أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ساسي سفيان - الثقافة و المعرفة في ضل القرن الحادي و العشرين















المزيد.....


الثقافة و المعرفة في ضل القرن الحادي و العشرين


ساسي سفيان

الحوار المتمدن-العدد: 996 - 2004 / 10 / 24 - 12:09
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
جامعة باجي مختار - عنابة BADJI MOKHTAR - ANNABA UNIVERSITY السنة الجامعية :2005-2004
كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية

قسم علم الاجتماع
ساسي سفيان :
حاصل على شهادة ماجستير علم الاجتماع

يطرح مقالة بعنوان :
الثقافة و المعرفة في ضل القرن الحادي و العشرين


وقد أدت درامية كثير من هذه التحليلات والتقديرات بكثير من المعلقين، خصوصاً الأميركيين منهم، إلى درجات متفاوتة من الشماتة والتعالي والتأكيد على أن ما جاء في التقريرين كان مصداقاً لما تدعو إليه الولايات المتحدة من برامج لإعادة رسم الخارطة السياسية والاجتماعية للمنطقة. بل إننا نرى أن مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، على سخفه وقماءته، مشروع إعادة رسم هذه الخريطة، قد استند إلى مرجعية هذين التقريرين في إسناد ما يصبو إليه من سيطرة، وذلك على نحو حرّف فيه ما جاء في التقريرين على هواه، وهو قد استند في هذا التصريف ليس فقط على المؤشرات الدرامية الواردة في التقريرين بل أيضا على إحدى نقاط الضعف التي اعترتهما، وهي نقاط سنشير إليها في فقرة لاحقة. وقد أحسن المؤلف الأساسي للتقريرين، الدكتور نادر فرجاني، في وضع الأمور في نصابها وفي الرد على سوء الاستخدام هذا (في "الحياة" 19/2/2004).
ولكنني لن أتناول في الفقرات اللاحقة الاستخدام الانتهازي لما جاء في هذين التقريرين من قبل من لا يرجو لنا الخير، ولا ردود الفعل التي استجلبها التقريران، بل أنني سأركز على الإدلاء بجملة ملاحظات نقدية تتناول النحو الذي تم عليه في التقريرين معالجة قضايا الثقافة و المعرفة ، وخصوصاً في تقرير 2003 الذي جاء تحت عنوان "نحو مجتمع المعرفة". وأنني بصياغتي هذه الملاحظات إنما انطلق من اعتبارات عدة: أول هذه الاعتبارات أن التقريرين جاءا - في رأيي - بداية للبحث في أمور التنمية في ظل أوضاع داخلية وعالمية جديدة، ولم يأتيا بالكلام الفاصل والنهائي، بل أنني اراهما محفزين على الاستزادة من النظر في شؤوننا التنموية. وأنني أجد أن من دواعي الحس بالمسؤولية العامة، أن تنشر وان تدلى ملاحظات نقدية قد تساعد على تطوير ما جاء في التقريرين والانطلاق إلى صوغ تقارير أكثر خبطاً، واقل عمومية، وبالتالي أقل عرضة كسوء الاستخدام الذي ذكرت.
وثاني هذه الاعتبارات هو أن الملاحظات النقدية ليست موجهة نحو شخص، أو أشخاص معينين، بل هي موجهة إلى التقريرين على اعتبار أنهما نتاجاً لعملية مؤسسية، وهي عملية ابتدأت بجملة أوراق خلفية ثم أوراق تركيبية، تلتها صياغات متعددة شاركت في إنجازها والتعليق عليها وتشذيبها لجان وهيئات. على ذلك، فلئن شاركت في التقريرين جملة من المؤلفين، إلا انه ليس تقرير المؤلفين بقدر ما هو تقرير الأمم المتحدة ككل، وهي الهيئة التي ارتأت ضم هذا الرأي واستبعاد ذاك من عملية المناقشة وبلورة التحليلات وصوغ الاقتراحات والنص النهائي .
