ندوة
نظمها معهد الدراسات العليا لللأمن الداخلي التابع لوزارة الداخلية الفرنسي ـ قسم النشاطات الدولية
في مقر اليونيسكو بباريس
د. جواد بشارة / باريس
مازالت بعض الدول الأوروبية تعتبر الإسلام ظاهرة غريبة على مجتمعاتها ، بل وربما خطرة . وعلى أية حال اعتباره عامل زعزعة للاستقرار المدني بدافع من الهاجس الأمني شبه المرضي الذي يحكم عقليات وذهنية القادة الأوروبيين .
ولكن السنوات القادمة قد ترغم الدول الأوروبية على إعادة النظر في التعامل مع الظاهرة الإسلامية فوق أراضيها ومراجعة أسلوب ادارتها للإسلام والمسلمين لديها وإحداث المسافة المطلوبة بينها وبين البلدان التي صدرت إليها الإسلام . وإذا ارادت أن تنجح في رهان التعددية الثقافية والدينية الصعب في مجتمعاتها لأنها محكومة بذلك فسوف يتعين عليها أن تخرج بسرعة من منطق الهاجس الأمني ـ المرضي والاستعداد للحوار البناء وتشجيعه وممارسة التفاوض وتبادل الثقة بين الحكومات الأوروبية ومواطنيها المسلمين .
من هذا المنطلق ، حاول وزير الداخلية الفرنسية السابق جون بيير شيفنموه كما ذكرنا أعلاه تقديم مبادرة جديدة سميت بمبادرة " التشاور " في يناير / كانو الثاني سنة 2000 بجمع عدد من ممثلي الطائفة الإسلامية في فرنسا والاستماع لهم ولآرائهم بغية مساعدتهم في تنظيم تمثيلهم الرسمي لدى السلطات العامة مع الأخذ بالاعتبار القوى المتناقضة والمتنافسة الموجود داخل الجماعات المسلمة الموجودة في أوروبا .
وفي هذا السياق نظّمت وزارة الداخلية الفرنسية تحت رعاية وزير الداخلية وشؤون العبادات السابق جون بيير شيفنموه ، ندوة هامة يومي 22 و 23 حزيران / يوينيو الماضي 2000 تحت عنوان " الإسلام في فضاء علماني " وتحت شعار " الاستشارة " لمختلف الاتجاهات والطوائف الإسلامية بشأن تنظيم ممارسة العقيدة الإسلامية في فرنسا .
تطرق المشاركون إلى موضوعات حساسة ومتنوعة تتعلق بالمباديء والأسس القانونية التي تنظم العلاقات بين السلطات العامة الفرنسية والعقيدة الإسلامية في فرنسا . وقد أعرب الوزير الفرنسي عن رأيه في هذه الندوة قائلاً : " حان الوقت لجلب الإسلام إلى مائدة الجمهورية " وألح على ضروة اتفاق المسلمين فيما بينهم بمختلف مشاربهم وأصولهم العرقية والقومية لتشكيل هيئة تمثيلية رسمية للمسلمين تتحدث بإسم الإسلام مع السلطات الفرنسية وتقوم بتنظيم شؤون هذا الدين في فرنسا بدون حدوث تعارض أو تصادم مع مباديء الجمهورية الفرنسية العلمانية . وتشجيع الحوار والتشاور والتنسيق الدائم أسوة ببقية الطوائف والأديان الأخرى ... وطالب الوزير المشاركين في الندوة أن يعلنوا على الملأ وبصورة صريحة وعلنية أن تقاليد العبادة الإسلامية لاتتعارض مع علمانية الدولة الفرنسية وعدم وجود خلاف بين تقاليد العبادة من جهة وتنظيم أمور وممارسة الشعائر الدينية في فرنسا من جهة أخرى .
وذلك يتوافق مع قانون الجمهورية 1905 المتعلق بإدارة الشؤون الدينية وتنظيم أمور العبادات وترسيخ مباديء العلمانية . والشرط الأساسي للتعامل مع السلطات العامة هو ألاّ يتعارض الدين ( أي دين كان ) ، مع هذا القانون. ويعتقد الوزير الفرنسي أن علمانية الدولة هي من أجل حماية الأقليات الدينية وحرياتها وأنه لا يوجد هناك ما يخشاه " الإسلام الفرنسي " من العلمانية الفرنسية إذا استطاع فهمها وإدراكها بالصورة الصحيحة .
