أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد السلطاني - صفحات من كتاب سيصدر قريباً - العمارة الاموية : الانجاز والتأويل -- عمارة المسجد الاموي الكبير في دمشق















المزيد.....


صفحات من كتاب سيصدر قريباً - العمارة الاموية : الانجاز والتأويل -- عمارة المسجد الاموي الكبير في دمشق


خالد السلطاني

الحوار المتمدن-العدد: 999 - 2004 / 10 / 27 - 10:54
المحور: الادب والفن
    


يشغل المسجد الأموي الكبير بدمشق، موقعاً في وسط المدينة التاريخي في ذات البقعة التي كانت في السابق مكاناً لأبنية ذات طابع عبادي وديني منذ قرون. فقبل تشييد المسجد الأموي، كان قد أقيم في الموقع نفسه في العهد الآرامي أوائل القرن العاشر قبل الميلاد معبد "حَـدَدْ" إلـه العاصفة والمطر والخصب في سورية. ثم أنشيء على أنقاض معبد "حدد" القديم، معبد آخر هو "جويبتير" في العهد الروماني وكان هذا الأخير يشمل منشآت عديدة " كالهيكل " أو " السيلا Cella " ـ وهي قدس الأقداس، تقع في منطقة وسط المعبد؛ ثم ساحة التيمينوس Themenos التي تحيط بالهيكل؛ وثمة ساحة أخرى وهي البيربول Peribol بأبعاد 310 × 380 متراً تحيط بهما. ويحد ساحة البيريبول سور خارجي وأروقة داخلية أو مخازن تفتح على أروقة تحمي المارة والمشترين. وبقي من آثار السوق الخارجي والأسواق بعض الأعمدة والأروقة مع طنفاتها في الجهة الغربيـة (باب البريد) وفي الجهة الشرقية (باب جيرون) وفي الجهة الشمالية (الكلاسة) " ويعتبر الجدار الجنوبي للمسجد " الذي ينفتح في وسطه الباب الرئيسي الثلاثي الفتحات.. من مخلفات المعبد الروماني القديم" (1) وتحول المعبد في وقت لاحق الى " كنيسة "، عندما استعمل " تيودوس " المنشآت المتبقية في المعهد الروماني ليحولها الى " كنيسة مسيحية "، في عام 379 م تحت اسم كنيسة القديس يوحنا المعمدان (2).
لقد رافق انشاء مسجد خاص بالمسلمين في موقع المعبد القديم بمدينة دمشق عند فتحها عام 10 هـ (636م) (3) كثير من الحكايات المختلفة والمختلـقة التي ارتقى بعضها، حد الأساطير الخيالية فيما يخص تاريخ ومكان وكيفية بناء أول مسجد بالمدينة القديمة الذي تم لاحقـاً في موقعه وعلى أنقاضه تشييـد المسجد الأموي الكبير إبان عهد الخليفة الوليد، فـي بدايات القرن الثامن الميلادي. إذ أشارت هذه الحكايات الى قصة " اقتسام " المسلمين لكنيسة المسيحيين التي كانت موجودة في موقع المعبد. وقد وصل الالتباس والتشويش في هذه القضية ـ قضية اقتسام الكنيسة ـ ذروته عندما تبنى بعض المهتمين من العرب والأجانب في تاريخ وعمارة المسجد الاموي مشروعية عملية " الاقتسام الفيزياوي " لفضاء الكنيسة، الأمر الذي يحتم على الطرفين المسلمين والمسيحيين في النتيجة إجراء طقوس العبادة في فضاء واحد، وهو " أمر لا يقبله الواقع " كما يؤكد الدكتور عبدالقادر الريحاوي في كتابه " العمارة والحضارة الإسلامية، ويشير المؤلف بأن مرد خطأ الرواة والمؤرخين الذين اشاروا الى هذا الموضوع " … لم يميزوا بين معبد، وكنيسة ؛ فقالوا باقتسام الكنيسة، وهم يريدون اقتسام المعبد، وفعلاً فان المسلمين أخذوا النصف الشرقي للمعبد وأقاموا عليه مسجدهم وتركوا الكنيسة القائمة في القسم الغربي للنصارى، واستمـر الحـال على هذا المنوال قرابة سبعيـن عاماً إلى أن تمكن الوليـد من تشيـيد جامعه الكبير " (4).
