعدم الحيلة في ملاحظة حالة الفوضى وانعدام المسؤولية التي يسميها المواطن الفلسطيني النمطي بالحرية. ولكن الأمر يمكن أن يعاد إلى نصابه في حال تأسيس مجتمع القانون الذي يحمي العام والخاص على السواء فيتوقف الفرد عن الاعتداء على غيره وعلى ممتلكات الجماعة مثل الشارع والماء والكهرباء ..الخ ومن المؤكد أن العديد بل الأغلبية من الناس يمكن أن يسرقوا المياه والكهرباء من الشركة أو حتى من جيرانهم. ولكن ذلك إنما يتيسر بسبب غياب القانون. ولعل بالإمكان اللجوء إلى حس المواطنة لتوضيح أن ذلك يتناقض مع الحرية. هذا صحيح مبدئيا فحسب؛ لأن عليك في البداية عليك أن تؤسس حالة الأمة والدولة وبالتالي المواطنة. وكل ذلك رهن بمؤسسات القانون والتشريع والقضاء التي لا بد منها حتى لو لم تتوافر الكثير من مظاهر القوة للسلطة. فلا نظن أن المشكلة تكمن في قدرة الناس على تحدي السلطة فيزيائيا وإنما عدم احترام الناس المعنوي لها بسبب من عدم احترامها ذاتها. لا بد من التعامل مع المواطن بوصفه ذاتاً حقوقية حرة ومسؤولة لكي تنتهي حالة من "كل إيده إلو" التي سبق للفنان دريد لحام وصفها في أعماله الكوميدية مطلع السبعينات من القرن المنصرم. أما في ظل انعدام حقوق المواطن وحرية الآخرين المطلقة في فعل ما يحلو لهم بحياة البلاد والعباد فإن المواطن سوف يضع رأسه بين الرؤوس ويقول يا قاطع الرؤوس. أذكر قبل مدة أن أحد جيراني ظن أنني أمنع عنه الماء بطريقة معينة. وعندما شرحت له أنني لا يمكن أن أفعل ذلك بأي مواطن فلسطيني فكيف بجيراني، انفجر في وجهي بأنه شبع من موجة المواطنين التي ترددها وسائل الإعلام بينما الكل "بتسرسر وبتحرمن ". هكذا يجد هذا المواطن أنه مثل الآخرين يجب أن"يتشطر" في أخذ كل شيء يقدر عليه. وهذا قد يكون الأساس الأخلاقي لحرية الفلسطينيين الغريبة. أي أنه أساس ينبع من عقلية حالة ما قبل الدولة، أي الحالة الطبيعية التي لا ندري متى سننتهي منها.
#ناجح_شاهين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف تمت عملية التسجيل للانتخابات الفلسطينية؟
-
ميتافيزيقا التفجيرات في طابا
-
الحق في عدم التسجيل
-
اختراعات وكالة الغوث الدولية
-
قاطعوا التسجيل للانتخابات
-
حول موضوعة الانتخابات
-
إسرائيل لن تبقي ولن تذر
-
الوطن يسع الجميع نحو حقوق إنسان بمشاركة القادة الدينيين
-
عذاب الجسور تحية لشرطي المعابر على الرغم من المعاناة
-
المرأة والعنصرية
-
الماء أولاً، الحريات الغربية أخيرا
-
يقتلون ويبتسمون
-
إرهاب الاحتلال وإهاب المقاومة ومجموعة ال55
-
ما جرى في أبي غريب ليس بغريب
-
ماذا بعد الرنتيسي؟
-
حقوق المرأة كل لا يتجزأ
-
أولاد آرنا
-
المرأة إنسان في المطلق لا في النسبي
-
لماذا لا نغلق المدارس والجامعات؟
-
أغنية - الكليب - وحقوق الإنسان
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|