كما إنني لن أتناول كيفية اختيار النواقص الثلاث التي أضحت شهيرة (الحريات وتمكين المرأة و المعرفة )، ولا التعريف العام للتنمية الإنسانية الثاوي وراء التحليلات المختلفة المتضمنة فيه. قلما أتى تحديد النواقص الثلاث في سياق فهم ليس دقيق التعيين للتنمية، وهو تعريف عام متأت من نوايا طيبة، بهيج في عموم نحوه الانسانوي، وعن خطاب عالمي جديد في التنمية يتجاهل التاريخ، ومنه التاريخ الحديث، الذي فعل تحليلات أكثر انضباطاً للتنمية في عقود خلت. وقد جاء توصيف النواقص الثلاث على نحو كمي يشير إلى قياسات إجمالية ومؤشرات إحصائية مركبة تؤدي صورة بالغة القتامة وهي الصورة التي طغت على استقبال التقريرين، وهو استقبال كان كلاماً نائحاً، أو مزاجاً سوداوياً حافزاً، ولو كانت سوداوية التقرير الثاني اقل منها مما كانت عليه سوداوية التقرير الأول. في الحالتين، لدينا صورة إجمالية تخفي التضاريس الاجتماعية للنواقص هذه، الناتجة عن التفاوتات والتمايزات البينة في العالم العربي بين المناطق والدول والريف والمدينة والفئات الاجتماعية، إلى غير ذلك من مواضع التعيين والتحديد في الظواهر الاجتماعية. ويعرف التقريران مراراً، خصوصاً التقرير الثاني، عن الوعي بأن قواعد البيانات ضعيفة على العموم. وهو أن هذا الوعي لم يؤد على نحو كاف إلى الإدراك، بأن المؤشرات المركبة قد تخفي وتحجب من الواقع بالقدر الذي قد تعمل على تبيانه. ولنا أن نشير بسرعة هنا إلى أن قصور البيانات عنصر من عناصر الفوات التاريخي لنصاب المعرفة وإنتاجها في العالم العربي جملة تقريرات وأحكام جاء بها التقرير الثاني بخصوص المعرفة والثقافة في سياق التنمية في العالم العربي المعاصر.
ثمة إجماع لدى العقلاء من المثقفين العرب أن المنتوج المعرفي العربي في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية ضئيل ومتدني المستوى، جانح للعمومية ولتغليب الخطاب الايديولوجي والغرض السياسي المباشر وغير المباشر. وثمة إدراك بأن غياب الدراسات الميدانية كما وكيفاً يعطل إمكان تشكيل صورة واضحة للتضاريس الداخلية والعامة للظواهر الثقافية والدينية في المجتمعات العربية المعاصرة.
فما المعنى فعلاً بالقول، كما جاء في التقرير الثاني، أن "المنظومة الاعتقادية العربية" - أي ما دعوته بمكونات الثقافة العربية - تتكون من الدين واللغة العربية والتراث الفكري؟ لن أتناول الشك الأكيد بالنظرية اللغوية المتضمنة في هذا القول (أن اللغة مرآة الذهن والثقافة)، وهي نظرية تقاومت في علم اجتماع اللغة وفي بيولوجيا اللغة، ولن أتناول الشك في الطريقة التي ينسب إلينا نحن العرب منظومة معرفية واحدة تتكون من هذه العناصر الثلاثة، وهي نظرة ليس لها من مستند في المعرفة بتراكب وتعقيد نصاب المعرفة ونصاب الثقافة في المجتمعات الغربية، وبتعقيد صورة المجتمعات العربية، بل بتعقيد وتراكب كل المجتمعات. بل إنني سابتديء الكلام للإشارة إلى غياب بيّن عن تحليلات التقرير الثاني: غياب القول بأن التفكير العلمي هو أيضا مكون من مكونات الثقافة العربية والمعاصرة، وان تفاوتت أهميته تبعاً للموقع الاجتماعي والوظيفي في الخريطة الاجتماعية والثقافية والجغرافية للعالم العربي. وأشير بذلك إلى التفكير العلمي في مناهج التعليم وفي بعض شؤون التخطيط والإدارة وغيرها، على قصور ذلك وعدم اكتماله: لا يجب علينا أن نستنتج الغياب من عدم الاكتمال غير المتاح في أي زمان ومكان. وبإمكاننا القول على كل حال أن من الدلائل على وجود التفكير العلمي هذا وجود التقريرين الذين بين أيدينا، وهما كما كانا ممكنين لولا ذلك.
