|
العدد الثاني--- نوفمبر/ تشرين الثاني 2003
حوارات ماركسية
الحوار المتمدن-العدد: 997 - 2004 / 10 / 25 - 13:38
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لغرض تفعيل الحوار ، منهجته، وتطويره، وفي سبيل بناء قوة لليسار الماركسي، تم الاتفاق على اصدار هذه النشرة. هيئة التحرير
العدد الثاني--- نوفمبر/ تشرين الثاني 2003 ما العمل؟ حول إعادة بناء اليسار الماركسي سلامة كيله بدا منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، وكأن اليسار الماركسي قد تلاشى، واختفت أفكاره وكل القيم التي كان يطرحها، بعدما كان قوة هامّة في الصراع الواقعي، وكان فاعلاً في نشر الفكر الاشتراكي والدفاع عن الاشتراكية، منذ تأسس بداية عشرينات القرن الماضي (برغم كل الخطايا التي ارتكبها منذ نهاية الثلاثينات فيما يتعلق بوعيه الواقع العربي. وخصوصاً فيما يتعلق بقضايا تجاوز التكوين الإقطاعي وطرق التطور، والمسألة القومية، ومنها القضية الفلسطينية..). وكذلك حينما «تجدّد» نهاية الستينات بنشوء «اليسار الجديد»، الحالم بتجاوز مشكلات الماركسية القديمة، وبلعب الدور ذاته الذي لعبته الماركسية الصينية والفيتنامية والكوبية، والجيفارية..الخ. هذا التلاشي لم يأت فجأة، فإذا كانت الحركة الماركسية القديمة (الأحزاب الشيوعية)، بمفاهيمها ونشاطها، تخبو منذ ستينات القرن الماضي، رغم محاولات «التجديد» التي طالت بعض أحزابها، فإن «اليسار الجديد» انطفأ سريعاً. وأشير هنا إلى بداية انحدار بدأ منذئذ، وجاء انهيار المنظومة الاشتراكية أعوام 1989 – 1991 ليكمله، مؤشراً على «نهاية الفعل»، وفاتحاً مسار تشتّت، وحالات ضياع وتساؤل وشك وكذلك «ارتداد»، رغم استمرار «أحزاب» و«تجمعات» و«قوى». ليبدو وكأن اليسار الماركسي قد انتهى وبهُتت أفكاره وتشوشت وتاه مناضلوه في صحارى العولمة، وأمواج اللبرلة. إذن، المسألة تتعلق بمشكلات قديمة، ربما نشأت مع نشوء اليسار الماركسي، وجعلته عاجزاً عن أن يصبح قوة فعل، أي قوة تغيير، وأن يبقى "في الصف الثاني"، أو على هامش الحركة الواقعية (رغم أهمية الدور الذي لعبه). مما جعل تلاشيه وتشوّش أفكاره، وبالتالي التشويش على الماركسية والاشتراكية، أمراً محتماً، خصوصاً مع صيرورة التحوّلات الواقعية، ونشوء تناقضات جديدة. ومن ثمّ مع انهيار «مثاله» الذي كان يستمد منه شرعية معينة، تدعّم وجوده الواقعي وتبقيه على «الخريطة السياسية»، وأقصد «التجربة الاشتراكية» التي كان وجودها يسهّل انتشار مفاهيم الاشتراكية، ويبسّط تلقيها، ويقوي الحركة الماركسية انطلاقاً من التعارض العالمي مع الرأسمالية. وبالتالي، حينما يجري البحث الآن في إعادة بناء اليسار الماركسي، وهذه مسألة ملحّة، من الضروري تلمس تلك المشكلات، والخروج بملخص تقييمي لهذا المسار، يسهم في توضيح مسار البناء الجديد. أن نبتدئ باستخلاصات عامة، تكون مفتاحاً لأية محاولة جديدة، لكن بعد توضيح السياق الواقعي الذي أسهم في تحقيق ذاك التلاشي، حيث ليس من الممكن أن نعزو التلاشي لمشكلات ذاتية فقط، رغم أهمية هذه المسألة، وأولويتها كذلك. وربما كانت هذه من أولى المسائل التي تحتاج إلى بحث للوصول إلى استخلاصات مركزية، خصوصاً فيما يتعلق بالحركة الماركسية القديمة. هنا يمكن الإشارة إلى المسائل التالية كاستخلاص لمسار ثلاثة أرباع القرن (1920 - ..) من العمل الماركسي العربي: 1) سنلمس، فيما يتعلق بمسار الحركة الماركسية القديمة (الأحزاب الشيوعية)، اختلالات في وعي الواقع العربي (فيما عدا استثناءات محدودة لم يكتب لها الهيمنة والسيادة)، تتمظهر في ثلاثة مستويات، الأول: يتعلق في الدور الذي كان على اليسار الماركسي أن يلعبه، قيادة الحركة الوطنية العامة أم دعم قيادة البرجوازية؟ ولقد هيمن تصوّر دعم قيادة البرجوازية على سياسات هذا اليسار، مما جرفه في أزمة التطور البرجوازي، وجعله ملحقاً لمشروع مجهض. والثاني: تشوّه الرؤية المتعلقة بالعامل القومي، سواء فيما يتعلق بالوحدة العربية، أو بالقضية الفلسطينية بعد نشوء الدولة الصهيونية سنة 1948.فقد امتازت بسيطرة العدمية القومية تحت شعار الأممية، وبالتالي إضعاف مقدرتها الجماهيرية، وتفتيت القوى التي كان يمكن أن توحدها. والثالث: يتعلق بفهم طبيعة الصراع الواقعي، بما هي مسألة حلّ مشكلة مجتمع زراعي (إقطاعي) متخلّف (رغم تغلغل بعض العلاقات الرأسمالية)، ينزع نحو التحديث والتصنيع. وبما أنها اعتبرت بان المرحلة هي مرحلة برجوازية فقد تجاهلت وضع الريف واهتمت بمطالب "عمالية"، ومهام "ديمقراطية"، وبالتالي فقد تخلت عن متابعة المشروع النهضوي العربي، الذي عجزت البرجوازية المتشكلة عن تحقيقه. لهذا حصرت برنامجها في مطالب "اقتصادية" و"ديمقراطية"، تتحقق عبر مطالبة برجوازية "يجب" أن تنتصر، مما جعلها ذيل لبرجوازية عاجزة وملحقة ببرنامج لا حياة له. وهذا ما فتح الأفق للأحزاب القومية "التي كانت اكثر راديكالية"، وكذلك فتح الأفق للفئات الوسطى الريفية عموماً من خلال الجيش، حيث لعبت الدور التغييري المحوري منذ ثورة 23 يوليو في مصر. ولقد نتجت هذه الاختلالات عن مسألة جوهرية تتعلق بطبيعة وعي الماركسية، والتزام "الماركسية السوفياتية" التي كانت حولّت الماركسية إلى "نص"، وأهملت "لبّها"، الذي هو منهجها (الجدل المادي). 2) ولقد كان انتصار الحركة القومية العربية في العديد من البلدان العربية، والخطوات التي قامت بتحقيقها، سواء بهدم النظام القديم (الإقطاعي)، أو الميل لبناء الصناعة والتحديث (التأميم، التخطيط، ضمان حقوق العمال والطبقات الشعبية نسبياً، مجانية التعليم..) قد أسهم في سلب الحركة الشيوعية شعاراتها وأهدافها، وغيّر الأرضية الطبقية والاجتماعية التي تأسست وفقها، وهدم كل طموحاتها بانتصار البرجوازية، وصيرورة الواقع «وفق منطق المادية التاريخية» الذي كان يؤشر إلى ضرورة تحقق «الثورة الديمقراطية البرجوازية». لهذا ما لبثت أن أعلنت بأن ما يتحقق في هذه البلدان هو الاشتراكية، فاندفعت للالتحاق بالأنظمة الجديدة (تحت شعار التحالف في جبهات، أو حتى الاندماج)، مما ربط مصيرها بمصير تلك النظم، وقلّص من تأثيرها الواقعي، ومن دورها الثقافي التنويري، كما تشوّه دفاعها عن الاشتراكية، نتيجة دفاعها عن الأنظمة القائمة انطلاقاً من أنها أنظمة اشتراكية (أو ذات توجه اشتراكي، أو تسير نحو الاشتراكية)، مما خبا ببريقها كحركة يسار، قبل أن يكمل انهيار النظم الاشتراكية على البقية الباقية من ذاك البريق، ويدفع بقطاعات منها إلى أحضان الليبرالية و"الديمقراطية" ، ويحوّلها إلى «جثث ميّتة». 