سلسلةٌ من المجازرِ و طوقُ تبعيةٍ للاستعمار !
" النص الكامل "
بداية الحكاية :
بعد أن تمكن الغزاة البريطانيين من إغراق الثورة العراقية الكبرى سنة 1920 بالدماء ، وخوفا من تجدد الثورة بقوة وضرام أشد قد يخرجهم من العراق ومن الشرق بعامة، سارعوا الى استيلاد كيان عراقي ملكي محلي ذي استقلال شكلي وسيادة وهمية هو ذاك الذي سيصفه فيما بعد الشاعر العراقي معروف الرصافي على نحو "سياسي" دقيق بقوله :
أنا بالحكومة والسياسية أعرفُ أَ أُلامُ في تفنيدها و أعنفُ ؟
علمٌ و دستورٌ و مجلسُ أمةٍ كلٌّ عن المعنى الصحيحِ محرفُ
وهو المعنى ذاته الذي كرره شاعر عراقي آخر في ذكرى التتويج " عيد العرش "و في حضرة الملك فيصل الأول صاحب المزاج الهادئ و العقل المتفهم لطبائع العراقيين، قال الشاعر :
ِعشْ في رفاهٍ ونعمى من الحقيقةِ أسمى
فأنتَ لمُلْكِ اسمٌ والانكليزُ المسمى
ولكي لا يقفز المقال من باب السياسة والتاريخ الى النقد الأدبي نعود سريعا الى رصدنا التاريخي للبدايات الأولى . فبعد سلسة من المخططات والمشاريع وحملات الاستخبار وتقديم المضابط السياسية قرَّ قرار البريطانيين على ترشيح أحد أبناء حليفهم ضد الأتراك العثمانيين الشريف حسين ورُفِضَ المرشحون العراقيون لعرش العراق و منهم مثلا السيد عبد الرحمن النقيب وقريبه طالب النقيب مع أن هذا الأخير كان يحتفظ بعلاقات جيدة مع جناح معين في الإدارة الاستعمارية البريطانية مثلته الآنسة "جثرود بيل" السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي والتي قيَّمت النقيب على النحو التالي ( إنه أقدر رجل في البلاد وعديم الضمير جدا ولكن مصالحنا ومصالحه واحدة / المحات / الوردي / ص4 مج 5 )
الترويج للملكية والطائفية : إن العودة اليوم لتصفح تاريخ التجربة الملكية الهاشمية في العراق تأتي في ظرف سياسي وتاريخي استثنائي يكاد يعصف بوجود العراق ككيان سياسي وبشعبه المهدد بالإبادة الحقيقية بواسطة القنابل النووية التكتيكية ، و لن يجد المراقب تصريحا مرعبا أكثر وضوحا من ذاك الذي ورد على لسان وزير الخارجية الكويتي حول ما سمّاه " الضربة الأمريكية القادمة والتي لن تكون كما سبقها من ضربات حتى الآن ! ). وقد برز في هذا الإبان تطور جديد يسعى على المستوى السياسي الى الترويج السريع والكثيف لعودة النظام الملكي الهاشمي لحكم العراق .وقد اتخذت خطوات واسعة وفعلية على هذا الصعيد بلغت ذروتها في تبيض صفحات تاريخ الملكية الهاشمية في العراق على يد عدد من السياسيين البعثيين والقوميين السابقين " المنشقين " وعناصر عراقية ماسونية معروفة بزياراتها المتكررة لإسرائيل . لقد تحول هؤلاء جميعا و بين عشية وضحاها الى "ملكين دستوريين" فراحوا يعبثون بحقائق التاريخ ويقلبونها رأسا على عقب ويستغلون إطلالاتهم على بعض الشاشات الفضائية ليروجوا للأمير حسن بن طلال تارة ، أو لشاب آخر من الآسرة الهاشمية تارة أخرى ، وبالتركيز الإعلامي على حركة صغيرة تدعى الحركة الملكية الدستورية يقودها شاب يدعي أنه سليل العائلة الملكية هو علي بن حسين مع أنه يتكلم اللغة العربية بلكنة المستشرقين الأجانب .وقد استعان هذا الشاب مؤخرا بقريبه و ولي عهد الأردن السابق الأمير حسن بن طلال الذي حضر مؤتمرا للضباط العراقيين عقد مؤخرا في لندن والذي أعلن أن له مهمات تكميلية يقوم بها بمجرد بدء الغزو الأمريكي البريطاني على العراق . ويبدو من خلال قراءة المعطيات الراهنة أن الولايات المتحدة وبضغط من حلفائها العرب قد حسمت أمرها وقررت الإتيان بصيغة حكم طائفية غير مباشرة يكون الحكم فيها ملكيا هاشميا بعد مرحلة تمهيدية كالتي تشهدها اليوم أفغانستان حيث لا ينام "كرزاي" و وزراؤه الخمسة عشر من حملة الجنسية الأمريكية بعمق وطمأنينة إلا تحت حماية القوات الخاصة الغربية أما الملك السابق نادر شاه فما زال ينتظر حفلة التتويج في غد قد لا يأتي .