ولكن الواضح أن القول الخطابي في شؤون الثقافة والتراث والدين قد غلب على إعمال العقل العلمي في التقرير الثاني، كما أسلفت. لولا ذلك لاتضحت جملة أمور، أولها أن ما دعي بالمنظومة المعرفية العربية لا يمكن أن تحصر هذا الحصر النمطي السائد في الصحافة، وثانيها أن من غير الجائز أن تغيب عن التقرير النظرة التاريخية التي نستفيد منها، رصد التحولات الايجابية المهمة والبينة في نظم تربيتنا وسلوكنا وتفكيرنا على امتداد القرنين الماضيين، مما لا يستفاد منه نظرة عدمية إلى التنمية العقلية والثقافية.
وان نظرة تاريخية كهذه تفيد بأن النظام المعرفي والنظام الثقافي المنسوب إلينا بالغ التعقيد والتركيب والحراك، يتداخل فيه الديني بالعلماني والتراثي بالحداثي والتراثي بالحداثي والخرافي بالعلمي، يتصادم فيه هذا مع ذاك ويتصارعان ويتوافقان في سياق تحولات اجتماعية وثقافية عنيفة أحياناً، يجب عدم التقليل من أهميتها بداعي عدم الاكتمال أو عدم الكمال أو أداء صورة سوداوية كلية بل وشاملة.
ثم انه ليس مبرراً ـ وهذا الأصل والفصل هنا ـ الذهاب إلى أن الثقافة كيان ثابت مستقل عن المجتمع ومتعال عليه، أو أنها كمية ثابتة بالعبارة الرياضية، حاكمة للمجتمع وللتاريخ مستقلة عنهما، إلى غير ذلك من عناصر صورة للمجتمع وكأنه واقف على رأسه. وتالياً لذلك، لا يجوز الذهاب ـ كما ذهب التقرير الثاني في محصلته النهائية ـ إلى أن نهاية الثقافة العربية محكمة بالاحتكام إلى التراث ـ كيفما فهم ـ والى الدين، وان هذين يشكلا معاً قدراً محتماً بكونهما شفعاً للتاريخ.
ومن نتائج ذلك أن معظم الصور الشاملة التي نراها مرسومة لهذه الظواهر - ومنها الصورة الغالبة على التقرير الثاني موضع النقاش - تتسم على العموم بالابتسار والتبسيط. وان الابتسار والتبسيط هذان يجعلان هذه الصورة انطباعية في المقام الأول، معطوفة على الأهواء الأيديولوجية والتيارات السياسية الأكثر ظهوراً ـ لأنها الأكثر جلبة، والأكثر جاذبية للعرض التلفزيون ـ وحاجبة على الأرجح الواقع المعاش أو على الأقل متجاهلة له، ومغيّبة لما ليس بديّاً على نحو جليّ وعلني.
أمهد بهذا للقول بأنني أرى فارقاً بيّناً بين الصورة التي جرى عليها تناول التقرير الثاني لقضايا تتعلق بالتنمية الاقتصادية وباقتصاديات العلم والتعليم والبحث العلمي من جهة، وتناول ما قد يدعى "مكونات الثقافة العربية" من جهة أخرى. بالنسبة للشأن الأول. نرى التقريرين يستخدمان لغة علمية عالمية بمفاهيمها وأدواتها المعرفية الكونية المعروفة. أما في مجال الثانية - أي الثقافة العربية ومكوناتها، ودور الدين فيها - فإننا نرى اللغة الإنشائية غالبة، على شاكلة العوارض الأخرى من عوارض الاعتلال في الثقافة وفي التراث العلمي العربي وتجاوزته. ومحصلة فعلية من الدعوة إلى أن نرجع 600 أو 700 سنة إلى الوراء من أجل إعادة الارتباط مع ابن رشد أو ابن خلدون أو غيرهما. أن هذا الخطاب الاحيائي في شأن التراث خطاب مفتعل سياسياً تتضافر عليه أطراف ثلاثة: القوى السياسية الظلامية، وديماغوجية الدولة العربية المتمشيخة هنا وهناك، وبعض المثقفين العرب الحائرين في أمرهم، غير القادرين على التمييز المستقر، المستبطنين لما يقال عنا في خطاب عالمي سائد وفي خطاب محلي شعبوي لا يرى في الثقافة والتربية إلا مماشاة لما يرى انه جماعة قومية مرتهنة بالماضي ارتهاناً كلانياً. وأنني أرى في ذلك محاولة من قبل فئة من المثقفين الممارسين للتقية والتعوذ لمعايشة موقع اجتماعي لا ملامح واضحة له، وللاندراج في ما يعتبر - وهماً - على انه "روح الشعب" النابذة للعقل وللحداثة. أما المستند الثقافي والسياسي - الاجتماعي لهذه الأطراف الثلاثة معاً، فهو ليس إلا الأزمة الاجتماعية والسياسية التي نمر بها، والانحطاط الملازم لها للمدارك العامة. وتدهور النظم التعليمية الذي عالجه التقريران - مع الإشارة إلى أن هذا الانحطاط ظاهرة عالمية وليس مختصاً بنا، لأسباب ليس ثمة مجال للدخول فيها هنا.