3) وإذا كانت نهاية الستينات، بعد هزيمة حزيران 1967، وانكسار المدّ القومي، وبدء تفكك الحركة القومية وانهيار نظمها، قد شهدت نشوء محاولة لتجديد اليسار، بتبلور أحزاب ما أسمي «اليسار الجديد»، التي ولدت من رحم الحركة القومية بأحزابها المتعددة، والتي نزعت إلى الراديكالية وعملت على مراجعة العديد من شعارات وأفكار الحركة الشيوعية القديمة ومن شعارات وأفكار الحركة القومية كذلك، وأولت الجانب الإيديولوجي أهمية فائقة كونها تحاول «تحديد ذاتها» وتوضيح هويتها. فقد توضح بأن هذا المخاض أضعف من أن يؤسس يساراً جديداً حقيقياً. ليس نتيجة القمع الذي طاله من قبل الأنظمة (وخصوصاً القومية) فقط، بل كذلك، وكما توضّح، نتيجة العجز عن بلورة رؤية حقيقية للواقع العربي، سواء بالفشل في وعي عمق التغييرات التي أحدثها وصول الحركة القومية إلى السلطة في الدول التي وصلت فيها وفي الوطن العربي عموماً، أو بالفشل في وعي إشكالية المسألة القومية وموقعها في مجمل النضال العربي (ربما فيما عدا الموقف الواضح من القضية الفلسطينية، التي كانت العنصر المحوري في نشوء هذا اليسار، ولهذا اتخذ منها موقفاً راديكالياً عميقاً). وبالأساس بالفشل في وعي الماركسية وعياً علمياً يتجاوز كونها «نصّ»، إلى الانطلاق من كونها منهجية وأداة تحليل. وهو هنا حوّل الوضوح الأيديولوجي الذي كان يطالب به ويسعى لتحقيقه إلى مجرد «تعريف بالانتماء» إلى الماركسية اللينينية، وباستعارة أفكار ومفهومات من ماركس ولينين، تروتسكي وماو، جيفارا والحزب الشيوعي الفيتنامي.. الخ. لا تسمح بتأسيس منظومة متماسكة، على العكس تقود أحياناً إلى ميول «مغامرة»، و«طوباوية» (حرب التحرير الشعبية، والثورة الاشتراكية)، وبالتالي يجعلها تعيد إنتاج «المنطق النصّي» الذي حكم الحركة القديمة. وإذا كان قد بدأ بالتأكيد على ضرورة «الوضوح الأيديولوجي»، وبالتركيز على وعي الماركسية، فقد انساق سريعاً لـ «النضال العملي» و«خوض الصراع الطبقي» و«الممارسة»، قبل أن تنجز مهمتها الأيديولوجية. وقبل أن تعي الواقع وعياً حقيقياً، معتبرة بأن الثورة على الأبواب، وأن التغيير مسألة راهنة، وأننا على أعتاب ثورة اشتراكية راهنة. يجب أن تنجز اليوم لأن إنجازها غداً يعني تأخراً سوف يفشلها. بمعنى أنه عبّر عن نزق شبابي جامح، لم يلحظ الواقع ولا استطاع أن يفهم ممكناته. لهذا تهاوى خلال فترة وجيزة (نهاية الستينات إلى نهاية الثمانينات كحد أقصى لبعض أحزابه)، دون أن يترك إرثاً فكرياً مهماً (رغم كل الإسهامات التي قدمها ن ورغم أهمية بعضها) سوى إرث السجون والاعتقالات، وبعض من روح كفاحية ضرورية لأية حركة ماركسية. 4) وسنلمس هنا أن انكسار الحركة القومية العربية (عبر انهيار العديد من نظمها – مصر، السودان، الجزائر- وتخثر النظم الأخرى) قد فتح الأفق لنهوض أصولي شجعته ابتداءً «قوى الردة» ودعمته كهادم لليسار وللحركة القومية معاً، خصوصاً مع انهيار الحركة الشيوعية، وانهيار «اليسار الجديد»، وبالتالي «غروب» الأيديولوجيات الحديثة (الاشتراكية والقومية) وتراجع مواقعها، والشك في أهميتها وضرورتها وبالتالي دورها، مما أطلق «مارداً» استند إلى ذاك «الفراغ الأيديولوجي» من جهة، وإلى الفئات التي تهمشت بفعل التطور المتحقق خلال مرحلة المدّ القومي، أو بفعل تدمير هذا التطور، ما لبث أن أصبح «قوة الفعل الأولى»، وأيضاً قوة التدمير الأولى. والذي بدا أخيراً – عكس ما بدا لحظة نشوئه – وكأنه حامل مشروع الحرب ضد الرأسمالية العالمية (وإن تحت مسميات الغرب أو المسيحية واليهودية حسب التعبير الأصولي المستخدم) وبالتالي الوريث لحركة اليسار كلها، رغم كل الظلامية التي ينشرها (بفصم البشر على أساس ديني، والحط من المرأة، وتكبيل المجتمع بقيم شمولية غاية في التخلف. وبنشر الاستبداد وإقحامه بما هو شخصي..)، ورغم عدم امتلاكه لخيارات اقتصادية واجتماعية، تتجاوز الرأسمالية، أو تحلّ محلها، سوى خيار الدمار وتعميق التبعية للمراكز الإمبريالية، وتهديم القوى المنتجة، وبالتالي تهديم المجتمعات. وإذا كان الوطن العربي يعيش أكثر لحظاته عجزاً وأكثر لحظاته ميلاً للانفجار، في مواجهة أخطار «نكبة جديدة تطال المسألة الفلسطينية من جهة، وأخطار تغيير الجغرافيا السياسية بفعل السياسة الأمريكية المصمّمة على السيطرة والاحتلال من أجل الهيمنة على النفط والأسواق، والموقع الاستراتيجي، وتعزيز الوجود الصهيوني من جهة أخرى، فإن خيارات المواجهة تبدو هزيلة نتيجة هزال الحركة السياسية، وحركة اليسار الماركسي خصوصاً. إننا نعيش مرحلة المدّ الأصولي المتحوّل إلى قوة حرب ضد «الإمبريالية»، في الوقت الذي نشهد تلاشي اليسار الماركسي وتفكك قواه وأفول فعله. رغم ذلك سيبدو أن الخيار المطروح هو الخيار بين استمرار هذا المدّ الأصولي، وتحوّله إلى قوة الفعل (والتدمير) الأولى، وبالتالي استمرار العجز عن تحقيق المواجهة مع الإمبريالية والوجود الصهيوني، والفشل في تحقيق التطور، والغرق في حروب تدمير بربرية. أو إعادة "لملمة" اليسار الماركسي، وإعادة بنائه كقوة حرب ضد النمط الرأسمالي العالمي، وضد سياسات زعيمته الدولة الأمريكية. وكقوة تغيير داخلي (عربي) تهدف إلى تحقيق التطور والتهيئة للانتقال إلى الاشتراكية. وبهذا فإن إعادة بناء اليسار الماركسي مسألة ذات ضرورة قصوى، لكي يدفع بالتحولات التي تجري في «الشارع العربي»، وحركة التسييس التي تطال قطاعات متسعة. ويؤسس لتحقيق تغييرات عميقة، تعيد تكوين الواقع العربي بما يحقق طموحات طبقاته الفقيرة والمضطهدة، ويحقق طموح الأمة بمجملها. إن إعادة بناء اليسار الماركسي هي الخطوة الضرورية، إذن، من اجل تجاوز كارثة الانهيار والتفكيك والخضوع. كارثة الاحتلال الجديد، والسيطرة على النفط والأسواق والمصائر وتحويل الدولة الصهيونية إلى «إمبريالية فرعية» مهيمنة. وسنلمس بأن إعادة البناء هذه تفترض مقومات معينة يمكن إجمالها في النقاط التالية: أولاً: انطلاقاً من تلخيصنا السابق لأزمة اليسار الماركسي، يمكن التأكيد أولاً، وبشكل حاسم، على ضرورة وعي الماركسية بما هي منهجية، وأقصد هنا الجدلي المادي، كونه "لب" الماركسية ومحور منظومتها، يعين على تحليل الواقع الملموس تحليلاً علمياً، ويؤسس لوعي آفاق تغييره، ورسم صورة مستقبله. وهو وحده الذي يجنبنا الوقوع في «المنطق النصّي» عبر تحويل الماركسية، كل ما كتبه ماركس وانجلز ولينين، وربما تروتسكي أو ستالين، أو ما الخ.. إلى «نصّ مقدّس» يقاس الواقع عليه، كما كان حال الماركسية القديمة، والماركسية السوفياتية عموماً. وكذلك الماركسيات الأخرى (الماوية، التروتسكية). وثانياً: العمل، انطلاقاً من امتلاك المنهجية الماركسية، على وعي الواقع، العالمي والعربي، وعي التكوين الرأسمالي العالمي وأثره في الأطراف، لكي يكون ممكناً تحديد المهمات التي يسعى اليسار الماركسي لتحقيقها، من أجل