ومهما يكن من أمر فان جميع الدلائل تشير بأن الوليد بن عبد الملك كان قبل الشروع بتشييد المسجد الأموي بدمشق الذي عرف أحياناً بمسجد الوليد، قد أزال غالبية المنشآت السابقة الموجودة في الموقع. ويذكر ابن الفقيه (توفي عام 290 هـ ـ 903 م) بأن الوليد حاول في البدء إقناع المسيحيين بإعطائهم موقعاً آخر بدلاً عن كنيستهم التي رأى فيها نوعاً من العرقلة لما نوى عليه من أعمال زيادة في المسجد واعادة بنائه بصورة لائقة، فأبوا ولم يوافقوا على مقترح الوليد " … إنا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم هذه ونعطيكم موضع كنيسة حيث شئتم، فحذروه ذلك وقالوا : إنا نجد في كتابنا أن لا يهدمها أحد إلا خنق. فقال الوليد : فأنا أول من يهدمها. فقام عليها، وعليه قباء أصفر فهدمها بيده، وهدم الناس معه، ثم زاد في المسجد " (5. وإثر ذلك بدء العمل في تشييد المسجد في ذي الحجة من عام ستة وثمانين (86 هـ) للهجرة (705 م) وانتهي منه بعد عشر سنوات من العمل الإنشائي الواسع والمتواصل ، في96 هـ (715) م (6 (أي في السنة التي مات بها الوليد). وباكتمال تشييد المسجد الجامع بدمشق فان مرحلة جديدة من التطور المعماري في العهـد الأموي قد أنجزت، وظهر المنشأ الجديد بصيغته الفنية المتكاملة كأنه مأثرة معماريـة حقاً أبانت للعالم بأسره نضج القيم التكوينية الجديدة واكتمال المفاهيم التصميمية تلك المفاهيم التي لا يتعدى عمرها عمر ظهور الاسلام نفسه، أي قبل أقل من ثمانية عقود لاغير!
أثارت الأبعاد القياسية للمسجد الجامع بدمشق وأسلوب ترتيب فضاءاته ودقة ورهافة الأعمال التزيينية وسعتها وكذلك حذق العمل الإنشائي وأساليبه البنائية، أثارت دهشـة واعجاب جميع مشاهديه، ومازالت ذات الدهشة والإعجاب تستـولي على مستخد ميه وزوّاره حتى الوقت الحاضر.
لقد تناول المؤرخون العرب والمسلمون على مدى قرون ؛ وصف عمارة المسجد الجامع الكبير بدمشق، بكثير من الدقة المشوبة بالفخر الحقيقي، لما تمثله عمارة المسجد من مستوى مهني وثقافي رفيعين، ولعل كلام ابن جبير الرحالة المعروف الذي سجله أواخر القرن الثاني عشر (1184م) عن المسجد وعمارته من أنه " … اشهر جوامع الإسلام حسناً، وإتقـان بناء ؛ وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه … " (7). لعلّ كلماته تلك تختزل أوصافاً عديدة ذات منابع مختلفة قيلت في وصف المسجد الكبير.