لست أفهم تماماً دواعي هذا الحط من شأننا، والميل إلى تغليب القول النمطي بتخلفنا الخلقي، عدا ما قلته وأشرت إليه على أنه أداء صورة بالغة الجزئية والانطباعية قد تكون محقة في وصف بعض قطاعات الثقافة العربية، خصوصاً في صياغتها الصحافية والتلفزيونية الأجنبية والعربية، وفي الأقوال الصاخبة في السياسة التي ترى على سبيل المثال أن الإسلام دين ودنيا ( وهي مقولة يأخذ بها التقرير الثاني، عكس ما تفيد به المعارف العلمية في التاريخ والاجتماع، وعلى ما يذهب إليه الحس المشترك القائم على الانطباع السريع والمستسهل بدلاً من التقصي )، أو أن الدين الإسلامي عماد الفكر والسلوك العربيين، أيضا من دون مستند علمي أو حتى مستند في المعارف التي تذهب إلى عكس ذلك. لا أرى مبرراً لهذه الأقوال إلا ما قد يدعو إليه الوجه المشهدي للسياسة وللمجتمع العربيين في العقدين الأخيرين، خصوصاً في ظروف الانكسار القومي وانسداد أفق التنمية واستكانته إلى الوصفات السهلة: تلك الظروف التي تدعو إلى المكابرة والانغلاق على الذات وتغليب الحلول الخطابية والخيالية في وقت يستعصي الواقع على التناول والمعالجة. ليس التراث، خلافاً لما أتى به التقرير الثاني، "ثقافة عالمة" لدينا. انه ثقافة قطاعية، تتخذ عند العموم لدى انتشارها شكلاً فولكلورياً وليس شكلاً عالمياً. أما انتصار بعض المثقفين العرب للتراث على هذا التوصيف، ومنهم من ساهم في وضع تقريري التنمية الإنسانية العربية، فما هو إلا من باب الانجرار والمداهنة الإيديولوجيين، والإمعان في التوهم بتغليب الرمزي على الواقعي وباعتباره بديلاً له، وهو ليس من باب القناعة الفعلية، بل تسليم بالأولوية وبالنجاعة للأفكار النكوصية والاحيائية التي تشكل مجال تمدد الفكر الأصولي إلى الثقافة الحديثة و استتباعه لها.
بناء على ما تقدم، نرى في الكثير مما أتى به التقرير الثاني عن الثقافة وخصوصاً عن الدين كلاماً يصح أن يعتبر نكوصاً وتراجعاً حتى عما قالت به الإصلاحية الإسلامية منذ أكثر من قرن. فلئن وجدنا الشيخ محمد عبده على سبيل المثال يحض على إعادة تفسير النصوص الدينية في ضوء المعارف العصرية، ويدعو إلى جعل الدين في مقام مناسب للعصر هو المجال الخاص، نرى تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني يدعو إلى ما يسميه بالعودة إلى "الدين الصحيح" (وأتساءل: ما هو الدين الخاطئ؟ وهل اختلاف تدين الدولة التونسية عن تدين الدولة السورية عن تدين حركة "طالبان" عن التدين اليومي غير المؤدلج ولا المسيس لكثير من العرب، اختلافاً في الصحة والخطأ ومقداريهما، أم اختلاف في التفسير وفي الظرف الاجتماعي والسياسي والثقافي الباعث عليه؟). وأي التقرير الثاني هذا يدعو إلى استحضار ما يدعوه "النصوص الملائمة" في سبيل إنتاج المعرفة الباعثة على التنمية الإنسانية. قد لا يكون واضعو التقرير أو بعضهم بالأحرى على بينة من أن الاحتكام إلى النصوص وجعلها مناطاً مرجعياً للحقيقة وللنجاعة الاجتماعية على هذه الصورة الساذجة، إنما هو فعل سياسي يمالئ هوى أيديولوجيا معيناً، وانه خاضع لاعتبارات المزاج السياسي والهوى التفسيري على صورة لا ضابط لها، وانه ليس جديراً بأن يعتبر من العناصر الفعلية للتنمية الإنسانية. ولا يبدو واضحاً في التقرير أن الفتوى استناداً إلى "الدين الصحيح" أمر مناط بهيئات دينية وبأحزاب دينية كحركة الإخوان المسلمين، وليس بتقارير الأمم المتحدة.