إنجاز الاستقلال والتطور، إننا إزاء البحث في الواقع لوعي مشكلاته، واكتشاف صيرورته التي وحدها تحدد الدور المناط باليسار الماركسي. وثالثاً: تحديد آليات التغيير في مواجهة "الخارج" (أي الإمبريالية والوجود الصهيوني)، و"الداخل" (الطبقة المسيطرة)، وكذلك تلمّس تنوع أشكال النضال وتعددها، ولمس تعقيد المهام وتشابكها. هذه المسائل تفرض إيلاء الحقل النظري أهمية خاصة فهو المدخل لإعادة بناء الحركة الماركسية والضرورة التي تجعل هذا البناء قادراً على التحوّل إلى قوة فعل وقوة تغيير، وحركة جماهيرية فاعلة، دون تجاهل كل ممكنات النشاط العملي. ولأجل ذلك، من اجل إعادة بناء اليسار الماركسي، يمكن إبداء ملاحظات تكون أساساً لنشوء جديد، أو مقدمة لحوار ضروري. · العودة إلى ماركس كونه مؤسس المنهجية الماركسية (الجدل المادي)، ومكتشف قوانين الماركسية الأساسية، ومن ثم يمكن الإفادة من كل الآخرين، وخصوصاً ممن أضافوا قوانين أو تصورات صحيحة. فالماركسية هي بالأساس الجدل المادي، قبل أن تكون رؤى وتصورات و"إيديولوجيا" و"نصوص". إذن أنا أدعو إلى العودة للماركسية كمنهجية، وبالتالي "التخلي" عنها كـ "نصوص" وأيديولوجيا. لأن ذلك وحده هو ما يسمح لنا بوعي الواقع، وعي الراهن في صيرورته وتحولاته. أما "النصوص" والأيديولوجيا فتستعيد لنا ماضٍ ما فقط، وبالتالي تخفي الراهن، وتضيّع كل التحولات. لهذا لا بدّ أولاً من استيعاب المنهجية الماركسية لأنها وحدها من سيعيننا على وعي الواقع ووعي صيرورة تحولاته ودورنا فيها. · تجاوز التشتت والانقسام اللذين سادا سابقاً، واللذين قاما على أساس "أيديولوجي"، أو انطلاقاً من اختلافات حول قضايا "نظرية"، واعتبار المهمات التي يطرحها الواقع هي أساس التوّحد أو الاختلاف، إن وعي الواقع والمهمات التي يطرحها هي التي تؤسس لنشوء حركة ماركسية موحّدة، بغض النظر عن الاختلافات في القضايا الأخرى، وهذا يفترض تجاوز انقسامات الحركة الماركسية، وتشتتها، وتجاوز التمايز "العصبوي" و"الفئوي"، أو الناتج عن اتخاذ هذا المفكر الماركسي أو ذاك مرجعاً وحيداً. وكذلك الناتج عن الانقسامات القديمة للحركة الماركسية العالمية. · أن يبلور اليسار الماركسي تصوره "الاستراتيجي" فيما يتعلق بالمشكلات التي يعيشها العرب، والتي يمثل حلها جوهر عملية التغيير الضرورية لتحقيق التطور. إننا إزاء مشكلات التجزئة والوجود الصهيوني والهيمنة الإمبريالية. مشكلات التطور الاقتصادي (المتمحورة حول التصنيع، والمنطلقة من فك الارتباط) وتطوير الوضع المعيشي للطبقة العاملة والطبقات الفقيرة الأخرى، والتحديث والتعليم..، وتكريس سلطة ديمقراطية تمثل المنتجين.. الخ. · التأكيد على مواجهة النمط الرأسمالي العالمي، وصيغته الراهنة (العولمة)، والعمل على توحيد القوى عالمياً لمواجهته والتصدي لأخطار العولمة ولحروبها المدمّرة، والنضال ضد الشركات الاحتكارية متعدية القومية، ولميولها من أجل النهب والسيطرة، وإعادة "الاستعمار"، إننا بحاجة لحركة أممية قادرة على تحشيد القوى الاشتراكية، وتنظيم نشاطها لكي تصبح قادرة على مواجهة وحشية الرأسمالية وبر بريتها. من أجل مستقبل متجدد للاشتراكية. · تجاوز "الانغلاق" اليساري في إطار الفئات الوسطى، والسعي لأن تعبّر الرؤى المطروحة عن مصالح الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وبالتالي العمل من اجل تنظيم صفوفها، وتطوير فعاليتها، وتأكيد نشاطها الثوري فالصراع هو صراع الطبقات، والفعالية هي فعالية الطبقات، وانطلاقاً من ذلك العمل للوصول إلى الأجيال الجديدة الشابة. · أساس كل ذلك هو الحوار، الحوار بين مختلف تيارات اليسار الماركسي، من اجل بناء رؤيته "الموَّحدة"، مع التأكيد على الاختلاف والتنوع والتعدد، وبالتالي التأكيد على الديمقراطية كقيمة ضرورية، وكأساس لكل عمل مستقبلي، الحوار هو نقطة البدء. · بعد كل ذلك، هل يستطيع اليسار الماركسي أن يتجدّد؟ هذا هو الرهان الأساسي، وهو الهدف الراهن، والواجب الذي يجب على كل الماركسيين البدء به. 1"العولمة" أزمة النظام الرأسمالي أم مرحلة جديدة من مراحل تطوره ؟ صبر درويش تشكل ظاهرة العولمة حديث الساعة فهي المحور الأساسي الذي راحت الأقلام تشحذ هممها محاولة كشف هذه الظاهرة وفهمها كمحاولة لا تفتأ تؤكد نهم الإنسان نحو المعرفة والكشف عن كل جديد . وفي هذا السياق راحت التيارات الفكرية تتضارب أحياناً وتتقاطع أحياناً وتتناقض في كثير من الأحيان , وهذا لا يفاجئنا , فالصراع في الحقل المعرفي كما هو في الحقل الاجتماعي هو في نهاية التحليل صراع طبقي يجد حقل تحققه هنا أو هناك ولأننا لسنا مدعوين للاسترسال في عرض وجهات نظر هذه التيارات الفكرية , ولأننا أيضاً لا ندعي القبض ـ معرفيأً ـ على إشكالية ظاهرة العولمة . أقول إذاً أننا سوف نكتفي بطرح جملة من التساؤلات نسعى من خلالها للمشاركة في الحوار الدائر الآن حول هذه الإشكالية موضوع البحث . في هذا المدخل السريع علي أن أوضح بعض النقاط : أولاً ـ نرفض منذ البدء التعريف والتعريفات فهي ـ أي التعريفات ـ لا تعدو كونها فكرة جامدة تحيل إلى المدرسية الغير مجدية هنا . إذاً نحن مع التحديد ـ التحديدات , التعيينات مع بسط المفهوم " أنجلس " , كما أننا ضد الاختزالات الاقتصادوية المبسترة التي لا ترى الظاهرة سوى من منظور " الاقتصاد المحض " . من هذه النقطة ننطلق بالقول أن انطلاقنا سوف يكون من أرض المادية التاريخية الرحب , حيث عبر الأدوات المعرفية التي يتيحها لنا هذا الحقل , يمكن لنا أن نرصد ظاهرة العولمة كأحد أشكال تجليات النظام الرأسمالي وذلك في سياق تطوره التاريخي . أما النقطة الثانية التي أود توضيحها , هي رغبتي في قراءة ظاهرة العولمة قراءة نقدية وذلك عبر نقد أطروحة د ـ صادق جلال العظم " ما العولمة "(1) , وذلك تأكيداً منا على ما ذكرنا أي أننا في صدد المشاركة في الحوار فلا ندعي تقديم إجابات ناجزة و منتهية . ا ـ ما العولمة : من هذا السؤال ـ الإشكالية ـ ينطلق العظم مؤكداً منذ البدء أنه لم يأتي ليهجو العولمة أو ليدفنها . بل هاجسه الأساسي هو فهم هذه الظاهرة عبر محاولة قوننتها معرفياً . كما يؤكد العظم منذ البدء انطلاقه من أرض الفكر الماركسي والاقتصاد السياسي الماركسي تحديداً . هاتان النقطتان تشكلان لحظة البدء فإلى أي مدى كان العظم موفقاً بالالتزام بما ألزم نفسه به . ؟ فيما يلي سوف نحاول الإجابة على السؤال الذي طرحه العظم : [ أي جانب من جوانب حالة الاقتصاد الرأسمالي العالمي هذه يبرز مصطلح العولمة , وأي ناحية من نواحيها يؤكد . ] " صــ92 " . يعود العظم إلى التقسيم الكلاسيكي في علم الاقتصاد السياسي وفي الاقتصاد السياسي الماركسي بصورة خاصة . صــ92 . فيقسم نمط الإنتاج الرأسمالي إلى قسمين : دائرة التبادل أولاً . ودائرة الإنتاج ثانياً . ـ أما دائرة التبادل فتضم [ عمليات توزيع الثروة التي تم إنتاجها وآليات تداولها و تبادلها واستهلاكها والتصرف بها وهي تشكل بذلك سطح نمط الإنتاج الرأسمالي ومظهره (....) . ـ أما دائرة الإنتاج فتشكل عمق نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج التي تتم عمليات الإنتاج في ظلها ووفقاً لشروطها .. ] " صــ 92 " . ويستنتج من هذا التقسيم أول تعريفاته للعولمة [ رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره قد تمت ] " صــ 93 " . ويمكن أيضاً أن نورد بعض التعريفات الأخرى التي يؤكد العظم من خلالها تحديده لهذه الظاهرة فهو يقول في مكان آخر : [ العولمة : هي الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتجارة والسوق والاستخراج إلى عالمية دائرة الإنتاج ذاتها , أي إلى حقبة ثالثة متميزة تضاف إلى مرحلتي الاستعمار التجاري الأولى ومرحلة الإمبريالية الكلاسيكية اللاحقة ... ] " صــ 98 " . أو [ العولمة : هي صيرورة إضافية تتجاوزه أي تتجاوز الشكل القديم للرأسمالية أي التبدل باتجاه عالمية الإنتاج ودائرته وعلاقاته .. ] " صــ 118 " . وأخيراً يمكن أن نقول أن العولمة [ هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء , في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل الغير متكافئ (...)العولمة هي تسليع كل شيء ( يا للإكتشاف ) بصورة أو بأخرى وفي كل مكان بما في ذلك أشكال الإنتاج غير الرأسمالية وما قبل الرأسمالية وتلك التي كانت محاذية أو موازية للأشكال الرأسمالية . إنها أممية رأس المال على الأصعدة كلها وعلى المستويات كافة السطحية منها والعميقة ...] " صــ 125 " . ويطرح العظم السؤال : ما هو الدافع الجوهري الذي دفع بالنظام الرأسمالي العالمي للانتقال من عالمية دائرة التبادل إلى عالمية دائرة الإنتاج ؟ يجيب العظم [ لأن عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق بلغت حد الإشباع بوصولها إلى أقصى حدود التوسع الأفقي الممكنة وشمولها مجتمعات الكرة الأرضية كلها (....) . كان لا بد لحركية نمط الإنتاج الرأسمالي وديناميكيته من أن تفتح أفقاً جديداً لنفسها وأن تتجاوز حدوداً بدت ثابتة سابقاً ... ] " صــ 93 " إذن يمكن أن نميز مما سبق عدة نقاط قام العظم بطرحها , تتبلور على الشكل التالي : أولاً : رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى السطح . وعمق نمط الإنتاج الرأسمالي بالمعنى الذي يطرحه العظم هو الإنتاج . ثانياً : يحقب العظم مراحل تطور النظام الرأسمالي إلى : حقبة الاستعمار التجاري أولاً وحقبة الامبريالية ثانياً ومرحلة العولمة ثالثاً . وفي هذا التحديد الأخير يتضح أن العظم يحدد العولمة كمرحلة جديدة من مراحل تطور النظام الرأسمالي العالمي . هذه المرحلة التي سوف يطلق عليها العظم الامبريالية العليا أو السوبر إمبريالية . " صــ 127 " وهنا نتوقف قليلاً لنعيد طرح السؤال على العظم : هل العولمة هي أزمة النظام الرأسمالي العالمي أم هي مرحلة جديدة من مراحل تطوره؟ يتضح مما طرحه العظم أن العولمة هي في ذات الوقت الذي تشكل فيه مرحلة جديدة من مراحل تطور النظام ( سوبر إمبريالية ) تشكل أيضاً أزمة يعيشها هذا الأخير . وتتمثل هذه الأزمة بأزمة فيض الإنتاج أو على حد تعبير العظم أزمة وصول عالمية دائرة التبادل والتوزيع ... إلى حد الإشباع . ويتضح لنا مما سبق الشكل الاختزالي الذي يقوم عليه تحليل العظم . وتخفيض هذا التحليل إلى درجة اعتبار أن الدينامية الحقيقية التي دفعت النظام الرأسمالي إلى التوسع وإعادة اقتسام العالم هي وصول دائرة التبادل ... حد الإشباع . واعتبار هذا السبب هو السبب الحاسم . بيد أن الإشكالية ـ من وجهة نظرنا ــ تبدأ لدى العظم عندما يقوم هذا الأخير بالخلط بين الظاهرة وسطح الظاهرة . عندما يغفل عن التمييز بين ما هو جوهري في النظام الرأسمالي و بين ما هو عرضي. بين المتغيرات الكيفية والمتغيرات الكمية . وكي نبرز وجهة نظرنا حول هذه الإشكالية أقترح استبدال أسلوب " ومنهج " العظم الذي يأخذ بفينامينولوجيا العولمة . وذلك كي ندفع الحوار خطوة إلى الأمام وننطلق نحو تشخيص أكثر عيانية وذلك بالابتعاد عن الاقتصاد المحض الذي يعتمده العظم كما أسلفنا . في سياق محاولتنا التمييز فيما هو عرضي وما هو جوهري في النظام الرأسمالي أقترح الانطلاق من ثلاث نقاط أجدها حاسمة : ـ النقطة الأولى وهي " الاستقطاب " : وهذا الاستقطاب الذي يشكل سمة محايثة للنظام الرأسمالي والمولد دوماً للتفاوت على صعيد عالمي وهذا ما أكده ماركس والتقطه لينين وأعاد إنتاجه سمير أمين فيما بعد . ولو تقفينا المراحل التي راح يتطور عبرها النظام الرأسمالي لوجدنا أن هذه السمة تشكل أهم السمات الجوهرية للنظام الرأسمالي التي تنتج على الدوام وذلك على قاعدة التركيز والتمركز شعوباً وتشكيلات بأكملها فائضة عن الحاجة , فإذا كانت عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج ترمي في كل دورة إنتاجية المزيد من العاطلين عن العمل والفائضين عن الحاجة فإن النظام الرأسمالي ككل راح يرمي شعوباً بأكملها خارج الفاعلية الاقتصادية الاجتماعية وهذا بالضبط ما يمكن أن ندعوه بالتهميش . ـ أما السمة الثانية التي يمكن الانطلاق منها فهي " الاستلاب " : الاستلاب الاقتصادي تحديداً وما ينتجه من اغتراب الإنسان عن " منتوج هو منتوجه أصلاً " وليس الاستلاب بالمعنى العام بالظاهرة الجديدة بل قل أنه قديم قدم الطبقات الاجتماعية نفسها بيد أن أشكال الاستلاب بدأت تأخذ أشكالاً وتجليات مختلفة باختلاف أنماط الإنتاج . وفي ظل النظام الرأسمالي يأخذ الاستلاب شكلاً أكثر ضراوة وقتامة حيث يميل النظام ــ وذلك انطلاقاً من فاعليته الداخلية نفسها ــ إلى تشيئ كل شئ فكل شئ يصبح خاضعاً لمنطق الربحية وهذا ما يمكن أن ندعوه " بالتسليع " . ـ النقطة الثالثة فهي ـ إشكالية البيئةـ ولدراسة الآثار البنيوية التي يخلفها النظام الرأسمالي ورائه على البيئة سوف نناقش المسألة بأكثر تفصيل في مكان آخر . تشكل النقاط الثلاثة السابقة أحد أهم السمات الجوهرية للنظام الرأسمالي التي تفعل فعلها في إطار قانون القيمة المعولم الذي يعتبر القاعدة البنيوية التي عبره يمكن فهم الأشكال التي راحت تتجلى عبرها ممارسات النظام العالمي وآثارها البنيوية على التكوينات الاجتماعية . وفي هذا السياق يحاول الخطاب الرأسمالي إغماض العين عن الحقيقة وتمييع ما هو جوهري وذلك من خلال إبراز الثانوي . فهذا الخطاب الذي راح يبشر بتثوير لا سابق له لقوى الإنتاج لم يقم سوى على أساس النمو اللامتكافئ بين البلدان المتخلفة والتابعة من جهة وبلدان المركز الرأسمالي من جهة أخرى . فقد أثبت النظام الرأسمالي مجدداً بأنه نظام لا يقوم على التجانس وإنما على الاستقطاب . ومن هذا الموقع بالتحديد تم فرض نظام من الإنتاج المشوه على تكويناتنا الاجتماعية المتخلفة نمطاً من الإنتاج يقوم على أساس تكييف اقتصادات هذه التشكيلات بما يخدم حركة تراكم رأس المال في المركز . وما يدعوه العظم تعميق الرأسمالية في الأطراف , هو في حقيقة الأمر لا يعدو كونه رأسمالية تابعة ومشوهة تعمل أبداً على خدمة تراكم رأس المال العالمي . يقول بول بيرك(2) , في كتابه هل العالم الثالث في طريق مسدود : [ ... لقد كانت ثلاث أرباع الإنسانية التي بقيت منعزلة عن الثورة الصناعية , تعاني من آثار هذه الثورة غير المباشرة وبصورة خاصة بسبب الاستعمار الذي كان يمتد تدريجياً إلى العالم الثالث بكامله على وجه التقريب ] ..