أسعد محمد تقي
الحوار المتمدن-العدد: 3330 - 2011 / 4 / 8 - 21:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أن يطالبك أحدهم بالضحك عندما يسرد عليك نكتة سمجة أمرٌ غيرُ مقبولٍ وقد تكتفي باعتبارِه أحمقاً , ويصيرُ الأمرُ استفزازا للذوق عندما يكررها على سمعك للمرة الثانية مما يدفعك لاعتباره اخرق بشكل فاضح. ويتحول الأمر إلى إهانة للذكاء والذوق عندما يطالبك بالضحك عند إسماعك السخف ذاته للمرة العشرين ويكون من حقك أن تعتبره شريرا وقد يقصد بك سوءً.
النكتة الأمريكية سردتها بريطانيا على أسماع هذا الشعب في عام 1917 وما بعده عندما قالت على لسان الجنرال مود إنها جاءت لتحرير العراق ولم يصدقها احد في حينها وبقيت وحدها تكرر ما اعتبرته خدعة ذكية فيما اعتبره ابسط العراقيين خدعة مكشوفة يعوزها الذكاء الذي يتمتع به المحتالون في العادة. ومعروف ماانتهى إليه رأي العراقيين ببريطانيا. أقول النكتة الأمريكية لان كل عراقي منذ اليوم الأول للاحتلال لا يستسيغ اعتبارها حتى خدعة غبية . إنها نكتة ونكتة سمجة في رأيه واستغفال غير مبرر لإنسان ادخل في نفوس الساسة الأمريكان الهلع مرّة في ذلك اليوم القائض من تموز عام 1958 .
أمريكا تريد العراق.. أمريكا لها مصالح حيوية في الشرق الأوسط وبدأت هذه المصالح تتزايد مع تزايد الدور الأمريكي عالميا باعتبارها القطب الأول ومن يليها سيكون على مسافة بعيدة منها. وهذا التوسع في الدور وما يتبعه من تشعّب المصالح سوف يسهّل علينا فهم المهمّة التي تريد أن تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية لكي تجعل التناسب المنطقي قائما بين هذه المصالح وهذا الدور. هذه المهمّة هي إعادة رسم خارطة الشرق (ليس الأوسط فحسب بل الأدنى وتخوم الأقصى أيضا ) لكي تكون مرآة دقيقة ينعكس فيها ميزان القوى الجديد .
أمّا الوسائل المستخدمة فهي متنوعة بشكل مثير, تبدأ من استثمار العلاقات الودية تحت يافطة الاعتدال (السعودية) إلى الاستخدام المفرط للقوة العسكرية (افغانستان والعراق والصومال) مرورا بالانقلابات العسكرية التي ينفذها احد أكثر الجنرالات شهامة والذي ما أن يستتب له الأمر حتى يعلن انه سيتخلى عن السلطة بمجرد أن يذهب أبناء الشعب إلى صناديق الاقتراع لانتخاب قيادة جديدة (وفي العادة تكون من النمط الذي يتفهم الإضافة الجديدة للمصالح الأمريكية وأسلوب تنفيذها الذي ينبغي أن يكون ملائما لوجود قطب واحد) وفيما بعد سنكتشف – وان متأخرا – إن هذا الشعب الذي صفق للديمقراطية وانبهر بشهامة الجنرال الذي وضعه على طريقها يعيش على حقول نفط جرى اكتشافها حديثا كما هو حال موريتانيا وقبلها السودان (البلد الذي ارتأت بلاد العم سام بعد ذلك أن تقتطع منه الجنوب في حركة تحريريّة باهرة بعد أن وجدت أن من الأفضل أن ينحصر النفط في بقعة صغيرة بدلا من أن تسيح خيراته الى مساحة شاسعة كمساحة السودان) . وهناك من القادة من كانت مساهمته في إعادة رسم الخارطة على شكل إعلان إصلاحات اقتصادية وسياسية وبحماس لا يقل عن حماسه السابق في ممارسة الدكتاتورية ومصادرة أي رأي حر يسعى لإصلاح الخراب الذي راكمته الهزائم والطغيان القائم على التشكيلات القمعية وتكميم الأفواه (كما هو حال مصر في زمن مبارك قبل أن تقنعه الولايات المتحدة بأنها مضطرّة لأحالته وتشكيلته على التقاعد تحت ضغط الحاجة الى التعاون الدولي لحل المشاكل التي تؤرّق العم سام , وفسح المجال لحكومة تمثل هذا التعاون الدولي ) . فيما بدأ آخرون بعملية تعرّي مخزية أمام المطالب الأمريكية, فقط لكسب الرضا الأمريكي وضمان التغاضي ريثما يصلون إلى الظل ويختفون من الصورة السياسية التي كانوا مهرّجيها الأكثر ضوضاءً (ومثلنا هنا صاحب النظريّة العالميّة الثالثة القذّافي قبل أن ترفع أمريكا يدها عنه وتعرّضه لضربات الثوار المتحمسين لتحرير ليبيا بالتعاون مع حلف الأطلسي الذي صار فجأة يبدي قلقا مدهشا على المدنيين الليبيين) وأخيرا هناك من دعا إلى حلاقة ذاتية تجنبا ربما لحلاقة إجبارية مشوّشة قد تكشف الكثير من ملامح التشوّه في الموقف السياسي والأخلاقي أيضا (وفارس هذه الدعوة الرئيس اليمني الذي أصبحت دعوته للحلاقة أشبه بنبوءة ذكيّة, إذ ها هو يُجْبَرُ على الجلوس تحت موس الحلاقة ولا أحد يعلم كيف سيبدو بعد ذلك).