والغريب أن الدعوة إلى "العودة إلى الدين الصحيح" هذه لا تبدو موجهة إلى الغلاة من الإسلاميين بقدر توجهها إلينا العرب على صورة عامة من مسيحيين ومسلمين وعلمانيين، وكأننا بالأمم المتحدة تفرض علينا النكوص إلى البرنامج السياسي لجمعية الإخوان المسلمين، وجعل "الدين الصحيح" سقفاً لتطلعاتنا الاجتماعية والثقافية.
يفضي بنا هذا القول إلى الملاحظة بأن دعوة التقرير الثاني ـ في روحية ديموقراطية فرحة ومرسلة ولا تاريخية ـ إلى ضرورة "استرجاع" المؤسسات الدينية استقلالها وما كانت في تاريخها الفعلي مستقلة أبداً قد لا تكون على بينة تماماً من أن الوضع المعروف للمؤسسات الدينية العربية اليوم ليس بالوضع الحافز على التنمية الاجتماعية والعقلية، بل بالعكس تماماً. ولذا فإن من الحري بنا أن ندعو إلى إصلاح جذري لهذه المؤسسات وخصوصاً لمؤسساتها التربوية ولخطابها العام (وفي إصلاح جامع الزيتونة من قبل الدولة مثالاً جيداً على رغم محدوديته السياسية)، كما انه في الحري بنا عند التكلم عن الثقافة والتنمية الإقلاع عن عادة اعتبار الأولى ثابتاً والثانية ملحقاً، والكلام عن التنمية الثقافية بدلاً من القول بعدم قابلية الثقافة للتنمية.
وأخيراً في هذا المقام، ما المعنى الفعلي لقول التقرير الثاني بضرورة احترام حقوق المرأة، وبضرورة مماشاة الشرعية الدولية لحقوق الإنسان في هذا المجال، مع القول في الوقت نفسه بأن ذلك يجب أن يتم "من دون افتئات على الشرع"، وذلك على طريقة الكلام الخطابي المعهود لدى الحركات الإسلامية التي تبرز للعموم وجهاً "معتدلاً"؟ واقع الأمر أن بين الاثنين، أي بين الشرع والشرعية الدولية لحقوق الإنسان، تناقضاً بيّناً لكل ذوي الألباب (في مجال الزواج والطلاق والمواريث وغيرها)، وان زمن المراوحة والتوليفات البلاغية عديمة المعنى قد فات، إلا إن رغبنا مجدداً في اجتراح مسائل وهمية لا حلول لها، والمراوحة في كل مكان ولا مكان، والدخول في نزاعات لا نهاية لها. وتجب الإشارة هنا إلى أمرين اثنين علهما يساعدان على الارتقاء بتقارير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية إلى نظرة أكثر واقعية و نجاعة في شؤون الثقافة :
- لا علاقة للدين بالتنمية إلا ما اتصل منها بتطوير الثقافة الدينية وتنميتها السائدة ضمن عملية تطوير ثقافية أكثر شمولاً تنمي الملكات العقلية، ومنها ملكة النظر العقلي في الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية وفكرية واعتقادية. وان المطلوب ليس التعامل مع الدين أو مع الثقافة الشعبية الموسومة في التقرير الثاني بصفة الدين - دونما توسل للمعرفة بالمجتمع في سبيل الوصول إلى هذا التوصيف - على قدر العقول المزعومة لأهليهما، بل برفعهما وتهذيبهما على أساس من الاحتكام النهائي إلى ما يسمح به النظر العقلي وما لا يسمح به ولا يسوغه.
