ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية
(Yasser Qtaishat)
الحوار المتمدن-العدد: 3346 - 2011 / 4 / 25 - 23:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ان كل خلل يصيب توازن القوى في منطقة الخليج العربي يستدعي ثوابت الاستعانة بالأجنبي لاعادة التوازن الى نصابه الذي يحقق مصلحة ورؤية دول مجلس التعاون الخليجي , سيما في ظل ضعف النظام العربي –إبان حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة- الذي عزز من توجه دول مجلس التعاون الخليجي نحو الاستفادة من هيكلية النظام الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة في سبيل الحفاظ على توازن قوى متعدد الأقطاب , يحفظ لدول المجلس أمنها وسيادتها , ويحول دون تفرد القوى الإقليمية الأخرى , العراق وايران , في إدارة النظام الاقليمي لمنطقة الخليج العربي .
ومن خلال التحليل السياسي والاستراتيجي للقوى المتنافسة في منطقة الخليج العربي في ظل نظام توازن القوى , يعتقد الكاتب ان نظام توازن القوى مر بسلسلة معقدة من التغيرات والاهتزازت البنيوية في تركيبة وهيكلية توازن القوى في الخليج العربي , حيث لعبت التطورات التاريخية , خاصة في جانب النزعات والصراعات العسكرية في ظل الحروب التي شهدتها المنطقة في غضون ثلاثة عقود لا غير , محاولات متكررة من قبل القوى الفاعلة بالمنطقة , سيما ايران والعراق , لإحداث تغيرات في طبيعة ترتيب القوى الإقليمية تصب في صالح تغيير ميزان القوى لاحداها على حساب الوضع الاقليمي للقوى الأخرى , الأمر الذي امتاز به نظام توازن القوى في الخليج العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين , بحالة من عدم الاستقرار الكلي في فترات عديدة , عبّرت عنها قوى التنافس الاقليمي تارة بالصراع البيني , العراق وايران , وتارة بالصراع مع القوى الدولية , العراق مع الولايات المتحدة عام 1991م من جهة , وايران والولايات المتحدة منذ تولي الخميني الحكم من جهة ثانية , وتارة بتكالب القوى الدولية لإحداث توازن يصب في صالح القوى المعتدلة , وهنا حصراً دول مجلس التعاون الخليجي العربي .
ولم يعد هناك أدنى شك في أن احتلال العراق والتواجد الأمريكي المباشر في منطقة الخليج , وخاصة في العرق حالياً ,غيّر من معادلة توازن القوى الإقليمي في منطقة الخليج العربي جملة وتفصيلاً , فأي توازن قوى قادم لا بد وأن يأخذ بعين الاعبتار الوجود الأمريكي المهيمن على دول المنطقة لا سيما دول مجلس التعاون الخليجي , إضافة الى العراق بعد احتلاله , خاصة وأن الولايات المتحدة لن تكون مجرد شريك في هذا التوازن وحسب , وانما ستكون الطرف الأول والأوحد الذي يحدد شكل ونوع ونظام هذا التوازن القائم , باعتبار أنها الطرف الأقوى في معادلة التوازن الإقليمي .
وبغض النظر عن دور هذا المتغير في تحقيق مصلحة دول مجلس التعاون الخليجي , فان وضعية المجلس لن تكون بصورة أفضل مما كانت عليه قبل تاريخ احتلال العراق , من منطلق أن وجود الولايات المتحدة كمعادل أقوى في هذه المعادلة سيحقق مكاسب لها – تتمثل في انتهاء التهديد الأمني القادم من جانب العراق- على حساب خسائر أخرى , ليس أقلها تحجيم دور بعض القوى في المجلس –مثل السعودية- لصالح قوى أخرى لم تكن بالحسبان –مثل قطر التي تتميز بعلاقات مع واشنطن تفوق ما كانت عليه السعودية- وبالمقابل إمكانية إضعاف الدور الإيراني في ظل ممارسة المزيد من الضغوط على إيران لتخفيف وطأة قوتها الإقليمية , وهو أمر لا ترغب به دول المجلس كونه سيعطي الولايات المتحدة فرصة أقوى للتلاعب بأوراق التوازن الإقليمي كيفما تشاء , وبذا فان دول مجلس التعاون ستتجه نحو إعادة صياغة استراتيجيتها الخارجية بما يحقق لها المكانة الإقليمية والدولية بصورة مختلفة عما كانت عليه سابقا , وهذا لا يتأتى من وجهة نظر الكاتب الا من خلال التركيز على القوى الأخرى في النظام الدولي مثل روسيا والصين واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا , بهدف منع واشنطن من الهيمنة على مفردات إدارة النظام الإقليمي في منطقة الخليج وللحفاظ على مستقبل توازن القوى الدولي الذي لن يستمر طويلاً لصالح أحادية القطبية الأمريكية .
