كاظم الموسوي
الحوار المتمدن-العدد: 3352 - 2011 / 5 / 1 - 09:18
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
اسهمت ظروف الحرب العالمية الثانية في التطور النوعي والكمي للطبقة العاملة العراقية. فقد ازداد عددها وتطور وعيها السياسي والطبقي. ولدت الطبقة العاملة في العراق، كما هو الحال في معظم البلدان المستعمَرة والتابعة في المؤسسات والمعامل المرتبطة بالرأسمال الاجنبي، والعدد القليل من المشاريع الحكومية، في القرن الماضي. جاء ميلاد الطبقة العاملة في العراق عسيراً ومتاخراً (1)، حيث ولدت قوة ضعيفة في المجتمع مثل البرجوازية التجارية الكبيرة المرتبطة بالرأسمال الاحتكاري الاجنبي. وهما متشابهان بعوامل نشوئهما وظروفهما.
سبقت الطبقة العاملة العراقية، كما جرى في معظم البلدان المشابهة للعراق، تكوّن البرجوازية الصناعية الوطنية. إذ تكونت بداياتها على نحو كامل تقريبا من المنحدرين من الريف، اي من الفلاحين الفقراء والمعدمين المحرومين من الارض، الذين لم يفقدوا صلتهم بالريف، وحملوا علاقاتهم الاجتماعية الريفية السائدة معهم، تلك العلاقات الاقطاعية وشبه الاقطاعية من حيث الجوهر، وكانوا من حين الى آخر، حسب مواسم العمل، يعودون الى الريف، واغلبيتهم من العمال المؤقتين غير الدائميين في المدن والمنزوع عنهم ملكية الارض في الريف، مما يضطرهم وضعهم هذا الى الهجرة والبحث عن مصدر عيش. والعامل المؤقت يشغل وضعاً وسطا بين العامل والفلاح، أو شبه بروليتاري، يبحث عن اعمال لا تتطلب مهارة، في المجالات المناسبة غير الفنية وغير الدائمية. وهذه سمة اخرى للطبقة العاملة في العراق والبلدان المستعمرة، تركت بصماتها على ضعف تكوّن الوعي الطبقي والسياسي ونموّه في تلك الفترة. وكذلك على التكوّن النفسي الذي هو اقرب الى نفسية الفلاح منه الى نفسية العامل، ورغم ذلك وفي نفس الوقت كان هؤلاء العمال المؤقتون حملة التنوير في الريف نسبياً ومقارنة بوضع الريف آنذاك.
تطوّر تكوّن الطبقة العاملة نوعياً وازدادت اعدادها مع تطور وسائل الانتاج والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في العراق، ومع تطورات البرجوازية العراقية. كما قال ماركس: «بقدر ما تطوّر البرجوازية صناعتها وتجارتها ووسائل اتصالها فانها تولد البروليتاريا» (2). وقد تطورت البرجوازية العراقية بفعل عوامل موضوعية كثيرة، عجلت فيها ظروف الحرب العالمية الثانية والاحتلال البريطاني. ومن بينها توسع التجارة الداخلية والخارجية وتوفر وسائل النقل وتطور صناعة النفط ونشوء بعض الصناعات الاهلية والحكومية، وغيرها من العوامل، التي وفرت مجالات رحبة لتطورها من جهة والى تشغيل قوى عاملة جديدة من جهة اخرى، موفرة مجالات واسعة، وحاجات كبيرة للايدي العاملة الدائمية، ومحدثة تغييرات ملحوظة في تركيب المجتمع العراقي.
اشرت احصاءات سكان العراق الى هذه التغييرات في اعطائها النسب الموازية للتطور في الريف والمدن وحجم تطور الطبقة العاملة. حيث كان سكان العراق حسب احصاء عام 1947 حوالي 4,8 مليون نسمة، شكل سكان المدن 38% وسكان الريف 57% وسكان البوادي 5% . وحسب احصاء عام 1957 لم يبق من سكان البوادي إلا حوالي 1% وسكان الريف اصبح 58%، بينما صار سكان المدن 41% من مجموع سكان العراق. ان الزيادة في نسبة سكان المدن جاءت على حساب سكان الريف، رغم زيادة نسبتهم على حساب سكان البوادي الذين استقروا في الريف وعدّوا منه. والدليل على ذلك ارتفاع حجم الهجرة من الريف الى المدينة. وشَكّل القادرون على العمل في احصاء عام 1947 حوالي 49,5% واحصاء 1957 حوالي 52% ، أي مايقارب نصف السكان في الاحصائين، لان العراق والبلدان المستعمرة والمتخلفة الاخرى تتميز بارتفاع نسبة عمر الشباب والاطفال في السكان، والمعدل الواطيء في السن، حيث ان نصف سكان العراق دون سن العشرين من العمر حسب احصائي 1947 و 1957. المفترض ان يكون القادرون على العمل والعاملون فعلاً من كلا الجنسين عالياً ممن تتراوح اعمارهم بين 10 - 49 سنة، بناء على المعدل العام للسن وطبيعة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية وعدم وجود حد ادنى لسن العمل في قانون العمل لعام 1936 الذي كان نافذ المفعول حتى عام 1958، إلا ان احصائي السكان اظهرا ان عدد الاطفال دون العاشرة من العمر، الذين يمارسون العمل، كان مرتفعاً، حيث بلغ 20 ألف طفل عام 1947، واكثر من ذلك في احصاء عام 1957.
جدول رقم [3]
الجنس
مجموع السكان
القادرون على العمل
غير القادرين على العمل
1947
1957
1947
1957
1947
1957
ذكور
اناث
21363
24348
31550
31439
10331
123439
17052
16388
11043
13038
14509
14860
المجموع
45711
62989
22680
33441
24081
29369
إن الاعداد الواردة في الجدول رقم [3] تبين ان القادرين على العمل ليسوا اكثر من غير القادرين على العمل بعدد كبير. وتشير الاحصائيات الى ان عدد المشتغلين، الممارسين للعمل، اقل من نصف العدد القادر على العمل، وان نسبة غالبة من النساء القادرات على العمل لايجدن عملاً للموقف الطبقي والاجتماعي من عمل النساء، في ظل سيادة العلاقات الاجتماعية المتخلفة في نظرتها لمكانة المراة في المجتمع.