هذا السرد هو في الحقيقة لوقائع قد تكون مقبولة ومفهومة باعتبارها تفسيرا لحالة جديدة. حالة لا تختلف كثيرا عن نتائج أية حرب . فما حصل في أوائل تسعينات القرن الماضي كان نتيجة حرب طويلة جرت على البارد وان كانت تسخن هنا أو هناك في بلدان عديدة انتشرت على مساحة الكرة الأرضية, كانت حربا شملت كل الكوكب بدون استثناء, وكان كل ما يحدث في أية زاوية من هذا الكوكب يجري قياسه على أساس تأثيره على ميزان القوى المشاركة في تلك الحرب المتمهّلة .
أن تأتي القوة المنتصرة وتطالب بإعادة النظر بالنظام العالمي وبالأنظمة السياسية كلا على انفراد والأنظمة الإقليمية أيضا فيما يخص إستراتيجيتها الكونية باعتبارها قطبا منتصرا ( حتى هذه اللحظة التي لم تندمج فيها بعد إرادة الشعوب مع قوانين التطور والتحول الاجتماعي, هذا الاندماج الذي قد يجعل الرؤية مختلفة) هذه المطالبة وإعادة النظر تلك هما مما يمكن فهمه وتفسيره وفق منطق الأشياء . ولكن الأمر يبدو نكتة عندما يقال انه يتعلق بتحرير العراق. وتكمل النكتة بالهدف الثاني وهو نشر الديمقراطية.. هكذا.. مئات المليارات من الدولارات وآلاف الأرواح وجهود لا حصر لها من جانب الأمريكان يقابله خراب عام للبلاد وأعمال تسبق الديمقراطية ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الناس, ولو كان هؤلاء الناس سياسيين لقلنا انه صراع سياسي ولكن الأمر لم يكن كذلك أبدا, إنهم مدنيّون وجدوا أنفسهم في حقل مليء بالألغام .