على أية حال , فان الصورة الحالية لشكل توازن القوى الإقليمي في منطقة الخليج أمست في أربعة أضلاع رئيسية , وهي دول مجلس التعاون الخليجي , وعراق المستقبل , وايران , والولايات المتحدة التي لم تعد مجرد مظلة أمنية لدول مجلس التعاون بقدر ما أمست عضو شريك وفعّال في نظام توازن القوى بعد احتلال العراق وزوال خطره عن دول الخليج العربي , خاصة الكويت , وبذا فان قدرة وامكانية دول مجلس التعاون الخليجي على إيجاد صيغة واضحة للتعامل مع هذه القوى هو ما سيحدد شكل توازن القوى في المنطقة , فضلا عن تحقيق أمن واستقرار منطقة الخليج في المستقبل .
دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة :
علاقات دول مجلس التعاون الخليجي بالولايات المتحدة علاقات متشابكة ومعقدة نوعاً ما منذ ما يربو على أكثر من عقدين , فيلاحظ أن بعضها مثل السعودية قد رأى أنه لم يعد هناك مبررا لوجود القوات الأجنبية فوق أراضيها , ولهذا تم نقل مقر القيادة الجوية الأمريكية لمنطقة الخليج عام 2003م من قاعدة الأمير سلطان بالسعودية الى قاعدة العديد بقطر , وهذا يعني إثارة قضية محورية في العلاقات الخليجية – الأمريكية , وهي التواجد الأجنبي ومبرراته حيث أن زوال التهديد العراقي واقترانه ببعض المعارضة الداخلية في دول المجلس لهذا الوجود كان عاملاً ضاغطاً على الولايات المتحدة لاعادة النظر في تلك القضية فقد شهدت القوات الأمريكية في الخليج ستة حوادث اعتداء , كان أهمها حادثة جزيرة فيلكا بالكويت التي نتج عنها مقتل أفراد من القوات البحرية الأمريكية (المارينز) واصابة آخرين بجروح , وعملية معسكر الدوحة , وحادثة إطلاق النار على جنديين أمريكيين بالقرب من الطريق الدائري السابع السريع وغيرها من العمليات التي تطورت في بعض الأحيان لتطال مدنين أمريكيين موجودين على أرض الكويت.
وهذه الحوادث أثارت تساؤلات حول إنهاء الوجود العسكري الامريكي في الخليج , ومدى توافقية الرؤية الخليجية في هذا الشأن للتوازن الإقليمي في المنطقة ؟؟
والواقع أنه لا سبيل لإنهاء هذا الوجود , حيث تلتقي المصالح الأمريكية والخليجية حول تلك القضية , ويؤكد ذلك ما يلي :
- إذا كانت الولايات المتحدة قد لجأت الى سحب قواتها من السعودية فإنها بالمقابل قد اتجهت الى تكثيف تواجدها في دول خليجية أخرى مثل قطر خاصة فيما يتعلق بتخزين الأسلحة والمعدات العسكرية , فضلاً عن زيادة الاعتماد على سلطنة عُمان وهذا يعني أن التغيرات الأمريكية بالنسبة لقضية الوجود الأجنبي قد اقتصرت على الجانب الإجرائي ( أي سحب القوات من الدول التي يعارض الرأي العام فيها هذا الوجود ) دون التطرق الى مضمون هذا الوجود الذي تعتبره واشنطن إحدى أهم آليات حماية مصالحها الاستراتيجية في منطقة الخليج العربي التي تُشرف على أهم ثلاثة أذرع مائية من جهة الملاحة والتجارة الدولية , وهي البحر الأحمر والبحر المتوسط والخليج العربي .
- بروز توجه خليجي خلال العقد الأخير من القرن الماضي مؤداه أن أمن الخليج أضحى شأناً
دولياً , الأمر الذي يُكسب التواجد الأجنبي شرعيته في المنطقة لحماية مصالح كل الأطراف الإقليمية والدولية ويعزز من هذا التوجه أمران : أولهما شهدت الدول الخليجية الست تجربة هذا الوجود في الماضي حيث كانت محميات لبريطانيا , وهو أمر لا زال حياً في ذاكرة نخبها من خلال وجود توافق بينها وبين القوى الكبرى , وثانيهما : أن تلك الدول صغيرة الحجم نسبياً ولا يتجاوز عدد سكانها الثلاثين مليون نسمة بينهما أعداد هائلة من العمالة الأسيوية الوافدة , مما يعكس مدى حاجة تلك الدول لوجود الأجنبي في الوقت الراهن باعتبارها دولاً صغيرة وغنية نفطياً ومحاطة بجيران أقوى وأكبر منها في المعيار السكاني والجغرافي والعسكري .