هذه الوقائع أضافت الى وضع العمال صعوبات حقيقية واهداراً في طاقة العمل الموجودة في المجتمع، خاصة اذا اطلعنا على التوزيع المهني للسكان، والنمط الاعتيادي للعمالة والاستخدام ومراتب الاهمية للقطاعات الاقتصادية ومدى قدرتها على استيعاب طاقة العمل. فالجدول رقم [4] بيّن ذلك، بالرغم من انه لم يعكس بدقة حجم العمالة والاستخدام الفعلي، اذ انه لم يشمل غير الصالحين للعمل مثل المرضى والمقعدين والعاطلين عن العمل، وذلك لان الاحصاءات السكانية غير دقيقة، وليس لديها امكانيات الفرز للاصناف والمراتب والاعداد بشكل احصائي.
جدول رقم [4]
السنة
الجنس
القطاعات
الزراعي
%
التجاري
%
الصناعي
%
1947
الرجال
685
52,2
444
33,8
88
6,8
النساء
63
4,8
27
1,9
8
0,5
المجموع
748
57,0
471
35,7
96
7,3
1957
الرجال
847,2
52,0
626,7
40,4
349,5
14,0
النساء
15,4
0,8
48,0
2,1
13,1
0,7
المجموع
862,6
52,8
674,7
42,5
362,6
14,7
وضح الجدول رقم 4 حجوم القطاعات الاقتصادية. فالقطاع الزراعي هو اكبر قطاع في الاقتصاد العراقي، وهذا امر طبيعي في بلد كالعراق، تتوفر فيه الارض، وسيلة الانتاج والعيش الخصبة، وموارد مائية غزيرة.
تألف القطاع الزراعي من الحرف الزراعية والحيوانية والرعي وصيد الاسماك والصيد عامة. ووظف من القوى العاملة ما يقارب 57% حسب احصاء 1947. أي حوالي 748,455 شخصاً. شكّل الرجال من حيث توزيع جنس العاملين مايعادل 52,2% بينما النساء 4,8% . وأشّر أحصاء عام 1957 الى الهبوط النسبي للقطاع الزراعي وتطور القطاعات الاخرى. وفضحت النسبة القليلة لمشاركة النساء صورة تخلف العلاقات الاجتماعية السائدة، شبه الاقطاعية والوعي الديني، المعادية لدور المرأة في هذا القطاع خاصة وفي العمل والمجتمع عامة، رغم مساهمتها الكبيرة.
ومثّل القطاع التجاري المركز الثاني في الاقتصاد العراقي حسب الاحصائين، فيما شغله من قوة عمل. وتالف القطاع من التجارة والخدمات العامة والبيتية والنقل وجميع الخدمات الادارية والمهنية. عمل فيه 470,979 شخصاً أو 35% من مجموع القوى العاملة المستخدمة. ونسبة النساء فيه 1,9% من الايدي العاملة الوطنية. عكست هذه النسبة مستوى من التطور الاجتماعي في هذا القطاع اضافة الى عوامل اخرى. وارتفع القطاع التجاري نسبياً ومطلقاً في احصاء عام 1957 مقارنة بالاحصاء السابق، حيث بلغ عدد المشتغلين فيه حوالي 000 760 شخصاً أو مايعادل 42,5% من مجموع القوى العاملة. وارتفعت نسبة النساء الى 2,1%.
اما اصغر القطاعات الاقتصادية، فهو القطاع الصناعي. فكان يشغل 95,933 شخصاً أو 7,3% من مجموع القوى العاملة في احصاء عام 1957. وشمل هذا القطاع فروعاً مختلفة ومتعددة. مثّل العاملين في النسيج والخياطة حوالي ثلث المجموع، وعمال صناعة النفط والصناعات الخفيفة حوالي الربع والباقي مثله عمال البناء والنجارة والصناعات الجلدية والمصالح العامة (كمشاريع الكهرباء والماء والبلديات) وبعض الصناعات الكيمياوية الخفيفة، وكانت نسبة النساء العاملات في هذا القطاع اقل حتى من نسبة العاملات في القطاع الزراعي.
وقد ازداد عدد المشتغلين في هذا القطاع بصورة مطلقة في احصاء عام 1957 إلى حوالي 263,600 شخص، اي ما يعادل 14,7% من مجموع القوى العاملة. وحسب هذه الاحصاءات وتقديرات المصدر الذي استقينا منه مثّل عمال الصناعات التحويلية الرئيسية حوالي 95,200 شخص، بنسبة 35% من مجموع العاملين في القطاع، ويلي ذلك في الاهمية عمال البناء البالغ عددهم 81,200 شخص بنسبة 31%، وشغلت الصناعات الصغيرة حوالي 75 ألف شخص بنسبة 29%، ومايقارب 000 12 شخص في المصالح العامة، أما عدد العاملين في صناعة النفط فقدر عددهم بـ 60011 شخصا (3).
نلاحظ ان الاحصائيات المتيسرة عمومية، لاتتوفر فيها حصص القطاعات الاجنبية والحكومية والاهلية ومراتبها وعدد العاملين فيها. أو القطاع الحكومي والخاص. حيث ان ما تعده احصاءات السكان العامة بوسائلها المحدودة لا يفي غرض الباحث العلمي، ولا تتيسر لدينا الاحصائيات التي تتناول بحث هذه القطاعات في الفترة التي ندرسها، ولهذا فان ما متوفر لم يعط صورة عامة عن مجموع القطاعات والعاملين فيها، والنسب العامة والتوزيع حسب العمر والجنس.