لقد فضل الأمريكان الخيار الملكي لحكم العراق كما يبدو مخافة أن تصل الأحزاب الإسلامية الشيعية الى السلطة وهذا هو المحذور الأول الذي يقلق دول الجوار النفطية ، أما المحذور الثاني و الذي يقلق الجميع فيحاولون إعاقة حدوثه فهو قيام نظام ديموقراطي تعددي حقيقي على أنقاض الدكتاتورية . ومن العجيب ،أن بعض الرموز في الحركة الإسلامية الشيعية ،ومع معرفتهم الدقيقة بما يجري، يتصرفون وكأن الأمر لا يعنيهم وفي هذا سذاجة بل و انتحار سياسي . وقد بالغ بعض شيوخهم في الترويج للطائفية والتكفير السياسي فأفتى قبل أيام بعدم جواز قيام تحالف سياسي بين الإسلاميين وبعض الأحزاب الديموقراطية واليسارية لأنها " مادية إلحادية " كما فعل مثلا الشيخ محمد مهدى الآصفي وهو رجل دين عراقي من أصول فارسية كما يدل لقبه حين علق بفتوى على قيام "الائتلاف الوطني" الذي يشارك فيه الى جانب الإسلاميين المستنيرين الشيوعيون والاشتراكيون والبعثيون المنشقون العراقيون ممن يرفضون الغزو الأمريكي صراحة .وقد سارع الى تأييد فتوى الآصفي ثلاثة جال دين شيعة آخرين يقيمون في إيران هم الشيخ باقر الحكيم والشيخ مرتضى العسكري والشيخ الحائري معطين العراقيين صورة عملية وتطبيقية عن نظام الحكم الاستبدادي الذي يريدون إقامته في العراق والذي سيقوم على فتاوى التحريم والتجريم، غافلين عن دروس المذبحة الرهيبة التي مازالت مستمرة في الجزائر والتي مهدت لها حملاتُ تكفيٍر وتحريضٍ مماثلةٍ خلطت الدين بالسياسة والعنف الدموي بالهستيريا الأدلوجية . وسوف يسجل التاريخ أن هؤلاء الشيوخ الثلاثة ، وفيما تتقدم شعوب العالم على طريق الحرية وحقوق الإنسان والديموقراطية السياسية ، وضعوا الأساس المهلك وزرعوا بذور حرب أهلية قادمة بفتواهم التكفيرية هذه و قبل أن توصلهم القوى الدولية والإقليمية الى السلطة . والواقع فإن تجارب الشعوب القريبة تجعلنا نطمئن الى أن هذه التصرفات والمسالك الملتوية لن تحرف المجرى العام للأحداث فمهما فعل التيار المتعصب والمتشدد في الحركة الإسلامية فسوف ينتهي به المطاف الى ما انتهت إليه تيارات التعصب والانغلاق ودعاة الدولة الدينية الثيوقراطية في إيران نفسها حيث صوت الشعب ضد مرشحي المؤسسة الدينية بأغلبية ساحقة تفوق الثلثين . و أيضا في السودان الذي يعيش شعبه فترة التحول من حكم الاستبداد الديني الى التعددية الديموقراطية هذه الأيام !
ولكن هذه الظروف تقدم في الآن ذاته سانحةً ربما لن تتكرر للتيار الإسلامي العراقي المستنير وغير الخاضع للهيمنة الدينية والسياسية الإيرانية لكي يتقدم على طريق التحديث الديموقراطي برؤاه الإسلامية التسامحية والتقدمية . ويمكن التعويل والتفاؤل بأن هذا التيار الإسلامي المستنير ذا الجذور العميقة في تربة العراق سيشارك في تقديم ركائز صلبة وبذور ناضجة للبديل الديموقراطي في الساحة العراقية والأسماء وفيرة ويأتي في مقدمتها الشيخ المجاهد محمد باقر الناصري أحد الخمسة المؤسسين لحزب الدعوة الإسلامية في العراق وجماعة العلماء المجاهدين والمقاوم الصلب للنظام الدكتاتوري والرافض للحرب والحصار ضد العراق ..