- ارتباط الوجود الأمريكي في الخليج العربي بمٍسألة لتوازنات الإقليمية في آسيا , بالإضافة الى ارتباطهِ بقضية أفغانستان وبترول بحر قزوين بما يؤكد أن المصالح الأمريكية في منطقة الخليج يحتم عليها البقاء فيها سواء اضطرت لتخفيض هذا التواجد أو إعادة انتشاره .
- العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين دول المجلس والولايات المتحدة , والتي تعزز من أهمية هذا التواجد , حيث تعد الولايات المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري لدول المجلس , كما تعد مصدر لما تستورده دول المجلس , وقد وصل حجم الواردات الأمريكية من دول مجلس التعاون الخليجي الى حوالي 20.4 مليار دولار في عام 2000م مقابل صادرات أمريكية لدول الخليج قيمتها 10.8 مليار دولار في العام ذاته .
ومما سبق , نصل الى نتيجة مفادها أن الوجود الأمريكي سيستمر في منطقة الخليج العربيالى أمد غير منظور أو معروف , سيما وأن الولايات المتحد قد تضطر الى إيجاد مسوغات منطقية لتبريره من قبيل استمرار الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب متخذة من بعض الحوادث الأمنية التي حدثت مؤخراً في منطقة الخليج , مبرراً قوياً في هذا الشأن .
دول مجلس التعاون الخليجي وعراق المستقبل :
إذا كان سقوط نظام صدام حسين قد أنهى هاجساً أمنياً مباشراً , فانه قد خلق هواجس أخرى غير مباشرة لتلك الدول , فان كان التهديد أقل خطورة بعد زوال صدام حسين الا أنه يظل تهديداً في ظل حالة عدم الاستقرار الداخلي التي يشهدها العراق بسبب تزايد المقاومة العراقية للقوات الأمريكية والبريطانية , فضلاً عن استمرار العقيدة البعثية والتي ربما تحتاج لسنوات ليكون هناك نظام يعمل على إزالة التوتر مع جيرانه من خلال إجراءات بناء ثقة , وبالتالي فان النظرة الخليجية لعراق ما بعد صدام حسين , تحكمها الاعتبارات التالية:
- إدراك دول المجلس لأهمية دعم استقرار العراق في الوقت الراهن , ومن هنا كانت الدعوة الخليجية لدعم مجلس الحكم الانتقالي في العراق , وهو ما بدا واضحاً في تصريحات المسؤولين الخليجيين , وفي استقبال العواصم الخليجية لوفد المجلس , فضلاً عن ترحيب تلك الدول بقرار مجلس الأمن رقم (1500) الصادر في 14 أغسطس 2003م والذي أضفى صفة قانونية على عمل المجلس وشرعيته الدولية .
- وتمتلك دول الخليج رؤية خاصة في هذا الصدد , إذ ترى أن العراق أمامه احتمالان إما التوجه نحو بناء عراق جديد موحد ومستقر على أسس جديدة , وإما تحوله الى بؤرة للتوتر القومي والمذهبي ومصدر جديد لتصدير الإرهاب , ويؤكد هذا ما أشارت إليه بعض المصادر من وجود عناصر عربية ذات نزاعات أصولية متطرفة في العراق كان لها دور في حوادث العنف التي شهدها العراق .
- إذا كانت دول المجلس قد سعت للاعتراف بمجلس الحكم العراقي كخطوة نحو استقرار العراق , فان هذا لا ينفي أن هناك مخاوف خليجية من عودة العلاقات مع العراق الجديد , ومنها الكويت التي لا زال لديها قضايا عالقة تتمثل في الحدود والتعويضات والأسرى
- إذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي قد أبدت دعمها الكامل لمجلس الحكم الانتقالي العراقي , انطلاقاً من مقتضيات المرحلة الراهنة والتي تتطلب عراقاً مستقراً ذا توجه جديد لا يهدد جيرانهُ , الا أن شكل العلاقات الخليجية – العراقية في المستقبل لا يزال يثير الجدل , حيث أن خروج العراق من خارطة التوازنات الإقليمية في المنطقة , قد أفرز أوضاعاً جديدة سواء صعودا بالنسبة لبعض القوى أو هبوطاً للبعض الآخر , وهو الأمر الذي يدفع الولايات المتحدة لترتيب شؤون تلك المنطقة .