حافظ المسجد الجامع بدمشق على معظم عناصره المعمارية وأشكال معالجاته التزيينية على الرغم من " … أن القبة التي تتوسط بيت الصلاة فيه، والتي أقيمت هي ودعاماتها في عهد السلطان ملكشاه في سنة 475هـ(1082م) قد غيرت من مظهريه الداخلي والخارجي (8. وعلى الرغم مما تعرض له من أحداث كبيرة طيلة القرون اللاحقة لبنائه كالكوارث الطبيعية والحروب والفتــن، والحرائق، فضلاً على أعمال الترميم والتجديد التي تمت فيه وكانت حصيلة ذلك كله اتلاف اجزاء كبيرة منه وتشويه بعض آثاره، على الرغم من كل ذلك فان نوعية الحلول التصميمية الأساسية وطريقة المعالجات التكوينية الرئيسية ظلت هي ذاتها التي اتخذت إبان مرحلة الشتييد الأولى في عهد الوليد بن عبد الملك !!. (9)
تتشكل عمارة المسجد الجامع بدمشق من مكونات أساسية، لاحظنا مثيلاً لها في عمارة مساجد أخرى بنيت وفق تلك النمطيةTypology التي كانت مألوفة في بناء المساجد الجامعة والمتكونة من الظلة (بيت الصلاة) والصحن المكشوف بالاضافة الى المجنبات التي تحيط بالصحن، ثم الجدران الخارجية، التي تخترقها الأبواب العديدة والموجودة في جميع هذه الجدران ؛ وثمة إضافة نوعية هنا في " مسجد الوليـد " وهي الأبراج الموجودة في أركان الجدران الخارجية التي استخدمت مآذن تتلى منها نداءات الصلاة، والتي ستحظى باهتمام معمـاري خاص، وسيتم تكريس حضورها عنصراً دائماً في المعالجات التصميمية لجميع المساجد الجامعة التي بنيت بعد مسجد دمشق !.
تبلغ أبعاد المسجد الجامع الكلية 156 م طولاً و 97 م عرضاً (10)، ويقع الحرم ـ أو بيت الصلاة في الجانب القبلي/الجنوبي من مبنى المسجد ؛ وتقدر أبعاده 136 م طولاً و37 عمقاً، ويتشكل فضاء الحرم من ثلاثة أساكيـب عريضة نسبيـاً يبلغ عرض كل منهما 12 متـراً، وثمة ممر وسطـي يقع أمام المحـراب بعرض 22 متراً يخترق طولياً هذه الأساكيب، ويكـون اتجاهه عمودياً على جدار القبلة. كما تنقسم الظلة الى 22 بلاطة تقدر أبعاد كل منهما خمسة أمتار ونصف بالاضافة الى بلاطة المحراب، وتقع أحدى عشرة بلاطة على الجهة اليسرى من بلاطة المحراب ومثلها في الجهة اليمنى منه. وتتألف بلاطة المحراب من بائكتين من العقود المستـندة على دعامات في كل دعامة ثلاثة عقود متجهة عمودياً على جدار القبلة. في حين تمتـد عقود الحرم بصفوف من الأعمدة موقعة بصورة موازية لجدار القبلة، بيد أنها لا تخترق بلاطـة المحراب الواسعة الوسطية. وكان يعلو بلاطة المحراب في عهد الوليد، ثلاثة قباب : " … قبة تتصل بالجدار الذي الى الصحن، وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما ". كما يقول ابن جبير. ويوجد في جدار القبلة أربعة محاريب.
يلي الحرم مباشرة من الجهة الشمالية صحن مكشوف على شكل مستطيل يبلغ طوله 132.5 متر شرقاً وعرضه 50 متراً من الشرق يتناقص الى 47.87 متراً من الجهة الغربية (11) يحيط بالصحن من جهاته الثلاث الشرقية والغربية والشمالية رواق عرضـه عشرة أمتار تقريباً، ويتألف هذا الرواق من صف من القناطر المفتوحة على الصحن والمحمولة على " العمد والعضادات بحيث يتناوب عمودان مع عضادة. وهكذا. والأعمدة قطعة واحدة من الحجر الكلسي الصلب او الغرانيت القديم تتوجها تيجان من طراز كورانثي. أما العضادات فمبنية من الحجر ويعلو القناطر طابق آخر من القناطر الصغيرة، اثنتان فوق كل قنطرة كبيرة. محمولة على عضادات (12)، وكانت أرض الصحن وأروقتـه مبلطة بفصوص الفسيفساء الحجرية، بيد أن معالمها تغيرت نتيجة لأعمال الترميم والتحديث الكثيرة التي اجريت على مبنى المسجد.