[ وبالتالي كان يصبح فارق مستوى المعيشة بين زمرتي البلاد هذه بالغ الأهمية حتى لأمسى فضيحة . فالدخل المتوسط الفردي في العالم الثالث كان حوالي " 1950 " أدنى بتسعة أضعاف من المعدل المتوسط للبلاد المتقدمة وهذا الفارق بحدود 1 إلى 27 بين آسيا والولايات المتحدة . ] . هذا وتتعمق هذه الهوة على مستوى متوسط دخل الفرد لتصل في المرحلة الراهنة من 1 إلى 60 وإذا أخذنا بعين الاعتبار ظاهرة المركز والأطراف باعتبارها ظاهرة سابقة على النظام الرأسمالي لوجدنا أن سكان المركز في النظام ما قبل رأسمالي كانت تشكل 80% من سكان الكرة الأرضية بينما لا تشكل التكوينات الطرفية سوى 20% بينما تنقلب المعادلة في ظل النظام الرأسمالي ليصبح سكان المركز لا تتجاوز نسبتهم 20% .(3) ومن هنا نلاحظ أن ما يراه العظم تثوير في وسائل الإنتاج وحقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء ( يا للتعبير المهذب ) ليس سوى إعادة تطويع و تكييف اقتصادات البلدان المتخلفة " التابعة" بما يتناسب مع الشكل الجديد للتوسع الرأسمالي . فعلى قاعدة التحول العميق للإنسانية جمعاء أصبح نصيب متوسط دخل الفرد في البلدان المتقدمة والتي عددها 45 دولة يقدر بـ 2400 دولار سنوياً . مقابل 1280 دولار لبلدان العالم الثاني والتي يبلغ عددها 94 دولة و274 دولار لمجموعة دول العالم الثالث . وهذا يعني أن نصيب الفرد من المجموعة الأولي سوف يزيد 19 مرة عن مثيله من المجموعة الثانية وحولي 87 مرة عن مثيله في المجموعة الثالثـة.(4) وهذه الأرقام التي أخذت تعكس الوحشية التي راح يتسم بها النظام . كما أنها راحت تكذب ذلك الخطاب اللبرالي العفن الذي راح يطنطن به بروفيسورات خدم البرجوازية أقول وللأسف أن العظم لم يراها أو أنه رآها وأغمض العين عنها . فالمرحلة الراهنة راحت تشهد تركزاً رهيباً لرؤوس الأموال . هذا التركز الذي سوف ينتج ما بات يسمى بالخمس الثري . ويتضح أن هذه التشابكات الاقتصادية على صعيد عالمي لا تزيد ولا تنقص عن كونها صراعاً على توزيع الدخل والثروة أي أنها ليست بالظاهرة الجديدة , بل هي الصراع القديم الجديد قدم النظام الرأسمالي نفسه . ولا يفتأ العظم يعدنا بأن يكون ماركسياً مستخدماً الأدوات الماركسية لكنه لا يلبث أن يكتفي بطرح نصف الحقيقة دون دفع الأمور إلى نهايتها . ففيما يخص الإنتاج الذي تحدث عنه العظم في معرض دراسته , فإنتاج ماذا تحديداً ؟ إن للباحث الحق في اختيار مفاهيمه وحتى تعريفها , بيد أن العظم لا يعرف من مفاهيمه سوى " سطحها " فالإنتاج كما يراه العظم هو " عمق نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج ... " صــ 92 ويكتفي الباحث بهذا القدر فيبقي المفهوم ضبابياً دون تحديد دقيق . لقد قام صاحب رأس المال بتقسيم الإنتاج ـ وذلك من نفس الموقع الذي يستشهد به العظم ـ إلى قطاعينA ـ Bأما قطاع الإنتاج A فهو مخصص لإنتاج وسائل الإنتاج . أما قطاع الإنتاج B فهو مخصص لإنتاج وسائل الاستهلاك . وبشكل رائع وعبقري يشرح صاحب رأس المال آلية تحرك وتمفصل كلا القطاعين . (5) وبالعودة لما ينظر له العظم نلاحظ أن الرأسمالية في مرحلة اللبرالية الكلاسيكية اكتفت بتصدير ـ إن جاز التعبير ـ القطاع B أي أنها سمحت لدول الأطراف بالتصنيع ولكن الصناعات الاستهلاكية الخفيفة الصناعات التحويلية ...الخ ولم تسمح بإنتاج وسائل الإنتاج فأبقتها في إطار احتكاراتها . وهذا بالضبط ما يؤكد أن الرأسمالية لا تميل إلى التجانس . ولكن إذا حدث وتم - وقد تم فعلاً ـ أن تصدر المراكز بعض الصناعات الثقيلة إلى الأطراف وحتى وإن كانت صناعة من نوع صناعة وسائل الإنتاج ( كما في البرازيل ) فلا تعدو أن تكون هذه الصناعات المصدرة صناعات " قذرة " تجد شرط وجودها في الأطراف هذا بينما تقوم الرأسمالية ـ وفي المرحلة الراهنة تحديداً ـ على احتكار الصناعات الأساسية . هذا النموذج من الاحتكار الذي يعبر عن الأشكال الجديدة التي تبلور وتعكس وسائل " نيو " في السيطرة على الأطراف والتي سوف يطلق عليها سمير أمين فيما بعد بالاحتكارات الخمسة . (6) فهل يرى العظم تغيرات جذرية " كيفية " للتوجه التاريخي للنظام الرأسمالي وتحديداً في المرحلة التي يطلق عليها نقلاً عن كاوتسكي بــ " السوبر إمبريالية " ؟؟؟ لقد لاحظنا فيما سبق الحالة الضبابية التي تحيط بدراسة العظم وذلك ناتج عن عدم الدقة العلمية في استخلاص النتائج . مما أدى إلى انزلاق العظم إلى مواقع الخصم المغرية أساساً . وكأن بالعظم يبحث عن التناقض في المفاهيم وليس بين العلاقات المادية ! والباحث يبدأ بقناعة ـ يبدو أنها أساسية ـ يفترض بها أن تكون نتيجة للتحليل وليس نقطة البدء بها ! فالعظم ـ على سبيل المثال ـ يقرر في سطور محدودة دحض أطروحات عدد من كبار المفكرين أمثال ( لينين , سمير أمين , رمزي زكي , روزا لوكسمبورغ .... ) حيث يقوم من أجل أن ينجح هذا الدحض باتباع أسلوب انتقائي ,يقوم على تجريد الملاحظة تجريداً قسرياً " غير علمي " حيث يتم فصل الظاهرة عن شرطها الموضوعي وعن سياقها التاريخي , فتتشوه الفكرة بأن تفصل عن جسدها فيتم بذلك إثبات ـ قسراً ـ ما يراد إثباته وعلى الرغم من الوعد الذي قطعه علينا العظم بالتقيد بالمنهج العلمي في التحليل إلا أنه لا يلبث أن يستخدم أسلوباً يتقاطع في كثير من تفاصيله مع باحثي علم الاجتماع الذاتي . فالعظم ينطلق من تساؤلات تبدو بريئة أما الإجابات عنها فهي الاستراتيجية المقترحة من قبله " للاندماج بالنظام العالمي " وتتبلور تساؤلات العظم بالشكل التالي: ( لماذا لا يتم بناء قاعدة إنتاجية صناعية ثابتة وديناميكية ؟ لماذا لا يتم تحقيق مستوى جيد ومعقول من التقدم العلمي والبحثي والتطويري ..؟ لماذا لا يتم تخفيفه "! " التبعية التقليدية وحيدة الجانب في المركز إلى أقصى حد ممكن ؟ لماذا لا يتم نسج علاقات " تبعية متبادلة " جديدة مع أكبر عدد من البلدان الطرفية الأخرى ؟ لماذا لا يتم اعتماد " كمية " لا بأس بها من الديموقراطية " ! " في الحياة السياسية للبلد المعني ؟؟ ونحن نتساءل بدورنا : ( لماذا النظام الرأسمالي لا يحقق الرفاه والعدالة الاجتماعية ؟! لماذا النظام الرأسمالي يعمد إلى الحفاظ على تخلف التشكيلات الطرفية وتكريس هذا التخلف ؟ ولماذا : ( الطرق التي تساعد على إنتاج فضل القيمة تنشط كذلك التراكم وكل توسيع في هذا الأخير يستدعي بالضرورة الأولى ) (7) . ولماذا ( ينجم عن ذلك أن وضع العامل يجب أن يتفاقم بقدر ما يتراكم رأس المال مهما يكن معدل الأجور مرتفعاً أو منخفضاً. ولماذا ( هذا القانون يقيم تلازماً محتوماً بين تراكم رأس المال وتراكم البؤس بحيث أن تراكم الثروة في أحد القطبين , يعادل تراكم البؤس في الفقر والجهل ....الخ في القطب المقابل في جانب الطبقة التي تنتج رأس المال نفسه ؟ ) . لماذا العظم أخيراً لا يقرأ الوقائع بدقة علمية بحيث يمكن له أن يستنتج ويجيب عن كل تلك التساؤلات( الشفافة ). حيث يمكن عندها أن يكتشف أن النظام الرأسمالي لا يميل إلى التجانس وإنما إلى الاستقطاب . وأن هذا النظام بحكم مفاعيله الداخلية نفسها يقوم بانتهاك الإنسانية والبيئة معاً ؟! عندما يورد العظم مثال النمور الآسيوية لماذا لا يقوم باستعراض دقيق لواقع المعجزات الآسيوية تلك ومن ثم يقوم بتحليل هذه المعطيات واستخلاص نتائج من هذه التجربة ؟! حيث يكتفي العظم بذكر أن " التجارة في هذه البلدان تأخذ شكل تبادل السلع الجاهزة والبضائع المصنعة عالية الجودة " صــ 122 ومن هنا يستخلص استنتاجه الذي يقرر نجاح هذه البلدان عالية التقدم في التراتبية العالمية حيث استطاعت هذه البلدان أن تنشئ قاعدة إنتاجية متطورة على حد تعبيره . ومن هنا تكون هذه البلدان هي النموذج الذي يختاره العظم لإثبات أطروحته إذ يتم في هذه البلدان تعميم الإنتاج , أي الانتقال من دائرة التبادل التقليدية إلى دائرة الإنتاج " الجديدة " . وفي هذا السياق وفي ضوء ما تقدم ينقلب السحر على الساحر . فما يحاول العظم إثباته يتحول إلى سلاح موجه ضد أطروحته تماماً . إذ أن المعجزات الآسيوية التي راح يهلل لها ناشطوا صندوق البنك الدولي على أنها نماذج مثالية لا بد من الاحتذاء بها . سوف تنهار بين عشية وضحاها . إذ ستبقى أزمة عام 1997 من أسوأ الأزمات التي تمر على هذه البلدان . إذ أنها ( أعطت درساً قاسياً عن مخاطر العولمة بالنسبة للبلدان النامية وسرعة اندماجها في السوق العالمية , الذي تسيطر عليه الشركات العملاقة عابرة القوميات والذي يسوده عدم الاستقرار وحمى المضاربات التي لا تعبأ بأية قيم أخلاقية أو سياسية أو حضارية سوى جشعها اللامحدود وركضها وراء الربح ) . (8) إذ ما لبثت هذه المعجزات أن انهارت اقتصادياً بنفس السرعة التي صعدت بها أو ربما بسرعة أكبر وكانت هذه نتيجة طبيعية لتطبيق وصفة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي . أي بمعنى آخر كانت نتيجة طبيعية لعدم النجاح في السيطرة على شروط التراكم وعدم النجاح في عملية فك الارتباط . هذه هي النماذج التي يعتمدها العظم . تلك النماذج التي راحت تثبت عدم صحة ما كان يدعو له منظرو صندوق النقد البنك الدولي سابقاً وما يدعو إليه العظم لاحقاً . بعد عرض النموذج الآسيوي الذي يتخذه العظم مثالاً . ينتقل للتساؤل " عن إمكانية بقاء التنمية مستحيلة لو أعدنا تفسير فكرة فك الارتباط بوضع مقاييس أكثر نسبية وواقعية " ومن ثم ينتقل من التساؤل ـ مباشرة ـ إلى الجزم بعدم فاعلية فكرة فك الارتباط ( لاحظوا " فكرة " فك الارتباط ) حيث يتابع في نفس السياق هجومه على مدرسة التبعية وعلى د . سمير أمين , وخلال أسطر معدودة يعلن العظم انهيار هذه المدرسة ودحض أطروحة أمين. ويتساءل عن أي معنى استراتيجي أو أية أهمية عملية أو أي مدلول نظري في المرحلة الراهنة حول فكرة القطع أو فك الارتباط التي طرحها أمين . صــ121 وفي هذا السياق يتابع العظم عرض وصاياه العشرة فينصح " بإنجاز قاعدة إنتاجية صناعية " .. " وتحقيق مستوى جيد ومعقول من التقدم العلمي ... تخفيف علاقات التبعية التقليدية ... صــ 122 ولكن كيف للبلدان المتخلفة أن تحقق هذه الروشيتة ؟ يجيب العظم : احتذوا حذو النمور الآسيوية " وتحديداً بعد أن بنت هذه النمور آنفة الذكر قاعدة إنتاجية متقدمة مكنتها من المنافسة والتقدم في التراتبية العالمية " . صــ123 ـ وكنتيجة طبيعية للشكل الذي ينتهجه العظم في تحليله ظاهرة العولمة , فقد توصل إلى استنتاج مفاده [ أن العولمة لا تساوي الفوضى والنظام ككل لا يعني الفوضى وليس محكوماً بالفوضى وحدها بالتأكيد (صــ197 ) . أما بالنسبة لبعض عناصر الفوضى والتناقض والتضارب . فهي من الجوانب الطبيعية التي تسم كل نظام " تسارعت حركيته وتكثفت ديناميكيته " ودون أن يعني ذلك أن الفوضى على وشك التهامه أو تدميره . صــ179] نحن هنا أمام خيارين . إما أن العظم لم يعي المقصود بمفهوم فك الارتباط , وبذلك تم تأويل المفهوم بما ينسجم مع استنتاجاته . وأما أن العظم لم يقم بدراسة " الترسانة " المعرفية التي قام أمين ببنائها . وهنا تكون المشكلة أكبر . ويشترك مع السيد العظم في هذا الفهم الخاطئ والمثير للاستغراب الصديق نايف سلوم . حيث لا أدري أين اكتشف هذا الأخير التصور التجاري للنظام الرأسمالي الذي يعتمده أمين . وهذا ما يثير استغراب أمين نفسه بالنسبة للعظم حيث يتساءل : [ كأنني لم أضف شيئاً على ( التراكم على صعيد عالمي ) الذي ترجع كتابته إلى عقد الخمسينات ! وكأن العظم تجاهل كتاباتي منذ عقدين! (9) ودفعاً للالتباس , ودفعاً بالحوار خطوة إلى الأمام . ارتأينا أنه لا بد من تثبيت مشروع أمين وذلك بشكل سريع . حيث يقوم أمين من خلال هذا المشروع , بتحديد ملامح المهام الملقاة على جدول أعمال المرحلة الراهنة ومن ثم يقوم بتثبيت استنتاجاته التي تتمحور حول محاولة رسم استراتيجية تمكن من مواجهة الهجمة المستشرسة لرأس المال المعولم . فكيف يصيغ أمين مشروعه , وكيف يحدد أشكال الفوضى المرافقة أو قل الملازمة للنظام الرأسمالي العالمي . وأخيراً كيف يصل إلى تلك النتيجة التي مفادها أن البشرية أمام خيارين لا ثالث لهما : إما الاشتراكية وإما البربرية ؟! ـ في مواجهة تحدي العصر : بدأ سمير أمين بدراسة الرأسمالية كمنظومة عالمية . ومن ثم انتقل للبحث عن السمات الرئيسية التي تميز كلاً من الأطراف والمركز . وفي سياق هذا البحث استطاع التوصل إلى استنتاج تبلور عبر صيغة مفهوم التمركز حول الذات ويعود ذلك إلى مطلع الخمسينات . وفي هذا السياق توصل أمين إلى استنتاج مفاده أن التوسع الرأسمالي وإعادة الإنتاج