فالعلمانية في فرنسا هي إحدى القيم الأساسية التي يتفق حولها الجميع ، وهي بمثابة مبعث للحرية وضمانة لكل فرد في اختياراته العقيدية والإيمانية والانتماء الديني والمذهبي وحماية مثل هذه الاختيارات .وهي ايضاً مصدر للتسامح تجاه كافة الأديان ومعاملتها على قدم المساواة .
وقد تقدمت مجموعة عمل تشكلت من قبل الوزير مكونة من فرنسيين ومسلمين بتقرير من 15 صفحة ( سنقوم بترجمته لاحقاً ) مفصل عن احتياجات الجالية المسلمة المقيمة على الأرض الفرنسية ، تحدثت فيه عن المشاكل التي يواجهها المسلمون مع الادارات والبلديات والمؤسسات الحكومية في الحصول على حقوقهم القانونية التي يضمنها الدستور . وكذلك عن نقص أماكن العبادة وعدم لياقة ما هو موجود منها مع مكانة هذا الدين السماوي الكبير . والصعوبات المالية التي تعيق استقلالهم واستقلال جمعياتهم ومنظماتهم . ومشكلة الحجاب في المدارس الفرنسية العامة وكيفية معالجتها . ومشكلة عدم وجود المدارس الإسلامية الخاصة وعدم السماح بإنشائها في فرنسا وكيفية التغلب على هذه العقبة التي كانت هي الحل للديانات الأخرى فلليهود والمسيحيين مدارس خاصة تعترف بها الدولة الفرنسية وتحصل على الدعم المالي من الحكومة الفرنسية . وكذلك مشكلة عدم توفر أئمة المساجد المؤِهلين داخل فرنسا الخ ...
كما تضمنت الندوة مجموعة محاضرات قيمة ورزينة القاها عدد من المفكرين والباحثين الجادين والبارزين في هذا المجال من أمثال محمد أركون الذي ألقى محاضرتين الأولى بعنوان : " نحو تعليم انثروبولوجيا دينية " وتناول فيها النقص الحاد والخطير في دراسة الإسلام بصورة علمية في الجامعات والمعاهد الفرنسية والتاريخ المشوه الذي يقدم للطلاب في جميع مراحل الدراسة عن هذا الدين وعدم موضوعية المناهج المدرسية وغموض مفهوم العلمانية ذاته حتى لدى العلمانيين أنفسهم . والمحاضرة الثانية كانت تحت عنوان : " الدين ـ الديموقراطية ـ العلمانية ـ الدنيوية : مقاربة نقدية " حيث تعمق في شرح وتوضيح أبعاد وجذور هذه المصطلحات والعلاقة فيما بينها من خلال أمثلة ملموسة في الجزائر وتركيا ومصر ..
وعن علاقة الإسلام بالعلمانية ، كتب ديديه موتشان ، وهو رجل قانون وقاضي معروف ، محاضرة تحت عنوان : " هل سيكون الإسلام الفرنسي جمهورياً " ..
وتحت عنوان : " الإسلام والسلطة الدنيوية " كتب عبدو فيلالي انصاري محاضرة عن علاقة الإسلام بالدولة والنظام الوضعي منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا أي منذ الخلافة الراشدة وبدء النظام الملكي الوراثي في العهد الأموي .
حملت محاضرة فيليب لويس عنوان : " من الهامش إلى لب النظام " جولة بانورامية حول شؤون الجالية الإسلامية في بريطانيا من كافة نواحيها .
وحول موضوع العبادة الإسلامية والشعائر الدينية الإسلامية وعلاقاتها بالجمهورية في فرنسا كتب فرانك فريغوسي محاضرة تحت عنوان : " تأملات حول النواحي المتطورة لتنظيم الدولة العلمانية للإسلام ضمن نظام علماني " واستعرض فيها جميع محاولات الدولة الفرنسية عبر مختلف الحكومات اليمينية واليسارية لتنظيم الإسلام على الأرض الفرنسية واحتوائه .