يحدد كل من ديكي Dickie و ك. كرزويل (13) تاريخية السور ـ الجدار لمبنى المسجـد الجامع في مخططين أعدهمـا كل منهما للمساقـط الارضية له. ويستدل من هذه المخطـطات أن بعضـاً من الجدار والسور يعـود الى الحقب ما قبـل الاسلامية ؛ رومانية وبيزنطية، ثم في العهود الاسلامية : أموية، وهذا السور ـ وهو عبارة عن جدار مرتفع مبني بالحجر المنحوت ومزوداً في أركانه بأبراج مربعة استخدمت في صدر الاسلام للآذان وقد بقي اثنان من الجهة الجنوبية اقيمت عليها مئذنتان، وفي المسجد الأموي حالياً " ثلاث مآذن " المئذنة الشرقية وتسمى عيسـى، والمئذنة البـيضاء والمئذنة الغربية وكلتاهما أنشئت على قاعـدة البرج أو الصومعة القديمة، أما الصومعتان الواقعتان على طرفي الجدار الشمالي فلقد أزيلتا. والمئذنة الثالثة هي مئذنة العروس " (14).
وثمة أبواب في هذا الجدار تؤدي الى الصحن مباشرة من الجهات الشرقية (باب جيرون) والغربية (باب البريـد) ثم (باب الفراديس) في السور الشمالي، أما الباب القبلي، وهو الباب الرابع فيمسى باب الزيادة فانه يفتح على فضاء الحرم مباشرة. لعبت كتلة المسجد الأموي دوراً مهماً وخطيراً في فعالية التخطيط الحضري لمدينة دمشق ؛ منذ إنشاء المسجد في بداية القرن الثامن الميلادي ولحين الوقت الحاضر. وتنبع هذه الأهمية التخطيطية جراء فعالية التنطيق المفرداتي الواضحة التكوين؛ وكذلك بسبب أبعاد المسجد الواسعة والكبيرة ؛ فضلاً عن الأسلوب المختار لإجراءات توقيعه ضمن النسيج التخيطيط، ذلك الأسلوب الذي لا يترك مجالاً وفراغاً يذكر بين مبنى المسجد وكتل النسيج المرصوصة المجاورة.
ويغدو التكوين العام للمسجد المؤلف من ثنائية مفردتي الفعل وضده، أي من مفردة الصحن، ذي الطبيعة المكشوفة؛ والخالية تقريباً من البناء، ومفردة الحرم ذي التشكيلة المغلقة المليئة بالعناصر التركيبية السائدة والرابطـة؛ يغـدو ذلك التكوين الحدث الأساسي في إجراءات التخطيط المديني؛ من هنا تتكرس طبيعة المنشأ. كمفردة تخطيطية، تتجاوز بأهميتها أهمية أية مفردة أخرى داخلة ضمن النسيج البنائي.
ولئن اختفت تقاليد تخطيط، وإنشاء ميادين وساحات عامة ـ التي كانت في السابق تحيط بأثر معماري ما وتطوقه. وغالباً ما يكون مبنى مهماً وأحياناً مقدساً ـ من فعالية التخطيط الحضري في نسيج المدينة الإسلامية، فان كتلة المسجد الجامع تبرز الان، وكما يوضحها بجلاء. مبنى الجامع الأموي بدمشق، بديلاً وتعويضاً عن غياب تلك المفردة التخطيطية. فالمسجد بأبعاده الواسعة، الفسيحة، يعتبر بمنزلة الميدان الرئيسي في التخطيط الجديد ؛ كما أنه عدّ بمثابة قاعة المدينة الأساسية، نظراً للسعة الاستيعابية الكبيرة له، ويرسخ المسجد جراء التلاحم الكتلوي بينه، وبين مجاوراته، مفهوم الإحاطة الفضائي المتفرد. التي جبلت عليها نوعية تطبيقات العمارة الأموية وأسلوبها، ذلك الأسلوب، الذي سيضحى أحد أهم معالم العمارة الاسلامية عموماً، والقاضي بأن تحدد وتحيط الكتلة البنائية بالفضاء ؛ وليس الفضاء يحيط بالكتلة.