ورغم بعض التخصص في الاحصائيات، كالاحصاء الصناعي، الذي أعطى هو ايضاً عمومية في العدد وطريقة الاحصاء. مثلما نرى في الجدول رقم [5] الذي قدم صورة عن تطور الصناعات العراقية ومؤسساتها وعدد العاملين فيها واجرة كل عامل في كل مؤسسة بالدينار العراقي في سنة واحدة، وأفاد الجدول في الاشارة الى امكانيات استخدام وتشغيل المؤسسات للايدي العاملة الوطنية عاكساً في ذات الوقت ضعف القدرات في الاستثمار الكبير وتركزه وتراكم الرأسمال فيها.
ان الجدول رقم [5] أفاد أو وضح لنا الصناعات الوطنية الحكومية والاهلية وقدراتها الانتاجية والتشغيلية. كما وضح الجدول رقم [6] هذه الصناعات حسب حجم التشغيل ومجموع العمال المستخدمين فيها.
جدول رقم [5]
الصناعة
عدد المؤسسات
عمال كل مؤسسة
مجموع العمال
اجرة العامل
1- المقالع الحجرية
60
6,7
388
58
2- المجازر
7
3
21
51
3- الالبان
130
3
476
6
4- حفظ الفواكه وتعليب التمور
98
99
8,217
21
5- مطاحن الحبوب
954
4
3,683
72
6- المخابز
1,563
3
5,199
60
7- صنع الحلويات
176
5
809
63
8- الاطعمة الاخرى
127
4
401
46
9- البيرة
7
43
304
17
10- المرطبات والمياه الغازية
56
10
567
121
11- السجاير والتبغ
1,057
4
3,988
67
12- الغزل والنسيج
2,248
5
9,078
77
13- صنع الحبال
44
3
135
3
14- المنسوجات الاخرى
599
5
2,770
17
15- صناعة الاحذية
1,239
3
3,186
52
16- تصليح الاحذية
739
1
1,028
14
17- الخياطة
4,236
3
7,385
22
18- طبع الانسجة
611
2
1,087
23
19- النجارة
1,914
2
3,337
21
20- صناعة الاثاث
184
4
698
94
21- المواد المصنوعة من الورق والكارتون
5
3
14
122
22- الطباعة وما شابه
132
7
959
123
23- الدباغة
96
7
646
106
24- البضائع الجلدية
121
2
215
18
25- المنتوجات المطاطية
3
1
4
-
26- الصابون والمواد الكيمياوية
53
20
1,100
103
27- صناعة الغاز
16
6
104
60
28- صناعة الطابوق
203
34
6,840
71
29- المنتوجات الزجاجية
9
2
19
20
30- صناعة الفخار والكاشي
140
5
730
88
31- السمنت والجص وغيرها
266
9
2,558
84
32- الحديد والفولاذ (الصب والصهر)
98
5
339
75
33- المنتوجات المعدنية
2,346
2
5,375
30
34- الاجهزة الكهربائية
157
2
300
30
35- بناء وتصليح السفن
5
88
442
168
36- تصليح السكك الحديدية
8
313
2,506
173
37- تصليح السيارات
1,239
3
40,046
54
38- تصليح السيارات
210
1
275
26
39- صناعة الحلي
862
2
1,604
25
40- الات الموسيقى
11
1
15
23
41- طحن الحبوب وعمل الثلج
3
6
19
93
42- الصناعات الاخرى
311
3
954
56
43- الاعمال الانشائية
39
128
4,479
117
44- توليد الكهرباء
49
28
1,359
183
45- اسالة الماء
34
24
815
98
46- الماء والكهرباء
22
63
1,384
180
47- المتنوعة
3
34
103
169
المجموع
22,460
90,291
الجدول رقم [6]
عدد العمال
عدد المؤسسات
مجموع العمال
1
0,1571
10,157
2
5,601
11,302
3
2,805
8,415
4
1,383
5,532
5
804
40,020
6
432
2,592
7
132
1,634
8
182
1,456
9
87
783
10
98
980
11
52
572
12
64
568
13
64
832
14
24
336
15
32
480
16
23
368
17
12
204
18
38
684
19
26
494
20-29
68
,5831
30-39
48
,6041
40-49
20
834
50-99
63
4,165
100-149
23
2,691
150-199
16
2,654
200-249
20
4,182
250-299
5
1,315
300-399
15
4,695
400-499
4
1,825
500-999
8
5,336
1000 فما فوق
4
7,809
المجموع
22,460
90,291
إن الجدولين السابقين (4) قدما مستوى التطور في المؤسسات الصناعية الوطنية، حيث كشفا مدى التبعثر فيها، وعدم التمركز وغياب التخطيط والبرمجة، والتفريط بمصالح تطوير الصناعة الوطنية والاقتصاد الوطني. فالمؤسسات التي شغّلت أقل من 50 عاملاً بلغت 22,302 مؤسسة بينما التي شغلت اكثر من 50 عاملاً بلغت 158 مؤسسة، من بينها التي شغّلت 500 عامل واكثر والتي بلغت 12 مؤسسة فقط. ولابد من الاشارة الى ان المؤسسات التي لم تشغل اكثر من خمسة عمال، في الاغلب، هي ورش حرفية، أو اقرب الى الحرفة، ويشتغل فيها مالكها واسرته وفي احسن الاحوال يشغل عاملاً أو اثنين، وعددها كبير ايضاً. هذه الحالة هي جزء من تخطيط المهيمنين على الحكم والاقتصاد العراقي في عرقلة تطور الصناعة الوطنية والطبقة العاملة والتاثير عليها في المهارة والوعي البروليتاري، اضافة الى ابعادها عن الانشداد الى الآلة والمكننة والانضباط والتجمع الكمي وتفاعلاته.
ان الارقام والاعداد التي سجلتها الاحصائيات غير متطابقة، وهذا عَكَس بدوره عدم الدقة في الاحصاء وقلة الخبرة العلمية فيه. وقد أكد ذلك خبير الامم المتحدة في القوى العاملة عند دراسته للقوى العاملة في العراق لعام 1969، حيث اشار الى نقص الاحصاءات الجيدة المتعلقة بالقوى العاملة. كما ان الاحصاء الصناعي السنوي الذي يعده جهاز الاحصاء المركزي في وزارة التخطيط يشتمل على متوسط عدد المشتغلين موزعين على الفروع المختلفة، علماً ان هذه المؤسسات الصناعية التي تستخدم عشرة اشخاص فاكثر هي التي تدخل في هذه الاحصائية (5).