والطريق إلى الديمقراطية اقتضى إزاحة كل نتائج الجهد العراقي الذي بذله الشعب, المعروف بألمعيته ووعيه, على مدى قرن من الزمان تقريبا. لان هذا الجهد – حسب الأمريكان – قد جرى بشكل سيّء أفضى إلى نشوء البرجوازية الوطنية وما صاحب هذا النشوء من تكوّن للطبقة العاملة العراقية التي تشرّبت الوعي السياسي بمصالحها الطبقية وتوصّلت إلى ربطها بالمصلحة الوطنية فكان تشكيل النقابات العمالية والمهنية جزء من الكفاح الوطني من اجل الاستقلال. هذه (الإساءة) من وجهة النظر الأمريكية اقتضت الآن تمزيق الطبقتين معا وجعلهما هامشيّتين بعد أن تبخّرت المشاريع الاقتصادية الوطنية الخاصة. وربما يجري العمل بحميّة عالية لاستبدالهما بشرائح تجد مصالحها على هامش الشركات الكبرى التي تريد المشاركة في بناء (الديمقراطية) . وهناك إساءة لم تستطع العقلية الأمريكية هضمها , ألا وهي نشوء القطاع العام وترسّخه عبر مسار طويل, ثم اكتسابه الطابع الوطني والتقدمي بعد ذلك اليوم المشهود الذي لن تنساه الذاكرة الأمريكية والذي جعلها تتصرف بهستيريا عسكرية فجّة عندما أنزلت قوّاتها في لبنان استعدادا لتمزيق ما يمكن أن يترتب على ذلك اليوم من نتائج لا تتفق وشكل الديمقراطية الذي تعرفه . والغريب أن حليفتها بريطانيا جاءت هي الأخرى بعد يومين من نزول القوات الأمريكية في لبنان , مهرولة بقوّاتها إلى الحصن الهاشمي (الأردن) , ذلك اليوم هو الرابع عشر من تموز عام58 . ويرى الأمريكان والبريطانيون انه بدءا من ذلك التاريخ أخذت (الأفكار السيئة ) في إدارة الاقتصاد تفعل مفعولها كما يقول الأمريكي الفظ بول بريمر عندما يتحدث عن رؤية الشيوعيين للشأن الاقتصادي. ورغم أن الأمريكان وحلفاءَهم نجحوا في شباط/63 في وقف هذا المسار إلا أن قوانين مثل قانون الإصلاح الزراعي والعمل والأحوال الشخصية وتوسيع الخدمات الصحية والتعليم المجاني والإسكان والكثير غيرها ليست مما يمكن انتزاعه من رؤوس الناس بالرغم من السياسة التي دفعوا إلى انتهاجها عن طريق نظام القمع والحروب والدكتاتورية المنفلتة – لذلك – ولأسباب أخرى كثيرة تتعلق بالتغيّرات في ميزان القوى الدولي قررت الولايات المتحدة أن تأتي بنفسها - بعد أن قررت إنّ الوقت قد حان لذلك – وتستلم من الوسيط السابق الذي كان يدير برامجها هنا عبر عملية استلام وتسليم مخزية لها ولوسيطها أو وكيلها أو قل ما شئت ولن أقول عميلها حتى لا أُتّهم بأنني أعيش في ظلام نظرية المؤامرة رغم إن الأمر كلّه منذ منتصف الخمسينات ولحد هذه اللحظة جرى بالخفاء وما أعلن ليس إلا غطاء لحقيقة مغايرة تماما . ألم تتحرك قطعان الفاشية في 8 شباط من الظلام وبرعاية أبويّة من وليم لوكلاند مساعد الملحق العسكري في السفارة الأمريكية في بغداد, لتطيح بما كان يمكن أن يكون خلاصا للعراقيين من الهيمنة الاستعمارية , واعني أوّل جمهورية عراقية ؟ أولم يكن الشعار المرفوع آنذاك مكافحة الشعوبية ؟ في إشارة إلى أنهم عرب أقحاح , وقد رأى الجميع كيف أنهم خدموا العروبة بعد ذلك بدءً من مواجهتهم الدموية للجماهير التي عارضت انقلابهم وما تلاها معروف للجميع . وحين عادت قطعانهم مرّة أخرى في عام 68 إلى السلطة في عملية تسليم وتسلّم أخرى سمّيت بالثورة البيضاء وكأنها كانت توفر الدم القاني للآتي من الأيام. وكان كل شعار عزيز دفع العراقيون تضحياتهم من اجله محلا للاستثمار باتجاه مخالف لما هو معلن. فكان بيان آذار لحل المشكلة القومية في العراق والكل يعلم بأيّ اتجاه ولآي هدف كان. والتأميم .. من كان يصدّق أن تتحول عائدات التأميم والنفط العراقي الذي (رضخت) له الشركات بعد تسعة أشهر بالتمام والكمال واعترفت به وتعاملت معه (هكذا) ولم تفعل ما فعلته بمصدّق في عام /53 أو بعبد الكريم قاسم في عام /63 بعدما شرّع قانون رقم80 , أقول من كان يصدّق أن عائدات التأميم الذي ضحّى العراقيون كثيرا من اجله – وهو شعار – تتحول إلى أجهزة قمع وتعذيب ورواتب هائلة لتلك الأجهزة التي كانت تذبحهم يوميا, أو أسلحة لشن الحروب التي تتطلبها المصالح الأمريكية ذاتها ؟ كل هذا يجري وعليك أن لا تؤمن حتى للحظات بأن هناك في وول ستريت أو في البنتاغون أو في أحراش لانغلي حيث تقبع بناية السي آي إيه, من يتآمر.