تدلل الأبواب الكثيرة العدد في مبنى المسجد الموي الكبير، والموقعة في جميع جوانبه على عمومية الاستخدام وعلى " عاموية " المنشأ.ويظهر أسلوب توقيعات تلك الأبواب، عن كفاءة اشغالية نظراً لأنها تقع في نهايات خطوط مسارات الحركة، والتي بموجبها تم ترسيم شبكة شوارع المدينة الرئيسية وجاراتها. ويثير أسلوب ترتيب المساند الحاملة للتسقيف في المسجد، وكذلك اشكال هيئاتها، كثيراً من الاهتمام لدى دارسي عمارة المسجد، وهذا الاهتمام مرده النوعية المتفردة التي جاءت بها المنظومة التركيبية للمنشأ، واحتمالات التفسير العديدة لها. وابتداءً، تنبغي الإشارة بأن النظام التركيبي للمساند الحاملة، المستعملة في أروقة المسجد، هو ذاته المستخدم في بيت الصلاة. ويتألف هذا النظام من مستويين : أسفل، وأعلى، يتضمن القسم الأسفل سلسلة من العقود، ترفعها أعمدة وعضائد. وعلى الرغم من أن الجانب الشمالي نم الأروقة كله يرتكز الآن على عضائد، فانه كان في السابق، يتبع نظاماً آخر، يتمثل أن موقع العضائد فيه يتناوب مع زوج من الأعمدة، تماماً، كما هو حاصل في نظام العناصر السائدة في الرواقين الشرقي والغربي. ويحتل الجزء الأعلى من النظام التركيبي، سلسلة أخرى من العقود الصغيرة، حيث يكون كل عقدين مزدوجين، مرفوعين بوساطة عقد كبير واقع أسفلها، ويشير كريزويل، نقلاً عن ابن عساكر وكذلك العمري من أن أحد بنائي الوليد قال " ينبغي أن يبنى فيه قناطر، وأن يعقد ببعضها الى بعض، ثم تجعل أساطين وتجعل عمد، وتجعل فوق العمد قناطر تحمل السقف ويخف عنا لعمد البناء ويجعل بين كل عمودين ركن " (15)
على العموم فاننا إزاء تركيبة انشائية، تتكون من جزئين، الجزء الأسفل بارتفاع (9.75) م، يتضمن سلسلة من الأعمدة والعضائد وجزء أعلى محمول يتألف من سلسلة أخرى من العقود الصغيرة بارتفاع (2.80) م، يستند عليها التسقيف. ونعتقد أن هذا الأسلوب الانشائي كان ضرورياً لرغبة المعمار لجعل الأعمدة الحاملة ذات أشكال دقيقة، وبأقل قطر ممكن ؛ وبالتالي تحقيق مسعاه في تبيان سيطرة وسيادة الفضاء على عناصر المنظومة الانشائية، وتأكيد أهميته (أي أهمية الفضاء) كعنصر تكويني أساسي في مجمل المعالجات المعمارية ـ الفضائية، ولا سيما داخل الحيرز الذي يشكله الحرم، ذلك الجزء من التكوين المغطى والمحصور. وعدّ هذا النوع من النزوع التكويني إضافة تصميمية، اتسمت بها عمارة المسجد الأموي الكبير، ولقت أصداء واسعة في تراكيب إنشائية تعود لمبانٍ، أنشئت في أماكن متعددة وفي أوقات مختلفة. ولعل أسلوب النظام التركيبي الذي استخدم في مسجد قرطبة الكبير، وخصوصاً في حيز بيت الصلاة فيه، يشير بوضوح إلى التقاليد البنائية التي شاعت أثناء تشييد المسجد الأموي الكبير بدمشق.