ولعل المخاوف الأساسية بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي تكمن في تلك الترتيبات التي تستهدفها واشنطن لمنطقة الخليج , وبدت أولى ملامحها في تصريحات " كولن باول " وزير الخارجية الأمريكي في السابع من فبراير عام 2003م , وأكد فيها على ان إطاحة الرئيس صادم حسين قد تعيد تشكيل الشرق الأوسط بطريقة تعزز مصالح الولايات المتحدة وتساعد في إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي , وإذا كان تغير الأنظمة الخليجية أمراً غير وارد في الاستراتيجية الأمريكية نظراً للعلاقات الراسخة بين واشنطن ودول الخليج على الأصعدة الأمنية والاقتصادية والسياسية , وحاجة الولايات المتحدة لتلك الدول من أجل تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة , فضلاً عن دعم الحرب على الإرهاب, فان تغيير جغرافية المنطقة يظل هاجساً لدول الخليج , ويبرز هنا سيناريوهان :
أولهما : إمكانية طرح الولايات المتحد تحالفات أمنية جديدة مثل إحياء حلف بغداد الذي ظهر عام 1955م , لا سيما وأن ركائز هذا الحلف ما زالت موجودة وهي ( باكستان وتركيا والعراق وايران ) ولكنها تفقد أهميتها في السياسة الأمريكية وان كان ترتيبها قد اختلف في الأوضاع الجديدة التي ربما تفرض إعطاء الأولوية لثلاث دول هي باكستان شرقاً وإسرائيل غرباً وعراق ما بعد صدام بوصفه مركز الحلف مجدداً , هذا السيناريو يفرض تحدياً جديداً أمام دول مجلس التعاون الخليجي التي ترتبط بعلاقة شراكه استراتيجية مع الولايات المتحدة , وفي الوقت ذاته هي جزء من العالم العربي الذي لا يزال لدية مشكلة رئيسية مع أحد أطراف هذا الحلف المحتمل وهي إسرائيل .
ثانيهما : إمكانية انضمام العراق لمجلس التعاون الخليجي , وهنا يمكن القول أن الموقف الخليجي يتسم بالترحيب الحذر , وهو ما عبر عنه صراحة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي " عبد الرحمن العطية " رداً على سؤال بشأن تلقيه طلباً من الحكومة العراقية الجديدة حول انضمام العراق لمنظومة دول المجلس , حيث نفى هذا الأمر مشيراً الى أن العراق كان عضواً فاعلاً في المجالس والهيئات المتخصصة التابعة للمجلس قبل احتلال العراق للكويت عام 1990م , ولعل هذا التصريح يعكس توجهاً خليجياً مفاده أن من السابق لأوانه الحديث عن انضمام العراق لمنظومة مجلس التعاون الخليجي , وانما هناك إمكانية للانضمام لبعض الهيئات الفرعية على غرار انضمام اليمن لتلك الهيئات بشكل تدريجي , كما يعكس هذا التوجه قناعة خليجية مختصرها أن التوتر الخليجي – العراقي لم يكن مرتبطاً فحسب بالنظام العراقي وأيديولوجيته البعثية , وانما باعتبارات التطلعات العراقية للهيمنة على الخليج والتي عززها ذلك الخلل الواضح بين العراق ودول المجلس.
وهنا يمكن الإشارة الى الآتي:
- لا يوجد تكافؤ بين الأنظمة السياسية لدول مجلس التعاون الخليجي التي قطعت شوطاً مهماً على طريق التحول الديمقراطي , وبين العراق الذي يكاد يخرج من نظام حكم شمولي , فضلاً عن تعدد العرقيات المكونة للتيارات السياسية داخله وهو لأمر الذي يجعله مفتقراً الى ممارسة ديمقراطية صحيحة .
- الخلل الواضح بين القدرات الاقتصادية للجانبين , حيث تتراوح معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي بين 3.6% في السعودية و 10.5% في الإمارات , وباقي الدول بين الرقمين , في حين يعاني الاقتصاد العراقي تدهوراً شديداً إذ تشير التقديرات الى أن معدل النمو المتوقع للعراق بعد رفع العقوبات سيكون منخفضاً لدرجة أن البلاد لن تستعيد عافيتها حتى عام 2005 , كما أن العراق لن يكون بمقدوره استعادة متوسط الدخل الفردي الذي كان سائداً عام 1980م سوى عام 2016م .