مقارنات خاطئة :
يركز مروجو العودة الى الملكية على نقطتين مهمتين تتعلق الأولى بما يتصورون أنه جانب تسامحي وإنساني ومسالم في التجربة الملكية الهاشمية في العراق مقارنة بالحكم الجمهوري القائم اليوم والمعروف باستبداده الشديد وقمعه الدموي الذي لا يرحم .إن هذا النوع من المقارنات هو و بكل صراحة نوع من النصب والاحتيال السياسي لأنه يريد لنا أن نقارن بين الرمان والباذنجان حيث لا علاقة نوعية بينهما البتة إلا من حيث انتمائهما لجنس النباتات ، الأمر الذي يقابل وحدة الأصل البشري بين الملكيين والجمهوريين وهذا ليس فرقا نوعيا . ولأن هؤلاء المروجين يبتزون الناس وبخاصة الأجيال التي لم تعش ولم تعرف ظلام ودموية الحكم الملكي التابع للاستعمار البريطاني فتقول لهم : أيهما تفضلون الحكم الملكي حين كان سعر قفة البيض فلسا واحدا أيام الحكم الجمهوري الاستبدادي ؟ هل تريدون حكم بسيط ورحيم كالحكم الملكي أم تريدون البديل الذي يقمعكم اليوم ؟ والنتيجة ستكون معروفة مضمونة للملكيين فالناس لا تعرف، أو لم تعد تتذكر وتعاني من الشرطة الملكية التي قتلت وجرحت وأغرقت في نهر دجلة في ساعة واحدة سنة 1948 ما بين ثلاثمائة وأربعمائة عراقي وعراقية خلال وثبة كانون المجيدة بل تعاني وتعيش قمع حكم البعث المستمر . والواقع ففي هذا التخيير نوع أكثر ذكاءً " التواءً " من النصب السياسي فعوضا عن أن يكون التخيير بين القمع والاستبداد ملكيا أو جمهوريا من جهة وبين الحرية و التعددية من جهة أخرى يخيرنا السادة الملكيون بين الموت شنقا بالحبل الملكي أو رميا بالرصاص الجمهوري ! ولنا عودة مفصلة الى ملف القمع الدموي الملكي في العراق . أما النقطة الثانية التي يركز عليها دعاة الملكية فهي تصوير الحكم الملكي الهاشمي وكأنه الحل السحري لمشكلة التعددية الطائفية و الإثنية في العراق فهم يكثرون الحديث عن البديل الهاشمي (الذي نجح في جمع ونظم العقد العراقي في قلادة واحدة متماسكة ) كما قال ملك أردني راحل وهذا افتراء صريح و إيقاف للحقيقة على رأسها .