في صفحة الاضافات التصميمية التي سطرتها الممارسة البنائية للمسجد الأموي الكبير، نلاحظ بناء المآذن، كعناصر تصميمية ضمن المعالجات الكتلوية لمبنى المسجد. وقد أثيرت أقاويل كثيرة عن مرجعية هذه العناصر التصميمية، وجذور أشكالها. لكن الثابت بأن تلك العناصر الرأسية ذات الارتفاع العالي نسبياً كان وجودها يعد أمراً مناسباً وملائماً لجهة تأشير موقع المسجد ضمن مفردات النسيج الحضري لمدينة دمشق، وبالتالي تأكيد وتعزيز أهميته المعمارية والوظيفية معاً.
ومآذن المسجد الأموي الكبير هي " الأولى في الإسلام " (16)، وكان موقعها في الأبراج المربعة على زوايا المسجد. ويذكر ابن الفقيه " بأن المئذنة التي بدمشق كانت برجاً للروم في كنيسة يحيى، فلما هدم الوليد الكنيسة وأدخلها المسجد تركت على حالها "(17). ولم يبق سليماً من تلك الأبراج الأربعة، سوى البرج الشمالي الغربي، " الذي تعلوه مئذنة بناها السلطان قيتباي عام 1488، أما الأبراج الأخرى فقد اختفت وشيدت في مواقعها مآذن على ما يبدو في عام 1340 م،وفي الجهة الشمالية مئذنة ثالثة يعود تاريخها الى نهاية القرن الثاني عشر، ولكن كانت هناك مئذنة في هذا الوقت شيدت قبل عام 985 لأن المسعودي يذكرها " (18)
لقد عاكست مآذن المسجد الأموي الكبير، بهيئتها الشاقولية، الامتدادات الأفقية لكتلة المسجد، وأضفى ارتفاعها العالي على عمارتها نوعاً من الجلال، عدا من أن شكلها المميز وسموها في سماء المدينة إكسابها طاقة جمالية مضافة.
تجسد ظاهرة التزيينات المستخدمة في المسجد الأموي الكبير، حدثاً مؤثراً في عمارة المسجد. فلم يقتصر استعمال التزيينات على جزء معين من المبنى، وإنما كانت تغطي بمواضيعها المختلفة مساحات واسعة من سطوح وتسقيفات عناصر التراكيب الإنشائية له. وتعد كمية ونوعية تلك التزيينات الموظفة في المعالجات التكوينية ـ الفنية للمسجد أمراً رائداً وجديداً لجهة تفعيل المداخلة التزيينية في الحل التصميمي، والارتقاء بها كعنصر مكافيء ومماثل لقيمة العنصر التركيبي ذاته.
من هنا، ينبغي أن يتم تقييم مسعى معمار المسجد الأموي وتقدير جهده، في عملية ترسيخ تقائية التزيين مع التركيب وفعلهما في استيلاد الحل التكويني لعمارة المبنى المنفذة.
فالجهد التزييني المتمثل أساساً باللوحات الفسيفسائية، ذات المواضيع المختلفة، كانت تغطي مساحات واسعة جداً من سطوح العناصر التركيبية المشكلة للمبنى. وبقيت سالمة مساحات كبيرة منها غطت الوجه الخارجي الشمالي للرواق الأوسط، وتحت القوصرة Pediment تماماً، حيث تظهر الأشجار والمقصورات الحدائقية فوق خلفية من الذهب، كما يوجد بعضها في أروقة المدخل الغربي المعمد وعلى أقواس المدخل. ولكن أروع قطعة من اللوحات الفسيفسائية هي منظر نهر " بردى" التي يبلغ طولها (34,5) متراً وارتفاعها اكثر من (7) أمتار والتي تم الكشف عنها مؤخراً (19).