- ومن ناحية ثالثة تتميز دول مجلس التعاون الخليجي بالتقارب الشديد في البنية الاجتماعية , خاصة فيما يتعلق بالثقافة الخليجية الواحدة والعادات والتقاليد , في حين يحتوي العراق على تركيبة سكانية متباينة ومتناقضة , إذ يتكون من أكثرية عربية (70-80% ) وأقليات كردية (15-20%) وتركمانية (5%) وتعتنق غالبية السكان الدين الإسلامي (أكثرية شيعية 60% وأقلية سنية 20%) وهناك أيضا طوائف من المسيحيين واليزيديين .
ومما سبق , نصل الى نتيجة مفادها , أن العراق يحتاج لسنوات حتى يكون عنصر فاعل في نظام توازن القوى متعدد الأقطاب في منطقة الخليج العربي , بل إن استمرار المشاكل والجيوبوليتكية ومزاعم الحق التاريخي تعزز من مخاوف دول مجلس التعاون بشأن انضمام العراق لمجلس التعاون الخليجي , بالإضافة الى ان النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي لا يسمح بانضمام أي دوله أخرى الى المجلس , الا انه في حالة استقرار العراق مستقبلاً يمكن لمجلس التعاون أن يطوّر خططا منفصلة للتعاون مع العراق وايران واليمن على غرار المجالس المشتركة لحلف الناتو مع روسيا وأوكرانيا , كما يمكن لدول المجلس أن تُقيم تجمعاً متعدد الأطراف رسمياً الى حد ما مع العراق وايران واليمن .
دول مجلس التعاون الخليجي وايران :
تدرك دول الخليج الست أن خروج العراق من المعادلة الاستراتيجية في المنطقة , يعني ان هناك فراغاً ومجالاً أوسع أمام إيران التي تعد أقوى دولة في الخليج فضلاً عما يتردد بشأن سعيها لامتلاك سلاح نووي , بما يعني تهديد أمن دول مجلس التعاون الخليجي , وهنا ينبغي التأكيد على أن وجود نظام حليف للولايات المتحدة في العراق من شانه أن يقلل حاجة أمريكا للتواجد في الخليج لحماية دول الخليج العربي وردع ايران , الا أنه لا يلغي تلك الحاجة تماماً , وبالتالي تظل ايران تمثل تحدياً أمنياً للولايات المتحدة ودول الخليج معا بغض النظر عن نتيجة الموقف في العراق , وذلك بالنظر الى نفوذ ايران لدى شيعة الخليج والذين يمثلون أغلبية واضحة في البحرين , فضلاً عن خلاف ايران مع دولة الإمارات العربية على ثلاث جزر في الخليج.
وعلى الرغم من الخطوات الانفتاحية التي اتخذتها حكومة خاتمي للتواصل مع دول مجلس التعاون الخليجي سواء قبل أو بعد الحرب على العراق , إلا ان التساؤل المثار حالياً هل دول مجلس التعاون في ظل الوضع الجديد في العراق لديها استعداد لقبول دعوات ايران بإقامة منتدى إقليمي حول القضايا الأمنية بعيداً عن الأطراف التي تعتبرها ايران غير معنية بالخليج , ومنها الولايات المتحدة الأمريكية , لا شك أن الإجابة بالنفي , وعلى الرغم من توقيع ايران للبرتوكول الإضافي لاتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية , الا ان بعض التقارير تؤكد امتلاك ايران للسلاح النووي مما يعكس تزايد الهواجس الخليجية , وهو أمر سيعزز من أهمية العلاقة الأمنية لدول المجلس الست مع الولايات المتحدة ويجعل بالتالي الوجود الأجنبي أكثر قبولاً من الناحية السياسية وبالتالي فانه حتى لو لم تبسط الولايات المتحدة رسمياً مظلة نووية على دول الخليج الست , فان تواجدها في هذه الدول هو رادع بحكم الأمر الواقع لأي تفكير من قبل طهران للابتزاز النووي ضد هذه الدول .
ومما سبق يمكن القول ان الوجود الأمريكي في العراق سوف يكون متغيراً مهماً في مسار مستقبل العلاقات الخليجية – الإيرانية في ظل توتر العلاقات الراهن بين واشنطن وطهران حول العديد من القضايا وفي مقدمتها أسلحة الدمار الشامل والقضية العراقية وإيواء عناصر الإرهاب .