لقد بذرت بذور الظاهرة الطائفية بشكلها الحديث و نمت و ترسخت سياسيا في العراق مع مجيء الحكم الملكي الهاشمي التابع لبريطانيا حين تم حرمان الطائفة الشيعية التي تشكل غالبية المجتمع العراقي والتي ساهم جمهورها بشكل رئيس وحاسم في التصدي للغزاة البريطانيين الى جانب القوات التركية العثمانية التي اضطهدت الشيعة طوال قرون في ملحمة الشعبية قرب البصرة سنة 1917 وخلال الثورة العراقية الكبرى سنة 1920 . نقول إذن ، أن سياسة التمييز الطائفي وحرمان الأغلبية المجتمعية من الحقوق السياسية قد تم في العهد الملكي وبقرار وتخطيط مسبق مع بعض الاستثناءات القليلة الأمر الذي ضاعف من تأثيراته سياسية المقاطعة السياسية التي أخذت بها القيادات الوطنية والعلمائية الشيعية بقيادة الإمام الراحل مهدي الخالصي ،تلك القيادات التي تزعمت ثورة العشرين و الرافضة لحكم يتبع لبريطانيا . وقد أفتى العديد من قيادات الثورة وفي مقدمتهم الإمام "الخالصي "بتحريم التعامل مع الدولة الملكية التابعة . في حين كان الحكم الجمهوري وخصوصا في سنواته الأولى هو القطع الوحيد والتقدمي حقا مع الظاهرة الطائفية وأول محاولة جادة لتفكيكها وإرساء مبدأ المواطنة الحديثة وتلك حقيقية سياسية ومجتمعية راسخة يُسأل عنها أهل الشأن أي ملايين الشيعة العراقيين فهم يعرفون أين تحكمت وحكمت الظاهرة الطائفية هل في الحكم الملكي أيام فصيل ومستشاريه من أمثال ساطع الحصري أم في الحكم الجمهوري أيام الشهيدين عبد الكريم قاسم وفاضل عباس المهداوي ؟
الحصاد المر:
يروج أنصار الملكية الجدد كما آنفنا لموضوعة " إنسانية " النظام الملكي الهاشمي ورحمته وتسامحه ويستشهدون ، بهدف المقارنة ، بممارسات النظام الشمولي القائم اليوم التي بلغت درجة مشينة في سن العقوبات البدنية الفظيعة كبتر الأطراف و قطع الألسن في حين يعرف المطلعون والمتخصصون بتاريخ الأسرة الهاشمية التي كانت مسؤولة عن شرافة مكة أن القانون الهاشمي المعروف بقانون " أبي نمي " لا يقل بربرية عن العقوبات التي يطبقها النظام الشمولي الحاكم بل أن بعض العقوبات وخاصة بتر الأعضاء تكاد تكون مأخوذة حرفيا من قانون "أبي نمي" وهذه بعض نصوص بعض المواد التي أوردها من هذا القانون عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابة " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق /ملحق الجزء الخامس ص26 نقلا عن كتاب " تاريخ الحجاز" للمؤرخ المصري حسين محمد نصيف :
المادة الأولى : الشرافة وراثية في الأسرة الهاشمية .
المادة الثالثة : إذا قُتل الشريف ُ أخذ من أهل القاتل أو قريته أربعة حيث يقتلون قصاصا له .
المادة الرابعة :صافع الشريف تقطع يده .
المادة الخامسة : شاتم الشريف يقطع لسانه .
أما واضع هذه القوانين فهو جد الأسرة الشريفية الأول الشريف حميضة بن أبي النمي الذي تولى شرافة مكة قبل عدة قرون . وينقل الوردي عن كتاب "سبط العوالي" لعبد الملك العصامي أن الشريف حميضة ( أرسل أحد عبيده الى أخيه أبي الغيث الذي كان ينافسه على الشرافة فذبحه على مشهد من الناس ثم دعا أخوته الآخرين الى وليمة وقدم لهم رأس أخيهم مطبوخا في جفنة . علي الوردي اللمحات مج5 ص 22 .) وبهذا يكون حميضة قد كتب نفذ رواية "خريف البطريك" لغابريل غارثيا ماكيز قبل تأليفها بعدة قرون والتي نقرأ فيها كيف أمر الرئيس "البطريك " بقتل وزير دفاعه الذي حاول القيام بانقلاب عليه ثم أمر الطهاة في القصر الجمهوري بطهي جثة الوزير وتقديمها مع الخضار الى ضيوفه في وليمة رئاسية رسمية! فما رأي السادة الملكيين المسالمين وما الفرق من وجهة نظرهم بين النظام الشمولي الفاشي الذي يقطع الألسن والأيدي وبينهم ؟ هل يكفي أن يقولوا "لن نفعل ذلك مستقبلا " ؟ أليس تجربتهم هي أس المصائب التي حلت بالعراق والعراقيين على مدى قرن كامل .
مجازر متواصلة :
على قصر عمرها الذي بدأ في سنة 1921 وانتهى بالثورة الجمهورية سنة 1958 تكتظ التجربة الملكية بأحداث العنف والقمع و الإعدامات والمجازر العلنية في المدن والأرياف والسجون والمقابر وعلى الجسور و في الأسواق .وسنحاول في الأسطر التالية استذكار هذه السلسلة من المجازر بغرض الاعتبار ومقاومة النسيان أو التناسي تحت شعار "قد نغفر لكننا لن ننسى !" على اعتبار أن النسيان والتناسي سيفتح الباب على تكرار المأساة بشكل أكثر بشاعة ، وأيضا بهدف الرد الأولي على حملة الترويج للملكية التي تقوم بها شخصيات وقوى عراقية وعربية ودولية .
