|
أزمة وطنية يمكنها أن تكون فرصة تجدد وطني
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3328 - 2011 / 4 / 6 - 16:28
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في سورية أزمة وطنية متولدة عن تصادم تطلعات قطاعات واسعة من السوريين إلى الحرية والعدالة والمساواة في بلدهم مع بنية متصلبة لنظام سياسي لا يستطيع أن يتفاعل بمرونة مع ظروف متغيرة. لقد عرفت البلاد يوم الجمعة قبل الماضي أوسع تحركات شعبية احتجاجية منذ مطلع العهد البعثي. في العديد من المدن والبلدات السورية خرج ألوف الناس تضامنا مع مدينة درعا التي كانت الاحتجاجات السلمية لسكانها تعرضت لقمع قاس في الأيام السابقة، وكذلك للتعبير عن إرادتهم السياسية المستقلة. وفي أول تفاعل لها مع الاحتجاجات تكلمت السلطات السورية على "مندسين" و"غرباء"، قبل أن تتحول على الكلام على "عصابات مسلحة"، ثم إلى "إرهابيين"، فـ"أصوليين". لكن في توقيت دال، عشية الجمعة ذاتها، ظهر من طرف السلطات من يعد بتلبية مطالب اجتماعية وسياسية متنوعة، منها رفع رواتب العاملين في الدولة، والنظر في إمكان إلغاء حالة الطوارئ وإصدار قانون أحزاب وقانون إعلام إلخ. وبينما يفترض أن يدخل الشق الاقتصادي حيز التنفيذ بدءا من مطلع هذا الشهر، فإن الشق السياسي والقانوني ليس مرتبطا بجداول زمنية، وليس ثمة أية ضمانات للالتزام به. هذا فوق أنه لا قيمة له بحد ذاته. المضمون الإيجابي الوحيد لرفع حالة الطوارئ هو سيادة القانون، الأمر الذي لا يقتضي إلغاء محاكم الاستثناء وقوانينه فقط، وإنما كذلك أية أوضاع امتيازية فردية أو جمعية قائمة في البلد، من نوع حكم الحزب الواحد أو الأفضليات الاقتصادية المتنوعة التي يحظى بها بعض أهل الولاء. ويمكن لقانون أحزاب جديد أن يؤسس لنيو جبهة وطنية تقدمية، إن لم تكن الوجهة نظام سياسي تعددي، يكفل الحريات السياسية والعامة للسوريين. وقانون الإعلام الحالي ليس هو ما يقيد حريات التعبير والرأي والنشر وتداول المعلومات، إلا بقدر ما هو مظهر لإرادة سياسية تنكر هذه الحريات البديهية في عالم اليوم. هذه الإرادة هي التي يلزم أن تتغير. وباختصار، لا حلول قانونية لمشكلات سياسية وطنية عامة، بقدر ما إنه لا حلول أمنية لها. الحلول الناجعة الوحيدة هي حلول سياسية، مضمونها التحول نحو دولة المواطنة والحريات للسوريين جميعا. على كل حال بدت الوعود الحكومية حينها جهدا موجها نحو استباق التحركات الاحتجاجات واحتوائها. وواكبها جهد إعلامي يقيم التطابق المعتاد بين النظام والدولة والوطن، فيغدو المحتجون "مندسين" و"غرباء" و"عصابات مسلحة". قد يبدو هذان جهدان متناقضان. فإذا كان المتظاهرون ضد النظام مندسون وغرباء وإرهابيون...، فإن الشيء الصحيح هو قمعهم، وليس الاعتراف المداور بصدور تحركاتهم عن مطالب اجتماعية وسياسية محقة. لكن الجمع بين التجريم الإعلامي للاحتجاجات والحلول الأمنية في مواجهتها ووعود إصلاحية دون ضمانات يدل على الطابع التجريبي والمرتجل للتفاعل الحكومي مع الأزمة الجارية، وعلى افتقارها إلى رؤية واضحة في شأن هذه الأزمة وإلى استراتيجية مقنعة للخروج منها. للكن تفاعل السلطات مع الأزمة يجمع بين سياسة الإنكار من جهة، ورد الفعل من جهة أخرى. ينكر وجود مشكلات وطنية وسياسية وعامة، مختزلا إياها في أحسن الأحوال إلى مشكلات مطلبية وجهوية وخاصة. لكنه بذلك لا يساعد نفسه على تطوير مقاربات أكثر ديناميكية من شأنها أن تتيح له هو بالذات أن يكون مبادرا وأقدر على التكيف مع التطورات المحتملة. وإذا لا يفعل ذلك، وفي مواجهة تخلخل أكيد لبنى الضبط المعتادة، ينساق إلى مواجهة المستجدات بمنطق رد الفعل السلبي. فإذا استمرت الاحتجاجات وتوسع نطاقها الجهوي والبشري، دون أن يقوم النظام بمبادرة