ويدل وصف الرحالة والمؤرخين القدامى لفسيفساء المسجد الأموي عن روعة تلك اللوحات ودقتها وأماكن مواقعها، فيذكر المهلبي بأن " حنايا المسجد وحيطانه كلها الى حد سقفه كانت منقوشة أبدع نقش بالفسيفساء الملون، المدهون أو المذهب يخطف الطرف، وكذلك حيطانه كلها في صحنه وسائر أروقته منقوشة مذهبة بالفسيفساء وقد كتب في حائطه القبلي سور من القرآن بالفسيفساء المذهب في تضاعيف النقش " (20) ويشير أحد الدارسين بأن اللوحات الفسيفسائية في المسجد الأموي الكبير قد احتوت على ثلاثة أنواع من المنظور : المنظور الخطي، والمنظور الصيني، الذي يجعل نقطة النظر خلف الناطر فيشعر الإنسان انه مندمج بالمشهد، محاط به، ثم المنظور الروماني الإسلامي الذي يبدو في كثير من المواضيع التي أخذت طابع الزخرفة (21)
ويظل حدث الاستخدام المكثف للوحات الفنية في الصياغة المعمارية جزءاً من المفهوم التصميمي الذي رسخته عمارة المسجد الأموي الكبير ؛ ذلك المفهوم الذي اعتبر فيما بعد كونه أحد الإضافات التصميمية المهمة الذي أفرزته الممارسة المعمارية في العصر الأموي ؛ وبعبارة أخرى فان ثراء المعالجات التصميمية للمسجد الأموي بدمشق، يعود في الكثير منه إلى فعالية وحدة الجانب الفني مع الجانب التركيبي، ليشكلا في النتيجة تكوينا؟ً معمارياً غاية في الأصالة وغاية في الإبداع، الأمر الذي حدا " بابن جبير" أن يقر بأن شهرة المسجد المتعارفة في ذلك تغني عن استطراد الوصف فيه "

الهوامش:
(1) البهنسي ـ الجامع الأموي الكبير، دمشق (1988) [ لاحقاً البهنسي – الجامع الأموي، ص 22 ـ 30.
(2) البهنسي ـ الجامع الأموي الكبير ص 30.
(3 الواقع ان العرب المسلمين فتحوا دمشق مرتين الأولى كانت عام 635 [ 15 رجب 14 هـ كما يقول البلاذري ص 123] وبقـي المسلمون في دمشق وحمص ثلاثة اشهر، ثم انسحبوا نحو الجنوب حتى اذا استطاعوا قهر هرقل في معركة اليرموك في 15 هـ (636 م) عادوا الى دمشق بعد أربعة أشهر وكان الفتح الثاني للمدنية. أنظـر د. بهـنسي. ص 32.
(4) عبد القادر الريحاوي ، العمارة في الحضارة الاسلامية ، ص 54
(5) ابن جبير، ص 250.
(6) كريز ويل. الآثار الاسلامية الاولى / دمشق، 1984، ص 69 نقلا عن ابن شاكر.
(7) ابن جبير ـ الرحلة ، ص 249.