وآخر ما يجب أن لا نعتبره مؤامرة هو عملية الدخول المبارك للقوات الأمريكية والتي اجتاحت الأرض العراقية دون مقاومة جادّة سواء من الشعب الذي كان يرفض أن يعرّض نفسه لمجزرة كتلك التي حدثت في عام 91 بعد أن أوقف الأمريكيون إطلاق النار ومع هذا الوقف أطلقوا يدَ رَجُلِهم وزبانيته لتبدأ المذبحة التي لم يشهد التاريخ مثيلا لها وكأنّهم (العراقيين) كانوا يعاقَبون على الإرباك الذي أحدثوه على المشروع الأمريكي, أي عملية الاستلام والتسليم, لاحتلال العراق . وكذلك لم يلق مقاومة من الجيش الذي تبخر بطريقة لا مثيل لها لما احتوته من (صمود) حتى اللحظة الأخيرة, تلك اللحظة التي أصبح فيها من المتعذّر على أي عراقي أن يطلق النار على المحررين بشكل منظم, وبدا كأن هذه القوات المدربة والمسلحة قد أمّنت, دون أن تدري, وصول القوات الأمريكية إلى أهدافها. ولو تصورنا, مجرد تصوّر, أن جماهير بغداد انتفضت وعوّضت ما فاتها في عام 91 أو حاولت أن تستخدم السلاح ضد (المحرّرين) ماذا كان سيحصل؟ بالطبع مع وجود قرارات لحزب السلطة آنذاك وتوجيهات بإطلاق النار على كل من يحمل سلاحا أو يتحدّث ضد السلطة , وان أي زقاق تنطلق منه رصاصة واحدة يجب أن يعامل بأقصى درجات القسوة . ومع وجود قوّات الحرس الخاص حول بغداد وهي معبّأة بمختلف وسائل القتال, والتي أصبحت فيما بعد صيدا سهلا للقذائف الأمريكيّة, فان ما كان سيحدث هو مسح كامل لكلّ أثر للحياة في أية منطقة أو حيّ تنطلق منه المقاومة والتي سيطلق عليها اسم تفوح منه رائحة الخيانة من قبيل (صفحة الغدر والخيانة) . ولكن الذي حدث إن أكياس الرمل والخرسانة المعدّة للمقاومات الأرضيّة ومواضع الدفاع والقتال استيقظت قبل دخول الأمريكان وهي خالية من أيّ سلاح أو عتاد أو رجال. لقد تبخّر الجميع وهم يعتقدون أنهم يوفّرون أنفسهم لمواجهة حاسمة , فيما أطمأن ولاة الأمر إلى أن أمرهم قد تم بسلاسة . وإذا عرفنا أن الإدارة الأمريكية رفضت كل العروض التي تقدمت بها دول مثل روسيا والإمارات العربية المتحدة وربّما دول أخرى بتوفير ملاذ آمن لرأس النظام وحلقته المقرّبة لتجنيب البلاد ويلات الحرب و الإحتلال, تلك العروض التي كانت تقابل بالرفض من قبل الإدارة الأمريكيّة والنظام العراقي, أقول إذا عرفنا كل ذلك يبقى من حقّنا أن نتساءل, ما هو شكل المؤامرة إذن؟
نعود إلى النكتة السمجة التي يطلقها (المحرّرون) والتي تقول إن همّهم الأول والأخير هو إشاعة الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وإجراء الإصلاحات التي ستجعل الشعب العراقي يعيش في بحبوحة لا مثيل لها . ترى على ماذا استندت هذه الرغبة الأمريكية الطيّبة ؟
استندت أولا إلى تقسيم الشعب العراقي إلى سنّة وشيعة وأكراد وهو ما يتجاهل بشكل وقح التأريخ القريب والبعيد. فالعراق كما يبدو هو البلد الوحيد الذي يحتوي على كل هذا التنوّع دون أن يلوًث تأريخه بدماء الصراعات الدينية والطائفية والقوميّة. قد يشير البعض إلى حروب الشمال ولكنها لم تكن بين العرب والأكراد بل بين الحكومات المتعاقبة والوطنيين الأكراد الذين ربطوا بين الديمقراطيّة للعراق والحكم الذاتي لكردستان مقابل التشنج القومي للحكومات, العسكريّة في العادة, وكان موقف الشعب مساندا للمطالب