- أما التراث، فهو ليس ما يمكن إرجاعه إلى الدين، كما لا يمكن اختزال الثقافة إلى الدين أو مماهاتها به. لا أشك في الاستساغة الجمالية للتراث، ولا في وظيفته الاستنهاضية، وهذه شؤون طبيعية ومألوفة في كل المجتمعات، ولست أنا شخصياً بريئاً عن هذه الاستساغة. ولكن يجب ألا يخلط في هذه العملية بين الرمزي والواقعي: فالتراث الفكري والعلمي العربي قد تقادم، وهو غير قادر على إنتاج معرفة مطابقة لما هو متاح اليوم من معارف ومناهج، ولا يمكن لنا التفكير بأمور المجتمع ولا بأمور الطبيعة استناداً إلى مفاهيم الجوهر والعرض والمفاهيم والفيض والمفارقة، إلى غير ذلك. ثم انه لا يمكن الكلام حول علاقة التراث والدين بالمعرفة إلا بمعنى أنهما خاضعان لإعمال العقل التاريخي والعقل السوسيولوجي و الأنثروبولوجي: في تاريخهما، وفي رصد مجالات فعلهما الحاضر وأنماط هذا الفعل العينية في مجالات السياسة والمجتمع والثقافة والرمز. ليست الثقافة ديناً، وليس الدين ثقافة ولا مجتمعاً، وليست السياسة هذا ولا ذاك. بل أن كل ذلك يشكل تركيباً معقداً من العلاقات والمؤسسات التي ينبغي الإلمام بها من طريق البحث العلمي ، وليس من طريق القول الانطباعي، وخصوصاً ليس من طريق تحويل عامة العرب من قبل بعض عناصر النخبة الثقافة العربية إلى كل هدامي غرائبي، نخشاه ونجتنبه من دون العمل عن تنميته.
وقدم التقرير الثاني تحت عنوان "نحو مجتمع المعرفة" تعريفاً للمعرفة أكثر شمولاً وسعة مما يمكن التعامل معه على نحو منتج لمعرفة مضبوطة، ومتوافق في خطوطه العامة للتوجه الايديولوجي الذي وصفناه للتو. فبدلاً من الاتجاه بفهم المعرفة على أنها نصاب موضوعي وقيمي في آن، آثر التقرير الثاني أن يدمج المعرفة بالمعارف المتداولة اجتماعياً وبالحس المشترك وبالقيم الأخلاقية والدينية. وهو قد خلط بذلك بين المعرفة وبين التمثلات الرمزية في المجتمع. أن التمثلات الرمزية هذه ليست معرفة، وان محاولة دمجها بالمعرفة شأن ينم عن بغية سياسية ذات طابع شعبوي وذات حال عدمية معرفية واسعة الانتشار في الخطاب العالمي ما بعد الحداثي.
لا شك أبداً في وجود معارف شعبية تتعلق بالصيد البحري وبالزراعة والطقس وبوسائل الغش في الأسواق. ولكن هذه معارف عملية وموضعية، وليست معرفة قادرة على إنتاج ومراكمة معارف أخرى، لأن ذلك يتوقف على الضبط، وعلى التعميم، وعلى التقنين، مما ليس متاحاً في المعارف الشعبية. ثم أن هذه المعارف العملية والنظم الرمزية تنطوي على مزيج من الحكمة العملية والتعليل الخرافي. وان ذلك كله يؤدي بالتقرير الثاني إلى المراوحة بين الحث عن إنتاج المعرفة وتوسل سبل هذا الإنتاج توسلاً اقتصادياً واجتماعياً، والرغبة في الانتصار لاستصلاح المعارف البلدية بشهوة تبدو لي سياسية في المقام الأول، لا يراقبها التدبر العقلي.
نقول ذلك بغض النظر عن أن التقرير الثاني يدرك وجود أنظمة معرفية متكاثرة في العالم العربي، ولو أنه يخل في تبسيط هذا الأمر، وينحو به عن النظر الاجتماعي، في تقرير وجود ما يدعوه بنظم معرفية للسلطة وللمعارضة. ولا يبدو لنا أن ثمة سبيلاً إلى تناول هذا الأمر على نحو واف إلا بإعادة النظر في ما قد يؤخذ على انه معرفة، وبما لا يمكن أن يوسم بها. والواضح أن المعرفة المطلوبة هي تلك المناصرة للتنمية الإنسانية، وهي معرفة كونية عمادها العلم: النظر الدقيق والمتحري والمتجرد في الطبيعة من جهة، والنظر المنتج لمعرفة اجتماعية وتاريخية في أمور الجماعات البشرية. وأنني لا أرى في هذا السياق أي مبرر على الإطلاق الدعوة إلى تحكيم أمور لا علاقة لها بالمعرفة، في شأن "مجتمع المعرفة". ولعل على رأس هذه الأمور التي لا مبرر لها، القول بأن في الوحي أساسا "معرفياً" أو لا للثقافة العربية. وبضرورة اعتبار الدين ممثلاً بالنصوص الدينية شأناً له دور في التنمية - ولعل بعضنا ما زال يذكر دعوة الفريق عمر البشير إلى طلب العون من "الجن السوداني المؤمن" في عملية التنمية. لست أرى في القول الديني معرفة موضوعية، إذ هو خطاب اعتقادي له مجال متميز من الفعل الاجتماعي، وان مكانه المناسب هو القلوب والمساجد والكنائس، وليس الجامعات والبرلمانات وتقارير الأمم المتحدة.