سيناريو توازن القوى في منطقة لخليج العربي :
يتضح من خلال الوضع السابق في منطقة الخليج العربي أن مستقبل توازن القوى في المنطقة قد يتوقف تصوره على شكل وحالة العراق في المستقبل القريب بين الاستقرار والتطور السريع او الفوضى العارمة التي تطيح بقدر كبير من أمن واستقرار دول المنطقة بلا استثناء , وعليه فان سيناريو مستقبل توازن القوى في المنطقة قد يأخذ مقترب جديد هو "سيناريو توازن القوى متعدد الأطراف" وهو الشكل او الاحتمال الأكثر ظهوراً في ضوء الوجود لأمريكي في المنطقة من جهة , والدعوة الإيرانية لاقامة منتدى إقليمي يضم القوى الأساسية في المنطقة بما فيها اليمن من جهة أخرى, وهو سيناريو يصب في مصلحة دول مجلس التعاون الخليجي باعتباره يحقق درجة عالية من الاستقرار السياسي والاقتصادي ويدفع بدول المنطقة الى تكثيف جهودها نحو بناء علاقات تحالف استراتيجي مع القوى الدولية الأخرى تحسباً لأي تغيير في هيكلية وطبيعة النظام الدولي من أحادى القطبية الى متعدد الأٌقطاب , وللوقوف في وجه القوى الدولية الخارجية للهيمنة على المنطقة وثرواتها, ورغم أن هذا النوع من التوازن قد يبنى على الوجود الأمريكي في البداية الا أنه من غير الضروري أن يستمر بوجودها , على أساس أن كل الأطراف المعنية في المنطقة تدرك اليوم وأكثر من أي وقت مضى أهمية وضرورة التحالف والتكتل تحت الإحساس المشترك بالخطر الأمريكي الذي قد يزيد من إرباك توازن القوى في حالة أن تُرك له الحبل على الغارب بلا استراتيجيات جديدة تضمن أن يتم التغير المطلوب وفق المصلحة الخليجية ومصلحة القوى الإقليمية الأخرى، وعلى رأسها ايران.
بيد أن هذا السيناريو , أو تحقيقهُ خليجياً , يتطلب من دول مجلس التعاون الخليجي مجموعة من التحركات على المستويين الداخلي والخارجي , تتلخص أهما في الأتي :
- أن تنظر دول مجلس التعاون الخليجي الى المستقبل بعين الترقب والحذر , فتعمل على الزيادة من قوة الروابط بينها وبين بعضها البعض الآخر بحيث تتجاوز هذه الروابط فكرة التعاون المألوف الذي تمليه الأحداث والظروف , حيث ينبغي إقامة نوع جديد من التقارب يقوم بناؤه على تكوين اتحاد كونفدرالي يضم الدول الخليجية , بحيث يكون لكل دولة سيادتها على إقليمها دون أي تدخل خارجي في نظام حكمها , ولا بد أن يكون التوحيد في أمرين هامين :
الأول : في الشؤون الخارجية كتشكيل مجلس أعلى للشؤون الخارجية يكون مسؤول عن إدارة العلاقات الخارجية لدول المجلس , بهدف توحيد السياسة الخارجية في ظل الظروف والمتغيرات السياسية والاستراتيجية التي تشهدها دول الخليج العربي على المستوى الإقليمي والعربي والدولي .
الثاني : في الشؤون العسكرية , من خلال إنشاء قوة عسكرية خليجية موحدة أكثر تركيزاً ودقة من قوات درع الجزيرة , بحيث يكون ولاءها للاتحاد الكونفدرالي وليس للدول ذاتها , والهدف من هذه الخطوة هو لتشكيل قوة عسكرية دفاعية وردعية قادرة على موازنة قوة كل من العراق القادم وايران الأقوى عسكرياً في ضوء الوضع الراهن بعد احتلال العراق.