الكردية الوطنيّة. وقد يقول البعض أن هناك إجحافا لَحِقَ بالشيعة من قبل الحكومة, السنيّة غالبا, ولكن الأمر لم يكن هكذا على الإطلاق. كانت الأغلبيّة من الشعب العراقي مضطهدة من قبل أجهزة السلطة القمعيّة وهذه الأغلبيّة سنيّة شيعيّة مسيحيّة عربيّة كرديّة تركمانيّة كلدو آشوريّة ومن كل لون عراقي فيما كانت السلطة مدعّمة من بعض عناصر الدين منها السنّية ومنها الشيعيّة وكذلك الألوان الأخرى . ولو إن رموز النظام وأركانه كانت تحاول التدرّع بالطائفة أو القوميّة. وقد كانت العائلات المختلطة من مختلف المكوّنات شيئا عاديّا لا يثير أي حديث أو ملاحظة باعتباره حدثا مميّزا. ولكن القاعدة التي استندت إليها الحماسة الأمريكية لتحرير الشعوب هي التي اقتضت تقسيم الشعب العراقي إلى هذه التشكيلات الثلاث وهي وإن لم تكن ذات حدود واقعيّة في الوعي العراقي إلا أن العمل المثابر كفيل بإدخالها إلى العقل اليومي اللاإرادي للجميع. وهذا العمل المثابر عبارة عن تهريج إعلامي يومي من فضائيّات يديرها المناضلون العرب من حكّام وقادة سياسيّين ونشاط محموم لتجنيد وإدخال كل ألوان التطرّف العربي والإسلامي إلى العراق للقيام بعمليّات تعوزها المسحة الأخلاقية فهي تمس الشأن الطائفي والقومي دون أن تتعرض للشؤون التي يهتم لها في العادة المتعاملون بالشأن السياسي من برامج اقتصاديّة واجتماعيّة وهو ما لا يمكن إلا أن يثير نوعا من الرفض يأخذ بمرور الوقت شكلا طائفيّا وقوميّا هو الآخر. وتشجيعا لمثل ردود الأفعال هذه, المفضية حتما إلى التقسيم الطائفي, فإنّهم يضربون ما يقدّسه كل فريق ويدفعون لتوجيه أصابع الاتّهام إلى الفريق الآخر. ويلجأون إلى الأعمال التي تسبّب جروحا لا تندمل كالقتل والتهجير, وهذا الأخير يساهم في تدعيم التقسيم الطائفي بتقسيم جغرافي. وهناك من يلجأ لاكتشاف الأثر الطائفي في كل عمل يقوم به الآخرون حتى وصل الأمر إلى أن يُعَدَّ إعدام صدام حسين عملا طائفيّا باعتباره سنّيا وهو الذي أعدم الكثير من السنّة ولم يستح القائلون بهذا من أن يتناسوا إنّه سلّم البلاد للمحتل دون مقاومة واكتفى بحماية نفسه وهو ما يعدّ خيانة تستحق الإعدام خاصّة وإنه هو الذي قاد البلاد -التي خرّبتها وأنهكتها سياسته- إلى المواجهة , وليس مهمّا المُحاجَّة في التهم الأخرى والحروب التي راح ضحيّتها عدد يثير الفزع من الناس العراقيين الطيّبين . و من هذا يبدو أن الإدارة الأمريكيّة قد نجحت في فرض الحدود بين مكوّنات الشعب العراقي إذا تغاضينا عن موقف الوطنيّين العراقيّين الذين يزدادون يوميّا ولن تطول كثيرا عمليّة التعتيم على رفضهم لمحاولة تمزيق شعبهم وبلدهم.
والآن علينا أن نحاول جاهدين اكتشاف صدق الرغبة الأمريكيّة في بناء الديمقراطيّة في العراق من التلخيص التالي:
إنّ الدولة, أيّة دولة,تتشكّل من عناصرَ ثلاثةٍ, هي المؤسسات والشعب والأرض, وقد مسح المحرّرون المؤسّسات والبنية التحتيّة المرتبطة بها وكل ما يشير إلى العنصر المؤسّساتي في تشكيل الدولة ثمّ سمحوا بتمزيق العنصر الثاني وهو الشعب, قتلا وإرهابا وتهجيرا, هو في حقيقته تطهير طائفيّ مقيت. وبقي العنصر الثالث, وأعني به الأرض, وهو ما سيجري تمزيقه تبعا لتمزيق النسيج الاجتماعي للناس الساكنين عليها.