هذا الخبير اشار الى النقص الواضح في الاحصاءات وطرق الاحصاء في دراسته في عام 1969، فكيف هي الامور والاحوال في هذا المجال قبل هذا التاريخ؟ ورغم ذلك فالباحث هنا يبذل جهداً لاستقراء ما يتيسر من احصاءات وجداول عن حجم الطبقة العاملة العراقية في الدراسات والمؤلفات الاقتصادية وتسجيل ما يقرب الصورة الى الواقع العملي في سياق التطور وتوفر الامكانات والمتغيرات المستمرة.
فمثلاً، ان اكبر مؤسسة صناعية في العراق، هي مؤسسة النفط، التي هي بيد الشركات الاحتكارية الاجنبية، لا تعطي احصاءات دقيقة عن الانتاج والاسعار وعدد العمال المستخدمين فيها، وتتضارب الاعداد من باحث الى آخر. ولكن من المؤكد ان تطوراً كبيرا حدث في هذه الصناعة بعد تطور قضية النفط الايراني عام 1951، ورضوخ الشركات الاحتكارية في العراق الى مناصفة الارباح مع الحكومة العراقية وتوفير عوائد مالية كبيرة لخزينة الدولة منذ عام 1952، هذه العوائد حلت محل التجارة الخارجية في التأثير على الدخل القومي والمحرك الرئيسي في الاقتصاد العراقي ومشاريع التخطيط والاعمار السنوية اللاحقة، والتي بدورها استخدمت قوى عاملة جديدة ووسعت سوق العمل كمياً ونوعياً.
قامت شركات النفط باستثمار موارد مالية كبيرة بشكل تأسيسات جديدة في العراق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بمعدل اكثر من 10 ملايين دينار عراقي سنوياً حتى عام 1956، كما تطور انتاج النفط تطورا واسعا، ففي عام 1954 بلغ ثلاثين مليون طن واكثر من هذه الكمية في عام 1955.
ولاشك ان هذا التوسع في الانتاج والاستثمار قد شمل التشغيل ايضاً، حيث وفّر مجالات عمل واضافات لاعداد جديدة من القوى التي دخلت الى صفوف الطبقة العاملة العراقية. فقدرت الاحصائيات ان عدد العمال عام 1951، قبل هذه الاجراءات في صناعة النفط، كان حوالي 12 ألف عامل.
اما في المؤسسات الصناعية الاخرى، فاذا اخذنا ما سجلته احصاءات السكان لعامي 1947 و1957 فسنجد ان عدد العمال قد ازداد ازدياداً مطلقا ونسبيا. مشيرة الى ارتفاع العدد من 96 ألف شخص في احصاء عام 1947 إلى 264 ألف شخص في احصاء عام 1957.
هذه الاعداد غير دقيقة ولا متكاملة، اعتمد بعضها على التخمين والتقدير وعدم شمول فروع الصناعة كلها، أو ما تعلق بها، أو القوى العاملة في المجالات والقطاعات الاخرى. فمثلاً لم يشمل العدد المذكور اعلاه عمال النقل والمواصلات البالغ عددهم 90 ألفاً حسب احصاء عام 1957، وكذلك العمال المستخدمين في التجارة، والمصالح العامة، والعمال الزراعيين.
ففي احصائية ان العاملين في القطاعات غير الزراعية عام 1950 بلغ حوالي 450 ألف شخص، وتطور هذا العدد الى 667,613 شخصا عام 1957، كما مبيّن في الجدول رقم [7] ادناه (6):
الجدول رقم [7]
الفروع الاقتصادية
عدد العمال
النسبة
التعدين واستخراج الحجر
3,761
0,05
الصناعة (عامة بما فيها النفط)
157,914
23,6
البناء
80,423
12,1
الكهرباء والخدمات العامة
11,185
1,7
التجارة
89,566
13,4
النقل والمواصلات
89,299
13,3
الخدمات
235,465
35,4
المجموع
667,613
100,00
وسجل المصدر نفسه ان القوى العاملة في الريف بلغت 843,419 شخصاً. ان هذا العدد ليس كبيراً في بلد زراعي تسوده علاقات انتاج شبه اقطاعية، شبه راسمالية، مستغل استغلالا استعماريا بشعاً. ولاشك ان العمال الزراعيين قد ازداد عددهم بعد ادخال المكائن والآلات الزراعية في الريف بشكل ملموس بعد الحرب العالمية الثانية، واثر اشتداد اضطهاد الفلاحين واستغلالهم وتجريدهم من وسيلة الانتاج والعيش - الارض، وتحويلهم الى اجراء سواء بقوا في الريف أو هاجروا الى المدينة.
اشار الاحصاء الزراعي الى ان 8,6% من الوحدات الزراعية استخدمت العمال الاجراء بشكل دائم او موقت لمساعدة الاسرة في عمل الزراعة. كما ان الوحدات التي اعتمدت كلياً على العمال الزراعيين شكلت 1,27% من مجموع الوحدات الزراعية في العراق. واعتمدت 3965 مزرعة، في عام 1958، على استخدام المكائن الزراعية، واستند التعابة والمغارسون في جنوب العراق على استخدام العمال الزراعيين في موسم جني التمور وكبسها، كما دلت الاحصائية عن عدد الآلات الزراعية المستخدمة قبل ثورة 14 تموز 1958 الى عدد العمال الزراعيين الذين يشغلونها اذا افترضنا ان لكل آلة شخصاً واحداً (7)، كما في الجدول رقم 8 أدناه:
الجدول رقم [8]
الماكنة او الالة الحديثة
1948
1958
الساحبة (بالاطارات)
165
1327
الساحبة (بسلاسل)
213
1376
حاصدة اوتوماتيكية
47
759
حاصدة تسحب بساحبة
47
143
حاصدة تسحب بالخيل
9
656
درّاسة
19
49
باذرة
23
114
محراث قلاب
282
1452
محراث قرصي
42
474
خرماشات
116
950
ناقلات (تريلر)
12
201
مرّازات
-
54
بلدوزر
-
34
مضخة على نهر
-
5444
مضخة على بئر
-
514
المجموع
975
13668
وبين العاملين على هذه الآلات اصحابها، مالكيها، ولكنهم في كل الاحوال عدد قليل، ويضاف الى اعداد العمال الزراعيين المشتغلين على الآلات الزراعية اعداد من القائمين بالتصليح لها وادامتها وحفظها وحراسته، والاداريين وغيرهم ايضاً.