الموسع على صعيد عالمي تنتج استقطاباً بالضرورة أي عكس التجانس . أي أن عملية تراكم رأس المال يترتب عليها نتائج تختلف جذرياً في المركز عنها في الأطراف . ففي المركز يتم بناء هيكل اقتصادي متماسك ، ممركز حول الذات . إذ عبر هذه العملية يتم إخضاع العلاقات الخارجية لاحتياجات هذا البناء . هذا بينما نتائج عملية التراكم في الأطراف فهي مختلفة كلياً ، حيث التراكم ملجوماً ــ وذلك على قاعدة التبعية البنيوية ــ أدى إلى تفكيك البنية الاقتصادية لهذه البلدان , ومن ثم إعادة تركيب ــ تكييف هياكلها الاقتصادية بما يتناسب مع حركة التراكم في المركز . فبقي التراكم مفتوح نحو الخارج . وانطلاقاً من هذا الفهم كان أمين قد استنتج مفهوماً آخر مرافق وملازم للمفهوم الأول , ( فمن أجل أن تستحق التنمية تسميتها ) لا بد من فك الارتباط . وذلك من أجل ضمان شروط نجاحها . أي أن أمين دعا إلى بناء اقتصاد متمحور حول الذات على قاعدة فك الارتباط ، وعلى قاعدة قراءته النقدية للمتغيرات العالمية ( انهيار الاتحاد السوفييتي من جهة وتعميق العولمة من جهة أخرى ) استطاع تطوير مفاهيمه آنفة الذكر . إذ أضاف مفهوماً ما زال خاضعاً للجدال والامتحان , ونقصد هنا مفهوم الأقلمة . إذ لاحظ أمين أن التنمية المتمركزة حول الذات من خلال فك الارتباط لا يمكن لها أن تنجح ( وذلك على قاعدة المتغيرات العالمية ) إلا في دولة استثناء , أي ذات بعد قاري ( الصين , روسيا , البرازيل .. ) . ومن هنا كان من الضروري اعتبار الأقلمة الأساس الملائم في مواجهة التحدي المعولم للنظام الرأسمالي . مما سبق نلاحظ أن مشروع أمين ينبني على مرتكزات نظرية ثلاث وهي: * التنمية المتمركزة حول الذات * فك الارتباط * الأقلمة بيد أن أمين لا يقيم مفاهيمه دون اشتراطات , فمفهوم التنمية المتمركزة حول الذات مشروط بـ السيطرة على شروط التراكم ( وهذا ما يتجاهله العظم ولا يخطر على بال نايف سلوم ) حيث أن السيطرة على هذا الأخير تعني في نهاية التحليل , السيطرة على التنمية ذاتها . ويرى أمين أن السيطرة على شروط التراكم تعني : (10) * السيطرة المحلية على قوة العمل .* السيطرة المحلية على فائض تمركز العمل * السيطرة المحلية على السوق .* السيطرة المحلية على التكنولوجيا السيطرة المحلية على الموارد الطبيعية . وفي هذا السياق يؤكد أمين على أن السيطرة على شروط التراكم لا تعني فقط امتلاك رأس المال النقدي وإنما أيضاً عبر السيطرة على كافة حلقات دورة تجدد رأس المال . وهنا يعود أمين إلى تقسيمات ماركس ــ في كتابه رأس المال ــ لحلقات تجدد رأس المال ودورانه , انطلاقاً من المعادلة : مال ..... سلعة ( قوة عمل + وسائل إنتاج ) .. رأسمال إنتاجي .. سلعة1 .. مال1 .... على اعتبار أن النقاط تشير إلى أن السلعة والمال زيد عليهما فضل القيمة .[ (راجع ماركس ـ رأس المال ـ ك2 ـ ح1 ـ صــ 35 ـ 36 ) طبعة وزارة الثقافة ] . وعلى ضوء هذه القراءة , يرى أمين أن السيطرة على حلقات تجدد رأس المال هي هي السيطرة على شروط التراكم آنفة الذكر . ويتابع أمين في نفس السياق حيث يعتمد تقسيم قطاعي الإنتاج A ـ B ويرى من هذا التقسيم ( أن التكامل يتم بين القطاعين A وB ضمن إطار التشكيلة الاجتماعية الوطنية , وأن هذا التكامل هو الدليل على قدرة رأس المال المحلي على السيطرة على جميع الحلقات التي ذكرناها ) يشكل معيار التنمية المتمركزة على الذات وهذا يستدعي بالضرورة سيطرة رأس المال المحلي على التراكم من جهة وتكامل القطاعات الإنتاجية والاعتماد المتبادل بينها من جهة أخرى .(11) وقد كنا قلنا سابقاً أن الرأسمالية كنظام عالمي , أكمل نموه في المراكز, اعتمد في مرحلة تغلغله الإمبريالي في التكوينات الاجتماعية الطرفية على تصدير قطاع الإنتاج B . واحتكار قطاع الإنتاج A . هذا الاحتكار الذي عمق روابط التبعية وكرسها . ومن هنا كنا استنتجنا أن التنمية بقيت ملجومة ( وذلك على كافة المستويات البنيوية ) وهذا بالضبط ما ترجم بدوره فشل مشاريع البرجوازيات الطرفية عن إتمام دورها التاريخي فلم تكن تلك التنمية التي شرعت بها تلك البرجوازيات سوى شعاراً ملتبساً على حد تعبير أمين . إذاً كان لا بد من أجل نجاح التنمية المتمركزة على الذات من تحقيق عملية ( قطع ) بنيوي مع المركز الرأسمالي. وهنا بالضبط يأتي مفهوم( فك الارتباط ) حيث يعبر عن كونه ( وسيلة وليس هدفاً بحد ذاته , وسيلة من أجل الخروج من سيادة قانون القيمة المعولم ، ذلك القانون الذي ينتج فعله بالضرورة الاستقطاب الذي نسعى إلى التخلص منه ) المرجع السابق ــ سمير أمين . يمكن أن نقول في هذا السياق أن رسملة الأطراف كانت رسملة مبتورة, قائمة أبداً على لجم تطور قوى الإنتاج . هذا اللجم الذي شكل مضمون علاقة التبعية , وساهم في إعادة إنتاجها . وهنا بالضبط تأتي أهمية مفهوم ( فك الارتباط ) . انطلاقاً مما سبق , يمكن لنا أن نتلمس الأسس التي ترتكز عليها أطروحة العظم , إذ نلاحظ أن هذا الأخير يغيب تغييباً كاملاً التركيبة الطبقية لبلدان الأطراف . فيتم الاكتفاء بترداد بعض العبارات المجازية كالقول بالانتقال من دائرة كذا إلى دائرة كذا ... ولكن كيف يتم ذلك وما هي الآليات التي تم عبرها هذا الانتقال , وما هي الطبقات الاجتماعية التي قامت بإنجاز هذا الانتقال وكيف يمكن أن يتم تحديد صيرورتها ..؟ فهذا ما لا يحدثنا عنه العظم . مكتفياً بترداد جملة من البداهات لا ندري مدى دقتها العلمية . وذلك على الرغم من أن العظم وعدنا بأن يكون ماركسياً أي علمياً . ـ بالعودة إلى مشروع أمين يطلق هذا الأخير سؤاله : ما هي القوى الاجتماعية التي تستطيع أن تقوم بالدور التاريخي المطلوب ؟ وهذا السؤال لا يخطر إطلاقاً على بال العظم ..! ليجيب أمين على هذا السؤال السابق , يستبعد بعض الشرائح والفئات الطبقية غير المؤهلة للدخول في هذا المشروع وذلك انطلاقاً من موقعها الطبقي ذاته , حيث أن [ مختلف تيارات الفكر الوطني " بمعني غير الكومبرادوري " ـ ومنها بالنسبة إلينا التيار العربي القومي الجذري الذي مثلته الناصرية مثلاً ــ باءت مشاريعها بالفشل حيث ادعت هذه التيارات أن الدولة الوطنية قادرة على تحقيق التنمية المتمركزة .. ولكنها فشلت ] .