لا أعتقد أن غالبية من ساهم في وضع التقرير الثاني تجاري هذا التعامل الاستثنائي مع الدين في معرض الكلام على "مجتمع المعرفة"، ولا أرى في مسايرة هذا التقرير الرأي السائد هذا إلا محاباة مزاج عام متوهم متمثل في حركات سياسية نكوصية لا علم لي بموافقة غالبية قطاعات الثقافة العربية عليه أو بتوافقها معه. وأخيراً: كما أن للدين أهله، فإن للعلم أصحابه، ولا ينبغي خلط هذا بذاك، اللهم إلا في قيام أهل العلوم التاريخية والاجتماعية بدراسة الظواهر الدينية في المجتمعات العربية حاضراً أو ماضياً، وقد كان هذا الأمر أحد الشؤون الأساسية الغائبة عن التقرير الثاني. وان محصلة هذا التقرير في هذا المجال المراوحة في تصوره لمجتمع المعرفة، وبين اعتماد المعارف الموضوعية القابلة للحصر وللتطوير، وتثمين قطاعات اللاعقلانية في المجتمع بدعوى اصالتها.
أما ما ضر ذلك من "معرفة" تناولها التقرير الثاني، فقد انكب عليه تحت عنوان "رأس المال المعرفي". وهو مفهوم منضبط قابل للتطوير أن لم يستسهل تناوله تناولاً إحصائيا مقاساً بمركب رقمي من سنوات التحصيل المدرس وإعداد المهندسين وأجهزة الكومبيوتر والتلفونات المحمولة. وقد يفيد كل هذا مؤشرات حول توافر المعلومات، لكنه لا يفيد معرفة بالمعرفة وبالجانب الكيفي منها على وجه الخصوص. ولعل أفضل مثال على ذلك قياس استخدام شبكة الانترنت، قد يفيد ذلك وفرة في المعلومات مع براعة ميكانيكية إجرائية شبه أمية، ولكنه لا يفيد بمحتوى المعارف التي توزعه الشبكة وبالفئات الاجتماعية التي تخدمها.
ولكن البراعة أو المهارة شأن بالغ الأهمية في المجتمع وفي عملية التنمية. وليس ممكناً تعميم المهارة في المجتمع إلا إذا أصبح رأس مسلمات الحياة العامة فيها أن المعرفة العقلية العلمية هي المناط الأوحد، أو على الأقل المناط الغالب عملياً، للاحتكام في شؤون التنمية وفي شؤون الحياة العامة. أما ما عدا ذلك، فقد يكون مجاراً للتغني والتنوير والاستساغة الجمالية. ولكننا أن انتقلنا من مجال استساغة الرمز المجتمعي إلى اعتبار الرمز واقعاً، فإن في ذلك عاملاً لا شك في أثره المخرب على عملية التنمية الإنسانية، على ما نرى في النشوة المكابرة في العالم العربي بالتراث في العقدين الأخيرين، وهو أثر يستفحل، ولا انفكاك عنه وعن خضوعه للأهواء والأمزجة السياسية والأيديولوجية، إلا باستقلال وتنمية مؤسسات التربية والتعليم العالي عن الأمزجة التلفزيونية.
الباحث ساسي سفيان



#ساسي_سفيان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الـساحة الـثقــــافية العربيــــــــة
- الـتـنـمـيــة الـثـقـافـيــة والـمـسـتـقـبــل


المزيد.....




- كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
- إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع ...
- أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من ...
- حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي ...
- شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد ...
- اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في ...
- القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة ...
- طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
- الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
- الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ساسي سفيان - الثقافة و المعرفة في ضل القرن الحادي و العشرين