اظهر الجدول السابق ان عدد العمال الزراعيين كبير نسبياً، في افتراض حساب عامل لكل آلة، مما زاد من حجم الطبقة العاملة ووزنها الاجتماعي والسياسي في التركيب الطبقي والاجتماعي للمجتمع .
وما أشار الى هذا التطور في حجم الطبقة العاملة العراقية بوضوح هو مؤشر الهجرة الكبيرة من الريف الى المدينة. فاستناداً الى احصائي عامي 1947 و1957 فان عدد الذين هاجروا من الريف الى المدينة بلغ حوالي 330 ألف نسمة في الاعوام التي سبقت عام 1947، وحوالي 455 ألف نسمة في السنوات العشر بين الاحصائين. وكان نصيب المدن الكبيرة، مثل بغداد والبصرة وكركوك من الهجرة 100 ألف شخص قبل عام 1947 و 160 ألف شخص بعده، وقد دخلت اعداد كبيرة من هؤلاء المهاجرين سوق العمل والانخراط في جيش العاملين.
هذا التطور هو نتيجة طبيعية موضوعية لما حدث في العراق في فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها من احتلال بريطاني عسكري، واقتسام الارباح مع شركات النفط الاحتكارية وتأسيس مجلس الاعمار ومن ثم وزارة للاعمار، وغيرها من التطورات والعوامل المحلية والدولية في مختلف المجالات، ولكن تطور وتوسع حجم الطبقة العاملة الايجابي انعكس سلبياً على اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، من جهة اخرى.
فقد تحملت الطبقة العاملة العراقية النصيب الاوفر من المصاعب الناشئة عن الحرب، وعن مؤامرات المحتكرين والشركات الاجنبية المستغلة. فعلى صعيد المستوى المعاشي تضاعفت اسعار المواد الغذائية الى 12- 18 ضعفاً، واختفت مواد كثيرة من الاسواق وندرت سلع اخرى من الضروريات للطبقة العاملة والكادحين الاخرين، ولم يجر تغيير ملموس في الاجور ومخصصات غلاء المعيشة والتعويضات الاجتماعية والدخل العائلي بما يناسب هذه القفزات في الاسعار والاحتكار والاستغلال.
وقد اشير الى وضع العمال المزري وحياتهم القاسية، ان العامل يجابه «حالات وظروفا سيئة شددتها ظروف الحرب الحالية واوصلتها الى ابعد حدودها، فاجوره الزهيدة لا تكفي تغذية كافية ومسكن صحي، وظروف عمله غير الصحية وعدم الاعتناء بتطبيبه واسعافه بالادوية، عدم حصوله على الاجازات (للاكثرية) وايام الراحة، عدم وجود ضمان اجتماعي يكفل له الخبز عند الشيخوخة أو لايتامه في حالة موته مبكراً، فقدانه حق النضال منظماً في احزاب ونقابات، كثرة الامية بسبب اضطرار العمال والطبقات الفقيرة على ارسال اولادهم للعمل وهم لم يبلغوا العاشرة بعد، وفي حالات يعمل دون سن السابعة» (8).
هذه الظروف البائسة، وغيرها من المشاكل الاجتماعية الموروثة والناشئة كعواقب للظروف الجديدة، أحاطت بالعامل العراقي وجعلته يعيش حالة الكفاف والبؤس الحقيقي الاضطراري، ومما زاد الصورة الكالحة هذه المقارنة بين المتطلبات الضرورية لحياة العامل وعائلته من جانب واجوره ودخله الشهري المذكور سابقاً من جانب آخر،
في الجدول رقم [9] الذي نشرته النشرة الاحصائية العراقية لسنة 1955 كمعدل للنفقات المنزلية الشهرية في مدينة بغداد لشهري كانون الثاني وشباط (يناير وفبراير) 1954، لعائلة من 7 اشخاص.
الجدول رقم [9]
دينار
النسبة المئوية
مجموع الاطعمة
11,240
56,9
الحبوب
4,670
32,6
اللحوم
2,090
10,6
الدهنيات
1,300
6,6
السكر
0,660
3,4
الشاي
0,520
2,6
الالبسة
1,40
7,1
الوقود والانارة
1,43
7,1
الامتعة المنزلية والاثاث
1,00
5,00
الايجار
1,78
9,00
المتنوعات
2,89
14,6
المجموع
19,76
100,00
ففي الحد الادنى يجب ان يكون الدخل الشهري لعائلة العامل ما يساوي هذا المعدل الشهري للنفقات المنزلية الضرورية. وفي قراءة لائحة الاجور للعمال، حسب الجدول رقم [5]، وهي اجور سنوية، فان المعدل في هذه الاجور لا يكفي لسد حاجة العائلة لاكثر من 2 - 3 شهور. اضافة الى ذلك ان هذه الاجور ليست صافية، فتلحقها استقطاعات ورسوم وضرائب شهرية ايضاً، فضلاً عن ان الاجور الحقيقية للعمال هي اقل بكثير من مستوى الحد الادنى من المعيشة. وفي المؤسسات التي لا تشغل اكثر من خمسة، والتي تعود الى مالكها، لايستلم العاملون فيها اجوراً، واغلب العمال الزراعيين العاملين في الزراعة او كبس التمور وجنيّها يستلمون في اكثر الاحيان اجوراً عينية، او جزءا منها.