(8) أحمد زكي ـ المدخل ص 218
(9) تعرض المسجد الأموي الى مثل تلك الحوادث في سنين عديدة ومختلفة من تاريخه الطويل. فقد تعرض لزلزال عام 748 م ولآخر عام 846 م فأحدثا شقاً في سقف المسجد وسقطت مئذنته، ثم شب فيه حريق عام 1081 لم يبق إلا الجدران وأزيلت الفسيفساء. وظل المسجد 14 عاماً بهيئة أنقاض عندما أجريت له أعمال ترميم وصيانة عام 1064 م، وكذلك في 1108م اللتان تمخضتا على تجديد السقف والقبة والأركان والحائط الشمالي القديم. ثم تعرض الى هزة أرضية عام 1154 وتلاه حريق عام 1164 م، وكذلك حريق آخر عام 1171 أحرق القسم الشرقي وأتى على مئذنة العروس. ثم تلاه زلزال شديد سقطت على أثره المئذنـة الشرقية وتشقـقت ثم سقطت القبة التي تم ترميمها عام 1211 عندما اسندت بأوتاد. وفي حريق عام 1246 م احترقت سلالم المنارة الشرقية وتفككت أواصر البناء، ثم تشققت جدران المسجد الجامع إثر زلزال عام 1302. وأتى الحريق الكبير الذي شب عام 1338 م على جزء كبيـر من جامع دمشق وخاصة المئذنة الشرقية والجانب الشرقي، وإثر الهزة الأرضية عام 1759 م سقطعت المئذنة الشرقية وقبة النسر والجدار الشمالي والشرقي، وأثناء الحريق الكبير الذي شب عام 1893 م كان قد أتى على الجامع كله، ولم يبقى منه إلا هيكله الانشائي قائماً وعلى أثره أجريت الترميمات الأساسية في مسجد دمشق وانتهى منها بصورة كلية عام 1901. (أنظر بهنسي. الجامع الأموي ص 93 ـ 94).
(10) الريحاوي ص 54.
(11) كريزويل ص 75.
(12) الريحاوي. العمارة في الحضارة الاسلامية، ص 55 ـ 56.
(13) كريزويل. الآثار الاسلامية الأولى. ص 73.
(14)) البهنسي، الجامع الأموي الكبير، ص 114
(15) كريزويل، الآثار الاسلامية الاولى، ص 79 - 80
(16) Creswell, A Short Account of E.M.A. P. (67)
(17) كريزويل. الآثار الإسلامية الأولى، ص 85.
(18) نفس المصدر السابق، ص 85.
(19) المصدر السابق نفسه، ص 84 ، 85.
(20) عفيف البهنسي، الفن الإسلامي، دمشق 1986، ص 326
(21) المصدر السابق نفسه، ص 327.□□
د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون



#خالد_السلطاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موالي - صدام المُدَّعِية - بالثقافة - تسعى - لتبييض - سيرة ا ...
- عمارة جعفر طوقان : فعل الاجتهاد التصميمي
- المُعـلمّ - بمناسبة رحيل فائق حمد
- معالي العمارة المهنية
- عمارة اسمها .. التعبيرية - صفحات من كتاب : قرن من الزمان ؛ م ...
- عمارة اسمها .. التعبيرية
- مرور سبع سنوات على رحيل الشاعر الجواهري ( 27 تموز - يوليو - ...
- موالي صدام المدعية - بالثقافة - تسعى - لتبيض - سيرة الدكتاتو ...
- منجز العمارة الاسلامية مسجد السليمانية في اسطنبول نضوج الحل ...
- صفحات من كتاب - قرن من الزمان .. مئة سنة من العمارة الحديثة ...
- مدرسة اولوغ بيك : جماليات مكان التعلم .. والتعليم
- حديث هادئ ، في معمعة كلامية
- صفحات من كتاب - العمارة العراقية الحديثة: السنين التأسيسية - ...
- العلم العراقي الجديد: ملاحظـات تنظيـمية وفنـية سريعـة
- منجز العمارة الاسلامية (3 ) عمارة - مسجد امام - في اصفهان
- صفحات من كتاب - قرن من الزمان .. مئة سنة من العمارة الحديثة ...
- بمناسبة فوزها بجائزة - بريتزكير- العالمية عمـارة - زهـاء حدي ...
- عام على احداث جسام في حياة الشعب العراقي
- مبنى - السفارة الامريكية - ببغداد : تـناص معماري .. لمفاهيم ...
- منجز -اوسكار نيماير- التصميمي : مفرد .. بصيغة الجمع


المزيد.....




- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد السلطاني - صفحات من كتاب سيصدر قريباً - العمارة الاموية : الانجاز والتأويل -- عمارة المسجد الاموي الكبير في دمشق