" الإسلام في ألمانيا " هو عنوان محاضرة هاميت بوزارسلان ، التي تحدث فيها عن أوضاع الإسلام في ألمانيا وخاصة في طبعته التركية نظراً لكون غالبية المسلمين هناك هم من الأتراك . . أما "الإسلام الهندي ـ الباكستاني في المملكة المتحدة " فقد كان عنوان مضمون محاضرة مريم أبو ذهب التي حللت فيها سياسة الحكومة البريطانية تجاه الأقليات.
وهكذا تظل مسألة الإسلام في أوروبا حيّة ومتأججة بانتظار قبول القارة الأوروبية بالأمر الواقع واعتبار الإسلام أحد االأديان الرسمية كما هو حال الديانتين الكبيرتين المسيحية واليهودية .فعدم الاعتراف هو الذي يتسبب في انبثاق المشاكل والأزمات.
فقبل عشر سنوات ، وبالتحديد في أكتوبر عام 1989 انفجرت في فرنسا ، وبعدها في كل أنحاء أوروبا تقريباً ، ولكن بحدة أقل " قضية الحجاب الإسلامي " أو غطاء الرأس في المدارس الفرنسية " الفولار " . وكشفت تلك القضية عن حالة الكدر والضيق غير المعلن داخل المجتمع الفرنسي تجاه الإسلام والموقف منه بسبب تواجد بضعة ملايين مسلم ، أغلبهم من المهاجرين القادمين من المستعمرات الفرنسية السابقة من شمال أفريقيا ووسطها ، داخل الأراضي الفرنسية . وظهور أجيال جديدة من الشباب المسلم المنظّم والمثقف ممن يحملون الجنسية الفرنسية مما شكل في نظر بعض العنصريين " تهديداً لأسس العلمانية " بل و " زعزعة لوحدة البلاد " ومن ثم طغى شبح العزلة الطائفية والتكتلات الجماعاتية المتعددة الولاءات الأمر الذي يهدد الجمهورية باعتقاد هؤلاء اليمنيين . وتجسدت على أرض الواقع من الناحية السيكولوجية البحتة مقولة " حرب الحضارات " وساد الخوف والارتياب والانزعاج من رؤية راية الإسلام ترفرف فوق ربوع أوروبا خاصة بعد صدور تصريحات غير مسؤولة من قبل قياديين مسلمين بهذا الشأن حول أسلمة المجتمعات الغربية . فلجأت القوى السياسية المتطرفة إلى التلويح بخطر الارهاب ضمن موجة من الهلع والتخويف والتشويه والمبالغة بخطر الاسلام لم يسبقها مثيل غذتها وسائل الإعلام في رؤوس وأذهان الرأي العام الخائف . الذي بات مقتنعاً أن الإسلام نقيض للحداثة والتطور والعلمانية والديموقراطية وحرية التعبير وحقوق الانسان والتسامح الديني . بعبارة أخرى أن الإسلام كما فهمه المواطن الأوروبي والفرنسي خاصة هو عدو " الانسانية العلمانية " . ومن المفارقات المدهشة أن يتصدى مفكر علماني ماركسي كان من أهم المنتقدين للفكر الديني هو الدكتور صادق جلال العظم لهذه الموجه العاتية ضد الإسلام في ايلول / سيبتمبر 1999 بمقال نشره في صحيفة لوموند ديبلوماتيك دافع فيه عن الإسلام وقابليته على التطور والتكيف مع متطلبات العصر والتطور التقني وكان عنوان مقاله : " الإسلام والعلمانية والغرب " واعتبر الإسلام دين قادر على التجدد وضرب لذلك مثلاً بالتجربة الإيرانية وكيف اختارت الجمهورية بديلاً للخلافة والملكية نظاماً جمهورياً لها والدستور الفرنسي نموذجاً تشريعياً وضعياً والاقتراع الانتخابي الشعبي وسيلة واسلوباً لاختيار الرئيس والبرلمان والمجلس الدستوري الأعلى وباقي المؤسسات الديموقراطية وحرية النشر والنقد الخ .. ولكن هل تغيرت نظرة أوروبا للإسلام ونحن على أعقاب الألفية الثالثة هذا ما نشك به وللأسف الشديد .