هذه المقارنة كشفت الصورة المزرية لوضع العمال، وحالة البؤس التي تحياها الطبقة العاملة العراقية. وقد انعكست هذه المقارنة بشكل صارخ على حياة آلاف العمال الجدد، الذين دخلوا صفوف الطبقة العاملة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد اتساع استثمار النفط وقيام مشاريع مجلس الاعمار، من المهاجرين الى المدن، الذين بنوا بيوتا من الطين والقصب في مناطق حول العاصمة والمدن الكبيرة، مشكلين تجمعات سكانية، كاحزمة لهذه المدن، لاتتوفر فيها ابسط الوسائل الصحية والسكنية، ومضطرين لدفع احداثهم ونسائهم للعمل، عارضين قوة عملهم للاستغلال البشع ولسوق الايدي العاملة الرخيصة.
زاد من هذا البؤس الذي تعانيه الطبقة العاملة العراقية تفاقم البطالة واتساعها لتشمل اعداداً غفيرة من العمال، ليس في المدن وانما في الريف ايضاً. فقد ادت السياسة الاقتصادية المتبعة، وتبعية الاقتصاد العراقي وهيمنة الاحتكارات الاجنبية عليه الى تعميق ازمة البطالة في العراق، وانعدام فرص العمل لنسبة كبيرة من القوى القادرة على العمل والراغبة فيه. حيث تقدر الزيادة السنوية لاعداد القادرين على العمل، حسب احصائي عامي 1947 و 1957 حوالي 000 080 1 شخص، واكثرهم من المهاجرين من الريف الى المدينة، مشكلين بذلك زيادة مطلقة بعدد العاطلين عن العمل، ومحدثين انواعا متعددة من البطالة، مكشوفة ومقنعة، الامر الذي أنطوى على اهدار جزء كبير من طاقة القدرة على العمل عند المجتمع.
اضافت البطالة آثاراً سلبية كبيرة على وضع الطبقة العاملة العراقية، حيث لم تنجح الاجتماعات والمؤتمرات الرسمية وغيرها لمعالجتها، لابتعادها عن تشخيص اسبابها الحقيقية ووسائل علاجها. ولم يجر تخفيفها، «والعاطلون يوعدون ويوعدون، بطونهم خاوية، والمحاكم تحكم لدائنيهم وتحكم برمي آثاثهم وباخراجهم من غرفهم التي عجزوا عن تسديد ايجاراتها. ودوائر الاجراء تحجز ما تبقى لهم من آثاث وترسل بهم الى السجون لعجزهم عن تسديد ديونهم، وهكذا تمر عائلة العامل العاطل بتراجيديا لاتعرف لادوارها نهاية، فليس لها من يأخذ بيدها في محنتها هذه، فلا ضمان اجتماعي أو صندوق تقاعد يقي العامل عوز البطالة وليس في صندوق البلديات نصيب للعامل العامل وليس بامكان النقابات، بوضعها الحالي، تقديم اية مساعدة نقدية، مهما تفهت للعامل العاطل» (9).
ضاعف من بوس العمال شروط العمل ووقته. فشروط العمل قاسية وصعبة، لم تراع ماورد في قانون العمل رقم 72 لسنة 1936، ولم تستجب لحقوق العمال. وبالرغم من تحديد وقت العمل في القانون بثماني ساعات يومياً، كان وقت العمل اليومي الفعلي بين 12- 16 ساعة يومياً وبنفس الاجور اليومية. وكانت شروط العمل التي يتبعها اصحاب المؤسسات هي في الاغلب العمل بالقطعة، التي تجهد العمال وتقلص حجم العمل، وكذلك العمل الاضافي الذي يفرض على العمال لقاء زيادات رمزية أو بلا أجر او مقابل. كما ان تشغيل الاحداث دون السن القانوني للعمل في اعمال كثيرة وباعداد كبيرة يضغط على فرص العمل والاجور ووقت العمل ايضا.
دفع الوضع المزري الذي عاشته الطبقة العاملة في تلك الفترة، وماقبلها، الى النضال المطلبي والسياسي، «وقد ادرك مصمموا السياسة الاقتصادية للعهد الملكي فداحة الاخطار الناجمة عن تفاقم البطالة على النظام القائم نفسه، هذا التفاقم الذي ساعد على تفجر المعارضة الشعبية في وثبة كانون 1948 وانتفاضة تشرين 1952، فكان امتصاص العاطلين عن العمل واحداً من ابرز الاغراض التي توختها مشاريع مجلس الاعمــــار» (10).
٭التشريعات العمالية
ان نضال الطبقة العاملة العراقية فرض على الحكومات واصحاب المؤسسات والاحتكارات الرضوخ واصدار تشريعات عمالية والموافقة على تاسيس نقابات وجمعيات عمالية.
فقد قامت الحركة العمالية بسلسلة اضرابية ومشاركة في التظاهرات والانتفاضات الجماهيرية، شملت الاضرابات اهم المؤسسات والمشاريع، بما فيها القواعد العسكرية البريطانية، وسكك الحديد والنفط والكهرباء والميناء.
ورغم ان صدور قانون العمل رقم 72 لسنة 1936 تم بعد مماطلة وتسويف إلا انه اول تشريع صدر في العراق وظل ساري المفعول حتى بداية 1958 حيث صدر تشريع جديد رقم 1 لسنة 1958 ظل مجمداً حتى اندلاع ثورة 14 تموزم يوليو 1958.
اضيفت للقانون ذيول وتعديلات لصالح العمال بعد نضال طويل متواصل، فقد تناول القانون قضايا العمال وحدد العلاقة بينهم وبين اصحاب العمل ونص على حق التنظيم النقابي على اساس الصناعات - النفط، السكك ... - أو الحرف- النجارة، الميكانيك ... - ولكنه قيده بقيود ثقيلة كاجازة وزير الداخلية وحسن السلوك من الشرطة، وجعله عرضة للتعطيل الاداري. وتناول القانون بشكل خاص تحديد ساعات العمل والتعويض عن العطل الذي يصيب العامل في كل الاحالات، مخولاً مجلس الوزراء اصدار قرارات بهذا الشأن، كتحديد ساعات العمل لاصناف العمال حسب صناعتهم وحرفهم وجنسهم واعمارهم وغيرها.