- إن المحافظة على الأمن السياسي والاقتصادي والعسكري لدول المجلس في مواجهة التحديات الإيرانية القائمة والممثلة في استمرار احتلال الجزر الإماراتية منذ عهد الشاه وحتى الآن , يتطلب أن يكون هناك عمق استراتيجي تستند إليه دول المجلس لحماية الهوية العربية في نطاقه , وهذا البعد الاستراتيجي يتمثل في انضمام أطراف أخرى كلاعبين أساسيين في الحفاظ على أمن منطقة الخليج لا سيما بدخول تركيا واليمن وايران ودول مجلس التعاون الخليجي في منظومة أمنية محققاً بذلك نظام توازن قوى متعدد الأقطاب أو ما يعرف بنظام السلام والاستقرار , وقد يكون توجه سليم بديل عن الاعتماد على الغرب والولايات المتحدة خاصة , والتي أثبتت بعد تجربة احتلال العراق أنها تسعى الى استتباب مصلحتها القومية على حساب الآخرين في المنطقة , وماضية في سياسة يمينية متعصبة تجاه العالمين العربي والإسلامي منذ أحداث 11 سبتمبر , فلم تعد ذلك الحليف الاستراتيجي بعد تلك الأحداث وخطرها وضررها عالميا أكثر من نفعها سياسياً واقتصادياً .
- يتطلب على المستوى الداخلي إفساح المجال أكثر أمام التطور الطبيعي للمشاركة الشعبية السياسية في السلطة , وتوسيع نطاق الحرية والديمقراطية والعمل على إنشاء المجالس النيابية الشورية وتخطي حدود الإصلاح السياسي المطلوب , لتمهيد الطريق نحو دول المؤسسات بدل من دول الأشخاص القائمة على النظام القبلي التقليدي , وحذو بعض دول المجلس التي قطعت شوطاً جيدا في هذا الصدد , كما هو الحال في الكويت , والبحرين التي مضت منذ ثلاث سنوات نحو المشاركة السياسية والديمقراطية , وهذا التوجه الاستراتيجي والاهم في الشأن الداخلي يزيل عقبة ضرورية أمام دول المجلس تتمثل في تفويت الفرصة على الغرب والولايات المتحدة للتدخل بالشؤون الداخلية لدول الخليج العربي بذريعة الدعوة الى الديمقراطية والحرية السياسية , فضلاً عن أنها تُنشأ دولة مؤسسات المجتمع المدني التي ترفد دول المجلس بممارسة سياسية وطنية قوية تدفع بالشعوب الخليجية لدعم سياسات دولها بصورة أكثر نضجاً وفعالية مما كانت عليه في العقود الماضية .
وتجدر الإشارة الى ان ما "يُفرّخ" بعض الجماعات السياسية التي تتخذ من الدين ذريعة للقيام بالعمليات "الإرهابية" داخل دول مجلس التعاون هو فقدان هذه الصلة السياسية بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي وشعوبها , كما هو الحال في السعودية , ولا علاج لذلك سوى احتواء هذه الجماعات وسحب البساط من تحت قدميها وتعريتها أمام الشعوب الخليجية من خلال الإصلاحات السياسية والديمقراطية والمشاركة السياسية في إدارة شؤون البلاد , فهي خير دعّامة لدول المجلس أمام جملة التحديات الإقليمية والدولية , وما الخطوات الإصلاحية التي تنهجها معظم دول المجلس منذ سنوات مضت الا دليلاً على صحة ما سبق , وتأكيداً لاختيار الطريق الصائب نحو الأمن والاستقرار الداخلي والخارجي .
- على دول مجلس التعاون الخليجي استغلال الظروف الراهنة والمسك بزمام المبادرة لتحقيق نظام أمن إقليمي جديد يعرف "بنظام السلم والاستقرار" من خلال :
1- عقد اتفاقيات أمنية مع الدول لإقليمية في المنطقة ودول الجوار , مثل تركيا التي تعتبر دولة مهمة في نطاق الحديث عن توازن القوى الإقليمي فهي دولة عضو في حلف الناتو , ومن المتوقع أن تنظم الى الاتحاد الأوروبي , فضلا عن أنها من أكثر دول المنطقة التي تسعى الى الاحتفاظ بدرجة عالية من الاستقرار السياسي في منطقة الخليج باعتبار أن ذلك يصب في مصلحتها اقتصاديا وتجارياً , ولها علاقات تبادل تجاري جيدة مع مجلس التعاون الخليجي , ولا شك ان إنشاء تحالف أمني إقليمي بين دول المجلس وتركيا واليمن وعراق المستقبل بالإضافة الى ايران , سيدفع بعجلة توازن القوى الإقليمي لصالح نظام متعد الأطراف , يكون لدول لمجلس فيه دور بارز ومؤثر أكثر مما مضى .