كما ويستبعد أمين من مشروعه البرجوازية المحلية " الكولونيالية " حيث أن هذه البرجوازية في العالم الثالث لم تحقق فك الارتباط فلم تخرج عن إطار هيمنة قانون القيمة المعولمة السائدة عالمياً وبالتالي لم تعدو دعوتها " التنمية المستقلة " كونها شعاراً ملتبساً . من خلال قراءة نقدية لواقع تجارب التشكيلات الطرفية ــ وهذا بالطبع ما لم يقم به السيد العظم ــ كان قد استنتج أمين فكرة " التحالف الوطني الشعبي الديموقراطي " حيث أن هذه القوى الداخلة في إطار هذا التحالف هي هي المدعوة من قبل التاريخ لإتمام المهام آنفة الذكر . ويتابع أمين تحديداته النظرية حيث يعتبر أن هذه المشكلات تشكل تحدي حقيقي لا يرى إلا إجابة واحدة حقيقية تدعو إلى [ أقلمة ملائمة من زاوية دفع النضال التحرري إلى الأمام . ] ويتابع قوله [ لا أقصد ملائمة من زاوية تسهيل توسع الرأسمالية عالمياً ــ وهذا ما يدعو له العظم أي تسهيل هذا التوسع! ـ ومن ثم يتساءل أمين ولم لا ؟! أي لم لا تتم الأقلمة بالشكل المطروح ؟ ويجيب : أليست الأقلمة في هذه الظروف خطوة في سبيل أممية تمثل أحد أبعاد الهدف الاشتراكي بالنهاية ؟! أليست هذه الصيغة قادرة على الجمع بين الأبعاد التقدمية للوعي الوطني " رفض الكومبرادورية " وبين احتياجات العمل على نطاق واسع إقليمي وكوكبي , كما كانت الوطنية المعادية للاستعمار في المرحلة السابقة عنصراً تقدمياً إلى جانب الطابع العالمي لمشروع التحديث والتحرير والتقدم ] . وأخيراً يبقى أن نقول أن مشروع أمين التنمية المتمركزة على الذات من خلال فك الارتباط وعلى قاعدة الأقلمة هو مشروع راهني أكثر من أي وقت مضى . بيد أنه يمكن لنا القول أن هذا المشروع يتميز ببعده المعولم , بعد أن كان سابقاً مقيداً بحدود الدولة القومية ومن هنا كان التأكيد على عدم مشروعية ما يطرحه العظم من خلال دعوته إلى التخلي عن هذا المشروع في الوقت الذي يجب فيه الدعوة إلى التمسك بهذا المشروع والعمل على تطويره وذلك في سبيل تطوير وخلق وساءل أكثر جدوى وفاعلية تمكن من مواجهة النظام وآثاره التدميرية . بمثابة خاتمة : في هذا السياق , وكنتيجة طبيعية للشكل الذي يعتمده العظم في تحليله ظاهرة العولمة . فإنه يصل إلى أن العولمة [ لا تساوي الفوضى والنظام ككل لا يعني الفوضى وليس محكوماً بالفوضى وحدها بالتأكيد .. أما بالنسبة لبعض عناصر الفوضى والتناقض والتضارب ... فهي من الجوانب الطبيعية التي تسم كل نظام تسارعت حركيته وتكثفت ديناميكيته ودون أن يعني ذلك أن الفوضى على وشك التهامه أو تدميره .... ] صــ197 . لقد أنتجت أوهام الأيديولوجيا الاشتراكية ـ الديموقراطية في أوربا ـ سابقاً ـ وهماً عبر عن نفسه من خلال مقولة قدرة النظام الرأسمالي على تحقيق العدالة الاجتماعية وقد تزامن مع هذه الأوهام بروز تيارات الأيديولوجيا البرجوازية التي راحت تتحفنا بجملة من النهايات كنهاية التاريخ وتأبيد النظام القائم ... إلى آخره من هذه الأيديولوجيا الرخيصة . أما في المرحلة الراهنة , فإن انهيار دولة الرفاه , وتراجع المكتسبات الشعبية في أوربا أقول أن كل هذا قد وجه ضربة قاصمة لتلك الأيديولوجيا . وهذه المعطيات التي راحت تفضح وجه النظام الرأسمالي ــ هي التي أعادت التساؤل القديم الجديد حول مشروعية النظام الرأسمالي , وإمكانية تجاوزه . بيد أن اللوحة الكاريكاتورية لا تلبث أن تضيء لدينا هنا في بلدان العالم الثالث . فالعظم لا يستطيع أن يرى ــ وذلك بحكم منهجه بالذات ــ أصداء انهيار الأوهام الكنزية بل والاشتراكية الديموقراطية أيضاً . فلا يرى من الفاشية المتصاعدة للنظام الرأسمالي وممارساته الوحشية التي راحت تنعكس على الإنسان والبيئة معاً . سوى بعض عناصر الفوضى " والطبيعية " أيضاً . ويذهب العظم أبعد من ذلك حيث يثمن هذه الفوضى باعتبارها عناصر تؤكد تسارع وتيرة النظام وتكثف ديناميكيته. إن استمرار النظام الرأسمالي لا يعني بحال من الأحوال , ولا يحيل بتاتاً إلى أسباب داخلية ـ أي داخل النظام ـ بقدر ما تعكس غياباً البديل الشعبي . فالتاريخ ضمن منطقه يطرح ضرورة تجاوز النظام الرأسمالي القائم بالفعل , حيث أن هذا النظام قد وصل إلى حدوده التاريخية واستنفذ إمكاناته في التاريخ . ولا يعكس استمراره سوى تدني مستوى الوعي الاجتماعي على صعيد عالمي , هذا الوعي الذي لم يرتقي بعد إلى مستوى إنتاج البديل . والشروع ببدء مرحلة الانتقال الطويلة أساساً وهذا ما يدفعنا إلى القول أن الحتمية التاريخية التي تقول بتجاوز النظام والانتقال نحو بناء نظام بديل أكثر إنسانية ـ طبعاً لا أجد له اسماً غير الاشتراكية ـ أصبح ثنائي الطابع . أي أن الخيار أصبح مفتوحاً أمام طريق آخر غير الاشتراكية ألا وهو تدمير الإنسان والبيئة . وهذا بالضبط ما دفع روزا لوكسمبورغ سابقاً وسمير أمين الآن للقول أن أمام البشرية خيارين لا ثالث لهما . أي إما الاشتراكية وإما الهمجية . ولكن وعلى الرغم من قتامة اللوحة العالمية , إلا أننا بتنا في المرحلة الراهنة نتلمس أجنة حركات مناهضة للنظام العالمي . تحاول أن، تفتح أمام البشرية صيرورة تجاوز النظام القائم بيد أن هذه الحركات ما زالت في المرحلة الجنينية حيث أن ملامحها لم تتشكل بعد . وهذا بالضبط ما يحتم على شريحة الأنتلجنسيا على صعيد عالمي بأن تحمل مهمة إنضاج الوعي الاجتماعي . وذلك في سبيل فتح صيرورة الصراع على مصراعيه . وهذا تماماً بعكس ما تذهب إليه أطروحة العظم . حيث أن هذه الأخيرة لا تجد في تأزم النظام الرأسمالي سوى تأزمات عابرة ولا ترى في ممارسات النظام سوى ممارسات تقدمية وهو بذلك يتقاطع جوهرياً مع الخطاب اللبرالي الرائج الآن عالمياً وإن الذي كتب " دفاعاً عن المادية التاريخية " يتوجب عليه منطقياً أن يتابع بالدفاع عن الإنسان والإنسانية جمعاء . لا أن ينزلق إلى مواقع الخصم, ويصبح لسان حاله , إن وعي ذلك أو لم يعه . مراجع 1- دراسة لـ صادق جلال العظم بعنوان : ما العولمة؟ بالاشتراك مع د. حسن حنفي 2- بول بيروك "هل العالم الثالث في طريق مسدود؟" ترجمة موريس جلال منشورات وزارة الثقافة دمشق 1977 3 – بول بيروك مرجع سابق – أيضاً ، راجع سمير أمين "الاقتصاد السياسي للتنمية" 4- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي – تقرير التنمية البشرية لعام 1999 . 5- كارل ماركس "رأس المال " طبعة وزارة الثقافة – الكتاب الثاني ، الجزء الثاني 6- سمير أمين "ثقافة العولمة وعولمة الثقافة" دار دمشق 7- كارل ماركس "رأس المال " الكتاب الأول ، الجزء الثالث ، طبعة وزارة الثقافة 8- رمزي زكي "المحنة الآسيوية " دار المدى الطبعة الأولى . 9- سمير أمين "ثقافة العولمة " مرجع مذكور 10- لن ندخل هنا في تحديد آلية التراكم وإعادة الإنتاج الموسع . يكفي أن نحيل القارئ إلى كتاب ماركس "رأس المال" الكتاب الثاني الجزء الثاني . 11- سمير أمين "في مواجهة تحدي العصر" مجلة الطريق العدد [..] 1996 ·
#حوارات_ماركسية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العدد الأول---- سبتمبر 2003 لغرض تفعيل الحوار ، منهجته، وتطو
...
-
لغرض تفعيل الحوار ، منهجته، وتطويره،وفي سبيل بناء قوة لليسار
...
المزيد.....
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|