سياسية جادة، كان من غير المستبعد أن تؤدي إلى تكسر البنية السياسية المتصلبة هنا أو هناك. وإن حصل أن توقفت الاحتجاجات أو فقدت زخمها كان واردا جدا أن يطوي النظام صفحة وعوده، ويرجع إلى ما قبل تفجر التحركات الاحتجاجية، ولا يبعد أن يعمد إلى سحق من تجرؤوا على الاعتراض العلني والعملي عليه. إن من شأن مبادرة كبرى فقط تؤدي إلى تغير حاسم في البيئة السياسية الداخلية أن تمكن النظام من استعادة زمام المبادرة والقيادة السياسية الفعلية في البلاد. لكن لذلك ثمن كبير: مكاسب حقيقية للمجتمع السوري، تبدأ من الإفراج عن المعتقلين السياسيين والتكريم الوطني للضحايا، وتمر عبر الفصل بين النظام والدولة، لتصل إلى نظام تعددي وانتخابات حرة على مختلف المستويات. بعبارة أخرى، يتعين أن يتغير النظام كي يبقى النظام. يبقى في إطار تعاقدي، وقتي تعريفا. هذا ليس مطلب معارضين متمرسين. الواقع أن الأيام الأخيرة كانت فرصة نادرة كي يقول أناس متنوعون، ليسوا في مواقع معارضة، وبعضهم أقرب إلى موالين، إنه لا بديل عن تغيرات كبرى في النظام لتجنيب البلد مخاطر كبرى. وليس صحيحا بحال أن المتعاطفين مع الاحتجاجات الشعبية، بل والمؤيدين لها، هم أصلا خصوم مزمنون للنظام. إن تصلب النظام هو ما يحولهم إلى خصوم له. لكن هل ستستمر الاحتجاجات الاجتماعية أم تتوقف؟ يستحسن أن يقاوم المرء الرغبة في التنبؤ في مثل هذه الظروف المتحركة. الأسباب التي أدت للاحتجاج قائمة، وفي أساسها إرادة الخروج من الخمول السياسي إلى التدخل والمشاركة والاعتراض، أي التحرر السياسي لعموم الناس. غير أن هذه الأسباب قائمة منذ عقود، وإن تكن التقت مؤخرا بغير مثال إيجابي عربي على إمكانية التغيير ونجوع العمل الاحتجاجي العلني. لكن هنا أيضا، في وسع ديناميكية سياسية نشطة تطلقها مبادرة سياسية حقيقية، تنفرد السلطات اليوم بامتلاك عناصرها، أن تحول الاحتجاجات الشعبية إلى فرصة لبداية جديدة وسجل جديد، بدل أن تكون أزمة يجري السعي إلى الخروج منها بأقل كلفة ممكنة. هل مبادرة كهذه محتملة؟ الواقع أنها ليست من "طبائع" الأحوال السورية أو من "معقول" سيرتها. وليس هناك، في الواقع ولا في الخطاب، ما يؤشر على عزم بهذا الاتجاه. و"لو كانت رح تشتّي، كانت غيّمت"، على قول المثل الشعبي السوري. بفعل التغيرات السياسية والنفسية في المجال العربي، وبفعل التحركات الشعبية في سورية ذاتها، لم يعد يمكن الاستمرار على النهج نفسه بالكلفة ذاتها. فإما التخلي عن النهج لخفض كلفة الحكم السياسية والإنسانية والمادية، وإما رفع الكلفة للحفاظ على النهج. لكن كلفة الحكم مرتفعة أصلا في سورية، وإمكانية رفعها أكثر محدودة. لذلك البلد في أزمة مفتوحة على كل الاحتمالات.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار عن سورية
-
من السلطة الشخصية الدائمة إلى الجمهوريات الجديدة
-
قٌضايا الإصلاح الوطني في سورية، ورقة نقاش
-
-لاستقلال الثالث- وأفق الثورة الثقافية
-
من الوطنية الممانعة إلى الوطنية الديمقراطية
-
قضايا في شأن تونس الجديدة
-
فرِّق تسد، خوِّف تأمن، اعزل تدم!
-
الخطة الشعبية المجرّبة لإسقاط الأنظمة المتجبرة
-
في شأن الثورات العربية والاحتمالات السورية
-
العرب، الرابطة العربية، القومية العربية: نظرة جديدة في أوضاع
...
-
مصر وتونس، ونهاية عالم ما بعد 11 أيلول!
-
غياب -الأجندات- ليس فضيلة ثورية
-
أهؤلاء نحن؟ لا بأس بنا!
-
مثل المصريين والتونسيين تماما، لسنا خارج الأمر!
-
حركات التحرر المواطني...
-
ثورات الكرامة
-
من يتضرر من الثورة التونسية؟
-
مغتسلا بالنار، المغمورُ بطلا
-
في تونس ثورة... مفتوحة الآفاق
-
من نزاعات الهوية إلى الاحتجاج الاجتماعي
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|