2- عقد اتفاقيات أمنية متطورة مع ايران , كما فعلت السعودية , على أن يتم ذلك بعد حل كل المشاكل العالقة بينهما , خاصة قضية احتلال الجزر الإماراتية وترسيم الحدود البحرية مع الكويت, ولا شك أن الأجواء مهيأة الآن لمثل هذه الإجراءات , حيث ما زالت ايران تتمنى ان توافق دول المجلس الخليجي على إقامة منتدى إقليمي للحوار والأمن والاستقرار , وهكذا منتدى فيه فرص جيدة لدول المجلس لتصفية كل الخلافات البينية , كما أن استمرار التهديد الأمريكي لإيران , يدفع بالأخيرة للتقرب من دول المجلس للتخفيف من وطأة التهديد الأمريكي عليها , وأي شكل من أشكال التعاون الأمني أو التحالف الاستراتيجي من شأنه أن يُثبت حقيقة نظام توازن القوى متعدد الأطراف .
3- قبول اليمن والعراق كشريك وليس عضو في مجلس التعاون الخليجي , فدول المجلس لم تعد بأي حال من الأحوال قادرة على قبول اليمن والعراق في وضعهما الرهن انطلاقاً من فلسفة عدم استعارة مشاكل الآخرين خصوصاً وأن البعد العربي أثبت من خلال التاريخ فشلهِ في تحقيق الأمن والاستقرار لدول مجلس التعاون الخليجي , من منطلق شعار الحفاظ على الهوية العربية في الخليج , بشكل يؤدي الى التراجع للخلف بدل المضي قدماً نحو آفاق المستقبل كما هو الحال في مجلس الجامعة العربية , وعالم اليوم يقوم على التفوق التكنولوجي والتقنية والتقدم التجاري والصناعي , ودول المجلس قطعت شوطاً طويلاً في هذا الصدد مقارنة بدول الجوار العربي الأخرى , خاصة اليمن والعراق .
4- العمل على إعادة "تأهيل" العراق سياسيا واقتصاديا بما ينسجم ومصالح دول المجلس والنظام الإقليمي العربي , فعراق المستقبل يجب أن يكون من منظور دول الخليج –وهو الأهم- قوياً ومستقراً وحرً وديمقراطيا , باعتباره دعامة أساسية ومحورية للحفاظ على توازن القوى الإقليمي بصورة التعددية , فدخول العراق في المستقبل في نظام توازن القوى متعدد الأقطاب سيكون نقطة ارتكاز نحو صياغة جديدة لتوازن القوى الإقليمي يصب في صالح دول الخليج العربية بلا استثناء وسيقف أمام أي طموح او تصور إيراني مستقل لمستقبل العراق والنظام الأمني في منطقة الخليج , ولا شك ان خروج العراق من معادلة التوازن الإقليمي أو بقاءه في حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني سيكون له ما بعده من المخاطر على أمن وتوازن القوى في المنطقة , خاصة على دول المجلس , وبذا فان عراق عربي قوي يُضاف الى دول الخليج الست واليمن في نظام توازن قوى متعدد الأقطاب , خيراً من عراق مقسم غير مستقر يجلب المزيد من التوترات لدول المنطقة جميعاً .
5- تقوية شكل ونوع العلاقات القائمة بين دول المجلس وبين القوى الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي , والتركيز على عقد اتفاقيات أمنية وسياسية وتجارية تفوق الصورة القائمة حاليا , وهي بذلك تخطو قدماً نحو استراتيجية أمنية جديدة تتهيأ لأي تغير ممكن أن يحدث في نظام توازن القوى العالمي , تبعاً لتحليل وتصور "هنري كسينجر" الذي يتنبأ بعدم استقرار نظام أحادي القطبية , حيث يعتبر كسينجر ان نظام أحادي القطبية سينتهي بأسرع مما يتوقع الجميع , باعتباره نظام يؤدي الى الاضطراب العالمي وخلق بؤر النزاع الدولي , فضلاً عن كونهِ يُرهق كاهل الولايات المتحدة الأمريكية ويزيد الأعباء الدولية عليها, بينما في نظره أن نظام توازن القوى العالمي المتعدد الأطراف يؤدي الى تحقيق الاستقرار العالمي , كونه يحول دون هيمنة دولة واحدة على شؤون العالم ويعزز من فكرة السلام الدولي , ولا شك أن أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من أحداث جسام تمثلت في الاعتداء على أفغانستان واحتلال العراق , تعتبر تأكيدا لتصور كسينجر حول مستقبل النظام الدولي القائم على أحادية القطبية.
______________________________
هذه المقالة جزء من بحث منشور في مؤتمر عام 2005م .
#ياسر_قطيشات (هاشتاغ)
Yasser_Qtaishat#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