في سنة 1924 أي قبل أن تكمل الملكية العراقية عامها الثالث اندلعت المظاهرات الشعبية ضد ما سمي بالمعاهدة العراقية البريطانية وهي معاهدة استعبادية تجسد أوضح صور التبعية والارتباط بالاستعمار البريطاني . وكان عبد المحسن السعدون حينها هو رئيس الوزراء وحين انتهت المظاهرات الى حرم المجلس التأسيسي طوقت قوات الشرطة الملكية المتظاهرين وقمعتهم بشدة وباستعمال الرصاص الحي .وبسبب فشله في التوفيق بين متناقضين لا يمكن التوفيق بينهما وهما رغبة الشعب في استقلال حقيقي ورغبة النظام الملكي في استمرار التبعية والارتباط ببريطانيا أقدم رئيس الوزراء السعدون على الانتحار تاركا رسالة حزينة الى زوجته باللغة التركية . وفي سنة 1931 قمعت الحكومة إضرابا عاما استمر لمدة 14 يوما . وفي سنة 1933 اندلع التمرد الآشوري في شمال العراق وكان الآشوريون قد شكلوا في بدايات الغزو والاحتلال البريطاني للعراق ميليشيا آشورية لمساعدة البريطانيين تسمى " قوات الليفي " وقد ارتكبت هذه الميليشيات عدة مجازر بحق أبناء جلدتها من العراقيين العرب والكرد وحين حدث التمرد بادر رئيس الوزراء العراقي الكردي آنذاك وهو بكر صدقي وبالتنسيق مع نائب الملك الأمير غازي بن فيصل الى قمع التمرد بعنف وشدة لا ضرورة لها ولا يمكن تبريرها بموقف بعض أبناء هذه الأقلية أيام الاحتلال البريطاني المباشر. وقد انتهى التمرد بمجزرة مروعة بحق الآشوريين وللإنصاف فقد حاول الملك فيصل الأول والذي كان يعالج في سويسرا من مرض ألم به منع حدوث تلك المجزرة وطالب نائبه " ولده الأمير غازي " ورئيس وزرائه بالتحلي باللين والصبر مع التمرد دون جدوى ولكنه بالمقابل لم يفعل شيئا أو يفتح تحقيقا أو يعاقب مسؤولا فيما بعد.
وفي سنة 1936 ثارت القبائل والعشائر العربية في منطقة الفرات الأوسط والتي سبق لها أن كانت رأس حربة المقاومة العراقية ضد البريطانيين في الثورة العراقية الكبرى 1920 ولكن هذا التراث المقاوم لم يشفع لهذه القبائل لدى العرش الهاشمي الذي قمع الانتفاضة بالطيران والمدفعية فقتل وجرح الآلاف وشرد الفلاحين بعد أن أحرق قراهم في عموم إقليم الفرات الأوسط .
وفي سنة 1941 وردا على قيام نظام وطني يسعى الى الاستقلال الحقيقي بقيادة رشيد عالي الكيلاني وبعد أن انتهت الحرب العراقية البريطانية والتي دامت ثلاثين يوميا بهزيمة الجيش العراقي ودخول البريطانيين بغداد منتصرين و معهم رموز العرش الملكي و وزرائه بادرت الحكومة العراقية الى طلب تسليم الضباط العراقيين الذين هربوا الى إيران وفعلا سلمتهم الحكومة إيرانية الى البريطانيين وهؤلاء سلموهم الى أصدقائهم الملكيين في بغداد وتم إعدامهم جميعا ومعهم أحد المدنيين هو الشهيد محمد يونس السبعاوي العقل الجريء والمبدع لثورة مايس 1941 وبقصد الإمعان في الترهيب أمر الوصي على العرش الأمير عبد الإله بتعليق جثامين الشهداء عند بوابة وزارة الدفاع .