ولكي يتعصّى أيّ عمل (من شأنه إعادة البناء وإعادة اللحمة للشعب لمنع تقسيم الأرض في النهاية) فإن المحرّرين ولا شك يرون إنّ عليهم ضبط الأمور وفق ما يريدون وبالتالي فإنّك إن عارضت فليس في الأمر مشكلة وإن رفضت فهم ديمقراطيّون إلى أبعد الحدود وسيسمحون لك بالرفض شرطَ أن لا تشكّل خطرا على التوجّهات العامّة, عندها, إن كنت سنّيا فسوف ينهي الخطرَ متطرّفٌ شيعيّ وإن كنت شيعيّا فالمتشدّد السنّي بالمرصاد. و كذا الحال إن كنت عربيّا أو كرديّا أو تركمانيّا وقد يصل الأمر إلى التقسيم وفق المحافظات.. رحم الله الإدارة الاستعماريّة البريطانيّة, كانت مكتفية بالإثارة العشائريّة فقط... أمّا وسائل ديمومة هذا التمزيق المستمر لنسيج الشعب العراقي فهي من الكثرة بحيث يدهش المرء من العقليّة التي تبيح لنفسها استخدام كلّ هذه الأدوات في مواجهة ما.. ففي أيام (التحرير) الأولى سُمِحَ للّصوص بسرقة البنوك والمؤسّسات والوزارات وكل شيء, وهي الأعمال التي لم تقتصر على أصحاب السوابق ممّن أُطْلق سراحُهم بعفوٍ مثيرٍ قبل بدء العمليّات العسكريّة بأشهر معدودة, بل جرّت إلى ساحتِها الكثيرين ممّن عانوا من حرمانٍ متواصِلٍ من أسباب الحياة والوعي أيضا فكان أن أصبح هؤلاء من المعادين لاستتباب الأمن لئلا يُحاسَبون أو لئلا يكونون في مواجهةِ أنفسِهِم عندما يكتشفون إنهم ارتكبوا شيئا شنيعا أصبحوا معه ملوّثين في وطنيّتِهم وقيَمِهِم. وبعد توقّف العمليّات العسكريّة الرئيسيّة جرى تفريغ المؤسّسات والمصانع العسكرية من الأسلحة والمواد المتفجّرة, وهي بعشرات آلاف الأطنان, أمام أنظار المحرّرين, ممّا شكّل حلاّ مثاليّا لتوفير سلاح التدمير وإشاعة الفوضى المدمّرة, الأمر الذي جرّ معه الكثيرين ممّن صار من الصعب عليهم فهم مغزى إعادة البناء المؤسّساتي الذي يتناقض مع وجود هذا الفيض الأسطوري من السلاح والمتفجرات. وفور تسلّم الأمريكي الفظ بريمر القيادة المدنيّة, بعد فضائح سلفه غارنر, بدأت عمليّة إفساد لا مثيل لها لذِمَمِ شرائحَ واسعةٍ كانت قد خرجت لتوّها من تحت عباءةِ سلطةٍ لم تفكّرْ يوما في ترسيخِ المثلِ الأخلاقيّةِ في التعاملِ مع المالِ العام . وكان أنْ صَرَفَ الملياراتِ من أموالِ إعادةِ الأعمارِ عِبْرَ تشكيلاتٍ إداريّةٍ مصطنعةٍ أنيطت بها مهمّةُ تقديمِ الخدماتِ وإصلاحِ المدارسِ والمرافقِ الأخرى وهو ما أجهزَ على ذِمَمِ هذه الشرائح وجرّها إلى الجانب الذي يجدُ في عودةِ القانونِ والمؤسّسات شيئا يتعارضُ ومصالحِهِ, وما زال الأمر جاريا بهذا الاتّجاه ويتعمّق يوميّا, خاصّة إنّ الحماية الأمريكيّة يجري إسباغها بكرم واضح على كلّ من يرتكب جرما ويجري اعتقاله, إلى الحد الذي صار ديدن الحياة اليوميّة في البلاد, حتى وقت قريب, أنّ الحكومة تعتقل الخارجين على القانون فيما الأمريكان وحلفاؤهم يطلقون سراحهم دون توقّف من أجل الإبقاء على التوازن بين الجريمة والقانون كما يبدو.
وما زالت ملامح النكتة لم تكتمل بعد, فهناك الجانب الآخر من الفردوس الموعود, وأعني به الاقتصاد, ورؤية المحرّرين فيه تنطلق (كما هي رؤية الأمريكي الفظ بريمر) من الابتعاد تماما عن الأفكار الرديئة في إدارة الاقتصاد كما يذكر هذا الفظ في كتابه (سنتي في العراق). ويقصد بالأفكار الرديئة كلَّ ما يَمُتُّ بصلةٍ إلى القطاعِ العام والمختلط والتعاوني وأيضا قيام الدولة بتقديم الخدمات في مجالات الصحة والتعليم والإسكان وغيرها من أشكال الخدمات والتي يريد تحويلها كلّها إلى القطّاع الخاص بما فيها عمليّة جمع القمامة. يحقّ للأمريكان اعتبار موضوعة القطاع العام من الأفكار الرديئة في إدارة الشأن الاقتصادي وهو ليس بمستغرب, فما يجدونه شيئا رائعا في إدارة الاقتصاد مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تجده الشعوب مجرّد وحش قبيح لا يهمّه سوى مطابقة الواردات مع مصروفات الميزانيّة من أجل تحقيق التوازن المحاسبي لكي يتيح لهذا الاقتصاد أن يتمكّن من رد القروض أو التعويض عنها وكذلك فوائدها التي قد تزيد على القروض ذاتها ولا يهم بعد ذلك أن يكون الطريق لهذا الهدف مُحْزِنا للملايين وحارما لهم من أساسيّات معيشتهم ولا يهم أيضا أن يكون توزيع المتحقق من إجراءات وإملاءات هذه المؤسّسات (الدوليّة) في تقليص دور الدولة وإلغاء الدعم الذي تقدمه, توزيعا عادلا أم أنه سوف ينساب إلى جيوب حفنة من الأوغاد الذين سيكوّنون ولا شك نواة الرأسماليّة التي يطمح لها الأمريكي الفظ ولن يحيدوا عن صفة الخدم للشركات المتعدّية الجنسيّة. وفي مقابل ما يطرحه الوطنيون من ترتيب لأولويّات الأهداف الاقتصاديّة عبر بناء المؤسّسات وإعادة بناء المدمّر منها وتركيز الجهد على المشاريع الضروريّة لإعادة عجلة الاقتصاد للدوران وخلق فرص العمل وبالتالي امتصاص ما أمكن من البطالة وفي نفس الوقت حماية الطبقات والفئات الكادحة من النتائج المهلكة للعولمة التي اكتست بالطابع الرأسمالي بعد انفراد القطب الذي تمثله الولايات المتّحدة بقيادة العالم وتمسّكها بهذا الانفراد, في مقابل هذه الرؤية يرى المحرّرون أن فردوسهم الذي سيمنحونه للعراق, لفرطِ طيبتِهم, يرتكزُ على فكرَةٍ وحيدةِ الجانبِ تتمثّلُ في وضعِ مصلحةِ النشاط الخاص فوق كلِّ اعتبارٍ آخرَ. وسنكتشف أن المقصود بالنشاط الخاص ليس قطاعا عراقيا بل هي الشركات العملاقة التي تشكّل أحد الأعمدة الثلاثة التي ترتكز عليها العولمة الرأسماليّة فيما يشكّل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي العمود الثاني, أمّا ثالثة الأثافي, كما يقولون, فهي منظّمة التجارة العالميّة. وهذه الجهات الثلاث عندما تعمل معا على أساس الدراسات التي تقدّمها المعاهد التابعة للمؤسّسات العملاقة التي يديرها آل روكفلر و كارنيجي و مورغان وغيرهم فإن على الشعوب أن لا تتوقع خيرا لأن عملها خال من أي حسّ إنساني، وهذه المؤسّسات عمليّة جدا إلى الحد الذي ستفقد فيه هذه الشعوب إحساسها بلون وطعم الحياة, براغماتيّة إلى أبعد الحدود حيث مقياس النجاح لا يحوي أية قيمة معنويّة, فقط الربح وليس غيره. وأمام هؤلاء العمالقة الاقتصاديّين سيتحوّل الرأسمال الوطني إلى تابع ويتعمّق تهميشه يوما بعد آخر ونكتشف أنّ صناعة كانت قائمة في البلاد قد جرى تدميرها لان هذا الحل أسهل من تطويرها ولفرط طيبة المحرّرين فإنّ هذا التدمير يتم عبر دفع العراق مبكّرا إلى منظّمة التجارة العالميّة حيث لا سيطرة ولا حواجز جمركيّة ولا من يحزنون (ولو إنّ هذه المنظمة تعطي فترةَ سماحٍ للدول حديثة العضوية قد تصل الى خمسة عشر عاما يسمح خلالها بوضع بعض الحواجز الا ان مثل هذه الفترة لن تكون كافية لجعل الدولة المعنية قادرة على المنافسة الاقتصادية), وعند هذه النقطة سنرى بوضوح (عظمة) الخضوع لآليّة السوق التي ستسحق الصناعة الوطنيّة والإنتاج الزراعي المحلّي وتخرجهما من المنافسة وتدفعهما إلى الخراب الأكيد حيث الخيار الوحيد المتاح هو التبعيّة للمحرّرين ومؤسساتهم العملاقة.التي تريد التربع على أهم مفاصل الأقتصاد العراقي: النفط والطاقة الكهربائيّة والإسكان والإتصالات والمواصلات وخاصة النقل بالقطارات، ونحن نعلم إن مشاريع من هذا النوع تكون عالية الكلفة وأيضا عالية الربحية.
ويمكن هنا ملاحظة نتيجتين محتملتين لهذا التوجّه:
الأولى إن هذه الشركات لابد, وهذا من طبيعة رأس المال, أن تفكر بطريقة من الطرق لضمان استمرار عملها وأرباحها من التقلبات السياسية في البلاد وأيضا من احتمالات التشريعات القانونية المحدّدة لنشاطاتها وذلك باستصدار قوانين وتشريعات خاصة لحمايتها.
والثانية أن هذه الشركات ستمثل قوة اقتصادية هائلة في البلاد ستمكنها من التأثير بشكل متزايد على السياسة العامة وبالتالي ستمثل تدخلا مستمرا في شؤون البلاد, وربما يصل الأمر الى التوجيه الكامل لهذه السياسة وإحداث الإنقلابات عند الضرورة، ولنا في مناطق النفوذ الأمريكية عبرة كافية في هذا المجال.
وبالتأكيد فإن النتيجتين تمثلان صورة التشوّه الذي سيلحق بالسيادة الوطنية التي تآكلت منذ أمد بعيد عندما جرى مد أصابع النفوذ الأمريكي إلى الشأن العراقي في منتصف خمسينيات القرن الماضي وانتشار النفوذ لمؤسسات أمريكية مثل مؤسسة فولبرايت وفرانكلين وغيرها والتي كانت تحمل فايروس المكارثية سيئة الصيت في صراعها ضد اليسار التقدمي اينما حلت, هذه السيادة التي جعل منها نظام صدام حسين راية مهلهلة حتى تم تمزيقها في الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.
ولا شك في أنّنا نسمع كلّ يوم صرخات بعض الوطنيين الذين يمسكون بتلابيب وطنهم, هذه الصرخات التي تعلن أنّ في العراق مواردَ ضخمةً تستطيع أن تشتري كل الخبرات اللازمة للبناء الاقتصادي الرصين وتستطيعُ البلادُ في أسوأ الأحوالِ أن تستعينَ بمساعدةٍ من الآخرين وعلى أسُسٍ قانونيّةٍ وتجاريّةٍ بحتةِ, مقابلَ أنْ يجنيَ من يقدّم هذه المساعدة بعض الأرباح المعقولة ويبقى الأمر في النهاية بيد العراقيّين أنفسهم. هذه الأصوات سيجري تضييعها وسط أجواء التحرير الأمريكي ربّما بإثارة الأسئلة حول انتماءاتها الطائفيّة والدينيّة والقوميّة ولن يسمح المحررون بأن يكون الجواب الوحيد الصحيح مسموعا وهو أنها أصوات وطنيّة عراقيّة.
ولكن في الختام.. أليس علينا أن نسأل محرّرينا الأمريكان.. ممّ حرّرونا؟؟ وإذا كان الجواب أنّهم حررونا من صدّام ونظامه فقد بقي سؤال واحد صغير... من دفع صدّام لدائرة السلطة ونصّبه بعد ذلك على رأسها, ووجّهه ليفعلَ ما فعلَ؟ أم أنّ علينا أن نترك هذه التساؤلات لأن رائحة الإيمان بنظريّة المؤامرة تفوح منها ؟!
#أسعد_محمد_تقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