إن اعتراف القانون بالتنظيم النقابي اقرار لواقع مارسه العمال قبل هذا التاريخ. ففي عام 1929 توّج نضال عقد من السنين بتاسيس عدة نقابات وجمعيات عمالية ومهنية، خاضت وقادت سلسلة طويلة من الاضرابات والنضالات العمالية. ورغم اعتراف قانون العمل بحق التنظيم النقابي الا ان الطبقة العاملة منعت من ممارسته علنياً اكثر من ثمان سنوات، الى منتصف عام 1944، ولم تنل من تلك الحقوق المعترف بها قانونا إلا بعد نضال صعب حتى في المشاريع التي تمتلكها الدولة أو تديرها كالسكك والميناء، ومع ذلك فقد اعتبر القانون مكسباً للطبقة العاملة وثمرة نضالها الباسل وتضحياتها (11).
منذ نشوئها، وتطوراتها، كانت نضالات الطبقة العاملة العراقية بتكوين نقابات عمالية لها، وانتقالها الى مرحلة نوعية جديدة بتأسيس حزبها السياسي، الشيوعي، واصدار قانون العمل عام 1936 وتعديلات عام 1937 وعام 1943 وغيرها، كانت مترابطة مع نضال الحركة الوطنية وتطور مسار الصراع الطبقي في العراق، وقوة ومكانة الطبقة العاملة في المجتمع، «اذ ان نضال الطبقة العاملة من اجل قضاياها الخاصة، مرتبط بمرحلتنا هذه كل الارتباط بالحركة الوطنية التحررية، وبالنضال من اجل الحقوق الديمقراطية لكل الشعب، فانتكاسات الحركة العمالية في بلادنا كانت نتيجة لانتكاسات نضالات الشعب في الحقل الوطني، والنضال من اجل الحقوق الديمقراطية، ولعدم فهم هذا الارتباط الرئيسي بين حركة العمال والحركة التحررية الديمقراطية، لم يستطع العمال الصمود امام هجوم الرجعية على نقاباتهم، فاغلقت تلك النقابات وهي لاتزال في سنتها الثانية او الثالثة، وكان مصير الحزب الشيوعي عام 1937 مثل مصير النقابات» (12).
لقد واجهت الحركة العمالية اضطهاد السلطات وتعرضت للاعتقالات والتشريد والجوع والحرمان. ونشطت في نضالها بعد اعادة الحزب الشيوعي لتنظيم صفوفه ونهوضه في مقدمة الحركة الوطنية فترة الحرب العالمية الثانية، ومابعدها.
واستطاعت الطبقة العاملة ان تحقق مكاسب جديدة عام 1944 باضطرار الحكومة على الاعتراف بالحقوق النقابية واجازة نقابات عمالية (ستكون موضع دراستنا في الباب الثاني)، إلا انها لم تستطع فرض حقوقها كاملة على السلطات واصحاب العمل والشركات الاحتكارية المهيمنة على اكبر المؤسسات الانتاجية في العراق، نتيجة لعوامل عديدة، من ابرزها قلة خبرتها وتجربتها النقابية، حيث كانت تتسم لفترة طويلة بالحرمان من كل اشكال التنظيم، بالرغم من النمو الواسع لها، وما صاحبها من متاعب جدية واوضاع صعبة وقعت تحت وطأتها فترة الحرب وماتلاها، وكذلك تسرب نفوذ اصحاب الاعمال الى قياداتها وعدم ضمها لجميع المشاريع الصناعية، واكثرية العمال الماهرين، وغير الماهرين، الذين يشكلون نسبة الاكثرية بين الطبقة العاملة العراقية (13).
ومن بين المكاسب العمالية التي تمكنت الطبقة العاملة العراقية تحقيقها، بعد تضحيات ونضالات متواصلة، اصدار قانون الضمان الاجتماعي رقم 57 لسنة 1956. والذي كان اول قانون للضمان الاجتماعي للعمال في العراق. وكان في الحقيقة مسخاً لمبدأ الضمان الاجتماعي، فقد الزم القانون رب العمل والحكومة بدفع ثلاثين فلساً يوميا مناصفة، وهو مبلغ تافه لايستحق الذكر بالقياس الى قدرته الشرائية. واوجب القانون عند دفع الاعانة ان لايكون العامل مشتركا في اضراب وان يكون قد ترك العمل باختياره وان يكون "حسن السلوك والسمعة"(14)
ومما سبق يمكنناتسجيل عدد من الاستنتاجات هي:
1- ان الطبقة العاملة العراقية ولدت ضعيفة ومتاخرة، كأي وليد في بلد مستعمر ومحتل، ولكنها تطورت بسرعة، واصبحت قوة سياسية واجتماعية اساسية في حركة التحرر الوطني في العراق.
2- تصاعدت نضالات الطبقة العاملة العراقية هي ايضاً بوتائر كبيرة، متطورة من العفوية الى الاضرابات المنظمة والاحتجاجات، الى المشاركة في الانتفاضات الجماهيرية، وقد حققت مكاسب وانجازات فرضتها على السلطات واصحاب العمل او انتزعتها انتزاعاً. كتشكيل النقابات، وتاسيس حزبها الشيوعي واصدار التشريعات العمالية لمصلحتها.
3- لم تكن النقابات العمالية التي تاسست عمالية خالصة، حيث اختلطت باصحاب المهن والاصناف، واثرت البرجوازية على قياداتها واساليب كفاحها. (هذا ماسندرسه لاحقاً).
4- كان تاسيس حزبها السياسي، الشيوعي، بالتعاون والتنسيق مع نخب المثقفين الديمقراطيين، تحولا نوعيا في تاريخ نضالها السياسي، خلصها من وصاية البرجوازية ووسع من امكاناتها وطاقاتها وربط نضالها بحركة التحررالوطني في العراق وخارجه، ونظم كفاحها الطبقي والوطني.
5- اصدار التشريعات العمالية لمصلحة العمال كان نتيجة التضحيات ومواصلة النضالات، التي تميزت بها الطبقة العاملة العراقية في مقارعتها للسلطات واصحاب العمل والاحتكارات. وكانت مكاسب عمالية غير قليلة في تلك الظروف وموازين القوى بينها وجبروت الطغم المتسلطة، رغم انها لم تنجز كاملة، حيث تجاوزها اصحاب العمل والحكومات لفترات طويلة وحولوها الى حبر على ورق فقط.
6- لقد توسعت القاعدة الاجتماعية للطبقة العاملة، في تلك الفترة موضع الدراسة، بانضمام فصيل كبير لها من العمال الزراعيين في الريف. كما ازداد عددها وحجمها في المشاريع الصناعية الكبيرة، كالنفط والميناء والبناء، وغيرها من القطاعات، الامر الذي وسع من قوتها ومكانتها الاجتماعية في المجتمع، وحولها الى قوة مؤثرة في الشارع السياسي والمجتمع.
7- إن الوضع المزري الذي كانت تعانيه الطبقة العاملة العراقية هو جزء من الوضع العام الذي كابدته حركة التحرر الوطني العراقية، وهو عامل من عوامل شدها الى المهمات الوطنية التحررية.
الهوامش
1- لزيادة الاطلاع على تكوين الطبقة العاملة العراقية، راجع: د. كمال مظهر احمد/ الطبقة العاملة العراقية ـ التكوين وبدايات التحرك / بغداد /.
2- ماركس/ انجلز / المختارات / مجلد 2 ص 62.
3- اعتمدنا في الجداول والاحصاءات على ماورد في كتاب الدكتور محمد سلمان حسن / التطور الاقتصادي في العراق / الجزء الاول / ص ص 61- 70.
وكتب فهد في تقريره للكونفرنس الاول للحزب الشيوعي عام 1944: «وبالرغم من عدم وجود الاحصائيات الرسمية عن عدد الطبقة البروليتارية العراقية فبامكاننا ان نجزم بانها تؤلف اليوم اكثر من ربع سكان العراق. فقد كان يعمل في الماضي في الاعمال العائدة للقوات البريطانية بين 60- 70 ألف عامل، عدا مئات المعامل الحديثة التي نشأت من التي تستخدم كل منها اكثر من 50 عاملاً ، كمعامل النسيج والسجاير والطابوق والكاشي والكهرباء ومشاريع اسالة الماء ومعامل التصليح والاحذية، وعدا معامل الجيش والمصالح العمومية، مع العلم ان في العراق نسبة كبيرة من العمال المشتغلين في البناء ومن الذين يعملون في مشاريع الري والزراعة والسداد وكبس التمور وغيرها».
عن : جريدة القاعدة العدد 3/16 آذار 1944.
4- الجدولان من الاحصاء الصناعي العراقي لسنة 1955، نقلاً من / د. توماس بالوك / سياسة الاعمار الاقتصادي في العراق / ترجمة وتقديم الدكتور محمد سلمان حسن/ بغداد 1958/ ص ص 181-188.
وكذلك جريدة الزمان العراقية/ ع 5480 في 5/11/1955.
5- نلس ستروم/ القوى العاملة في العراق/ ترجمة محمد حسن العلاق/ بغداد 1969/ ص 1.
6- من تقرير البنك الدولي حول التطور الاقتصادي في العراق / نقلا عن روني جباي / مصدر سابق/ ص ص 22- 23.
7- انظر: د. جواد هاشم / تكوين راس المال في العراق 1957- 1970/ بيروت 1975/ ص 203. وكذلك نصير الكاظمي / الحزب الشيوعي والمسألة الزراعية في العراق/ بيروت 1986/ ص 171. والجدول رقم 9 منقول عن : عبد الجبار عوض/ الاصلاح الزراعي / مجلة المثقف ـ بغداد / العدد 10 تموز 1959.
8- القاعدة / العدد 3 ـ 16 آذار 1944 / ص 6.
9- كتب فهد عام 1946 كراساً تحت عنوان «البطالة ، اسبابها وعلاجها» شرح فيه اسباب البطالة وسبل علاجها، مؤكدا على انها ظاهرة مصاحبة للنظام الراسمالي نفسه، وتزداد شدتها في البلدان المستعمرة التي تسودها العلاقات شبه الاقطاعية في الريف وهيمنة الشركات الاجنبية الاستعمارية على الاقتصاد وقيامها بنهب خيرات البلاد وعرقلة تطور الصناعة ونمو الطبقة العاملة» .
يراجع نص الكراس في كتابات الرفيق فهد / مصدر سابق / ص ص 185- 216.
10- غانم حمدون/ البطالة والعوامل الكامنة ورائها في العراق/ الثقافة الجديدة، ع 36- 37 آيار- حزيران 1972/ ص 37.
وكذلك و. خ. ب 68458. E 12918F.O. 371. التقرير الاقتصادي الذي كتبه مستر اودسليي عن زيارة للعراق عام 1948 والذي اكد فيه صعوبة العيش وارتفاع تكاليف المعيشة وقلة الاجور.
11- انظر: صادق جعفر الفلاحي/ حقوق العمال بين التشريع والتطبيق / الثقافة الجديدة، ع 41 تشرين اول 1972/ ص ص 10- 11.
وكذلك: مساهمة في تاريخ الحركة العمالية في العراق/ نفس المصدر، ع 29 آب 1971، ص 32. والدكتور كمال احمد مظهر /مصدر سابق ـ خاصة الملاحق.
وللاسف لم نستطع الحصول على نص القانون لدراسته وتحليله، ولم تقم المصادر السابقة بذلك.
12- من تقرير الرفيق فهد للكونفرنس الحزبي الاول عام 1944 /مصدر سابق.
13- فهد / النقابة شعارالعمال اليوم/ القاعدة ع 10- 23 ايلول 1944.
14- آرا خاجادور وصادق الفلاحي/ آراء حول قانون التقاعد والضمان الاجتماعي للعمال/ الثقافة الجديدة/ ع 8 تشرين ثاني 1969/ ص125.
* فصل من كتاب: الحركة العمالية في العراق 1945-1958
#كاظم_الموسوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