وقد قمعت الحكومة الملكية تمردات متوالية حدثت في إقليم كردستان في سنوات :1943و 1945و 1947 وفي سنة 1948 . وقام النظام الملكي بأفظع مجازره بحق الشعب العراقي حين رد على المظاهرات السلمية في وثبة كانون المطالبة بإلغاء معاهدة " بورتسموث " الاستعبادية بالرصاص الحي فقتلت شرطته وجرحت وأغرقت في مياه دجلة بين ثلاثمائة وأربعمائة مواطن في دقائق معدودات .وفي سنة 1952 قمعت الحكومة الملكية في الجنوب انتفاضة فلاحي "آل زيرج" وهم بقايا فرقة "بني الأزرق أو الأزارقة " الخارجية وهم الآن من الشيعية الإمامية . وقمع النظام الملكي التابع أيضا انتفاضة "دزه ئي" في أربيل وانتفاضة فلاحي قضاء "ورماوه" في السليمانية في الشمال وانتفاضة فلاحي الشامية في الفرات الأوسط سنة 1954 وانتفاضة قضاء الحي سنة 1956 والانتفاضة الشعبية ضد العدوان الثلاثي على مصر في بغداد وانتفاضة الدغارة في الفرات الأوسط في شهر نيسان سنة 1958 أي قبل الثورة الجمهورية بعدة أشهر . كما ارتكبت الشرطة الملكية مجزرة سجن " قلعة بغداد " في حزيران سنة 1953 حيث قتلت الشرطة الملكية وجرحت 88 سجينا سياسيا وهم في زنزاناتهم وبعد أشهر قليلة ارتكبت الشرطة مجزرة جديدة في سجن "الكوت" وأطلقت النار على السجناء السياسيين بعد أن فتحت بوابات سدة " الكوت " النهرية القريبة لإحداث ضوضاء تخفي أصوات المجزرة التي قتل وجرح فيها 102 سجينا سياسيا . وهناك المزيد من أسماء المجازر ففي 12تموز سنة 1948 ارتكب النظام الملكي مجزرة "كاورباغي" وهي مقبرة قرب مدينة كركوك لجأ إليها عمال المدينة لعقد اجتماع نقابي فطوقتهم الشرطة الملكية وحصدتهم بالرشاشات داخل المقبرة .
الخلاصة :
إن هذا الجرد السريع والموثق بالتواريخ والأسماء للأماكن والشخصيات يكشف لنا عن حقيقة التجربة الملكية المخضبة بالدماء ، دماء الأبرياء والثوار الاستقلاليين ، دماء العمال والطلبة الفلاحين . كما أنه يتيح للدارسين والباحثين فهم وتفهم حقيقة النهاية الدموية للحكم الملكي التي راح ضحيتها عدد من الأبرياء من العائلة المالكة ومنهم الملك الشاب البريء فيصل الثاني والذي لم يكن يميل الى السياسة ويحب الحياة العادية كما كشف ابن عمه الملك حسين بن طلال في مذكراته المعنونة " مهنتي كملك " إضافة الى عدد من النساء الذين قتلهم ضابط عراقي هو "عبد الستار سبع العبوسي" والذي انتحر بعد عدة سنوات تحت وطأة العذاب النفسي والشعور بالذنب اللذين عاناهما بسبب ما قام به صبيحة الثورة . لقد جاءت تلك النهاية وبتلك الصورة نتيجة تراكم الأحقاد و مشاعر الانتقام بعد كل تلك الدماء التي سفكها النظام الملكي وغير أن هذا ليس تبريرا فالقتل يظل قتلا وعملا مدانا إذا تعلق بأبرياء وليس بمجرمين كالوصي على العرش الأمير عبد الإله وحري اليوم بمن يتنطعون لعودة الى الملكية في العراق أن يعتذروا عن كل ما فعل نظامهم بالشعب العراقي ويتواضعوا فيرتضوا ويرضوا بحركة سياسية ملكية سلمية تتيحها التعددية الديموقراطية لا أن يستقووا بالأجنبي المسلح بالقنابل النووية ليفرضوا نظامهم الذي صار اليوم مجرد ذكرى سوداء في صفحات تاريخ العراق وعبر استفتاء مزور مسبقا على شعب عانى الكثير من إرهاب الأنظمة الملكية العميلة لبريطانيا والأنظمة الجمهورية الشمولية المستبدة .
إن المقارنة الذائعة اليوم بين عدد جثث ضحايا الملكيين والأخرى من ضحايا الجمهوريين والقول أن الأولين تركوا عددا أقتل من القتلى الذين تركهم الآخرون فهي مقارنة باطلة ولا معنى لها على اعتبار تماثل وتساوي كيف النفس الإنسانية الفردية والجماعية مع اختلاف الكم ، وهذا هو المعنى الذي يؤكده نص الآية الثانية والثلاثين من سورة المائدة القائل (( ومن قتل نفسا بغير نفس أو فسادا في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا .))